التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
-آل عمران

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
قوله: { هو الذي أنزل عليك الكتاب } يعني القرآن { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } فالمحكم هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه، نحو قوله:
{ إن الله لا يظلم الناس شيئاً } وقوله: { لا يظلم مثقال ذرة } لأنه لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل. والمتشابه: ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه. نحو قوله: { وأضله الله على علم } فانه يفارق قوله: { وأضلهم السامري } لأن اضلال السامري قبيح وإضلال الله بمعنى حكمه بأن العبد ضال ليس قبيح بل هو حسن. واختلف أهل التأويل في المحكم، والمتشابه على خمسة أقوال:
فقال ابن عباس: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ.
الثاني - قال مجاهد: المحكم ما لا يشتبه معناه، والمتشابه ما اشتبهت معانيه. نحو قوله:
{ وما يضل به إلا الفاسقين } ونحو قوله: { والذين اهتدوا زادهم هدى } }.الثالث - قال محمد بن جعفر بن الزبير، والجبائي: إن المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعداً.
الرابع - قال ابن زيد: إن المحكم: هو الذي لم تتكرر ألفاظه. والمتشابه هو المتكرر الألفاظ.
الخامس - ما روي عن جابر أن المحكم: ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله. نحو قوله:
{ يسألونك عن الساعة أيان مرساها } }. وقوله: { هن أم الكتاب } معناه أصل الكتاب الذي يستدل به على المتشابه، وغيره من أمور الدين. وقيل في توحيد أم الكتاب قولان: أحدهما - أنه قدر تقدير الجواب على وجه الحكاية كأنه قيل: ما أم الكتاب؟ فقيل هن أم الكتاب كما يقال: من نظير زيد؟ فيقال: نحن نظيره. الثاني - أن يكون ذلك مثل قوله: { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } بمعنى الجميع آية ولو أريد أن كل واحد منهما آية على التفصيل، لقيل آيتين. فان قيل: لم أنزل في القرآن المتشابه؟ وهلا أنزله كله محكما! قيل للحث على النظر الذي يوجب العلم دون الاتكال على الخبر من غير نظر، وذلك أنه لو لم يعلم بالنظر أن جميع ما يأتي به الرسول حق يجوز أن يكون الخبر كذباً، وبطلت دلالة السمع، وفائدته، فلحاجة العباد إلى ذلك من الوجه الذي بيناه، أنزل الله متشابهاً، ولولا ذلك لما بان منزلة العلماء، وفضلهم على غيرهم، لأنه لو كان كله محكماً لكان من يتكلم باللغة العربية عالماً به، ولا كان يشتبه على أحد المراد به فيتساوى الناس في علم ذلك، على أن المصلحة معتبرة في انزال القرآن، فما أنزله متشابهاً لأن المصلحة اقتضت ذلك، وما أنزله محكما فلمثل ذلك. والمتشابه في القرآن يقع فيما اختلف الناس فيه من أمور الدين: من ذلك قوله تعالى { ثم استوى على العرش } فاحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على السرير واحتمل أن يكون بمعنى الاستيلاء نحو قول الشاعر:

