التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٧٣
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

آيتان في البصري والمدنيين وآية في الكوفي.
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يقول لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الاصنام، ويدعون المؤمنين الى عبادتها { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } الذي خلق السماوات والارض بالحق، وفي معنى بالحق قولان:
احدهما - قال الحسن والبلخي والجبائي والزجاج والطبري: ان معناه خلقهما للحق لا للباطل. ومعناه خلقهما حقا وصوابا لا باطلا وخطأ، كما قال تعالى:
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } وادخلت الباء والالف واللام كما أدخلت في نظائرها يقولون: فلان يقول بالحق، بمعنى أنه يقول الحق، لا أن الحق معنى غير القول بل التقدير ان خلق الله السماوات والارض حكمة وصواب من حكم الله، وهو موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من جميع خلقه لا أن هناك حقا سوى خلقهما خلقهما به، وذلك يدل على بطلان ما يقوله المجبرة: ان هذا كله باطل وسفه، وما يخالف الحكمة هو من فعل الله، تعالى الله عن ذلك.
والثاني - قال قوم: معنى ذلك أنه خلق السماوات والارض بكلامه، وهو قوله
{ ائتيا طوعاً أو كرهاً } قالوا: فالحق هو كلامه واستشهدوا على ذلك بقوله { ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } أن الحق هو قوله وكلامه. قالوا والله خالق الاشياء بكلامه، وذلك يوجب أن يكون كلامه قديما غير مخلوق، وقد بينا فساد هذا الوجه فيما تقدم، والمعتمد الاول.
وقوله { ويوم يقول كن فيكون } نصب (يوم) على وجوه:
احدها - على معنى واتقوا { يوم يقول كن فيكون } نسقا على الهاء كما قال:
{ { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } }. والثاني - أن يكون على معنى واذكر يوم يقول كن فيكون لان بعده { وإذ قال إبراهيم } والمعنى واذكر { يوم يقول كن فيكون } واذكر { إذ قال إبراهيم } وهو الذي أختاره الزجاج.
والثالث - أن يكون معطوفا على { السماوات والأرض بالحق } وخلق { يوم يقول كن فيكون }. فان قيل: ان يوم القيامة لم يخلق بعد؟ قيل: ما أخبر الله بكونه فحقيقة واقع لا محالة وقال قول: التمام عند قوله { كن } وقوله { فيكون قوله الحق } ابتداء أي ما وعدوا به من الثواب وحذروا به من العقاب كائن حق قوله بذلك.
وقوله { كن فيكون } قال قوم هو خطاب للصور. والمعنى ويوم يقول للصور كن فيكون. وقد بينا فيما مضى أن ذلك عبارة عن سرعة الفعل وتيسيره وانه لا يتعذر عليه شىء بمنزلة أن يقول كن فيكون، لا أن هناك أمر على الحقيقة وكيف يكون هناك أمر والامر لا يتوجه الا الى الحي القادر؟! والمعدومات والجمادات لا يحسن أمرها ولا خطابها. والغرض بالآية الدلالة على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال ويوم يقول للخلق: موتوا فيموتون وانتشروا فينتشرون اي لا يتعذور عليه ولا يتأخر عن وقت ارادته. وقيل { يوم يقول كن فيكون قوله الحق } أي يأمر فيقع امره. والحق من صفة قوله. كما يقول القائل قد قلت، فكان قولك. والمعنى ليس انك قلت فكان الكلام. وانما المعنى انه كان ما دل عليه القول. وعلى القول الاول يرفع { قوله } بالابتداء و { الحق } خبر الابتداء. وحكي عن قوم من السلف { فيكون } بالنصب باضمار (ان). وتقديره كن فأن يكون، وهذا ضعيف.
وقوله { وله الملك يوم ينفخ في الصور } يحتمل نصب { يوم ينفخ } ثلاثة أوجه:
احدها - ان يكون متعلقا بـ { له الملك } والتقدير له الملك يوم ينفخ في الصور وانما خص ذلك اليوم بأن الملك له كما خصه في قوله { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }. وقرأ بعضهم { ينفخ } بفتح الياء. و { عالم الغيب والشهادة } فاعل { ينفخ } وهو شاذ، روي عن ابن عباس ذلك، والوجه أنه لا يبقى ملك من ملكه الله في الدنيا او يغلب عليه بل ينفرد هو تعالى بالملك.
والثاني - ان يكون يوم ينفخ بيانا على قوله { يوم يقول كن فيكون }
الثالث - ان يكون منصوبا بـ { قوله الحق }. والمعنى وقوله الحق يوم ينفخ، الصور. والوجه في اختصاص ذلك اليوم بالذكر ما بيناه في الوجه الاول، لان قوله حق في جميع الاوقات. وفي معنى الصور قولان:
احدهما - ما عليه اكثر المفسرين من انه اسم لقرن ينفخ فيه الملك فيكون منه الصوت الذي يصعق له اهل السماوات واهل الارض، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للنشور، وهو الذي اختاره البلخي والجبائي والزجاج والطبري واكثر المفسرين.
والثاني - أنه جمع صورة مثل قولهم سورة وسور اختاره ابو عبيدة.
وقرأ بعضهم في الشواذ في الصور بفتح الواو وذلك يقوى ما قاله ابو عبيدة، ويكون تقديره يوم ينفخ في الاموات. ويقوي الاول قوله تعالى
{ { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات } ثم قال { ثم نفخ فيه أخرى } } ولم يقل فيها أخرى او فيهن وذلك يدل على انه واحد. وروى ابو سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " كيف انعم وقد التقم صاحب القرن وحنا جنبيه وأصغا سمعه ينتظر ان يؤمر، فينفخ؟! قالوا: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل" .
والعرب تقول نفخ الصور ونفخ في الصور، قال الشاعر:

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندركم ولا خراسان حتى ينفخ الصور

وروي عن ابن عباس ان الصور يعني به النفخة الاولى. ثم بين انه عالم الغيب والشهادة اي ما يشاهده الخلق وما لا يشاهدونه وما يعلمونه وما لا يعلمونه، ولا يخفى عليه شىء من ذلك. وبين انه الحكيم في أفعاله الخبير العالم بعباده وبأفعالهم، ورفع عالم الغيب لانه نعت للذي في قوله { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق عالم الغيب والشهادة } ويحتمل ان يكون اسم ما لم يسم فاعله كما يقولون اكل طعامك عبد الله، فيظهر اسم فاعل الاكل بعد ان قد جرى الخبر بما لم يسم فاعله، والاول أجود، فأما من فتح الياء في ينفخ فانه جعل عالم الغيب فاعله مرتفعا به.