التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

الجملة معطوفة إمّا على: "يَكذبون"، وإمّا على: "يَقُولُ آمنّا"، فيكون التقدير: ومن الناس من إذا قيل لهم، والأول أَوْلىٰ، والقائل هو الله تعالى، أو الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أو بعض المؤمنين، ولكل قائل، والكلّ محتملٌ.
والأقرب أنّ القائل لهم من شافَههم ممّن يختصّ بالدين والنصيحة، وكثيراً ما كان المنافقون إذا عوتبوا عادوا الى إظهار الإسلام والندم، وكذّبوا الناقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه، كما أخبر تعالى عنهم في قوله:
{ { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ } [التوبة:74] وقال: { { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } [التوبة:96].
وما وري عن سلمان "إنّ أهل هذه الآية لم يأتوا بعدُ"، فلعلّه أراد به أنّ أهلها ليس مقصوراً على الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من كان حالهم هذا الحال، لأن الآية متّصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها.
والفَساد: عبارةٌ عن خروج الشي عن كونه منتفعاً به، ونقيضه: الصلاح، وقد يطلق على زوال الصورة، ونقيضه: الكون، وأما كون الفَساد فساداً في الأرض، فيستدعي أمراً زائداً وفيه أقوال:
أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: إنّ المراد به إظهار معصية الله. وتقريره ما ذكره القفّال، وهو أنّ إظهار معصية الله إنّما كان فساداً في الأرض، لأن الشرائع الإلٰهية سُنَن وطُرق موضوعة بين العباد، فإذا تمسّكوا بها زال العدوان، ولزم كلّ أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وأما إذا تركوا التمسّك بالشرائع، وأقدم كلّ أحد على ما يهواه بطبعه، لزم الهرَج والمرَج والاضطراب، ويهيّج الحروبَ والفتنَ والفساد في الزروع والمواشي، وانتفاء المنافع، الدينيّة والدنيويّة، ولذلك قال الله تعالى:
{ { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } [محمد:22] وقال: { { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } [البقرة:205]. نبّأهم الله تعالى على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة، لم يحصلوا إلاّ على الإفساد في الأرض به.
الثاني: أن يقال: ذلك الفساد، هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنّهم لمّا مالوا الى الكفّار مع أنّهم في الظاهر مؤمنون، أوهَمَ ذلك ضعفَ الرسول (صلّى الله عليه وآله) وضعف أنصاره، وكان ذلك يُجرئ الكفارَ على عداوة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونصْب الحربِ لهم وطمعهم في الغلبة، فلمّا كان صنيعهم ذلك مؤدّياً الى الفساد، قيل لهم: لا تفسدوا، كما تقول للرجل: لا تقتُل نفسَك، ولا تُلقِ نفسَك في النار، إذا أقدم الى أمرٍ هذه عاقبته.
الثالث: إنّ المنافقين كانوا يُمَايلون الكفّار ويمالئونهم على المسلمين، بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدّي الى هيج الفتن بينهم، وفيه فساد عظيمٌ في الأرض.
الرابع: قال الأصمّ: كانوا يدعون في السر الى تكذيبه، وجحْد الإسلام، وايقاع الشبه في قلوب الناس من ضُعفاء العقول والإيمان، فيرتدّون على أعقابهم.
فصل
وقوله: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }، كالمقابل لما ذكر، وهو جواب لـ "إذا"، وردّ للقائل الناصح على سبيل المبالغة، لأن "إنّما" لقصر الحكم على شيء كقولك: إنّما يكتب زيد، ولقصر الشيء على حكم كقولك: إنّما زيد كاتب، فالمعنى أنّ صفة الإصلاح مقصورة عليهم متمحّضة لهم، وعند ذلك يحتمل وجهان:
أحدهما: إنّهم اعتقدوا في دينهم أنّه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جَرَم قالوا: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
وثانيهما: إنّ مداراتنا مع الكفار سعيٌ في الإصلاح بينهم وبين المسلمين، وذلك كما حكى الله عنهم أنّهم قالوا:
{ { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [النساء:62].