التفاسير

< >
عرض

وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٢٥
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

اعلم - هداك الله إلى حقائق الإيمان - أنّ أصول الدين وأركان اليقين، هي العلم بأحوال المبدء - من توحيده وعدله - وأسرار المعاد - من الرجوع إليه والجزاء - وسرّ النبوة وما يتعلّق بها؛ والله سبحانه لمَّا تكلَّم في التوحيد والنبوّة، تكلَّم بعدهما في المعاد، من عقاب الكفّار وثواب الأبرار، وإنَّما أخَّره عن إثبات النبوَّة، لتأخُّر وقوعه، ولأنّ العلم به لا يحصُل إلاّ من جهة اتّباع الوحي والنبوّة، لقصور العقول البشريَّة عن إدراك أحواله.
ومن عادة الله تعالى، أنّه ذكر آية في الوعيد، عقَّبها بآية في الوعد، وإذا أخبر بالإنذار والترهيب، شفعه بالبشارة والترغيب، فلمَّا ذكر الكفَّار وأعمالهم، وأوعدهم بالعقاب، شفعه ببشارة عباده الذين جمعوا بين العلم والعمل، والتصديق والطاعة.
واعلم أنَّ أحوال المعاد نوعان: روحاني وجسماني:
والأول: يمكن إثبات وقوعه بالعقل على وجه ضعيف ناقص، وبالشرع على وجه قويّ تامّ.
والثاني: يمكن إثبات إمكانه بالعقل جملة، بتصديق الرسالة، وخبر النبوَّة. وأما إثبات وقوعه تفصيلاً فلا يمكن بالعقل، لكن الإعتقاد به تسليماً وايماناً يحصل لكل مسلم منقاد لأحكام النبوّة.
وأمّا العلم بثبوت أحوالهما عرفاناً وكشفاً فيحتاج إلى إحكام طريق المتابعة وتأكيد الإخلاص في اقتباس أنوار النبوّة من مشكاة القرآن والحديث، بالعبوديّة التامّة، والتدبّر في آيات السموات والأرض وغاياتها، وعواقب المكوّنات ونهاياتها، والإطّلاع على أحوال النفس الإنسانيّة وتطوّراتها في الحالات، وتقلّباتها في النشئآت.
ثمَّ إنّه تعالى ذكر مسئلة المعاد في آيات لا تحصى، لصعوبة فهمها على الأفهام، وكثرة الشُبه والشكوك الواردة فيها من الأوهام، وذكر إثباتها على وجوه مختلفة:
فتارةً ذكرها بعد حكاية إنكار المنكرين للحشر والنشر، وحكم بأنّه واقع كائن من غير ذكْر الدليل، لجواز إثبات ما [لا] يتوقَّف اثبات النبوّة عليه بالدليل النقلي، والاعتقاد بهذه المسئلة على وجه تكلّف به جمهور الخلْق، ويكفي لصحّة العمل من هذا القبيل، فجاز إثباتها بالنقل.
مثاله، ما حكم هٰهنا بإثبات النار للكفّار والجنّة للأبرار، وما أقام عليه دليلاً، بل اكتفى بالدعوى، وإن كانت فيه إشارة لأهل الإستبصار إلى أنوار الهداية لأسباب وجود الجنّة والنار، وكيفيّة نشؤهما في الآخرة من الأعمال والنيّات، فإنّ "تعليق الحكم بالوصف مشعرٌ بالسببيّة".
فالبصير المحدِق، والعارف المحقِّق، يبصر ويعرف بنور بصيرته عين عرفانه، أنّ جحود الجاحدين للحقَّ بعد وضوحه، وريب المنكرين للقرآن عند سطوع نوره وإشراقه، وايقادهم نار الفتنة والعداوة بحرقة في صدورهم، وقساوة في قلوبهم، يذهب بهم طريق الأشرار، ويسلك بهم عن سبيل الأبرار. ويعذّبهم في الآخرة بعذاب الكفّار، ويجعلهم بقلوبهم وجلودهم وقود النار، التي كمنت فيهم أولاً في حياتهم الدنيا، ثمَّ قويت شيئاً فشيئاً بإذابة كبريت الشهوات، وإضافة قوّة نار الحسد وضرام العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فتبرز غاية البروز، وتشتعل بهم غاية الاشتعال، فتبتدي من بواطنهم وقلوبهم، ثم تتعلّق بظواهرهم وجلودهم، وكلّما نضجت جلودُهم بدّلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، وهكذا يفعل الله بهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وكذا القياس في سببيَّة الإيمان والعمل الصالح من نفوس المؤمنين للارتقاء بها إلى عالم الأنوار، وجنَّة الأبرار، كما في قوله:
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر:10] فقلوبهم في مقاعد الصدق واليقين ساكنة، وأبدانهم في بساتين دار الحيوان سائرة، وهكذا يفعل الله بقلوبهم وبأبدانهم فعل صاحب المنزل بالضيف ودابّته، حيث يقعده بقربه، ويسرّح دابّته في بستانه.
وطريقة أخرى:
ذكرها مشفوعة بالقَسَم، لقصور افهام الأكثرين عن فهم الدليل، فقال في سورة النحل:
{ { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [النحل:38]. وقال في [سورة] التغابن: { { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } [التغابن:7].
