التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٥
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

قوله تعالى: ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ
ذكروا في تأويل نسبة الاستهزاء إليه تعالى حيث لا ينفك معناه عن التلبيس - وهو على الله محال - وعن الجهل لقوله تعالى:
{ { قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [البقرة:67]. والجهل على الله محالٌ، وجوهاً خمسة:
أحدها: إنّه من باب صنعة المشاكلة. فسمّي ما يفعله الله جزاءً لاستهزائهم، استهزاءً، كما في قوله:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى:40]. وقوله: { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [البقرة:194].
وفي الحديث عنه (عليه السلام) أنه قال: تكلّفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا وأنه قال (عليه السلام) ايضاً اللهم إنّ فلاناً هو يعلم أنّي لست بشاعرٍ فاهجه اللهم والعنه عددَ ما هجاني.
وثانيها: إنّ ضرر استهزائهم راجعٌ اليهم غير ضائر بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها: إن آثار الاستهزاء من الهوان والحقارة لحقت بهم من الله، فذكر اللازم وأُريد به الملزوم تجوّزاً.
ورابعها: إن الله ينعّمهم في الدنيا بأنواع النعم، ويظهر عليهم منه تعالى خلاف ما يفعل بهم في الآخرة، كما انهم أظهروا للنبي (صلّى الله عليه وآله) أمراً كان الحاصل معهم في السر خلافه، وفيه نظر.
وخامسها: إنه تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ، أما في الدنيا فلأنه يطلع الرسول (صلّى الله عليه وآله) على أسرارهم، مع أنهم بالَغوا في كتمانها عنه، ويُجري عليهم أحكام المسلمين، ويستدرجهم من حيث لا يشعرون، ويُمهلهم مدة في النعمة والتمادي على الطغيان.
وأما في الآخرة، فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنَّة والكافرون النارَ، فتح الله تعالى من الجنة باباً الى الجحيم الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب المفتوح، أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجّهون الى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصَلوا الى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى:
{ { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [المطففين:34]. وهذا هو الاستهزاء.
وإنما استؤنف الكلام ولم يعطف، ليدل على أن الله تعالى هو الذي يتولّى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين الى أن يعارضوهم باستهزاء مثله، وللإشعار بأن استهزاءهم بالمؤمنين لا يعبأ به في مقابلة ما يفعل الله بهم.
وإنما لم يقل: "الله مستهزئ بهم" ليطابق قولهم، لأن المضارع يفيد الحدوث وقتاً فوقتاً، والتجدد حيناً بعد حين، وهكذا كانت نكايات الله فيمن سلك النفاق وباع آخرته بالدنيا، كما قال:
{ { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [التوبة:126].
وأيضاً، فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتّك أستارهم، وتكشّف أسرارهم، واستشعار خوف وحذر من أن يرد عليهم عذاب، أو تنزل فيهم آية تفضحهم كما قال:
{ { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [التوبة:64].
بصيرة
إعلم أن للإيمان مراتب متفاوتة في الكمال والنقص، فَرُبّ مؤمن يكون له من المعرفة بالله وباليوم الآخر، ما لا يمكن له إظهاره وكشفه للمؤمنين؛ كما لا يمكن للكافرين، فهو يُداري مع الطرفين، ويعمل على التقيّة في الجانبين، فيتكلّم مع كل منهما على قدْر عقولهم، وهو مع الله لا يبرح ناظراً في عباده بعين الرضا، وهذا ضربٌ من النفاق، لكنّه غير مذموم، بل واجب كما دلّ عليه قوله (صلّى الله عليه وآله):
"كَلّموا الناسَ عَلى قدْرِ عُقولِهم" .
قال بعض العرفاء: إعلم أنّ الإنسان ذو وجهين: وجهٌ الى ذاته، ووجهٌ الى ربّه، ومع أي وجه توجّه غابَ عنه وجهُه الآخر، وكلّ منهما غير وجه ربِّك ذِي الجَلالِ والاكْرامِ، فكل مِن وجهيه هالكٌ داثرٌ إذا لم يستحكم علاقته مع وجه ربّه، فإذا انقلب إليه، فني عنه وجهُه فصار غريباً في الحضرة، يستوحش فيها، ويطلب وجهَه الذي كان يأنسه به فلا يجده، فيبقى في عذاب وحسرة.
