التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

[القراءة]:
قرأ أبو بكر عن عاصم، وابو جعفر واسماعيل المسيبي { شنئآن } بسكون النون الاولى في الموضعين. الباقون بفتحها وقرأ ابن كثير وأبو عمر { وإن صدوكم } بكسر الهمزة الباقون بفتحها.
[المعنى]:
هذا خطاب من الله (تعالى) للمؤمنين ينهاهم ان يحلوا شعائر الله. واختلفوا في معنى شعائر الله على سبعة اقوال:
فقال بعضهم: معناه لا تحلوا حرمات الله، ولا تعدوا حدوده، وحملوا الشعائر على المعالم. وارادوا بذلك معالم حدود الله وأمره ونهيه، وفرائضه ذهب اليه عطا وغيره.
وقال قوم: معناه لا تحلوا حرم الله وحملوا شعائر الله على معالم حرم الله من البلاد. ذهب اليه السدي.
وقال اخرون: معنى شعائر الله مناسك الحج. والمعنى لا تحلوا مناسك الحج، فتضيعوها. ذهب اليه ابن جريج، ورواه عن ابن عباس.
وقال ابن عباس: كان المشركون يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتجرون في حججهم، فاراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنهاهم الله عن ذلك.
وقال مجاهد: شعائر الله الصفا والمروة والهدي من البدن، وغيرها. كل هذا من شعائر الله.
وقال الفراء كانت عامة العرب لا ترى الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بهما، فنهاهم الله عن ذلك وهو قول ابي جعفر (عليه السلام).
وقال قوم: معناه لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم. روي ذلك عن ابن عباس في رواية اخرى.
وقال الجبائي الشعائر: العلامات المنصوبة للفرق بين الحل، والحرم نهاهم الله أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام. وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة. وهو قول الزجاج واختاره البلخي. وأقوى الاقوال قول عطا من أن معناه، لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه لان الشعائر جمع شعيرة وهي. على وزن فعيلة، واشتقاقها من قولهم: شعر فلان بهذا الامر: إذا علم به، فالشعائر المعالم من ذلك، وإذا كان كذلك، وجب حمل الآية على عمومها، فيدخل فيه مناسك الحج، وتحريم ما حرم في الاحرام، وتضييع ما نهى عن تضييعه واستحلال حرمات الله، وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه، لان كل ذلك من معالمه، فكان حمل الآية على العموم اولى.
وقوله: { ولا الشهر الحرام } معناه ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه اعداءكم من المشركين، كما قال: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } وهو قول ابن عباس وقتادة. والشهر الحرام الذي عناه الله ها هنا قال قوم: هو رجب، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال. وقال قوم: هو ذو العقدة. ذكره عكرمة. وقال ابو علي الجبائي: هو اشهر الحرام كلها، نهاهم الله عن القتال فيها. وهو اليق بالعموم. وبه قال البلخي.
وقوله: { ولا الهدي ولا القلائد } فالهدي جمع واحده هدية واصله هدية وهو ما هداه الانسان من بعير او بقرة أو شاة أو غير ذلك إلى بيت الله تقربا به إلى الله (تعالى) وطلباً لثوابه يقول الله: لا تستحلوا ذلك فتغصبوه أهله عليه، ولا تحولوا بينهم وبين ما اهدوا من ذلك إلى بيت الله ان يبلغوه محله من الحرم، ولكن خلوهم حتى يبلغوا به المحل الذي جعله عز وجل له. وهو كعبته. قال ابن عباس: والهدي يكون هدياً قبل ان يقلد ما جعله على نفسه أن يهديه ويقلده. وقوله: { ولا القلائد } معناه ولا تحلوا القلائد. واختلفوا في معناه فقال بعضهم: عنى بالقلائد الهدي. وانما كرر، لانه أراد المنع من حل الهدي الذي لم يقلد، والهدى الذي قلد. وهو قول ابن عباس. وقال آخرون: يعني بذلك القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر. ذهب اليه قتادة وقال كان في الجاهلية إذا خرج الرجل من أهله يريد الحج تقلد من السمر، فلا يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر، فلا يعرض له احد. وقال عطا: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا من الحرم. وقال الفراء: كان اهل الحرم يتقلدون بلحاء الشجر، واهل غير الحرم يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، فنزلت { لا تحلوا شعائر الله... } وقال مجاهد: وهو اللحافي رقاب الناس. والبهائم امن لهم. وهو قول السدي. وقال ابن زيد: إنما عنى بالمؤمنين نهاهم أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم يتقلدون به، كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم. ذهب اليه عطا في رواية والربيع بن أنس. وقال ابو علي الجبائي: القلائد هو ما قلده الهدي، نهاهم عن حلها، لانه كان يحب أن يتصدق بها. قال: ويحتمل أن تكون عبارة عن الهدي المقلد. والأقوى أن يكون المراد بذلك النهي عن حل القلائد، فيدخل فيه الانسان والبهيمة إذ هو نهي عن استحلال حرمة المقلد، هو هدياً كان ذلك أو انساناً.
قوله: { ولا آمين البيت الحرام } معناه، ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام. يقال: أممت كذا: إذا قصدته وعمدته. وبعضهم يقول يممته قال الشاعر:

إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت صدر بعيرى غيره بلدا

والبيت الحرام بيت الله بمكة، وهو الكعبة.
وقوله: { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } معناه يلتمسون أرباحاً في تجارتهم من الله { ورضواناً } يعني وان ترضى عنهم منسكهم. نهى الله تعالى أن يحلّ ويمنع من هذه صورته. فاما من قصد البيت ظلماً لأهله، وجب منعه ودفعه عنهم.
[النزول]:
وقال ابو جعفر (عليه السلام): نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم. قال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي (صلى الله عليه وآله) وحده، وخلف خيله خارجة من المدينة، فدعاه فقال: الام تدعو فاخبره وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: لاصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي (صلى الله عليه وآله) قال: انظروا لعلي اسلم ولي من اشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرج من سرج المدينة فساقه وانطلق به، وهو يرتجز ويقول:

قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي ابل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم

ثم اقبل من عام قابل حاجا قد قلد هدياً، فاراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبعث اليه، فنزلت هذه الآية { ولا آمين البيت الحرام } هذا قول ابن جريج، وعكرمة والسدي وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يأمون البيت من المشركين بهلون بعمرة. فقال المسلمون: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما هؤلاء مشركون، مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم، فانزل الله تعالى الآية قال ابن عباس: ذلك في كل من توجه حاجا. وبه قال الضحاك والربيع بن انس.
[النسخ]:
واجمعوا على انه نسخ من حكم هذه الآية شيء إلا ابن جريج فانه قال: لم ينسخ منها شيء، لانه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في أشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا. وهو المروي عن ابي جعفر (ع) وقال الشعبي: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية وقال أبو ميسرة: في المائدة ثمانية عشر فريضة ليس منها شيء منسوخ. واختلفوا فيما نسخ منه فقال بعضهم: نسخ جميعها ذهب إليه الشعبي وقال: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد. وبه قال مجاهد: قال: نسخها قوله: { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وبه قال قتادة والضحاك وحبيب بن ابي ثابت وابن زيد. وقال اخرون: نسخ منها قوله: { ولا الشهر الحرام، آمين البيت الحرام } ذكر ذلك عن ابن ابي عروبة عن قتادة وقال: نسخها قوله: { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } وقوله: { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام... الآية } في السنة التي نادى علي (عليه السلام) فيها بالاذان. وبه قال ابن عباس وقال قوم: لم ينسخ منه إلا القلائد. وروي ذلك عن ابن ابى بحيح عن مجاهد. وأقوى الأقوال قول من قال: نسخ منها { ولا الشهر الحرام ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } لاجماع الامة على أنه (تعالى) أحل قتال أهل الشرك في أشهر الحرام وغيرها من شهور السنة. واجمعوا أيضاً على أن مشركا لو قلد لحا جميع أشجار الحرم عنقه او ذراعه، لم يكن ذلك أماناً له من القتل إذا لم يتقدم له امان.