وطريقة أخرى:
أثبتَ امكان الحشر والنشر، بناءً على كونه تعالى قادراً على أمور تشبه الحشر والنشر، وقد فرّق الله تعالى هذه الطريقة على وجوه، أشملها وأجمعها ما جاء في سورة الواقعة، فإنّ المذكور فيها عدّة من آيات المعاد، بعضها لدفع الشبه في استحالة وقوعه، كقوله حكاية عن الكفّار وأصحاب الشمال:
{ { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الواقعة:47] فهذه شبهة واحدة، وقوله: { { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [الواقعة:48]. شبهة أخرى، فأجابهم الله تعالى عن هاتين الشبهتين جميعاً، تعليماً لنبيِّه (صلى الله عليه وآله) بقوله: { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الواقعة: 49 - 50].
وقد بيَّنا تقرير الشبهتين، وفسَّرنا الجواب مطابقاً لكلّ منهما على وجه لم تبقَ معه ظلمة شكّ ولا رَيْن، فلْيُطْلَب من هناك.
وبعضها لإمكان جمع المتفرقات من أجزاء بدن الإنسان، كقوله تعالى:
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [الواقعة:58 - 59].
وجه الاستدلال به - كما في التفسير الكبير للإمام الرازي - أن المني إنّما يحصل من فَضْلة الهضم الرابع، وهو كالطلِّ المنبثّ في آفاق أطراف الأعضاء، ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع، ويجب غسلها كلّها عن الجنابة لحصول الانحلال عنها كلّها، ثم إن الله قد سلَّط قوَّة الشهوة على البنية، حتَّى انها تجمع تلك الأجزاء الطلّية المتفرّقة في أوعية المني.
فالحاصل، أن تلك الأجزاء كانت متفرّقة جدّاً أوّلاً في أطراف العالَم، ثمّ إنّه تعالى جمَعها في بدن ذلك الحيوان، منبثَّةٌ في أطراف بدنه، ثم جمَعها بقوّة المولّدة في أوعية المني، ثمّ أخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم؛ فإذا كانت هذه الأجزاء متفرّقة فجمعها، وكوّن منها ذلك الشخص، فإذا تفرّقت بالموت مرّة أخرى، فكيف يمتنع عليه جمعها مرّة أخرى؟!
فهذا تقرير هذه الحجّة في هذا المنهج، وأن الله ذكر هذا المنهج في مواضع من كتابه الكريم، منها في سورة الحج:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الحج:5] إلى قوله: { { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً } [الحج:5]. وقال: { { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج:6 - 7].
وقال في لا أقسم:
{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } [القيامة:37 - 38].
وقال في قد أفلح بعد ذكر مراتب الخِلْقة:
{ { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون:15 - 16].
وقال في الطارق:
{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [الطارق:5 - 6] إلى قوله: { { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [الطارق:8].
أقول: ونحن بتأييد الله ونور توفيقه وإحسانه، قرّرنا آيات هذا المنهج على وجه أسدّ وأحكم، وأنور وأقوم، وأدلّ على سرّ المعاد وحشر الأجساد، كما سيأتي بيانه من ذي قبل، حيث يحين حينه إن شاء الله تعالى.
وبعضها للدلالة على قدرة الحكيم المريد، القدير على ما يشاء ويريد، كقوله:
{ { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة:3 - 64]. وقوله: { { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } [الواقعة:68 - 69]. وقوله: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة:71 - 72] ولكلّ منها وجوه من البيان ليس هٰهنا موضع ذكرها.
ووجّه الإمام الرازي الإستدلال بالأوّل على هذا المطلب؛ بأنّ الحَبّ وأقسامه - على اختلاف طبائعه وأشكاله - إذا وقع في الأرض النديّة واستولى عليه الماء والتراب، فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفّن ويفسد، ثمّ إنّه لا يفسد، بل يبقى محفوظاً وينمو ويزداد، يغوص بأصوله وعروقه في أعماق الأرض ويصعد بأفنانه وأوراقه إلى جهات السماء، ثم يخرج ثماره وينتج أمثاله.
ووجّه الإستدلال بالثاني؛ بأن الماء جسم ثقيل بالطبع، وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع، فلا بد من قادر قاهر يقهر الطبع، ويبطل الخاصيّة، ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول، وكذا الحكم في اجتماعها بعد تفرّقها، وتسييرها بالرياح الهابّة، وإنزالها في مظانّ الحاجة، والأرض الجُرُز - وكلّ ذلك يدل على جواز الحشر -.
ووجّه الإستدلال بالثالث؛ بأنّ النار صاعدةٌ بالطبع والشجرة هابطةٌ؛ وأيضاً النار لطيفة نورانيةٌ والشجرة كثيفة ظلمانيةٌ؛ وهي حارّة يابسةٌ، وهذه باردة رطبةٌ؛ فإذا أمسك الله تعالى في داخل الشجرة تلك الأجزاء النورانيّة الناريّة، فقد جمَع بقدرته هذه الأشياء المتنافرة، فإذا لم يعجز عن ذلك، فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها. وإنّه تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة يس فقال:
{ { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً } [يس:80]. - انتهى كلامه -.