وأما إذا استحكمت علاقتُه مع الحق تعالى، فإذا توجّه الى وجه ربه؛ أقبل عليه ولم يكن له مؤنسٌ سواه، ولا مشهودٌ إلا إيّاه، فصار الحق له وجهاً وسمعاً وبصراً، ففرِح لبقائه وعاد الأنس الأعظم، ويتذكّر الأنس الماضي به، فيزيد أنسا الى أنس، ويرى عنده وجهَ ذاته ولا يفقده، لأنه أصله، فيجمع بين الوجهين في صورة واحدة، فيجد الأنس لاتّحاد الوجهين فيعظم السرور والابتهاج، وهذه حالة جمعية برزخيّة، لكونها جمعت بين الطرفين، فمن جمَع بينهما في الدنيا، حرم ذلك في الآخرة كالمنافق، فإنه يريد أن يكون برزخاً جامعاً بين المؤمن والكافر، فإذا انقلب، تخلّص الى أحد الطرفين وهو طرفُ الكفر، إذ لم يستحكم علاقَته بالإيمان، ولم يتخلص له؛ فلو تخلّص هنا الى الإيمان ولم يكن برزخاً، كان إذا انقلب، انقلب الى الله كما ذكرناه من جمعه بين الطرفين، فاحذر ها هنا من صفة النفاق فإنها مهلكةٌ، ولها في سوق الآخرة نفاق اقتضى ذلك الموطن، وما أُخذ المنافق ها هنا إلا لأمر دقيق لا يشعر به كثير من العلماء، وقد نبّه الله لمن ألقى السمع وهو شهيد، وذلك انّ المنافقين ها هنا:
{ { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } [البقرة:14]، لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا. لكنهم قالوا لا عن حقيقة واعتقاد. { { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة:14]، لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثّر فيهم الذمّ الواقع. وانما زادوا: { { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة:14] فشهدوا على أنفسهم انهم كانوا كافرين.
فما أُخذوا إلاّ بما أقرّوا به، إذ بناء المؤاخذة والعذاب على ضَرْب من الاستعداد والشعور به، وبه تتمّ الحجة لله. وإلا لو أنّهم بقّوا على صورة النفاق من غير زيادة في البغي وتمادٍ في العصيان، لسعدوا.
ألاَ ترى الله لما أخبَر عن نفسه في مؤاخذته إيّاهم كيف قال: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }، فما أخذهم بقولهم:
{ { إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة:14]، وانما أخذهم بما زادوا على النفاق. وهو قوله: { { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة:14].
وما عرّفك الله بالجزاء الذي جازىٰ به المنافق، إلا لتعلم من أين أُخذ حتى تجتنب موارد الهلاك.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): إنّ مداراة الناس صدقةٌ، فالمؤمن يداري الطرفين مداراة حقيقية ولا يزيد على المداراة، بخلاف المنافق، فإنّه يجني ثمرة الزائد - كان ما كان - فتفطّن.
فقد نبهّتك على سرّ عظيم من أسرار القرآن وهو واضح ووضوحه أخفاه، وانظر في صورة كل منافق تجده ما أُخذ إلا بما زاد على النفاق، وبذلك قامت عليه الحجة، ولو لم يكن كذلك، لحُشر على الأعراف مع أصحاب الأعراف.
والمؤمن المداري منافقٌ، وهو ناجٍ، وهو فاعلُ خيرٍ، فإنه إذا انفرد مع أحد الوجهين أظهر له الاتحاد ولم يتعرّض لذكر الوجه الآخر الذي ليس بحاضر معه، فإذا انقلب الى الوجه الآخر كان معه أيضاً بهذه المثابة، والباطن في الحالتين مع الله، فإن المقام الإلٰهي هذه صورته، فإنه لعباده بالصورتين، فنزّه نفسه وشبّه، فالمؤمن الكامل بهذه المثابة، وهذا عين الكمال، فاحذر من الزيادة، وكن متخلّقاً بأخلاق الله.
