التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
١١
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ
١٢
وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ
١٣
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ
١٤
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ
١٥
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ فَأُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
١٦
فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
١٧
وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ
١٨
يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
١٩
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ
٢٠
-الروم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو عمرو، وروح ويحيى والعليمي { ثم إليه يرجعون } بالياء على وجه الخبر. الباقون - بالتاء - على الخطاب.
يقول الله تعالى مخبراً عن نفسه أنه هو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده يبدؤهم إبتداء فيوجدهم بعد أن كانوا معدومين على وجه الاختراع ثم يعيدهم أي يميتهم ويفنيهم بعد وجودهم، ثم يعيدهم ثانياً كما بدأهم أولا، ثم يرجعون اليه يوم القيامة ليجازيهم على أفعالهم، على الطاعات بالثواب وعلى المعاصي بالعقاب.
واستدل قوم بهذه الآية على صحة الرجعة بأن قالوا { الله يبدؤ الخلق } معناه ابتداء خلقهم { ثم يعيده } إذا أماته في زمان الرجعة { ثم إليه ترجعون } يوم القيامة، وهذا ليس بمعتمد، لان لقائل أن يقول: قوله { ثم يعيده } يجوز أن يكون المراد به احياءهم في القبر للمساءلة التي لا خلاف فيها { ثم إليه ترجعون } يوم القيامة، فلا يمكن الاعتماد عليه. و (البدء) أول الفعل وهو على وجهين:
احدهما - انه اول الفعل وهو جزء منه مقدم على غيره.
والثاني - انه موجود قبل غيره من غير طريق الفعلية، يقال: بدأ يبدؤ بدءاً وابتدء يبتدئ ابتداء. والابتداء نقيض الانتهاء، والبدؤ نقيض العود. والخلق - ها هنا - بمعنى المخلوق. ومثله قوله { هذا خلق الله } وتقول هذا الخلق من الناس، وقد يكون الخلق مصدراً من خلق الله العباد، والخلق كالاحداث والمخلوق كالمحدث. والاعادة فعل الشيء ثانية. وقولهم: اعاد الكلام فهو على تقدير ذلك، كأنه قد اتى به ثانية إذا اتى بمثله، وإن كان الكلام لا يبقى ولا يصح اعادته. وقد يكون الاعادة فعل ما به يكون الشيء إلى ما كان من غير ايجاد عينه كاعادة الكتاب إلى مكانه. ومثل الاعادة الرجعة والنشأة الثانية.
وقوله { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } قيل: معناه ييئسون، وقيل: يتحيرون، وقيل: تنقطع حججهم، فالابلاس التحير عند لزوم الحجة، فالمجرم يبلس يوم القيامة، لأنه تظهر جلائل آيات الآخرة التي تقع عندها على الضرورة فيتحير أعظم الحيرة، قال العجاج:

يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً قال نعم أعرفه وأبلسا

وقوله { ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء } أي لم يكن في أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله من يشفع لهم. وقيل: شركاؤهم لأنهم كانوا يجعلون لها نصيباً في أموالهم. وقيل: شركاؤهم الذين جعلوهم شركاء في العبادة { وكانوا بشركائهم كافرين } أي يجحدون شركاءهم ذلك اليوم، لأنه يحصل لهم المعرفة بالله ضرورة. وأصل الشرك إضافة الملك إلى اثنين فصاعداً على طريق القسمة التي تمنع من اضافته إلى الواحد، فالانسان على هذا يكون شريكاً لانسان آخر في الشيء إذا ملكاه جميعاً، والله تعالى مالك له، ملكه هذا الانسان او لم يملكه.
وقوله { ويوم تقوم الساعة } يعني القيامة { يومئذ يتفرقون } قيل: يتميز المؤمنون من الكافرين. وقيل: معناه لا يلوي واحد منهم على حاجة غيره، ولا يلتفت اليه، وفي ذلك نهاية الحث على الاستعداد والتأهب لذلك المقام.
ثم قال { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني صدقوا بتوحيد الله وصدق رسله، وعملوا الصالحات، وتركوا القبائح { فهم في روضة يحبرون } أى يسرون سروراً تبين أثره عليهم، ومنه الحبرة وهي المسرة، ومنه الحبر العالم، والتحبير التحسين الذى يسر به. وانما خص ذكر الروضة - ها هنا - لأنه لم يكن عند العرب شيء أحسن منظراً ولا اطيب ريحاً من الرياض، كما قال الشاعر:

ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها نشر رائحة ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

والحبرة هي السرور والغبطة، قال العجاج:

فالحمد لله الذى أعطى الحبر موالي الحق إن المولى شكر

ثم بين تعالى أن الكفار في ضد ما فيه اهل الجنة، فقال { وأما الذين كفروا } بنعم الله وجحدوا آياته ثم انكروا لقاء ثوابه وعقابه يوم القيامة { فهم في العذاب محضرون } أى محضرون فيها، ولفظة الاحضار لا تستعمل إلا فيما يكرهه الانسان، ومنه حضور الوفاة، ويقال: احضر فلان مجلس السلطان إذا جيء به بما لا يؤثره، والاحضار إيجاد ما به يكون الشيء حاضراً إما بايجاد عينه كاحضار المعنى في النفس او بايجاد غيره، كايجاد ما به يكون الانسان حاضراً.
ثم قال تعالى { سبحان الله } أى تنزيها لله تعالى مما لا يليق به ولا يجوز عليه من صفات نقص او ينافي عظمه، وما اختص به من الصفات. وقوله { حين تمسون وحين تصحبون } فالامساء الدخول في المساء، والمساء مجيء الظلام بالليل، والاصباح نقيضه، وهو الدخول في الصباح، وهو مجيء ضوء النهار.
ثم قال { وله الحمد في السماوات } يعني الثناء والمدح في السموات { والأرض وعشياً } أى وفي العشي { وحين تظهرون } أى حين تدخلون في الظهيرة وهي نصف النهار. وإنما خص تعالى العشي والاظهار في الذكر بالحمد وإن كان الحمد واجباً في جميع الأوقات، لانها أحوال تذكر باحسان الله، وذلك أن انقضاء احسان اول إلى احسان يقتضي الحمد عند تمام الاحسان والأخذ في الآخر، كما قال تعالى
{ { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } }. وقيل: إن هذه الآية تدل على الصلوات الخمس في اليوم والليلة، لأن قوله { حين تمسون } يقتضي المغرب والعشاء الآخرة { وحين تصبحون } يقتضي صلاة الفجر { وعشياً } يقتضي صلاة العصر { وحين تظهرون } يقتضي صلاة الظهر - ذكره ابن عباس، ومجاهد -.
ثم اخبر تعالى انه الذى { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } قال ابن عباس وابن مسعود: معناه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فانه يخرج الانسان وهو الحي من النطفة، وهي الميتة، ويخرج الميتة وهي النطفة من الانسان وهو حي. وقال قتادة: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
وقوله { ويحي الأرض بعد موتها } اي يحييها بالنبات بعد جدوبها، ولا يجوز أن يكون المراد إحياء الأرض حقيقة، كما لا يكون الانسان أسداً حقيقة إذا قيل فلان اسد، لانه يراد بذلك التشبيه والاستعارة، فكذلك احياء الارض بعد موتها، كأنها تحيا بالنبات الذى فيها. وقوله { وكذلك تخرجون } قرأ اهل الكوفة إلا عاصماً والاعشى من طريق الطبرى - بفتح التاء - أضاف الفعل الذى هو الخروج اليهم. الباقون - بالضم - بمعنى يخرجهم الله، والمعنيان قريبان، لانهم إذا أخرجوا، فقد خرجوا، والمعنى مثل ما يخرج النبات من الارض كذلك يخرجكم الله بعد ان لم يكن كذلك، تخرجون إلى دار الدنيا بعد ان لم تكونوا، ويعيدكم يوم القيامة بعد ان كنتم قد اعدمكم الله أى لا يشق عليه ذلك. كمالا يشق عليه هذا.
ثم قال تعالى { ومن آياته } أي أدلته الواضحة { أن خلقكم من تراب } يعني انه خلق آدم الذى هو ابوكم وأصلكم - في قول قتادة وغيره - { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } من نسله وذريته، و { تتفرقون } في أطراف الارض فهلا دلكم ذلك على انه لا يقدر على ذلك غيره تعالى؟ وانه الذى يستحق العبادة دون غيره من جميع خلقه.
وفي هذه الآيات - دلالة واضحة على صحة القياس العقلي، وحسن النظر بلا شك، بخلاف ما يقول قوم: ان النظر باطل. فأما دلالته على القياس الشرعي فبعيد لا يعول على مثله.