ولا يعجبني شيء من هذه الوجوه التي ذكرها في بيان الاستدلال بتلك الآيات على المعاد، لأنّ مبناها على إثبات القدرة بإبطال الحِكْمة، والاستدلال على صحّة موارد النقل بهدم قواعد العقل، وتبديل سنّة الله في جريان الأشياء، وليس ذلك ممّا يليق بأهل البصيرة والتحقيق، بل الحكْمة تقتضي البعث، والطبيعة تجري إلى غايات وتنتهي ببعض الأشياء - كالإنسان - إلى نشئآت، والحكماء الراسخون قد أثبتوا للطبائع غايات، وللأعمال مجازاة، وعليها مكافأة.
ولكل من الآيات المذكورة وجهٌ وجيه حسن سنتكلّم فيه إن شاء الله [تعالى].
والطريقة الرابعة:
قد هدى الناس فيها إلى حقيَّة المعاد، بذكره مرتّباً على ذكر المبدء، وهذا باب واسع لأهل الاستبصار في تحقيق أحوال المعاد من أحوال المبدء، لما حقّق في مقامه، أنّ سلسلة ترتيب الأشياء بداية، كسلسلة ترتيبها نهاية، فبازاء كلّ مرتبة من مراتب إحداها، مرتبة نظيرته من الأخرى - على التكافؤ التعاكسي -، إذ الوجود كلّه كدائرة ينعطف على نفسه ويدور على أصله، فمِن إحدى النشأتين تعرف النشأة الأخرى، وبأحد العينين يُنظر إلى ما في الثانية بما في الأولىٰ.
فلا تنظر - أيُّها الناظر في الأشياء - بالعين العوراء، كي تتجلى لك جليَّة الحال في أسرار المبدء والمآل، وتهتدي بنور الفطرة والهداية إلى تحقيق الأحوال، لا بنقل الأقوال في طيّ مراحل الجدال إلى ظلمات اسكندر الخيال.
وقد ذكر الله تعالى هذا النوع من الدلالة في مواضع من كتابه الكريم:
منها في البقرة:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة:28].
ومنها قوله في الإسراء:
{ { وَقَالُوۤاْ ءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً } [الإسراء:49 - 50] إلى قوله: { { قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الإسراء:51].
ومنها في العنكبوت:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [العنكبوت:19].
ومنها في الروم قوله [تعالى]:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [الروم:27].
ومنها في يس:
{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس:79].
والطريقة الخامسة:
الاستدلال باقتداره على خلْق السموات على اقتداره على حشْر الأجساد وايجادها في النشأة الثانية.
ووجه الاستدلال بها؛ إن أقوى الشُبَه للمنكرين لاعادة الأجسام وبعثها يوم القيامة بعد فسادها ودثورها، أنّهم يقولون: لا بدّ لكل كائن من مادّة وحركة استعدادية، وسبق أسباب ماديّة، والله تعالى أزال هذا الوهم، بأنّ حدوث الأجسام قد يكون على سبيل التكوين من جسم آخر، ولا بدّ فيها من استحالة وحركة وقابل يتحرّك في الكيفيات الاستعداديّة، إلى أن يتلبّس بالكامنة، وتنخلع عن الكائنة - كما قرّروه -، وقد يكون على ضرب آخر لا من حركات الموادّ وتبدّل الصور عليها بالإعداد والاستعداد، بل بمجرّد جهات فاعليّة؛ من تصوّر المبادي الفعّالة وغير ذلك؛ أَلا ترى أن تخيلك للحموضة يفعل صورة مائيّة في الفَم، وتوهُّمك للوقاع يحدث في البدن مادة المني، وصدور الأجرام السماويّة بموادها وصورها من عالَم القدرة الإلهيّة بمجرد علمه تعالى وإرادته من هذا القبيل؛ وبذلك يرتفع الإشكال الوارد على حشر الأجساد في عالَم آخر.
فإذا أراد الله ايجاد الآخرة، وإنشاء النشأة الآخرة، يأمر ملائكة الأجسام وأتباع إسرافيل بخلقها مرة أخرى عند القيام، بمجرد النفخ في الصور، فيحضرها يوم النشور بنفخة واحدة، من غير تجدّد وتراخ بينها في الحضور، كما قال تعالى:
{ { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس:53].
وهذه الطريقة مما ذكرها الله تعالى في مواضع عديدة في كتابه؛ منها في سورة الإسراء ومنها في يس. ومنها في الأحقاف:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } [الأحقاف:33].
وفيه تنبيهٌ على أن "الإعياء" إنّما يحدث للفاعل، إذا كان فعله بالحركة، وبمعاونة جهات التغيّر والانفعال، وبمشاركة المادّة، وعند تصادم جهتي الإرادة والطبيعة، وتعارض قوّتي القابل والفاعل؛ وليس من هذا الباب فعل القويّ القدير على ما يشاء، الذي يفعل الأشياء ويخلق الأرض والسماء بالإرادة المحضة، من غير أن يتحرّك بمعاونة الآلة والمادة حتى يلزمه الإعياء.
