التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
١٢
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

ردٌّ لما ادّعوه، وإنكارٌ لما صوّروه من الانتظام في جملة المصلحين، بأبلغ ردّ وأشدّ إنكار، وأدلّهِ على سخطٍ عظيم، حيث وقع الاستيناف والتصدير: (بألاَ) و (إنّ) حرفي التأكيد والتحقيق، وعرّف الخبر ووسّط الفصل مع الاستدراك "بلا يشعرون"، فإنّ الأولى منهما مركّبة من حرفي الاستفهام والنفي لافادة التحقيق كقوله: { { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ } [القيامة:40] ولكونها في هذه المرتبة من التحقيق، لا يكاد تقع الجملة بعدها إلاّ مصدّرة بنحو ما يتلقّى به القسَم، واختها "أما" التي هي من طلائع اليمين ومبادئ القسَم، والثانية هي المقرِّرة للتنبيه والتحقيق.
تنبيه
[الجهّال المنتسبون الى العلم]
إعلم أنّ هؤلاء المنافقين الذين ذكَرهم الله، كانوا من المنتسبين ظاهراً الى العلْم والصلاح، مع وفور الجهل، وقلّة الورَع، ورداءة الاعتقاد، وسوء الخُلق، وعند أنفسهم - لغاية الحُمق والسفاهة - أنّهم من أهل الصلاح والاصلاح لنفسهم ولغيرهم، ونظائرهم موجودون في كلّ زمان، مضادّون في أطوارهم وآرائهم لأهل الحقّ في كل أوان، واكثرهم من مجادلة أهل الكلام، والمتعصّبة لمذاهب أخذوها تلقّفاً وتقليداً من غير بصيرة. وليس من الطوائف المنتسبة الى العلْم والأدب شرٌّ على العلماء المحقّين، ولا أضرّ على الأنبياء الهادين، ولا أشدّ عداوة للمؤمنين بالحقيقة، ولا أفسد للعقول السليمة، من كلام هؤلاء المجادلة، وخصوماتهم وتعصّباتهم في الآراء والمذاهب.
وذلك لأنّهم إن كانوا في زمن الأنبياء (عليهم السلام)، فهم الذين لا يصدّقون ولا يؤمنون كسائر الناس، بل يطالبونهم بالحجج والمعجزات، ويعارضونهم بالخصومات، ويشوّشون عقائد المسلمين بابداء الشُّبهات، ويزيّفون قلوبَهم بالضلالات، مثل ما قالوا لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله):
{ { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً [* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً *] أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [الإسراء:90 - 92] وما قالوا لنوح: { { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } [هود:27].
وهم الذين كانوا إذا مرّوا بالمؤمنين يتغامزون، وقال تعالى في ذمّهم وتوبيخهم:
{ { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف:58]. فهذه حال من كان منهم في زمان الأنبياء (عليهم السلام).
وأما إذا كانوا في غير أزمانهم، فهم الذين يجادلون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتبَ الله وراء ظهورهم، ويفرغون الى الآراء والمذاهب بعقولهم السخيفة، وآرائهم الفاسدة، ويضعون لمذاهبم قياسات متناقضة، واحتجاجات مغالطيّة مموّهة، فيضلّون العقول السليمة عن سنَن الحقّ ومسلك الدين، والعلّة في ذلك أسباب شتّى:
منها: شدّة تعصّبهم فيما اعتقدوه تقليداً من غير بصيرة، وأخذوه من آبائهم وأسلافهم في أوائل العمر.
ومنها أعجابُهم بأنفسهم في حالهم وعلْمهم.
ومنها: اعتقادهم لأصول خفيَ فيها خطأوها عليهم وهي ظاهر الشناعة فيما يترتّب عليها ويتفرّع عنها، فيلتزمون تلك الشناعات في الفروع، مخافة أن تنتقض عليهم الأصول، ويطلبون لها وجوهاً من المراوغة من التزام الحجّة، تارةً بالشغَب، وتارةً بالتمويه، وتارةً بالمنازعة هرباً عن الجواب والإقرار بالحقّ، وتأنّفاً عن أن يقولوا: لا ندري الله وروسوله أعلم، إقتداءً بأدب الله كما قال:
{ { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [الشورى:10] { { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء:83].
وانّك لتجد مَن فيهم جودة عبارة، وفصاحة بيان، وسحر كلام، ما يقدر أن يصوّر الباطل في صورة الحقّ بالوصف البليغ، ويصوّر الحق في صورة الباطل، وهو مع ذلك جاهل القلب، ميّت النفس عن إدراك حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن فهم المعارف العقليّة، كما قال تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }. وقوله:
{ { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل:80].
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان يقول:
"أخوفُ ما أخافُ على أمّتي منافقُ القلبِ، عليمُ اللسان، غير حكيم القلب، يغترّهم بفصاحة بيانه، ويضلّهم بجهله" .
وتجد فيهم مَن يجادلُ ويحتجّ وهو عاقل في أشياء كثيرة من أمور الدنيا، فإذا فتّشت عن اعتقاده في أشياء اعتقاديّة متعلّقة بأمور الدين، وجدتَ رأيه واعتقاده أسخف وأقبح من رأي كثير من الصبيان والعلة ما ذكرنا أولاً.