التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٩٤
-الأنعام

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل المدينة والكسائي وحفص { بينكم } بنصب النون. الباقون برفعها. والبين مصدر بان يبين إِذا فارق قال الشاعر:

بان الخليط برامتين فودعوا او كلما ظعنوا لبين تجرع

وقال ابو زيد: بان الحي بينونة وبيناً إِذا ضعنوا، وتباينوا تباينا اذا كانوا جميعا فتفرقوا، قال والبين ما ينتهي اليه بصرك من حائط او غيره واستعمل هذا الاسم على ضربين: احدهما - ان يكون اسما منصرفا كالافتراق. والآخر - ان يكون ظرفا فمن رفعه رفع ما كان ظرفا استعمله اسماً ويدل على جواز كونه اسماً قوله: { هذا فراق بيني وبينك } وقوله { من بيننا وبينك حجاب } } فلما استعمل اسماً في هذه المواضع جاز ان يسند اليه الفعل الذي هو تقطع في قراءة من رفع. ويدل على ان هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا انه لا يخلو من ان يكون الذي هو ظرف اتسع فيه او يكون الذي هو مصدر ولا يجوز ان يكون الذي هو مصدر، لان التقدير يصير لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف المعنى المراد، لان المراد لقد تقطع وصلكم، وما كنتم تتألفّون عليه.
فان قيل كيف جاز ان يكون بمعنى الوصل واصله الافتراق والتباين وعلى هذا قالوا: بان الخليط اذا فارق، وفي الحديث ما بان من الحي فهو ميتة؟!.
قيل: انه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين نحو بيني وبينك شركة، وبيني وبينه صداقة ورحم صار لذلك بمنزلة الوصلة وعلى خلاف الفرقة فلذلك صار { لقد تقطع بينكم } بمعنى لقد تقطع وصلكم ومثل بين في انه يجري في الكلام ظرفا ثم يستعمل إِسماً بمعنى (وسط) ساكن العين ألا ترى أنهم يقولون: جلست وسط القوم، فيجعلونه ظرفاً لا يكون الا كذلك، وقد استعملوه إِسما كما قال الشاعر:

من وسط جمع بني قريظة بعدما هتفت ربيعة يا بني خوَّات

وحكى سيبويه: هو احمر بين العينين. واما من نصب بينكم ففيه وجهان:
احدهما - انه اضمر الفاعل في الفعل ودل عليه ما تقدم من قوله: { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } لان هذا الكلام فيه دلالة على التقاطع والتهاجر وذلك المضمر هو الاصل، كأنه قال لقد تقطع وصلكم بينكم
والثاني - ان يكون على مذهب ابي الحسن ان يكون لفظه منصوبا ومعناه مرفوعاً، فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه في اكثر الكلام وكذلك تقول في قوله
{ يوم القيامة يفصل بينكم } وكذلك قوله: { وإِنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } فدون في موضع رفع عنده وان كان منصوب اللفظ، كما تقول منا الصالح ومنا الطالح فترفع.
وقال الزجاج: الرفع أجود وتقديره لقد تقطع وصلكم. والنصب جائز على تقدير لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم.
وقال الفراء في قراءة عبد الله { لقد تقطع ما بينكم }: وهو وجه الكلام اذا جعل الفعل لـ (بين) ترك نصبا في موضع رفع، لانه صفة، فاذا قالوا هذا دون من الرجال، فلم يضيفوه رفعوه في موضع الرفع. وكذلك تقول بين الرجلين بين بعيد وبون بعيد اذا افردته اجريته في العربية وأعطيته الاعراب. قال مهلهل:

كأن رماحهم اشطان بئر بعيد بين جاليها جرور

فرفع بين حيث كانت اسماً. وقال مجاهد: معنى تقطع بينكم اي تواصلكم، وبه قال قتادة وابن عباس، فمعنى الآية الحكاية عن خطاب الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله اندادا وشركاء، وانه يقول لهم عند ورودهم: { لقد جئتمونا فرادى } وهو جمع فرد، وفريد، وفرد، وفردان قال الازهري لا يجوز فرد على هذا المعنى. والعرب تقول: فرادى وفراد فلا يصرفونها يشبهونها بثلاث ورباع قال الشاعر:

ترى النعرات الزرق تحت لبانه فرادى ومثنى أضعفتها صواهله

وقال نابغة بني ذبيان:

من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

وكان يونس يقول: فرادى جمع فرد كما قيل: توآم وتوءم. ومثل الفرادى الردافى والعرابى، ورجل افرد وامرأة فرداء: إِذا لم يكن لها اخ. وقد فرد الرجل فهو يفرد فروداً يراد به تفرَّد فهو فارد.
فمعنى قوله { جئتمونا فرادى } اي وحداناً لا مال لكم ولا أثاث ولا رقيق ولا شيء مما كان الله خولكم في الدنيا { كما خلقناكم أول مرة }.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) انه قال:
"يحشرون حفاة عراة عزلا" والعزل هم الغلف. وروي ان عايشة قالت لرسول الله حين سمعت ذلك واسوأتاه ينظر بعضهم الى سوءة بعض من الرجال والنساء، فقال رسول الله: " لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه" " فيشغل بعضهم عن بعض.
قال الزجاج: يحتمل ان يكون المعنى كما بدأكم اول مرة، اي كان بعثكم كخلقكم من غير كلفة ولا مشقة.
وقال الجبائي: معناه جئتم فرادى واحدا واحدا { كما خلقناكم أول مرة } اي بلا ناصر ولا معين كما خلقكم في بطون امهاتكم، ولا احد معكم.
وقوله: { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } يعني ما ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به في الدنيا وهذا تعيير من الله لهم لمباهاتهم التي كانوا يتباهون في الدنيا باموالهم، يقال: خولته اي اعطيته. ويقال خال الرجل يخال أشد الخيال بكسر الخاء وهو خائل ومنه قول ابي النجم:

اعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول

{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } يقول تعالى لهؤلاء الكفار: ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء الذين كنتم تزعمون في الدنيا انهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة.
وقال عكرمة: ان الآية نزلت في النظر بن الحارث بن كلدة حيث قال سوف يشفع في اللات والعزى، فنزلت الآية.
وقوله { لقد تقطع بينكم } اي وصلكم { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } اي جار عن طريقكم ما كنتم تزعمون من آلهتكم انه شريك لله تعالى وانه يشفع لكم عند ربكم فلا شفيع لكم اليوم.