وقد قال تعالى مُمْتناً على رسوله (صلّى الله عليه وآله):
{ { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [آل عمران:159]. واللّين: خَفْضُ الجناح والمداراة ألا ترى الى الحق تعالى يرزق الكافر على كُفره ويمهل له في المؤاخذة عليه؟
وقال عزّ وجلّ لموسى وهارون في حقّ فرعون:
{ { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [طه:44]. وهذا عين المداراة. ومن هذا المقام:
قوله جل اسمه:
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (15)
في الكشّاف: من مدّ الجيش وأمدّه: إذا زاده، وألحقَ به ما يقوّيه ويكثّره، وكذلك مدّ الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض، اذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّة الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا واصَله بالوسواس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكاً فيه وقال بعضهم: مدّ يستعمل في الشر، وأمدّ في الخير، قال الله تعالى:
{ { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } [مريم:79]. وقال في النعمة: { { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [الإسراء:6]. وقال: { { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [المؤمنون:55].
ومن الناس من زعم انه من المدّ في العمر والإملاء والإمهال ويخدشه أمران: قراءة ابن كثير وابن محيص: وَيُمِدُّهم، وقراءة نافع:
{ { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ } [الأعراف:202] فإنه يدل على أنّه من المدد دون المدّ، وكون الذي بمعنى "أمهله" إنما هو "مَدّ له" كـ "أملى له".
والطغيان، هو الغلوّ في الكفر وتجاوُز الحد في العتوّ، قال تعالى:
{ { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ } [الحاقة:11]. أي: جاوز قدره. وقال: { { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } [طه:24]. أي أسرف. وقُرئ: طِغيانهم "بالكسر".
والعَمهُ: كالعمى، لكنه عامّ في البصر والرأي والعمَه في الرأي خاصّة، وهو التردد والتحيّر.
وعند المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها لوجوه:
أحدها: انّه اضيف مثل هذا الفعل الى الشيطان في قوله:
{ { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ } [الأعراف:202].
فكيف يضاف الى الله؟
وثانيها: أن الله ذمّهم على هذا الطغيان، فكيف يذمهم الله على ما هو فِعلٌ له بالحقيقة؟
وثالثها: أنه لو كان فِعلاً له، لبطلت النبوة والإنذار، وبطلت فائدة نزول القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً.
ورابعها: أنه أضاف إليهم الطغيان بقوله: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }، فدلّ على أنه ليس مخلوقاً لله، ومصداقه انّه حين اسند المدّ الى الشياطين، اطلقَ "الغيّ" ولم يقيده بالإضافة اليهم في قوله:
{ { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ } [الأعراف:202] فذكروا للآية تأويلات اعتزالية:
الأول: لما منحهم الله تعالى الطاقة التي يمنحها المؤمنين، وخذَلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، وسدّ على أنفسهم طرق التوفيق، فتزايدت بسببه قلوبهم رَيناً وظلمة، كما تزايدت قلوب المؤمنين انشراحاً ونوراً، وهذا تأويل الكعبي وأبي مسلم الإصفهاني.
الثاني: انّه لما مكّن الشيطان من إغوائهم وخلّى بينه وبين إغواء عباده، فزادهُم طغياناً، اسند ذلك إليه تعالى إسناد الفعل الى المسبب، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهّم أنّ إسناد الفعل إليه على الحقيقة.
والثالث: أن يحمل على منع القسر والإلجاء، كما قيل: السفيه متى لم يُنه فهو مأمور.
والرابع: أن يكون يمدّهم معناه: يمد عمرَهم وهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون.
أقول: جميع ما ذكروه في الاشكال والتأويل ضعيف قاصر عن الصواب، أما الوجوه المذكورة في الإشكال،
فالجواب عن الأول منها: أنّ نسبة كل فعلٍ الى مصدَره المباشِر، غير نسبته الى المبدإ الفيّاض، والله خالق كلّ شيء ومع هذا ينسب البعض الى غيره، كالإحراق الى النار، والتبريد الى الماء، والإضاءة الى الشمس، والمطَر الى السماء، أوَلاَ ترى انّه نَسب الإضلال الى الشيطان في مواضع من القرآن، ثمّ قال:
{ { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الجاثية:23]. وقوله: { { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر:23]. وكذا نسب الوسواس الى الشيطان في قوله: { { يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } [الناس:5]. وكذلك الهداية منسوبة اليه في آيات كثيرة مثل قوله: { { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة:213]. وقد ينسب الى غيره كما في مثلِ قوله: { { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف:181]. وكذا نسب التوفّي تارةً الى مَلَك الموت كما في قوله: { { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [السجدة:11]. وتارة الى نفسه مثل قوله: { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر:42]. وكذا في كثير من النظائر. فليكن ها هنا من هذا القبيل. والوجه في الجميع واحدٌ كما سنذكره.