واعلم أن الفاعل باصطلاح الطبيعيّين، ما هو يفعل بالحركة، وباصطلاح الإلهيّين، ما يفعل على سنّة الإنشاء والإبداع؛ وفاعل الطبيعيّين عند هؤلاء يسمّى بالمُعِدّ، ثم إن الله ينشئ النشأة الآخرة على طريقة الإبداع.
ومنها قوله:
{ أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق:15].
الطريقة السادسة:
الاستدلال على البعث والحشر من جهة وجوب المجازاة، وإثابة المحسن وتعذيب العاصي، وتمييز أحدهما عن الآخر، ليتمّ عدل الله وحكمته في باب العباد، ولولا الحساب والعقاب، والجزاء والثواب، للزم الجور، وبطل العدل، وضاعت الحقوق عن أربابها، واستقرّت الظلامات على أصحابها، ولم يبق فرق بين إحسان المحسن وإساءة المسيء؛ بل لكان النفع ضرّاً والضرّ نفعاً، فإن الخير والإحسان في أكثر الأمر يوجب المشقّة والمضرّة، ونقصان القوّة، وفوات المال واللذة بحسب الدنيا؛ والشرّ والإساءة على خلاف ذلك بحسبها؛ فلا بدّ من نشأة أخرى تقع فيها المجازاة على أعمال الناس، وانتقام المظلوم من الظالم، وايصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم.
منها في يونس:
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ } [يونس:4].
ومنها في طه:
{ { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } [طه:15]. ومنها قوله: { { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [النجم:31].
ومنها قوله تعالى في سورة ص:
{ { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص:27 - 28].
وهذه الطريقة عند التحقيق، ترجع إلى طريقة إثبات الغايات للموجودات، فإنّ للأشياء الطبيعية غايات تتوجّه إليها في حركاتها وانقلاباتها، وهي نهاياتها الذاتيّة، وتلك النهايات أيضاً موجودات طبيعيّة تتوجّه إلى غايات ذاتيّة أخرى، وهكذا لكلّ غايةٍ غايةٌ أخرى، حتّى يحصل الانتقال من دار الزوال إلى دار القرار، ومن الطبايع إلى الحقائق - كلٌّ يرجع إلى أصله -، ومن الحركة إلى السكون، يومئد لا يتساءلون:
{ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [طه:108]. ومن الخلْق إلى الحقّ: { { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [الشورى:53]. ومن الظلم إلى العدل: { { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [غافر:17]. ومن الاشتباه والتشابك إلى الامتياز والتفرّق: { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم:14]. وأما اليوم فيتشابه فيه النقيضان، ويتشابك المختاصمان.
الطريقة السابعة:
الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحّة الحشر والنشر في الأخرى، فمنها خِلْقة آدم ابتداء من غير مادة لأب وأمّ.
ومنها قصّة البقرة في هذه السورة، وهي قوله:
{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة:73].
ومنها قصة الخليل عليه السلام:
{ { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة:260].
ومنها قوله تعالى:
{ { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } [البقرة:259].
ومنها قصّة يحيى وعيسى عليهما السلام، فإنّه استدلّ على إمكان وجودهما بعين ما استدلّ على جواز الحشر حيث قال:
{ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم:9].
ومنها قصّة أصحاب الكهف حيث قال:
{ { لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا } [الكهف:21].
ومنها قصّة أيّوب وهي قوله:
{ { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } [الأنبياء:84]. يدلّ على أنّه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا.
ومنها ما أظهر الله على يد عيسى عليه السلام من إحيا الموتى حيث قال:
{ { وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ } [آل عمران:49]. وقال: { { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } [المائدة:110].
ومنها قوله تعالى:
{ { أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [مريم:67].
وهذه الطريقة أيضاً، ترجع إلى أنّه تعالى في اختراعه لما يريد، لا يفتقر إلى جهات المادّة والاستعداد، والتحريك والإعداد، وليست فاعليّته في وجود الآخرة كفاعليّة الفواعل الناقصة، التي لا تؤثّر إلا في حركات المواد والآلات بعد انتقال - يطرأ لذواتها الطبيعيّة والنفسانيّة - من ما تحتها من المتجدّدات.
فهذه أصول طرق الدلائل على حقيَّة المعاد، وبعْث العباد، وحشْر الأجساد، وسيأتي الاستقصاء في كلّ طريقٍ طريقٍ عند ذكر آيات الحشر والإعادة.
ولا يخفى أن منكِر البعث وإحياء الأموات وقيام الساعة، كافرٌ عقلاً ونقلاً، أمّا من جهة العقل، فلإنكاره قدرة الله [تعالى] في معظَم الأمور، وأشرف العالمين وإبقاء الكونين، وإنكاره النبوّة والكتاب.
وأما من جهة النقل، فلقوله تعالى:
{ { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } [الكهف:35] إلى قوله: { أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [الكهف:37].
فصل
قد وقع الاختلاف في أنّ الجنّة والنار مخلوقتان، أم لا؟ وهذه الآية صريحة في كونهما مخلوقتين؛ أمّا النار فلأنه تعالى قال في صفتها:
{ { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة:24] وهذا صريح في وجودها.
