التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٣٣
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المحارب عندنا هو الذي أشهر السلاح وأخاف السبيل سواء كان في المصر أو خارج المصر، فان اللص المحارب في المصر وغير المصر سواء. وبه قال الاوزاعي ومالك والليث بن سعد وابن لهيعة والشافعي والطبري. وقال قوم: هو قاطع الطريق في غير المصر ذهب اليه أبو حنيفة وأصحابه وهو المروي عن عطاء الخراساني. ومعنى { يحاربون الله } يحاربون أولياء الله ويحاربون رسوله { ويسعون في الأرض فساداً } وهو ما ذكرناه من أشهار السيف واخافة السبيل. وجزاءهم على قدر الاستحقاق إن قتل قتل وان أخذ المال وقتل قتل وصلب وان أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف. وان اخاف السبيل فقط فانما عليه النفي لا غير هذا مذهبنا. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله (ع) وهو قول ابن عباس وابي مجلز وسعيد بن جبير، والسدي، وقتادة، والربيع وابراهيم - على خلاف عنه - وبه قال أبو علي الجبائي والطبري وحكي عن الشافعي أنه إِن أخذ المال جهراً كان للامام صلبه حياً وان لم يقتل.
{ وأن يقتلوا } في موضع رفع وتقديره إِنما جزاؤهم القتل، والصلب أو القطع من موضع الخلاف، ومعنى (إِنما) ليس جزاؤهم الا هذا قال الزجاج: اذا قال جزاؤك عندي درهم جاز أن يكون معه غيره، فاذا قال انما جزاؤك درهم كان معناه ما جزاؤك إلا درهم.
واختلفوا في سبب نزول هذه الاية فقال ابن عباس والضحاك، نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وسلم) موادعة فنقضوا العهد، وأفسدوا في الارض، فخير الله نبيه في ما ذكر في الآية، وقال الحسن وعكرمة نزلت في أهل الشرك. وقال قتادة، وأنس وسعيد بن جبير والسدي: انها نزلت في العرنيين والعكليين حين ارتدوا وأفسدوا في الارض فأخذهم النبي (صلى الله عليه وسلم) وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم وفي بعض الاخبار أحرقهم بالنار.
ثم اختلفوا في نسخ هذا الحكم الذي فعله بالعرنيين، فقال البلخي وغيره نسخ ذلك بنهيه عن المثلة. ومنهم من قال: حكمه ثابت في نظرائهم لم ينسخ. وقال آخرون لم يسمل النبي (صلى الله عليه وسلم) أعينهم وإِنما أراد أن يسمل فأنزل الله آية المحاربة، والذي تقوله: إِن عندنا ان كان فيهم طليعة لهم حتى يقتلوا قوماً سملت عين الربيئة وأجري على الباقين ما ذكرناه. وقال قوم: الامام مخير فيه ذهب اليه ابن عباس في رواية ومجاهد والحسن وسعيد بن المسيب، وعطا وابراهيم في رواية عنه. فمن قال بالاول، ذهب الى أن (أو) في الآية تقتضي التفصيل ومن قال بالثاني ذهب الى انها للتخيير.
ومعنى قوله: { وأرجلهم من خلاف } معناه أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. ولو كان موضع (من) (على) أو (الباء) لكان المعنى واحداً. وقوله { أو ينفوا من الأرض } في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه يخرج من بلاد الاسلام ينفى من بلد الى إلا بلد إِلا أن يتوب ويرجع وهو الذي نذهب اليه. وبه قال ابن عباس، وأنس بن مالك، ومالك ابن أنس، والحسن والسدي والضحاك، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع ابن انس، والزهري. وقال أصحابنا لا يمكن أيضاً من دخول بلاد الشرك، ويقاتل المشركون على تمكينهم من ذلك حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق. وقال الفراء النفي أن يقال: من قتله فدمه هدر.
والثاني - انه ينفى من بلد الى بلد غيره ذهب اليه سعيد بن جبير في رواية أخرى، وعمر بن عبد العزيز.
الثالث ان النفي هو الحبس ذهب اليه أبو حنيفة وأصحابه.
أصل النفي الاهلاك ومنه النفي الاعدام، فالنفي الاهلاك بالاعدام. ومنه النفاية لردئ المتاع. ومنه النفي، وهو ما تطاير من الماء عن الدلو، قال الراجز:

كأن متنيه من النفيِّ مواقع الطير على الصفيِّ

والنفي الطرد قال أوس بن حجر:

ينفون عن طرق الكرام كما ينفى المطارق ما يلي الفرد

وقوله { ذلك لهم خزي في الدنيا } معناه أن فعل ما ذكرناه من الاحكام خزي في الدنيا، والخزي الفضيحة يقال خزي يخزي خزياً إِذا افتضح وخزى يخزى خزاية إِذا استحيا وخزوته اخزوه خزوا إِذا سسته ومنه قول لبيد:

واخزها بالبر لله الاجل

{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم } معناه زيادة على ذلك وهذا يبطل قول من قال اقامة الحدود تكفير للمعاصي لانه يقال مع اقامة الحدود عليهم بين ان لهم في الآخرة عذاباً عظيما ومعنى ان لهم في الآخرة عذاباً عظيما انهم يستحقون ذلك ولا يدل على انه يفعل بهم ذلك لا محالة لانه يجوز أن يعفو الله عنهم ويتفضل عليهم باسقاط عقابهم.