وعن الثاني: أنّ الذم في الفعل القبيح يرجع الى المباشِر: لانفعاله به وتأثّره عنه، ولا يرجع الى فاعل الكل، لتقدّسه وبراءته عن الانفعال والتغيّر، ولكونه يفعل الأشياء لأجل الخير والحكمة والرحمة الواسعة، من غير أن يعود إليه خيرها أو شرّها.
ومما يبيّن ويحقّق هذا، أنّ نسبة السواد مثلاً الى الفاعل الموجِد له، آكد وأشدّ من نسبته الى القابل لأن نسبته الى الفاعل بالإيجاب والإقتضاء، ونسبته الى القابل بالإمكان والصحّة، ومع ذلك لا يقال لموجِد السواد: إنه أسود، كما يقال لقابله، وذلك لوجود التأثر والانحصار ها هنا دون هناك، وكذا لا يطلق على موجِد اللون والطعم الصابغ والطاعم بالمعنى الذي يطلق على المباشِر. فلا يقال للباري: إنه صبّاغ مع أنه موجِد جميع الأصباغ والألوان على أحسن الوجوه، كما في قوله:
{ { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } [البقرة:138]. وكذا لا يقال للباري جل اسمه: إنه نجّار أو بنّاء بالمعنى الذي يقال للإنسان، وذلك لأنه يفعل النجر والبناء على وجه أعلى وأشرف مما يفعله النجّار والبنّاء، لأن الفعل وقع منهما على سبيل المباشرة، ومنه تعالى على وجه الابداع والعناية. ومثال ما ذكرناه النفس الإنسانية، فإنّها على بيّنة من ربّها، من عرفها فقد عرف ربه، أوَلاَ ترى انّ النفس مع تجرّدها ووحدتها، وكونها من عالَم علوي، تفعل في البدن جميع الأفاعيل المنسوبة في غيره من الأجساد النباتية والجماديّة الى القوى الجسمانية، مثل الهضم والطبح والنضج، ودفع الفضلات وسائر الاستحالات، وسائر الأفاعيل الجمادية والنباتية، ومع ذلك ليست بجماد ولا نبات؟
وكذلك تلمس وتشمّ وتذوق وليست لامسة ولا شامّة ولا ذائقة، بل هي خارجة عن عالَم البصر والسمْع، بل عن عالم التخيّل والوهم، ولا يخلو عنها عضو من الأعضاء وقوة من القُوى.
وهناك يظهر معنى قوله (صلّى الله عليه وآله):
"إنه فوق كل شيء وتحت كل شيء، قد ملأ كل شيء عظمتُه، فلم يخلُ منه أرض ولا سماء، ولا بَرّ ولا بحر ولا هواء، هو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء؛ وهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو الباطن ليس دونه شيء، فلو دلى على الأرض السُّفلى لهبط على الله" .
وسر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هو عين كل شيء لا بمزاولة وغير كل شيء لا بمزايلة.
وعن الثالث: ما مر أن فائدة البعثة والإنزال ترجع الى اهل الإيمان بالتنوير والتكميل لقلوبهم الصحيحة، والى المنافقين بتنقية قلوبهم المريضة والتبعيد والطرد لهم، وتبليغ الحجة عليهم، كما أنَّ فائدة ضوء الشمس إنما ترجع الى العيون السليمة، ولا تزيد الخفافيش إلا فراراً ووحشة ونفوراً، ثم تكون عليهم حسرة وعلى نفورهم حجة.
وعن الرابع: بمثل ما مرّ.
وأما الوجوه التي ذكروها في التأويل، فالجواب عن أولها: أنه إذا اعيد السؤال بأنه ما السبب المرجّح في تخصيص اللطف منه تعالى للمؤمنين والمنع له عن المنافقين، مع أن اللطف واجبٌ عليه تعالى على اصولهم بالنسبة الى الجميع؟ فإن أجابوا عنه بأن سبق الكفر والإصرار أوجب ذلك من الله عليهم، فلقائل أن يقول: ما الباعث لهؤلاء على الكفر والإصرار دون المسلمين، مع تساوي غرائزهم وفِطَرهم، وتساوي نسبة اللطف والإنذار والتخويف والإرشاد والنصيحة وجميع ما هو من قِبَل الله وآياته وكُتبه ورُسله لهم ولغيرهم؟
فلم يبقَ لهم مهربٌ إلا الرجوع الى الأمور الإلٰهية، من اختلاف الغرائز بسحب الفطرة الأولى، وأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، وأن الشقيَّ منهم شقيٌّ في الأزل، والسعيد منهم سعيد لم يزل، كما قال تعالى:
{ { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ... خَالِدِينَ } [هود:105 - 107]. الآية.