وأمّا الجنة، فقال في آية أخرى:
{ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين } [آل عمران:133]، وأيضاً قوله هٰهنا { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } دالّ على وجودها، لأنه إخبار عن وقوع هذا الملك، وحصول الملك في الحال يقتضي وجود المملوك في الحال، فدلّ على أن الجنّة والنار مخلوقتان.
وكذلك قوله تعالى:
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [العنكبوت:54]. يدلّ على وجود النار، ووجود النار دالّ على وجود الجنّة، لعدم القول بالفصل.
قال الشيخ محيي الدين في الباب الحادي والستّين من الفتوحات المكية في معرفة جهنّم وأعظم المخلوقات عذاباً فيها: "اعلم عصمنا الله وإيّاك - أن جهنّم من أعظم المخلوقات، وهي سجن الله في الآخرة... وسمّيت جهنم لبُعد قعرها، يقال: "[بئرٌ] جَهَنَّام" إذا كانت بعيدة القعر، وهي تحوي على حَرور وزَمهَرير، ففيها البرْد على أقصى درجاته، والحرور على أقصى درجاته، وبين أعلاها وقعرها خمس وسبعون ومائة من السنين.
واختلف الناس في خلقها "هل خِلقت بعدُ أم لم تُخلَق؟" والخلاف مشهور فيها. وكذلك اختلفوا في الجنّة، وأمّا عندنا وعند أصحابنا أهل الكشف والتعريف، فهما مخلوقتان، غيرُ مخلوقتين.
فأما قولنا: "مخلوقَة"، فَكَرَجُل أراد أن يبني داراً، فأقام حيطانها كلّها الحاوية عليها خاصّة، فيقال: "قد بنى داراً" فإذا دَخَلَهَا لم يرد إلاّ سوراً دائراً على فضاء وساحة، ثمّ بعد ذلك ينشئ بيوتها على أغراض الساكنين فيها، من بيوت وغرَف وسراديب ومهالك ومخازن، وما ينبغي أن يكون فيها مما يريد الساكن أن يجعل فيها من الآلات التي تستعمل في عذاب الداخل فيها.
وهي دار حرورها هواء محترق لا جمر لها سوى بني آدم والأحجار المتَّخَذة آلهة، والجنّ لهبها، قال تعالى،
{ { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [البقرة:24]. وقال: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء:98]. وقال تعالى: { { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } [الشعراء:94 - 95]. وتحدث فيها الآلات بحدوث أعمال الجنّ والإنس الذين يدخلونها.
وأوجدها الله بطالع الثور، ولذلك كان خلقَها في صورة الجاموس، هذا الذي يعوّل عليه عندنا، وبهذه الصورة رآها أبو الحكم بن برّجان في كشفه، وقد تُمَثّل لبعض أهل الكشف في صورة حيَّة...
ولمَّا خلقها الله كان زُحَل في الثور، وكانت الشمس والأحمر في القوس، وكان سائر الدراري في الجدي؛ وخلقها الله من تجلّي قوله في حديث عنه: "جِعتُ فلمْ تُطعمني - الحديث"... ولا تكون الآلام فيها إلاَّ عند دخول أهلها فيها، وإلاَّ فلا ألم فيها في نفسها، ولا في نفس ملائكتها. ومن فيها من زبانيتها في رحمة الله منغمسون ملتذُّون، يسبِّحون لا يفترون.
فصل
"وبشِّر" عطفٌ إمَّا على الجملة السابقة، وليس انعطافه من جهة صورته وكونه أمراً حتى يطلب له مُشاكل في الصورة من أمر أو نهي يعطف عليه، إنّما المقصود عَطْفُ حال من آمن بالقرآن وعمِل بمقتضاه، وكيفيّة ثوابه، على حال من كفَر به وأنكَر لما فيه، وكيفيّة عقابه، كما تقول: "زيد يعاقَب بالقيد والضرب، وبشِّر عمراً بالعفو والاطلاق".
وإمّا على قوله: "فاتَّقوا"، كما تقول: "يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشِّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم"، وذلك لأنَّهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدّي، ظهر اعجازه، وإذا ظهر ذلك، فمن كفرَ به استوجب العقاب، ومن آمن استحقّ الثواب، وذلك يستدعي أن يخوّف هؤلاء بالنار، ويبشّر هؤلاء بالجنّة.
وقرء زيد بن علي عليه السلام: "وبُشِّر" - على صيغة المبني للمفعول - فيكون كلاماً مستأنفاً معطوفاً على: "أُعِدَّت".
والمأمور بفعل هذه البشارة هو الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو عالِم كلّ عصرٍ، أو كل مَن يقدر على البشارة، كما في قوله (صلى الله عليه وآله)
"وبشِّر المشّائين إلى المساجد في الظُلَم بالنور التامّ يوم القيامة" ، ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطَب الكفَرة، تفخيماً وتكريماً لشأنهم، وايذاناً بأن الأمر لعظمته وفخامة شأنه، حقيقٌ بأن يبشِّر به كل من قدر على البشارة.
وهو الخبر الذي يقتضي السرور ويظهر أثره في البشَرَة، ولذلك أفتى الفقهاء بعتق المخبِر الأول من عبيد من قال لهم: "أيّكم يبشرني بقدوم فلان فهو حر" فبشروه فرادى عتق أولهم، (لأنه هو الذي أفاد خبره السرور) ولو قال: "أيّكم يخبرني" عُتقوا جميعاً.
