التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ
١٠٢
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
١٠٣
وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ
١٠٤
قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٠٥
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ
١٠٦
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
١٠٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
١٠٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
١٠٩
كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١١٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١١
-الصافات

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما { ماذا ترى } بضم التاء وكسر الراء. الباقون بفتح التاء. من ضم التاء اراد ماذا تشير، وقال الفراء: يجوز ان يكون المراد ماذا ترى من صبرك وجلدك، لانه لا يستشيره في أمر الله. واصله ترئي فنقلوا كسرة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة لسكونها وسكون الياء. ومن فتح جعله من الرأى والرؤية، لا من المشورة.
لما اخبر الله تعالى انه اجاب دعوة إبراهيم في طلب الولد وبشره بولد حليم اخبر ان من وعده به ولد له وكبر وترعرع، فلما بلغ مع ابيه السعي يعني في طاعة الله، قال الحسن سعى للعمل الذي تقوم به الحجة. وقال مجاهد: بلغ معه السعي. معناه أطاق ان يسعى معه ويعينه على أموره، وهو قول الفراء قال: وكان له ثلاث عشرة سنة، وقال ابن زيد: السعي في العبادة { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } وكان الله تعالى أوحى إلى ابراهيم في حال اليقظة، وتعبده أن يمضي ما يأمره في حال نومه من حيث ان منامات الانبياء لا تكون إلا صحيحة، ولو لم يأمره به في اليقظة لما جاز أن يعمل على المنامات، أحب ان يعلم حال ابنه في صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته. فلذلك قال له ماذا ترى، وإلا فلا يجوز أن يوآمر في المضي في امر الله ابنه، لانه واجب على كل حال. ولا يمتنع ايضاً أن يكون فعل ذلك بأمر الله ايضاً، فوجده عند ذلك صابراً مسلماً لامر الله. { وقال يا أبت افعل ما تؤمر } اي ما امرت به { ستجدني انشاء الله من الصابرين } ممن يصبر على الشدائد في حب الله ويسلم أمره اليه { فلما أسلما } يعني ابراهيم وابنه اي استسلما لأمر الله ورضيا به اخذ ابنه { وتله للجبين } معنى تله صرعه. والجبين ما عن يمين الجبهة او شمالها وللوجه جبينان الجبهة بينهما. وقال الحسن: معنى وتله اضجعه للجبين. ومنه التل من التراب وجمعه تلول. والتليل العنق، لانه يتل له، { وناديناه أن يا إبراهيم } و (ناديناه) هو جواب (فلما) قال الفراء: العرب تدخل الواو في جواب (فلما) و (حتى) و (إذا) كما قال
{ حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها } وفي موضع آخر { { وفتحت } وفي قراءة عبد الله { فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية } وفي المصاحف (جعل) بلا واو وموضع ان نصب بوقوع النداء عليه وتقديره وناديناه بأن يا ابراهيم أي هذا الضرب من القول فلما حذف الباء نصب. وعند الخليل انه في موضع الجر.
{ قد صدقت الرؤيا } ومعناه فعلت ما امرت به في الرؤيا واختلفوا في الذبيح. فقال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب القرطي وسعيد ابن المسيب والحسن في احدى الروايتين عنه والشعبي: انه كان اسماعيل وهو الظاهر في روايات اصحابنا ويقويه قوله بعد هذه القصة وتمامها { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } فدل على ان الذبيح كان اسماعيل. ومن قال: إنه بشر بنبوة اسحاق دون مولده، فقد ترك الظاهر لان الظاهر يقتضي البشارة باسحاق دون نبوته، ويدل ايضاً عليه قوله { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } ولم يذكر اسماعيل، فدل على انه كان مولوداً قبله وايضاً فانه بشره باسحاق وانه سيولد له يعقوب، فكيف يأمره بذبحه مع ذلك. واجابوا عن ذلك بأن الله لم يقل إن يعقوب يكون من ولد اسحاق. وقالوا ايضاً يجوز أن يكون أمره بذبحه بعد ولادة يعقوب، والاول هو الاقوى على ما بيناه. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال:
"انا ابن الذبيحين" ، ولا خلاف انه كان من ولد اسماعيل والذبيح الآخر عبد الله ابوه. وروي عن ابن عباس وعلي وابن مسعود وكعب الاحبار انه كان اسحاق. وروي ذلك ايضاً في اخبارنا.
وفى الناس من استدل بهذه الآية على جواز النسخ قبل وقت فعله من حيث ان الله تعالى كان قد امره بذبح ولده ثم نسخ عنه قبل ان يفعله، ولا يمكننا ان نقول ان الوقت كان قد مضى، لأنه لو أخره عن الوقت الذي امره به فيه لكان عاصياً، ولا خلاف أن ابراهيم لم يعص بذلك. فدل على انه نسخ عنه قبل وقت فعله.