وعن ثانيها: أنَّ تمكين الشيطان من إغوائهم، والتخلية بينه وبينهم دون غيرهم، مع أن الكل عباد الله محتاجون الى رحمته في الدنيا والآخرة، ينافي أصولَهم، كوجوب الألطاف، واستحالة الترجيح من غير مرجّح، وفيه من النظر والجواب ما مرّ.
وعن ثالثها: أن تفسير الإمداد في العمىٰ والطغيان بعدم القسر والإلجاء على فعل الخير والطاعة، في غاية البُعد، فلا يُصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة ها هنا كما علمت.
وعن رابعها: انه بعيد من وجهين:
الأول: عدم مساعدة اللغة كما مر من أن تفسير يمدهم بالمد في العمر، خطأ.
والثاني: انه على تقدير صحته من جهة اللغة يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون، فيعود الإشكال..
وأجاب بعضهم - كالقاضي - عن ذلك بأنه ليس المراد ذلك، بل المراد أنه يُبقيهم ويلطف لهم في الطاعة فيأبَون إلا أن يعمهوا.
وقد علمت أنّ مثل هذا الكلام في اختلاف صُنع الله مع عباده مع تساوي الكل في الغرائز والفِطَر في قبول اللطف من الله، لا يفي بدفع الإشكال على من التزم المحافظة على قضايا العقل التي عليها، يعني إثبات الواجب تعالى، وإثبات الشريعة فلا بد للعاقل في دفع هذا ونظائره إما الى الرجوع الى مسلك أهل الله والراسخين في العلم، حتى ينكشف عليه سر المقال وحقيقة الحال، وإما الى صريح مخالفة العقل وإنكار الحكمة، والقول بالسبب والعلة والغاية، وأنه سبحانه بحيث لا يُسئل عما يفعل - تعالى عن فعل المجانين والسفَه والتعطيل كما زعموا علواً كبيراً-.
إضاءة واشراق
قال الشيخ العارف في الفتوحات: "اعلم أن الكل من عند الله، ولكن لما تعلّق ببعض الأفعال لسان ذمّ، فما كان في الأفعال من باب شرّ وقبح فدَينا بنفوسِنا ما ينسب الى الحق من ذلك، وقايةً وأدباً مع الله. وما كان من خير وحُسن رفعنا نفوسَنا من البين وأضفنا ذلك الى الله، حتى يكون هو المحمود بكل ثناء. أدباً مع الله وايقاعاً لحقوقه. فإنه لله بلا شك مع ما فيه من الاشتراك، كما دل عليه قوله:
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات:96]. وقوله: { { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء:79]. مع قوله: { { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } [النساء:78]. فأضاف العمل وقتاً إلينا، ووقتاً إليه، فلهذا قلنا: فيه رائحة اشتراك. قال تعالى: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة:286]. فأضاف خيرَنا وشرنا إلينا. وقال: { { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس:8]. فله الإلهام وقد خلق العمل.
فهذه مسألة لا يتخلّص فيها توحيد أصلاً، لا من جهة الكشف ولا من جهة الخبر، فالأمر الصحيح من ذلك، انّه مربوطٌ بين حقّ وخلق، غير مخلص لأحد الجانبين، فإنه على ما يكون من النسب الإلٰهية أن يكون الحق عين الوجود الذي استفادته الممكنات، فما ثمَّ إلا وجود عين الحق، والتغيّرات الظاهرة في هذه العين، أحكام أعيان الممكنات، فلولا العين ما ظهر الحكم، ولولا الممكن ما ظهر التغيير، فلا بد في الأفعال من حق وخلق". انتهى كلامه.