ثم استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

وأحد الوجهين لا يجوز عليه تعالى لقوله: { ليس كمثله شيء } وقوله { لم يكن له كفواً أحد }.
والآخر يجوز عليه، فهذا من المحكم الذي يرد إليه المتشابه. ومن ذلك قوله:
{ ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فاحتمل ظاهره تكليف المشاق، واحتمل تكليف ما لا يطاق وأحدهما لا يجوز عليه تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } فرددنا إليه المتشابه ومن ذلك قوله: { قل كل من عند الله } فرددناه إلى المحكم الذي هو قوله: { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } ومن ذلك قوله: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } متشابه، وبين المراد بالمحكم الذي هو قوله: { وما الله يريد ظلماً للعالمين } ومن ذلك اعتراض الملحدين في باب النبوة بما يوهم المناقضة كقوله: { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين } فقال اليومان والاربعة واليومان ثمانية ثم قال { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } فأوهموا أن ذلك مناقضة وليس الأمر على ما ظنوه لأن ذلك يجري مجرى قول القائل: سرنا من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وسرنا إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً فالعشرة داخلة في الخمسة عشر ولا يضاف فيقال: عشرة، وخمسة عشر خمسة وعشرون يوماً كان فيها السير، فكذلك خلق الله الأرض في يومين وقضاهن سبع سماوات في يومين وتمم خلقهن في ستة أيام. وتقديره خلق الارض في يومين من غير تتميم وجعل فيها رواسي وما تم به خلقها في أربعة أيام فيها اليومان الاولان كما يقال: جعل الدور في شهرين وفرغ منهن في أربعة أشهر. فيكون المحكم قد أبان عن معناه أنه على جهة خلق الأرض في يومين من غير تتميم، وليس على وجه التضاد على ما ظنوه.
فان قيل: كيف يكون المحكم حجة مع جواز تقييده بما في العقل؟ وفي ذلك إمكان كل مبطل أن يدعيه فتذهب فائدة الاحتجاج بالمحكم؟ قلنا: لا يجب ذلك من قبل أن التقييد بما في العقل إنما يجوز فيما كان رداً إلى تعارف من جهة العقول دون ما لا يتعارف في العقول بل يحتاج إلى مقدمات لا يتعارفها العقلاء من أهل اللغة، والمراعى في ذلك أن يكون هناك تعارف من جهة العقل تقتضيه الحكمة دون عادة أو تعارف شيء لأن الحجة في الأول دون الثاني، ومن جهة التباس ذلك دخل الغلط على كثير من الناس.
فان قيل: كيف عددتم من جملة المحكم قوله: { ليس كمثله شيء } مع الاشتباه فيه بدخول الكاف؟ قلنا إنما قلنا انه محكم لأن مفهومه ليس مثله شيء على وجه من الوجوه دون أن يكون عند أحد من أهل التأويل ليس مثل مثله شيء فدخول الكاف وإن اشتبه على بعض الناس لم دخلت فلم يشتبه عليه المعنى الأول الذي من أجله كان محكماً. وقد حكينا فيما مضى عن المرتضى (ره) علي بن الحسين الموسوي أنه قال: الكاف ليست زائدة وإنما نفى أن يكون لمثله مثل فاذا ثبت ذلك علم أنه لا مثل له، لأنه لو كان له مثل لكان له أمثال، فكان يكون لمثله مثل، فاذا لم يكن له مثل مثل دل على أنه لا مثل له غير أن هذا تدقيق في المعنى، فتصير الآية على هذا متشابهة، لأن ذلك معلوم بالادلة. وقد يكون الشيء محكماً من وجه ومتشابهاً من وجه كما يكون معلوماً من وجه، ومجهولا من وجه، فتصح الحجة به من وجه المعلوم دون المجهول.
الاعراب:
و { أخر } لا ينصرف لأنه معدول عن الالف واللام وهو صفة. وقال الكسائي: لأنه صفة. قال المبرد: هذا غلط، وقال (لُبد) صفة وكذلك (حُطم) وهما منصرفان قال الله تعالى
{ { أهلكت مالاً لُبداً } وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: لم يصرفوا { أخر } لأن واحده لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. قال المبرد: وهذا غلط، لأنه يلزم أن لا يصرف غضاباً وعطاشاً، لأن واحده غضبان وعطشان. وهو لا ينصرف.
اللغة والمعنى:
وقوله: { فأما الذين في قلوبهم زيغ } يعني ميل يقال: أزاغه الله إزاغة أي أماله إمالة قال تعالى
{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ومنه قوله: { لا تزغ قلوبنا } والتزايغ التمايل في الاسنان. والمعنى إن الذين في قلوبهم ميل عن الحق اما بشك أو جهل فان كليهما زيغ { يتبعون ما تشابه منه } ومعناه يحتجون به في باطلهم { ابتغاء الفتنة } ومعناه طلباً للفتنة { وابتغاء تأويله } والتأويل: التفسير وأصله المرجع، والمصير من قولهم: آل أمره إلى كذا يؤول أولا: إذا صار إليه. وأولته تأويلا إذا صيرته إليه. وقوله: { وأحسن تأويلاً } قيل معناه أحسن جزاء، لأن أمر العباد يؤول إلى الجزاء. وأصل الباب: المصير { وما يعلم تأويله } يعني تفسيره { إلا الله والراسخون في العلم } يعني الثابتون فيه تقول: رسخ الشيء رسوخاً إذا ثبت في موضعه. وأرسخته إرساخاً، كما أن الخبر يرسخ في الصحيفة، ورسخ الغدير إذا ذهب ماؤه، فنضب، لأنه ثبت وحده من غير ماء، وأصل الباب الثبوت.
النزول:
وقال الربيع: نزلت هذه الآية في وفد نجران، لما حاجّوا النبي (صلى الله عليه وسلم) في المسيح، فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه؟ فقال بلى، فقالوا: حسبنا، فأنزل الله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } ثم أنزل
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } وقال قتادة: بل كل من احتج بالمتشابه لباطله، داخل فيه، فمنهم الحرورية والسبابية، وغيرهم.
المعنى والاعراب اللغة:
وقوله: { ابتغاء الفتنة } قال السدي: الفتنة ها هنا الشرك. وقال مجاهد: اللبس. وقيل الضلال عن الحق، وهو أعم فائدة. وأصل الفتنة: التخليص من قولهم فتنت الذهب بالنار: إذا أخلصته، فالذي يبتغي الفتنة، يبتغي التخليص إلى الضلال بما يورده من الاشياء. وقوله: { وما يعلم تأويله إلا الله } قيل في معناه قولان: أحدهما - ما يعلم تأويل جميع المتشابه { إلا الله }، لأن فيه ما يعلم الناس، وفيه ما لا يعلمه الناس من نحو تعيين الصغيرة عند من قال بها، ووقت الساعة، وما بيننا وبينها من المدة. هذا قول عائشة، والحسن، ومالك، واختاره الجبائي، وأكثر المتأولين. وعندهم أن الوقف على قوله { إلا الله } ويكون قوله: { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } مستأنفاً والتأويل على قولهم: معناه المتأول، كما قال تعالى { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } يعني الموعود به. والوجه الثاني - ما قاله ابن عباس، ومجاهد، والربيع { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } يعلمونه قائلين آمنا كما قال الشاعر:

والريح تبكي شجوة والبرق يلمع في الغمامة

يعني والبرق أيضاً يبكيه لامعاً في غمامة. وقوله: { كل من عند ربنا } حذف المضاف من { كل } عند البصريين، لأنه اسم دال على المضاف كثير في الكلام فلا يجيزون { إنا كل فيها } على الصفة ويجيزه الكوفيون، لأنه إنما حذف عندهم لدلالته على المضاف فقط إسماً كان أو صفة. وإنما بني قبل على الغاية، ولم يبن كل، وإن حذف من كل واحد منهما المضاف، لأن قبل ظرف يعرف، وينكر، ففرق بين ذلك بالبناء الذي يدل على تعريفه بالمضاف، والاعراب الذي يدل على تنكيره بالانفصال، وليس كذلك كل لأنه معرفة في الافراد دون نكرة فأما (ليس غير) فمشبه بحسب لما فيه من معنى الأمر.