التفاسير

< >
عرض

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٤٥
-المائدة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ الكسائي { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن } بالرفع فيهن. وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان يقرأ به. وقرأ نافع "الاذن" بسكون الذال حيث وقع. وقرأ نافع وعاصم وحمزة وخلف ويعقوب { والجروح قصاص } بالنصب.
قوله { وكتبنا } أي فرضنا عليهم يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم { فيها } يعني في التوراة { أن النفس بالنفس } ومعناه إِذا قتلت نفس نفساً أخرى متعمداً أنه يستحق عليها القود إِذا كان القاتل عاقلاً مميزاً، وكان المقتول مكافياً للقاتل، أما بأن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين، فأما أن يكون القاتل حراً مسلماً والمقتول كافراً أو مملوكاً فان عندنا لا يقتل. وفيه خلاف بين الفقهاء. وإِن كان القاتل مملوكاً أو كافراً أو المقتول مثله أو فوقه فانه يقتل به - بلا خلاف -.
وقوله: { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } من نصب جميع ذلك عطفه على المنصوب بواو الاشتراك ثم استأنف، فقال والجروح قصاص. ومن نصب الجروح عطفها على ما قبلها من المنصوبات. ومن لم ينصب غير النفس فعلى أن ذلك هو المكتوب عليهم. ثم ابتدأ ما بعده بياناً مبتدأ. ويحتمل أن يكون الواو عاطفة جملة على جملة ولا يكون الاشتراك فيمن نصب. ويحتمل أن يكون حمل على المعنى، لأن التقدير قلنا لهم { إن النفس بالنفس } فحمل { العين بالعين } على المعنى دون اللفظ. ويحتمل أن يكون عطف على الذكر المرفوع في الظرف الذي هو الخبر، وإِن لم يؤكد المعطوف عليه بضمير منفصل، كما قال
{ لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } فلم يؤكد كما أكد في قوله: { { يراكم هو وقبيله } ذكر الوجوه الثلاثة الزجاج، وأبو علي الفارسي ومن نصب الجميع جعل الكل فيما كتب عليهم.
هذا وإِن كان إِخبار من الله أنه ما كتب عليهم في التوراة فانه لا خلاف أن ذلك ثابت في هذا الشرع ويراعى في قصاص الاعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافؤ. ومتى لم يكونا متكافئين، فلا قصاص على الترتيب الذي رتبناه في النفس سواء. وفيه أيضاً خلاف، ويراعى في الاعضاء التساوي أيضاً، فلا تقلع العين اليمنى باليسرى، ولا تقطع اليمين باليسار. وتقطع الناقصة بالكاملة. فمن قطع يمين غيره وكانت يمين القاطع شللاً. قال أبو علي: يقال له إِن شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية يدك. وقد ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إِذا لم يكن للقاطع يمين، فأما عين الأعور، فانها تقلع بالعين التي قلعها سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن. وان قلعت العين العوراء كان فيها كمال الدية إِذا كانت خلقة أو ذهبت بآفة من الله أو يقلع احدى عيني القالع ويلزمه مع ذلك نصف الدية. وفي ذلك خلاف ذكرناه في الخلاف.
وأما الجروح، فانه يقتص منها إِذا كان الجارح مكافياً للمجروح على ما بيناه في النفس، وتقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة ولا قصاص في المأمومة وهي التي اُم الرأس ولا الجايفة، وهي التي تبلغ الجوف، لأن في القصاص منها تعزيراً بالنفس. ولا ينبغي أن يقتص من الجراح إِلا بعد أن تندمل من المجروح، فاذا اندمل اقتص حينئذ من الجارح. وإِن سرت الى النفس كان فيها القود. وكسر العظم لا قصاص فيه، وإِنما فيه الدية. وكل جارحة كانت ناقصة فاذا قطعت كان فيها حكومة. ولا يقتص لها الجارحة الكاملة كيد شلاء وعين لا تبصر وسن سوداء متأكلة، فان جميع ذلك حكومة لا تبلغ دية تلك الجارحة. وقد روي أن في هذه الأشياء مقدراً وهو ثلث دية العضو الصحيح. وتفصيل أحكام الجنايات والديات استوفيناه في النهاية والمبسوط في الفقه لا نطول بذكره ها هنا.
وقوله: { فمن تصدق به فهو كفارة له } الهاء في { كفارة له } يحتمل عودها الى أحد أمرين:
أحدهما - وهو الأقوى - ما قاله عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وابن زيد وابراهيم - على خلاف عنه - والشعبي بخلاف عنه: إِنها عائدة على المتصدق من المجروح أو ولي المقتول، لانه إِذا تصدق بذلك على الجارح لوجه الله كفّر الله عنه بذلك عقوبة ما مضى من معاصيه.
الثاني - على المتصدق عليه لأنه يقوم مقام أخذ الحق عنه ذهب اليه ابن عباس ومجاهد، وإِنما رجحنا الأول، لأن العائد يجب أن يرجع الى مذكور، وهو من تصدق، والمتصدق عليه لم يجر له ذكر، ومعنى "من تصدق" به عفا عن الحق واسقط.
فان قيل: هل يكفر الذنب إلا التوبة أو اجتناب الكبيرة؟
قلنا: على مذهبنا يجوز أن يكفر الذنب شئ من أفعال الخير، ويجوز أن يتفضل الله باسقاط عقابها. وقال قوم: يجوز أن يكفر بالطاعة الصغيرة حتى يسقط بها.
وقوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قد بينا أن في الناس من قال ذلك يختص باليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله في التوراة من القود والرجم. ويمكن أن يحمل على عمومه في كل من لم يحكم بما أنزل الله وحكم بخلافه بأنه يكون ظالماً لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب. وهذا الوجه يوجب أن ما تقدم ذكره من الأحكام يجب العلم به في هذا الشرع وإِن كان مكتوباً في التوراة.