أقول: ليس مراده "قدس سره" من قوله: "فلهذا قلنا فيه رائحة اشتراك" انه يعتقد أن فاعل أفاعيل العباد مركّب من أمرين: حق وخلْق، وكذا قوله: "فهذه مسألة لا يتخلّص فيها توحيد أصلاً" الى قوله: "غير مخلص لأحد الجانبين"، ليس المراد ما تُوهِمه ظاهرُ العبارة، وكذا ما ورد في أحاديث أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) "إنّه أمرٌ بين أمرين" ليس المعنى ما توهَّمه المحجوبون: أنّ الفعل واقعٌ بين الرب والعبد غير مخلَص لأحدهما، كيف وهذا شِرك محض، وظلمٌ عظم يخالِف البرهان والكشفَ والنقلَ عن أئمتنا (عليهم السلام)، بل مقصوده "قدس سره" ممّا ذكره، ومرادهم (عليهم السلام)، من قولهم بأنه أمرٌ بين أمرين: ان الأفعال كلها مخلوقةٌ لله تعالى من غير اشتراك أصلاً؛ وكذا الفعل الصادر عن العبد، هو بعينه صادرٌ عن الحق من غير اشتراك، بل لأن وجود العبد بعينه شأن من شؤون الله، وقد ذكرنا فيما مرّ أن للفعل نسبةً الى الفاعل المزاول، وله بعينه نسبةً الى الفاعل المفارق، والذمائم والنقائص في الأفعال، راجعة الى نسبة المزاول لا نسبة المفارق، والمذكور ها هنا أدق وأعلى في التحقيق، وأغمض وأدق في المسلك، لا يفهمه إلا ذو بصيرة ثاقبة، وكشف تام، ويدٍ باسطة في الغيب.
فالفعل، من حيث هو واقع بقدرة العبد، واقع بعينه بقدرة الله بلا اشتراك، تعالى الله عنه علواً كبيراً، وهذا هو مراده "قدس سره" من الاشتراك لا غير، حاشاه عن ذاك وسائر الأولياء الموحدين، ناهيك به قوله: فإنه أعلى ما يكون من النسب الإلٰهية أن يكون الحق هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات، ثمّ قال: وفي مذهب بعض العامة، أن العبد محل ظهور أفعال الله وموضع جريانها، فلا يشهدها الحسّ إلا من الأكوان ولا يشهدها ببصيرتهم إلا من الله من وراء حجاب، هذا الذي ظهرت على يدي المريد لها، المختار فيها، فهو لها يكتسب باختياره. وهذا هو مذهب الأشاعرة.
ومذهب بعض العامة؛ أنّ الفعل للعبد حقيقة، ومع هذا فربط الفعل عندهم بين الحق والخلق لا يزول، وإنّ هؤلاء يقولون: القدرة الحادثة في العبد التي يكون بها هذا الفعل من الفاعل، أنّ الله خلَق له القدرة عليها، فما يخلص الفعل للعبد إلا بما خلَق الله فيه من القدرة عليه، فما زال الاشتراك، وهذا مذهب أهل الاعتزال، فهؤلاء ثلاثة: أصحابنا والأشاعرة والمعتزلة ما زال منهم وقوع الاشتراك، وهكذا أيضاً حكم مثبتي العلل، لا يتخلّص لهم اثبات المعلول الذي لعلّته التي هي معلولة لعلة اخرى فوقها الى أن تنتهي الى الحق في ذلك الذي هو عندهم علة العلل، فلولا علة العلل، ما كان معلول عن علة، إذ كل علة دونه معلولة، والاشتراك ما ارتفع على مذهب هؤلاء وما عدا هؤلاء الأصناف من الطبيعيين والدهريين، فغاية ما يؤل اليه أمرهم، أنّ الذي نقول نحن فيه إنه الإلٰه، يقول الدهرية: إنه الدهر، والطبيعية إنه الطبيعة، وهم لا يُخلصون الفعل الظاهر منّا دون أن يضيفوا الى الدهر أو الطبيعة، فما زال وجود الاشتراك في كل نِحْلة ومذهب، وما ثَمَّ عقلٌ يدل على خلاف هذا، ولا خبر إلٰهي في شريعة يُخلص الفعل من جميع الجهات الى أحد الجانبين فلنقرّه كما أقره الله على علم الله فيه، وما ثمَّ الا كشفٌ وعقلٌ وشرع، وهذه الثلاثة ما خلصت ولا تخلص أبداً دنيا وآخرة جزاءً بما كنتم تعملون، فالأمر في نفسه - والله أعلم - ما هو إلا كما وقع ما يقع فيه تخليص، لأنه في نفسه غير مخلص، إذ لو كان في نفسه ملخصاً لا بد أن كان يظهر على بعض الطوائف، ولا يتمكّن لنا أن نقول: الكل على خطأ. فإن في الكل الشرائعُ الإلٰهية، ونسبة الخطأ اليها محال، وما يخبر الأشياء على ما هي عليه الا الله، وقد أخبر، فما الأمر إلا كما أخبر، فاتّفق الحق والعالَم في هذه المسألة على الاشتراك، فهذا هو الشرك الخفي والجلي وموضع الحيرة، انتهى كلامه.
