التفاسير

< >
عرض

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٢٨
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قوله { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } معناه من عقاب الله فعرفوه معرفة من كانوا يسترونه عنه. وقال قوم: بدا لبعضهم من بعض ما كان علماؤهم يخفونه عن جهالهم وضعفائهم مما في كتبهم فبدا للضعفاء عنادهم. وقيل: معناه بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه، فأظهره الله وشهدت به جوارحهم. وقال الزجاج: ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفونه من أمر البعث والنشور، لان المتصل بهذا قوله { وقالوا إِن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } لنجزى على المعاصى.
وقوله: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } قال بعضهم: لو ردوا ولم يعاينوا العذاب لعادوا كأنه ذهب الى أنهم لم يشاهدوا ما يضطرهم الى الارتداع، وهذا ضعيف، لان هذا القول يكون منهم بعد أن يبعثوا ويعلموا أمر القيامة ويعاينوا النار بدلالة قوله: { ولو ترى إِذ وقفوا على النار } وهذه الآيات كلها في المعاندين، لانه قال في أولها { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } ثم قال بعد ذلك { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } وقال ابو علي الجبائي: الآية مخصوصة بالمنافقين وظهر لهم ما كانوا يخفونه من كفرهم الذي كانوا يضمرونه. قال والآية الاولى وان كان ظاهرها يقتضي جميع الكفار والمنافقون داخلون فيهم فيجوز أن يخبر عنهم بهذا الحكم. قال: ويحتمل أن يكون أراد بها الكافرين الذين كان النبي يخوفهم بالعذاب على كفرهم فلم يؤمنوا بذلك لكن دخلهم الشك والخوف وأخفوه عن ضعفائهم وعوامهم، فاذا كان يوم القيامة ظهر ذلك وان أخفوه في الدنيا فيتمنون حينئذ الرد الى حال الدنيا. وقيل: { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } معنى { يخفون } يجدونه خافيا. ومعنى { بل بدا } ليس تمنيهم الرجعة واظهار الانابة حقاً للايمان الصحيح، بل لما شاهدوه من العذاب الاليم.
وقوله { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } معناه إِنهم لو ردوا الى حال التكليف والى مثل ما كانوا عليه في الدنيا من المهلة والتمكين من الايمان والتوبة والقدرة على ذلك، لعادوا لمثل ما كانوا عليه من الكفر الذي نهوا عنه. وقوله تعالى { وإنهم لكاذبون } قد بينا ان المراد به الحكاية عن حالهم في الدنيا وأنهم كانوا فيها كاذبين في كفرهم وتكذيبهم رسول الله والقرآن. وقال البلخي هذا الكذب وقع منهم في الحال وان لم يعلموه كذباً، لانهم أخبروا عن عزمهم أنهم لو ردوا لكانوا مؤمنين. وقد علم الله أنهم لو عادوا الى الدنيا لعادوا الى كفرهم، وكان إِخبارهم بذلك كذبا، وان لم يعلموه كذلك، لان مخبره على خلاف ما أخبروه وهذا الذي ذكروه ضعيف، لانهم اذا أخبروا عن عزمهم على الايمان ان ردوا أو كانوا عازمين عليه لا يكونون كاذبين، لان مخبر خبرهم العزم، وهو على ما أخبروا فكيف يكذبون فيه، والاول أقوى.
فأما الكذب مع العلم بأنه ليس كذلك، فلا خلاف بين أبي علي وأبي القاسم أنه لا يجوز أن يقع منهم في الآخرة، لان أهل الآخرة ملجؤن الى ترك القبيح، لانهم لو لم يكونوا ملجئين لوجب أن يكونوا مزجورين من القبيح بالامر والنهي والثواب والعقاب، وذلك يوجب أن يكون ذاك التكليف، ولا خلاف أنه ليس هناك تكليف. وإِن لم يزجروا ولم يلجؤا الى تركه كانوا مغريين بالقبيح وذلك فاسد. فاذاً لا يجوز أن يقع منهم القبيح بحال.
وقال بعض المفسرين
"سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) فقيل له: ما بال أهل النار عملوا في عمر قصير بعمل أهل النار فخلدوا في النار؟ وأهل الجنة عملوا في عمر قصير بعمل أهل الجنة فخلدوا في الجنة؟! فقال: ان الفريقين كان كل واحد منهما عازماً على أنه لو عاش أبدا عمل بذلك" .