ومنه "البَشَرَة" لظاهر الجلد، وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه.
وأما قوله:
{ { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران:21]، فعلى التهكّم والاستهزاء الزائد للمغتاظ، كما يقول الرجل لعدوّه: "ابشر بقتل ذريّتِك ونهب مالِك"، أو على طريقة قوله: "تحيّة بينهم ضرب وجيع".
ولأهل الإشارة فيه كلام، لا يجوز التصريح به لقصور الأفهام وشنعة اللئام.
فصل
قوله: { ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } اللام فيها للجنس، وهي جمع "صالحة"، وهي كالحسنة من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء، وهي من الأعمال ما سوّغه الشرع وحسّنه؛ وتأنيثها على تأويل الخصلة، أو الخلّة.
وعطف "العمل" على "الإيمان"، دالّ على خروجه عن الإيمان، لثبوت التغائر بين المعطوف والمعطوف عليه، وإلاّ لزم التكرار كلاًّ أو جزءاً، وهو خلاف الأصل، والجمع بينهما مرتباً للحكم عليهما، إشعار بسببية مجموع الأمرين والشفع بين الخلّتين لاستحقاق هذه البشارة، كسببية مجموع الوالدين والازدواج بينهما لحصول النتيجة، فإن الإيمان - الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق -، أسٌّ، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناء بأسّ لا بناء عليه، ولذلك قلَّما ذُكرا مفردين.
واعلم أنّ قوام الروح الإنساني وإن كان بأصل الإيمان، لأنّ صورة ذاته إنّما تتحقّق بالعلم، وبه يصير خارجاً من القوّة إلى الفعل، لكن العمل الصالح يخلصه من العوائق، ويمحضه عن عذاب التعلّقات، فلا بدّ للسعادة المطلقة من حصولهما جميعاً.
ومن الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال: "كلّ من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنّة". فإذا قيل له: "فما قولك فيمن كفَر بعد ذلك؟". قال: "هذا ممتنع - لأنّ فعل الإيمان والطاعة يوجب استحقاق الثواب الدائم، وفعْل الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال".
وذكر في بيان الاستحالة وجوهاً ثلاثة عقليّة ذكرها الإمام الرازي في تفسيره الكبير، ثم فرّع ذلك على فساد القول بالإحباط، ثم أجاب الإمام الرازي فيه عن قوله بقولين:
"أحدهما: قول من اعتبر الموافاة، وهو أنّ شرط حصول الايمان أن لا يموت على الكفر، فلو مات على الكفر علِمنا أن ما أتى به أولاً كان كفراً. قال: "إن هذا قول ظاهر السقوط".
وثانيهما: إن العبد لا يستحقّ على الطاعة ثواباً، ولا على المعصية عقاباً - استحقاقاً عقليّاً واجباً - وهو قول أهل السنَّة والجماعة، واختيارنا، وبه يحصل الخلاص عن هذه الظلمات".
أقول: أنظروا معاشر المسلمين، هل يفعل الصديق الجاهل بصديقه ما يفعله هو وأهل سنّته وجماعته بالكتاب والشريعة! ولَيتَه هو وأصحابه سكتوا عما سكت عنه الصحابة والتابعون، ولم يخوضوا في أعماق هذه المسائل الدينيّة، واكتفوا بالتقليد حتى يسلموا عن هذه المضائق التي لا جولان لأمثالهم فيها، ولا نجاة لأحد منها إلاّ بالعقل المستقيم أو القلب السليم، كما قال تعالى:
{ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [المُلك:10].
فالبصير السيّار، يسلك سبيل النجاة بنور عينيه، وقوّة قدميه، فيفوز بالغبطة الكبرى، والأعمى الزَّمِن الذي له قائدٌ وحاملٌ، فهو على سبيل النجاة وطريق الخلاص، وهو أدنى إلى الخلاص وأقرب إلى النجاة من الأعمى الراجل، الذي لا قائد له، أو من البصير المُقعَد الذي لا حامل له، وهما جميعاً أقربان إلى السعادة من الأعمى السيّار الذي لا قائد له.
فالأول؛ مثال العالِم العامِل بعلمه، والثاني؛ مثال الجاهل المقلِّد المقتدي بغيره في العلم والعمل، والثالث؛ الجاهل الناقص في العمل، والرابع؛ العالِم المقصِّر في العمل، والخامس؛ الجاهل الناسك بمقتضى جهله هذا، إذا كان الجهل بسيطاً والسير حركة في الظاهر.
وأما إذا كان الجهل مركّباً والسير حركة باطنيّة، فهو قسم سادس، هو أسوء الجميع، وهما جميعاً ما شكى عنهما النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله:
"قَصمَ ظهْري رَجلان عالِمٌ متهتِّك وجاهلٌ متنسّك" كما مرَّ ذكره.
واعلم أن القول ببطلان الاستحقاق العقلي، وعدم الارتباط الذاتي بين الأشياء، وتمكين الإرادة الجزافيّة في الاعتقاد، كما زعمته الأشاعرة، واختاره هذا الفاضل المفسِّر في كتبه التي رأيناها، ممّا يؤدّي إلى خلل عظيم في أركان الدين، وتزلزل في أكثر قوانين اليقين - بل كلّها -.
