التفاسير

< >
عرض

إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١١٨
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

ظاهر هذه الآية يدل على أن عيسى لم يكن أعلمه الله أن الشرك لا يغفر على كل حال، فلذلك قال { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الذين كفروا بك وجحدوا إِلهيتك وكذبوا رسلك { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }.
وقال البلخي: ان عيسى (ع) أخبر أنه لا علم له بما صنعوا بعده من الكفر به حتى قيل له: ماذا أجبت؟ قال لا علم لي، ثم قال: ان كانوا كفروا فعذبتهم فهم عبادك وان كانوا ثبتوا على ما دعوتهم اليه أو تابوا من كفرهم فغفرت لهم فأنت العزيز الحكيم.
ومن ذهب الى أن قول الله { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } إِخبار عما مضى وأن الله قال ذلك عندما رفعه اليه، قال: انما عنى عيسى ان تعذبهم بمقامهم على معصيتك فانهم عبادك وان تغفر لهم بتوبة تكون منهم، لان القوم كانوا في الدنيا لان عيسى لم يشك في الآخرة أنهم مشركون. وقد أنطقعت التوبة، وانما قال ذلك في الدنيا وجعل قول الله تعالى { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } جوابا للرسل حين سألهم ماذا أجبتم { قالوا لا علم لنا } فصدقهم الله في ذلك. ومثل ذلك قال عمرو ابن عبيد والجبائي والزجاج وكلهم شرط التوبة. وهذا الذي ذكروه ترك للظاهر وزيادة شرط في ظاهرها ليس عليه دليل. وقوله
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } انما هو اخبار لامة نبينا بأن لا يغفر الشرك ولا نعلم ان مثل ذلك أخبر به الامم الماضية فلا متعلق بذلك. ويمكن أن يكون الوجه في الآية مع تسليم ان كان عارفا بأن الله لا يغفر أن يشرك به وانه أراد بذلك تفويض الامر الى مالكه وتسليمه الى مدبره والتبري من أن يكون له شيء من أمر قومه، كما يقول الواحد منا اذا تبرء من تدبير أمر من الامور ويريد تفويضه الى غيره: هذا الامر لا مدخل لي فيه فان شئت أن تفعله وان شئت ان تتركه مع علمه ان أحدهما لا يكون منه.
وقوله { فإنك أنت العزيز الحكيم } معناه انك القادر الذي لا يغالب وأنت حكيم في جميع أفعالك فيما تفعله بعبادك.
وقيل معناه { إنك أنت العزيز } القدير الذي لا يفوتك مذنب ولا يمتنع من سطوتك مجرم { الحكيم } فلا تضع العقاب والعفو الا موضعهما. ولو قال: الغفور الرحيم كان فيه معنى الدعاء لهم والتذكير برحمته، على أن العذاب والعفو قد يكونان غير صواب ولا حكمة فالاطلاق لا يدل على الحكمة والحسن. والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على العذاب والرحمة اذا كانا صوابين. وقال الحسين بن علي المغربي رأيت على باب بمصر في موضع يقال له (بيطار بلال) معروف لوحا قديماً من ساج عليه هذا العشر وفيه { فإنك أنت الغفور الرحيم } وتأريخ الدار سنة سبعين من الهجرة أو نحوها ولعلها باقية الى اليوم.
فان قيل قول عيسى ان تعذبهم فأنهم عبادك يدل على ان الله تعالى له أن يعاقب عبيده من غير جرم كان منهم لانه علل حسن ذلك بكونهم عبيدا لا بكونهم عصاة، وذلك خلاف ما تذهبون اليه؟ قلنا: لا يجوز ان يريد عيسى (ع) بكلامه ما يدل على أن الفعل على كونه غير جائز عليه تعالى. ولا يحسن منه تعالى أيضا أن يترك انكار ذلك فلما عملنا أن الله تعالى لا يجوز ان يعاقب خلقه من غير معصية سبقت منهم من حيث كان ذلك ظلماً محضاً، علمنا ان عيسى أراد بقوله ذلك { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الجاحدون لك المتخذون معك إِلهاً غيرك لان ما تقدم من الكلام دل عليه فلم يحتج ان يذكره في اللفظ فبطل ما توهموه.