التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
١٩٤
-آل عمران

التبيان الجامع لعلوم القرآن

فهذه أيضاً حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم يقولون أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك من الثواب ولا تخزنا. والمخزي في اللغة المذل، المحقور بأمر قد لزمه بحجة تقول أخزيته أي ألزمته حجة أذللته معها، والخزي والانقماع والارتداع متقاربة المعنى، والخزاية شدة الاستحياء. وقوله { إنك لا تخلف الميعاد } استئناف كلام ولذلك كسرت (إن) والمعنى انك وعدت الجنة لمن آمن بك، وإنك لا تخلف الميعاد. فان قيل: ما وجه مسألتهم لله أن يؤتيهم ما وعدهم، والمعلوم أن الله ينجز وعده، ولا يجوز عليه الخلف في الميعاد؟ قيل عن ذلك أجوبة:
أحدها - ما اختاره الجبائي، والرماني ان ذلك على وجه الانقطاع إليه والتضرع له والتعبد له كما قال:
{ { رب احكم بالحق } وقوله: { { لا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وأمثال ذلك كثيرة.
والثاني - قال قوم إن ذلك خرج مخرج المسألة ومعناه الخبر، وتقدير الكلام ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمناربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار، لتوفينا ما وعدتنا به على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة لأنهم علموا ان ما وعد الله به فلا بد من أن ينجزه
والثالث - قال قوم: معناه المسألة والدعاء بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، لأنه لو كان كذا، لكانوا زكوا أنفسهم وشهدوا لها أنهم ممن قد استوجب كرامة الله، وثوابه، ولا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين.
والرابع - قال قوم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إليه تعالى أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر وإعلاء كلمة الحق على الباطل فيجعل ذلك لهم لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين ولا على غير يقين ان الله لا يخلف الميعاد فرغبوا إليه في تعجيل ذلك، ولكنهم كانوا وعدوا النصر ولم يوقت لهم في ذلك وقت فرغبوا إليه تعالى في تعجيل ذلك لهم لما لهم فيه من السرور بالظفر وهو اختيار الطبري. وقال الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) من وطنه وأهله مفارقاً لأهل الشرك بالله إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وغيرهم من تباع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين رغبوا إليه تعالى في تعجيل نصرهم علي أعدائهم وعلموا انه لا يخلف الميعاد ذلك غير أنهم سألوا تعجيله وقالوا لا صبر لنا على اناتك وحلمك وقوى ذلك بما بعد هذه الآية من قوله: { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا... } الآيات بعدها وذلك لا يليق إلا بما ذكره، ولا يليق بالأقاويل الباقية وإلى هذا أومأ البلخي، لأنه قال في الآية الأخرى: انها والتي بعدها في الذين هاجروا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي الآية دلالة على أنه يجوز أن يدعو العبد بما يعلم أنه يفعله مثل أن يقول رب احكم بالحق. وقوله: { فاغفر لنا ذنوبنا } خلاف ما يقوله المجبرة، ولا يلزم على ذلك جواز التعبد بأن يدعو بما يعلم أنه لا يكون مثل أن يقول لا يظلم، لأن في ذلك تحكما على فاعله وتجبراً عليه في تدبيره، ولو سوى بينهما كان جائزاً كما قلنا في قوله:
{ { لا تحملنا ما لا طاقة لنا به } على أحد الوجهين وقوله: { إنك لا تخلف الميعاد } فيه اعتراف بأنه لا يخلف الميعاد بعد الدعاء بالايجاز لئلا ينوهم عليهم تجويز الخلف على الله تعالى.