لأنّ مبنى جميع البراهين في اثبات الأصول الإيمانيّة، والقواعد اليقينيّة، على إثبات العلة والمعلول، ولا أدري العاقل كيف يرضى عن نفسه القول بما ينهدم به أصل جميع أحكام العقل! ولعلّ مشايخ السلف، إنّما ارتكبوا هذا المذهب حسْماً لمادّة البحث مع الجهّال، وغلقاً لباب المقال مع من لا يزيده التعمّق في وجوه الاستدلال على هذه المسائل إلا الغيّ والضلال.
وأما نحن، فبفضل الله وتوفيقه، وقد ورثنا من علمائنا وسادتنا وأئمتنا أهل بيت النبوة والولاية - سلام الله عليهم أجمعين -، من أنوار الهداية واليقين، ما يفي لانقشاع سحب هذه الظلمات عن شمس الحقيقة، وانجلاء حجب هذه الأوهام عن وجه البصيرة.
واعلم أنّ القول: "بأنّ الآتي بالايمان والعمل الصالح [فله الجنة]" ممّا له وجهٌ وجيهٌ - لو علم قائله بمعنى هذا القول -، وذلك لأن الإيمان الحقيقي عبارة [عن] اعتقاد يقيني حاصل بالبرهان، وكلّ اعتقاد يقينيّ حاصل بالبرهان، فهو غير قابل للزوال - كما تحقَّق في العلوم الحقيقيَّة، من أن مقتضى البرهان الدائم، المؤلّف من المقدمات الضروريَّة الدائميَّة، لا يزول ولا يتغيَّر دنياً وآخره -، فالإيمان بالأركان نورٌ عقلي يوجب أن تخرج به النفس الإنسانيّة من الظلمات إلى النور، ومن حدّ القوّة إلى الفعل، ويدخل من دار الغرور وضنك القبور إلى دار النعيم والسرور.
فعلى هذا يمكن تأويل ما ذكره ذلك القائل - في جواب الاعتراض عليه في باب من أتى بالإيمان والطاعة ثم كفَر -، من قوله: "هذا ممتنع، لأن فعل الإيمان والطاعة يوجب استحقاق الثواب الدائم، وفعْل الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال" إلى الذي ذكرناه وبينّاه.
ولكن الذي يظهر من الوجوه الثلاثة الذي ذكرها في بيان استحالة الاجتماع بينهما، يدلّ على أنّه محجوبٌ عن حقيقة هذا الأمر بمراحل، لكونه سالكاً مسلك أهل الجدال وأرباب القيل والقال.
وأما الوجه الأول منها، فهو أن الاستحقاقين إمّا أن يتضادّا، أو لا يتضادّا؛ فإن تضادّاً، كان طرَيان مشروطاً بزوال الباقي، وكان زوال الباقي معلّلاً بطريان الطاري، فلزم الدور - وهو محال -، وإن لم يتضادّا، فلا يضرّ طرَيان أحدهما لبقاء الآخر.
والجواب عنه بوجهين:
أحدهما: النقض بجميع أقسام المتضادّين - كالسواد والبياض، والحرارة والبرودة وغيرهما - لجريان هذا الوجه فيهما.
وثانيهما: بالحلّ، وهو أن كلّ واحد من الإيمان والكفر قابلٌ للشدّة والضعف، لأنّ الإيمان نورٌ في القلب يشتدّ ويضعف، وغاية ضعفه هو الاعتقاد الحاصل بالتقليد من غير برهان ولا بصيرة كشفيّة، وغاية قوّته ما يصير حقّ اليقين بعد أن يكون علم اليقين وعين اليقين.
والكفر أيضاً ظلمة قابلة للاشتداد والتضعّف؛ هذا إن أريد به الاعتقاد المخالف للحق، كالاعتقاد بالشرك، وبمعبودية الأصنام والأوثان، وإن أريد به مجرّد عدم الإيمان، فهو كسائر الأعدام غير قابلة للكمال، والنقص، وتقابله مع الإيمان يكون تقابل العدم والملكة.
فإذا تقرّر هذا، فقوله: "والجمع بينهما محال"، إن أراد به الجمع بينهما في آن واحد، فهو ممّا لا خلاف لأحد فيه، ولا تحتاج دعوى الاستحالة إلى ما ذكره من الوجوه الثلاثة، لأنَّهما إمّا متضادّان، أو متقابلان تقابل المَلَكة والعدم.
وإن أراد به الجمع بينهما في ذات واحدة - وإن لم يكن في آن واحد -، فما ذكره لا يدلّ على استحالة التعاقب بينهما، فإنّ أحدهما إذا ضعف شيئاً فشيئاً حتى انمحى أو بطل دفعةً - إمّا بزوال أسباب الحصول تدريجاً أو دفعة -، أمكن طريان الآخر - سواء كان الآخر عدميّاً كالجهل البسيط من ضربَي الكفر، أو وجودياً كالجهل المشفوع بالعناد والاعتقاد المخالف للحقّ منهما، سيما إذا قوي الآخر أيضاً تدريجاً أو دفعة بحصول سببه القوي، أو تراكم أسبابه الضعيفة وعلله الناقصة حتى صارت تامة كاملة -، وهكذا الحال في تعاقب كل متضادّين أو متقابلين تقابل المَلَكة والعدم في موضوع واحد.
