التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١١٧
-التوبة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ حمزة وحفص { يزيغ } بالياء. الباقون بالتاء. قال أبو علي النحوي: يجوز أن يكون فاعل (كاد) احد ثلاثة اشياء:
احدها - ان يضمر فيه القصة أو الحديث ويكون (تزيغ) الخبر وجاز ذلك للزوم الخبر لها، فأشبه العوامل الداخلة على الابتداء للزوم الخبر لها، ولا يجوز ذلك في (عسى) لان (عسى) يكون فاعله المفرد في الاكثر ولا يلزمه الخبر، نحو قوله
{ { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } فاذا كان فاعله المفرد في كثير من الأمر لم يحتمل الضمير الذي احتمله (كاد) كما لم تحتمله سائر الأفعال التي تسند إلى فاعلها مما لا يدخل على المبتدأ. وما يجيء في الشعر من كاد أن يفعل، وعسى يفعل، فلا يعتد به، لأنه من ضرورة الشعر.
الثاني - من فاعل (كاد) أن يضمنه ذكراً مما تقدم، ولما كان النبي صلى الله عليه وآله والمهاجرون والأنصار قبيلا واحداً وفريقاً جاز أن يضمر في (كاد) ما يدل عليه ما تقدم ذكره من القبيل والحزب والفريق. وقال: منهم من حمله على المعنى كما قال { من آمن بالله واليوم الآخر } ثم قال
{ فلا خوف عليهم } فكذلك فاعل (كاد).
والثالث - من فاعل (كاد) أن يكون فاعلها (القلوب) كأنه بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ وإنما قدم (تزيغ) كما قدم خبر كان في قوله { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } وجاز تقديمه وإن كان فيه ضمير من القلوب ولم يكن ذلك من الاضمار قبل الذكر، لأن النية به التأخير. ومن قرأ بالياء يجوز ان يكون جعل في (كاد) ضمير الحديث فاذا اشتغل (كاد) بهذا الضمير ارتفع القلوب بـ (تزيغ) فذكر وان كان فاعله مؤنثاً لتقدم الفعل. ومن قرأ بالتاء جاز أن يكون ذهب إلى أن القلوب مرتفعة بـ (كاد) فلا يكون يرفع فعلا مقدماً فاذا لم يكن مقدماً قبح التذكير لتقدم ذكر الفاعل كما قبح في قول الشاعر:

ولا أرض أبقل إبقالها

ولم يصح أبقل أرض. ويجوز أن يكون الفعل المسند على القصة والحديث يؤنث اذا كان في الجملة التي تفسيرها مؤنث كقوله { { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } ويجوز إلحاق التاء في { كاد } من وجه آخر، وهو أن يرفع "تزيغ قلوب" بـ "كاد" فتلحقه علامة التأنيث من حيث كان مسنداً إلى مؤنث كقوله { { قالت الأعراب } فعلى هذا يكون في "تزيغ" ضمير القلوب. لأن النية في "تزيغ" التأخير.
اقسم الله تعالى في هذه الاية - لأن لام "لقد" لام القسم - بأنه تعالى تاب على النبي والمهاجرين والأنصار بمعنى أنه بمعنى أنه رجع اليهم، وقبل توبتهم { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } يعني في الخروج مع إلى تبوك. و "العسرة" صعوبة الأمر وكان ذلك في غزوة تبوك لأنه لحقهم فيها مشقة شديدة من قلة الماء حتى نحروا الابل وعصروا كروشها ومصوا النوى. وقل زادهم وظهرهم - في قول مجاهد وجابر وقتادة - وروي عن عمر أنه قال: أصابنا عطش شديد فأمطر الله السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وآله فعشنا بذلك { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } والزيغ ميل القلب عن الحق، ومنه قوله
{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ومنه قوله { { لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } وكان أبوخيثمة عبد الله بن خيثمة تخلف إلى أن مضى من مسير رسول الله عشرة أيام ثم دخل يوماً على امرأتين له - في يوم حار - عريشين لهما قد رشتاهما وبردتا الماء وهيأتا له الطعام، فقام على العريشين فقال: سبحان الله رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر والقر يحمل سلاحه على عاتقه وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيأ وأمرأتين حسناوين ما هذا بالنصف، ثم قال. والله لا أكلم واحدة منكما كلمة ولا ادخل عريشاً حتى الحق بالنبي صلى الله عليه وآله فأناخ ناضحه واشتد عليه وتزود وارتحل وامرأتاه تكلمانه ولا يكلمهما ثم سار حتى اذا دنا من تبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق فقال النبي صلى الله عليه وآله كن ابا خيثمة، فلما دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله فأناخ راحلته وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له النبي صلى الله عليه وآله أولى لك. فحدثه الحديث، فقال له خيراً، ودعا له، فهو الذي زاغ قلبه للمقام. ثم ثبته الله.
وقيل: إن من شدة ما لحقهم هم كثير منهم بالرجوع فتاب الله عليهم، وقيل من بعد ما كان شك جماعة منهم في دينه ثم تابوا فتاب الله عليهم، وقوله { ثم تاب عليهم } أي رجع عليهم بقبول توبتهم { إنه بهم رؤف رحيم } إخبار منه تعالى أنه بهم رؤف، فالرأفة أعظم الرحمة، قال كعب بن مالك الانصاري:

نطيع نبينا ونطيع رباً هو الرحمن كان بنا رؤوفا

وقال آخر:

ترى للمسلمين عليك حقاً كمثل الوالد الرؤف الرحيم