[المعنى]:
وقوله: { ولا آمين البيت } ظاهره يحتمل المسلم والمشرك لعموم اللفظ، لكن خصصنا المشركين بقوله: { اقتلوا المشركين.. الآية } ويحتمل أيضاً أن يكون مخصوصاً بأهل الشرك. وعليه اكثر المفسرين. فان كان مخصوصاً بهم، فلا شك أيضاً أنه منسوخ بما قدمناه من الآية والاجماع. وقوله: { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } معناه يلتمسون ويطلبون الزيادة، والارباح في التجارة ورضوان الله عنهم وألا يحل بهم ما حل بغيرهم من الامم بالعقوبة في غالب دنياهم. وهو قول قتادة وقال: هي للمشركين يلتمسون فضل الله، ورضوانه بما يصلح لهم دنياهم. وبه قال ابن عباس والربيع بن انس ومجاهد وفي الآية دلالة على جواز حمل المتاع للتجارة في الحج. وقوله: إذا حللتم، فاصطادوا فأهل الحجاز يقولون: حللت من الاحرام أحل، والرجل حلال. وكذلك سعد بن بكر وكذا يقولون: حرم الرجل فهو حرام: إذا صار محرماً، وقوم حرمٌ واسد وقيس وتميم يقولون: أحلّ من احرامه، فهو مُحلّ وأحرم فهو محرمٌ. معناه إذا حللتم من إحرامكم، فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تحلوه، وأنتم حرم. وهو بصورة الامر. ومعناه الاباحة. وتقديره لا حرج عليكم في اصطياده فاصطادوه ان شئتم حينئذ لأن السبب المحرم قد زال. وهو قول جميع المفسرين: مجاهد وعطا، وابن جريج وغيرهم.
وقوله: { ولا يجرمنكم } قال ابن عباس: ولا يحملنكم شنآن قوم. وهو قول قتادة. واختلف اهل اللغة في تأويلها، فقال الاخفش، وجماعة من البصريين، لا يحقن لكم، مثل قوله: { لا جرم أن لهم النار } ومعناه حق ان لهم النار. وقال الكسائي والزجاج معناه: لا يحملنكم وقال بعض: الكوفيين معناه لا يحملنكم. قال: يقال: جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني عليه. وقال الفراء: معناه لا يكسبنكم شنآن قوم. واستشهد الجميع بقول الشاعر:

ولقد طعنت ابا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا

فمنهم من حمل قوله: جرمت على ان معناه حملت. ومنهم من حمله على أن معناه أحقت الطعنة، لفزارة الغضب. ومنهم من قال: معناه كسبت فزارة أن يغضبوا وقال المغربي: معناه قطعت فزارة وليس من هذا في شيء. وسمع الفراء من العرب من يقول: فلان جريمة أهله أي كاسبهم. وخرج يجرمهم أي يكسبهم. والأقاويل متقاربة المعاني. وقراءة القراء المعروفين { لا يجرمنكم } - بفتح الياء من جرمته. وقرأ يحيى بن وثاب، والاعمش { يجرمنكم } بضم الياء من أجرمته فهو يجرمني. وقيل: هما لغتان. والاولى أفصح، وأعرف، وأجاز أبو علي الفارسي معنى جرم كسب. قال: وهو فعل يتعدى الي مفعولين مثل كَسبَ يدل على ذلك قول الشاعر في صفة عقاب:

جريمة ناهض في رأسه نيق يرى لعظام ما جمعت صليباً

معناه تكسب لفرخها. جريمة ناهض يحتمل تقريرين:
احدهما - جريمه قوت ناهض اي كاسب قوته، كما قالوا ضارب قداح، وضريب قداح وعريف وعارف.
والآخر - أن تقدر حذف المضاف، وتضيف جريمة الى ناهض. والمعنى كاسب ناهض، فجرم يستعمل في الكسب وما يريد من سعي الانسان عليه.
وأما جرم فمعناه اكتسب الاثم قال الله تعالى: { إنا من المجرمين منتقمون } وقال: { فعلي إجرامي } ومعناه فعلي عقوبة إجرامي أو اثم إجرامي ومعنى { لا يجرمنكم شنئآن قوم } لا تكتسبوا لبغض قوم عدواناً، ولا تفتنوه، فمن فتح أن أوقع النهي في اللفظ على الشنئآن. والمعنى بالنهي المخاطبون، كما قالوا: لا أريتك ها هنا ولا تموتن إلا وانتم مسلمون.
[الاعراب]:
وكذلك قوله: لا يجرمنكم شقاقي ان يصيبكم المفعول الثاني واسماء المخاطبين المفعول الاول، كما أن المفعول الاول في الآية الأخرى المخاطبون. والثاني قوله: { أن تعتدوا } ولفظ النهي واقع على الشقاق. والمعني بالنهي المخاطبون. قال الزجاج: موضع (ان) الأولى نصب بانه مفعول له. وتقديره لا يحملنكم بغض قوم لان صدودكم عن المسجد يعني النبي (صلى الله عليه وسلم) واصحابه، لما صدوهم عن مكة. وموضع ان الثانية مفعول به ومعناه لا يكسبنكم بغض قوم أي بغضكم قوماً الاعتداء عليهم، لصدهم عن المسجد الحرام.
وقوله: { شنئآن قوم } معناه بغض قوم في قول ابن عباس، وقتادة وابن زيد، وغيرهم يقول: شنئت الرجل اشناه شنئاً وشنأناً وشناً ومنشأةً: إذا أبغضته وذهب سيبويه الى أن ما كان من المصادر على فعلان لم يتعد فعله إلا أن يشدّ شيء نحو شنيته شنأناً ولا يجوز أن يكون شنيته يراد به حذف الجر، كقول سيبويه في فرقته وحذرته أن اصله حذرت منه لان اسم الفاعل منه على فاعل، نحو شاني و { إن شانئك هو الأبتر } وقال الشاعر:

بشانيك الضراعة والكلول

قال ابو علي: هذا يقوي أنه مثل علم يعلم، فهو عالم، ونحوه من المتعدي وأيضاً، فان شنيت في المعنى بمنزلة أبغضت، فلما كان معناه عدي كما عدي أبغضت كما أن الرفث لما كان بمعنى الافضاء عدي بالجار، كما عدى الافضاء به. وقال سيبويه: قالوا: لويته حقه لياناً على فعلان، فيجوز أن يكون شنان فيمن أسكن النون مصدراً كالليان فيكون المعنى لا يحملنكم بغض قوم، لو فتح النون. قال ابو عبيدة: "شنأن قوم" بغضاء وهي متحركة الحروف مصدر شنيت، وبعضهم يسكنون النون الاولى وانشد للاحوص:

وما العيش الا ما تلذ وتشتهي وان عاب فيه ذو الشنان وفندا

فحذف الهمزة قال أبو علي: ويجوز أن يكون خففها. وقال أبو عبيدة: وشنيت أيضاً بمعنى أقررت به، وبؤت به وانشد للعجاج.

زلّ بنو العوام عن آل الحكم وشنؤا الملك لملك ذو قدم

وقال الفرزدق:

ولو كان هذا الامر في جاهلية شنئت به أوغصّ بالماء شاربه

قال ابو علي: وقد جاء فعلان مصدراً ووصفاً وهما جميعاً قليلان. فمما حل مصدراً ما حكاه سيبويه من قولهم: خصمان وندمان. وانشد ابو زيد ما ظاهره أن يكون فعلان منه صفة وهو:

لما استمر بها شيحان منبجح بالبين عنك بها مولاك شنأناً

[اللغة]:
حكي أبو زيد في مؤنث شنآن شنآنى. ويقرب أن يكون شيحان فعلان. وفي الحديث (ثم اعرض وأشاح) قال ابو علي: وترك صرف شيحان في البيت مع أنه لا فعلى له. ويجوز أن يكون، لانه اسم علم. ويجوز أن يكون على قول من يجوز ترك صرف ما يتصرف في الشعر. فاما الشنان قال ابو علي: فعلان يجيء على ضربين:
احدهما - اسم، والاخر - صفة فالاسم على ضربين:
احدهما ان يكون مصدراً، كالنقر ان والغليان، والطوفان والغثيان. وعامة ذلك يكون معناه التحرك والتقلب. والاسم الذي ليس بمصدر نحو الورشان والعلجان. وأما مجيئه فنحو الزفيان والقطوان والصميان، وكبش اليان ونعجة اليانة، وكباش الي، ومثله حمار قطوان واتان قطوانة من قطا يقطو قطواً وقطواً: إذا قارب بين خطوه. ومن خفف النون ذهب إلى انه مصدر، مثل ليان. ومعنى الاية لا يحملنكم بغض قوم أي بغضكم قوماً لصدهم إياكم ومن اجل صدهم اياكم ان تعتدوا فاضيف المصدر الي المفعول وحذف الفاعل كقوله: من دعاء الخير وسؤال نعجتك وقوله: ان صدوكم من كسر الهمزة الي ان (ان) للجزاء يقوي ذلك ان في قراءة ابن مسعود ان يصدوكم فمتى؟ قيل كيف تكون للجزاء والصد ماض، لانه كان سنة الحديبية من المشركين للمسلمين، وما يكون ماضياً لا يكون شرطاً؟ قيل: ذكر ابو علي ان الماضي قد يقع في الجزاء لا ان المراد بالماضي الجزاء، لكن على انه إن كان مثل هذا الفعل، فيكون اللفظ على ما مضى والمعنى على مثله، كانه يقول: إن وقع مثل هذا الفعل يقع منكم كذا. وعلى ذلك حمل قول الشاعر:

إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة ولم تجدي من أن تقري به بداً

إن قد أغنى عنه ما تقدم من قوله: { لا يجرمنكم } والمعنى إن صدوكم قوم عن المسجد الحرام، فلا تكسبوا عدواناً. ومن فتح الهمزة، فلانه مفعول له والتقدير لا يجرمنكم شنأن قوم، لان صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، فان الثانية في موضع نصب بانه المفعول الثاني. والأولى منصوبة، لانه مفعول له وقوله: { أن تعتدوا } معناه إن تجاوزوا حكم الله فيهم إلى ما نهاكم عنه. وذكر انها نزلت في النهي عن الطلب بدخول الجاهلية. ذهب اليه مجاهد وقال: هذا غير منسوخ. وهو الاولى. وقال غيره هو منسوخ ذهب اليه ابن زيد. وإنما قلنا: إنه غير منسوخ، لان معناه لا تتعدوا الحق فيما امرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يخبر أن يقال هو منسوخ إلا بحجة.
وقوله: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ليس بعطف على أن تعتدوا، فيكون في موضع نصب، بل هو استئناف كلام أمر الله تعالى الخلق بان يعين بعضهم بعضاً على البر وهو العمل بما امرهم الله به، واتقاء ما نهاهم عنه، ونهاهم ان يعين بعضهم بعضاً على الاثم. وهو ترك ما أمرهم به، وارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، ونهاهم ان يجاوزوا ما حد الله لهم في دينهم، وفرض لهم في أنفسهم وبه قال ابن عباس وابو العالية وغيرهما من المفسرين.
وقوله: { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } أمر من الله، ووعيد وتهديد لمن اعتدى حدوده، وتجاوز أمره بقول الله: اتقوا الله. ومعناه احذروا معاصيه وتعدي حدوده فيما امركم به ونهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه متى خالفتم وتستحقوا اليم عقابه، ثم وصف عقابه بالشدة فقال: إن الله شديد العقاب لمن يعاقبه من خلقه، لأنه نار لا يطفى حرها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهيبا (نعوذ بالله منها).