أقول: حاشا الجناب الإلٰهي عن الشرك في الأفعال، كما حاشاه عن الشرك في الذات والصفات، بل الأمر ما قررناه وذكرناه مراراً، وما نقله من اولئك الطوائف، فصادقٌ أنّ فيها دلالة على الاشتراك، لكن قوله: "فما زال وجود الاشتراك في كل نِحْلة ومذهب وما ثمَّ عقل يدل على خلاف هذا ولا خبر إلٰهي في شريعة" الى آخره، غير موجه بظاهره ولا مسلّم، فها هنا مذهب أولياء الله الموحدين، الذين لم يروا في الوجود إلا الله وأسماءه وأفعاله. وأما الخبر الإلٰهي، وهو المشار اليه في مثل قوله:
{ { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة:286] وما جرى مجراه، فالمراد منه ما يوافق مسألة التوحيد الخاصي، لا ما هو الظاهر، على ما يستفاد من مثل قوله تعالى: { { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الأنفال:17] وقوله: { { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة:14] وليس المراد أنّ الحق والعبد متشاركان في الفعل، ولا أنّ العبد بمنزلة الآلة كالسيف القاطع للحق، أو اليد الضاربة له، لاستغنائه عن الآلة في فعله، ولا أنّ العبد علة متوسطة بين الباري وفعل العبد، كما زعمه الظاهريون من الفلاسفة، وما يجري مجراهم في إثبات الوسائط في الإيجاد، ولا ما زعمه الخاصون منهم، كأتباع الرواقيين، من أن الوسائط شروط مُعِدّة لا دخل لها في الإيجاد بل في الإعداد، بل الحق في هذه المسألة مما لا يُدرَك إلا بنور البصيرة المستفاد من عالَم الملكوت لمن انفتحت كِلا عينيه، عينه اليُمنى لمشاهدة فعل الحق، وعينه اليُسرى لمشاهدة الخلْق، فيشاهد فعلَ الحق في عين يشاهد فعل الخلق فيتحقق له سر قوله: { { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال:17]. وسر قوله: { { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء:80]. ومعنى قوله: { { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [الأنفال:21]. مع كونهم سمعوا.
فانظر الى هذا الذم كيف أشبه غاية الحمد فيمن كان الحق سمعه وبصره، فمن كان الحق سمعه، فقد سمع ضرورة، إلا انه لم يسمع الا به، فهو سامع لا بنفسه بل به، ومن لم يكن كذلك، فهو سامع بنفسه لا بالحق، فوقع الذم عليه والمدح على الأول، مع أن الفعل في كل منهما لا يصدر إلا من شخص امكاني.
وهذا التفاوت فيهما راجعٌ الى الشهود وعدمه دون الوجود، إذ الوجود في الواجب كما هو هو، كان لم يزل ولا يزال، وفي الممكن كما هو هو في التجدد والزوال، وكلمة "كنت" في الحديث الإلٰهي
"فإذا أحببتُه كنتُ سمعه" الى آخره، تدل على أن الأمر كان على هذا وهو لا يشعر، وكانت الكرامة التي أعطاها هذا التعريف، الكشف والعلم، بأن الله كان سمعه، فهو كان يتخيل انه يسمع بسمعه، وهو يسمع بربه، كما كان يسمع الإنسان في حال حياته بروحه وهو يظن انه يسمع باذنه الغُضروفي لجهله؛ وفي نفس الأمر إنما يسمع بربه، فالحق يسمع كلامه بالسمع المعنوي دون غيره من غير تجدد ولا زوال في حقه، وإن كانت الحروف والأصوات متجددة زائلة، وكذا الكلام في البصر والكلام والقدرة وغير ذلك، ولنمسك عنان الكلام عن زيادة التجوال في هذا المقام، ولنرجع الى ملاحظة كلام الله المُفْضِل المُتَعال.