ومن لم يجز النسخ قبل وقت فعله اجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة:
احدها - ان الله تعالى أمر ابراهيم ان يقعد منه مقعد الذابح ويشد يديه ورجليه ويأخذ المدية ويتركها على حلقه وينتظر الأمر بامضاء الذبح على ما رأى في منامه وكل ذلك فعله، ولم يكن أمره بالذبح، وإنما سمي مقدمات الذبح بالذبح لقربه منه وغلبة الظن انه سيؤمر بذلك على ضرب من المجاز.
الثاني - انه إنما أمره بالذبح وذبح، وكل ما فرى جزء من حلقه وصله الله بلا فصل حتى انتهى إلى آخره فاتصل به، وصله الله تعالى، فقد فعل ما أمر به ولم يبن الرأس ولا انتفى الروح.
الثالث - انه امر بالذبح بشرط التخلية والتمكين، فكان كما روي انه كلما أعمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفحة من نحاس، وهذا الوجه ضعيف، لان الله تعالى لا يجوز ان يأمر بشرط، لانه عالم بالعواقب، وإنما يأمر الواحد منا بشرط ذلك لانه لا يعلم العواقب، ولان فيه انه أمر بما منع منه وهذا عيب.
فاما قول من قال: انه فداه بذبح، فدل ذلك على انه كان مأموراً بالذبح على الحقيقة، اعتراضاً على الوجه الأول، لان من شأن الفداء أن يكون من جنس المفدي، فليس بشيء، لانه لا يلزم ذلك الا ترى ان من حلق رأسه وهو محرم يلزمه ذلك، وكذلك إذا لبس ثوباً مخيطاً او شم طيباً او جامع. وإن لم يكن جميع ذلك من جنس المفدي.
وقوله { إنا كذلك نجزي المحسنين } معناه إنا جازينا ابراهيم على فعله بأحسن الجزاء. ومثل ذلك نجزي كل من فعل طاعة، فانا نجازيه على فعله بأحسن الجزاء.
ثم اخبر تعالى بأن هذا الذي تعبد به إبراهيم هو البلاء المبين أي الاختبار الظاهر وقيل: هو النعمة البينة الظاهرة، وتسمى النعمة بلاء والنقمة ايضاً بلاء من حيث انها سميت بسببها المؤدي اليها، كما يقال لأسباب الموت هو الموت بعينه { والمبين } هو البين في نفسه الظاهر، ويكون بمعنى الظاهر، ويكون بمعنى المظهر ما في الأمر من خير او شر.
ثم قال تعالى { وفديناه } يعني ولد إبراهيم { بذبح عظيم } فالفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه، ومنه فداء المسلمين بالمشركين لدفع ضرر الاشد عنهم، فكذلك فداء الله ولد إبراهيم بالكبش لدفع ضرر الذبح عنه. والعظيم هو الكبير. وقيل: لان الكبش الذي فدي به يصغر مقدار غيره من الكباش عنه بالاضافة اليه. وقال ابن عباس: فدي بكبش من الغنم. وهو قول مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير. وقال الحسن: فدي بوعل أهبط به عليه جبرائيل. وقيل: إنه لا خلاف انه لم يكن من الماشية التي كانت لابراهيم او غيره في الدنيا. وقيل: إنه رعى في الجنة أربعين خريفاً. وقال مجاهد: وصفه بأنه عظيم، لانه متقبل. والذبح بكسر الذال المهيأ، لان يذبح. وبفتح الذال المصدر.
وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } يعني على إبراهيم في الآخرين يعني اثبتنا عليه الثناء الحسن في أمة محمد لانهم آخر الأمم بأن قلنا { سلام على إبراهيم } وقد بينا ما في ذلك ثم قال مثل ذلك نجزي كل محسن، فاعل لما أمر الله به كما جازينا ابراهيم صلى الله عليه وآله.
ثم أخبر تعالى ان إبراهيم كان من جملة عباده الذين يصدقون بتوحيد الله وبجميع ما اوجبه عليهم، ومن جملة المصدقين بوعد الله ووعيده والبعث والنشور والجنة والنار. وانما قال { إنه من عبادنا المؤمنين } مع انه افضل المؤمنين ترغيباً في الايمان بأن مدح مثله في جلالته بأنه من المؤمنين، كما يقال هو من الكرماء وكذلك قوله
{ ونبياً من الصالحين } وإذا مدح بأنه يصلح وحده فلأنه لا يقوم غيره مقامه ويستغنى به عنه.