وأما الوجه الثاني: فهو أن المنافاة حاصلةٌ من الجانبين، فليس زوال الباقي بطريان الطاري أَوْلىٰ من اندفاع الطاري بقيام الباقي؛ فإما أن يوجدا معاً - وهو محال -، أو يتدافعا، فحينئذ يبطل القول بالمحافظة.
والجواب، باستبانة ما مرَّ من احتمال الشدّة والضعف فيهما، فالأشدّ يقهر الأضعف ويدفعه، فالقول بعدم الأولويّة لأحدهما في دفع الآخر عن الآخر في دفعه، ممنوعٌ، فلا يلزم وجودهما معاً، ولا تدافعهما معاً.
وأما الوجه الثالث: فهو يجري مجرى الأولين اشكالاً وانحلالاً - فلا نطوّل الكلام بذكرهما -.
فصل
قوله: "أنَّ لَهُمْ" منصوب بنزع الخافض وافضاء الفعل إليه، أو مجرور باضماره مثل قولك: "الله لأفعلن".
و "الجَنَّة": البستان، وأصله المرّة من "الجَنّ"، وهو مصدر "جَنَّة" إذا ستره، والتركيب دائر على معنى الستر كالجِنّ، والجَنان، والأجِنّة، والجُنّة؛ فإن كلّها غير منفكة عن الاستتار والاحتجاب. سُمّي بها البستان من النخل والشجر، والمتكاثف المظلّل لالتفاف أغصانه، ودار الثواب، لما فيها من الجنان، ولاستتارها وما أعدّ الله فيها للبشر في الدنيا عن الأبصار والحواسّ، كما قال تعالى:
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة:17].
فإن سألت: لِم نكِّرت وجُمعت "الجنات" وعرّفت "الأنهار"؟
نُجيبك: أمّا عن الأول، فبأنّها اسم لدار الثواب، وهي مشتملة على جنَّات كثيرة مترتبة على استحقاقات العاملين، لكلّ طبقة منهم جنّة منها.
وهي كما ذكره ابن عباس سبع: جنّة الفردوس، وجنّة عدن، وجنّة النعيم، ودار الخلد، وجنّة المأوى، ودار السلام، وعلّيّيون. وفي كلّ واحدة منها أيضاً مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمّال.
وأما عن الثاني: فبأنّ المراد من الأنهار جنسها، كما يقال: "لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب"، والمراد منها الأجناس التي في علم المخاطب.
أو يشار باللاّم إلى الأنهار المذكورة في قوله:
{ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } [محمد:15] - الآية - وهي التي قيل إن أمثلتها في الدنيا النِيل والفرات والسيحون والجيحون، كما وقعت الإشارة إليه في الحديث.
"مِن تَحْتِهَا": أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها، فإنّ أعيان أمور الدنيا أمثال وأشباح لما في الآخرة من الأعيان، وكذا القياس في النسب والأوضاع كما يقتضيه التطابق بين العالَمين.
وأنزه البساتين منظراً ما كانت أشجاره مظلَّلة، والأنهار في خلالها مطَردة، بل لا تبهج الأنفس تمام البَهجة، ولا تسرّها أوفر السرور، حتى يجري فيها الماء، وإلاّ كانت أشجارها كتماثيل لا أرواح فيها، وأعيانها كصور لا حياة فيها، ولذلك ما جاء الله بذكر الجنّات إلاّ مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها، كأنّهما متصاحبين في الوجود، متقارنين في التصور.
وعن مسروق: "إن أنهار الجنة تجري في غير أُخدود"، هذا هو الحقّ المكشوف، لأنّ الحاجة إلى الأخاديد منشأها الثقل الطبيعي والمَيعان لهذا الماء، والثقل منتفٍ عن مياه الجنّة.
و "النَهْر" - بفتح النون وسكون الهاء أو فتحها وهو الغالب -، المَجرى الواسع، فوق الجدوَل ودون البحر، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على طريقة الاضمار أو المجاز، أو نفسها؛ فيكون التجوّز في إسناد الجري إليها كما في: "سال الوادي".
إشارة:
ولأهل الإشارة أن يحملوا الأنهار الجارية، على القوى الحيوانيّة الموجودة في الأجسام الحيّة المستمرة الحياة ما شاء الله - كالأفلاك والكواكب -، فإنّ قواها الحيوانيّة لمّا كانت سارية في أجسامها، متجدّدة الوجود، متعاقبة الكون حسب تجدّد أزمنتها وأوقاتها، فهي شبيهة بالمياه الجارية لتجدّدها ومنشئيّتها للحياة، فيكون الغرض من ذلك، أن لهم جنّات هو فوق سماء هذا العالَم وكواكبها وقواها التي هي منشأ حياة الكائنات.
فصل
قوله: { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ } إمّا صفة ثانية لجنّات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة؛ والغرض فيه رفع الاشتباه عن قلب السامع في جنّة، بعد ما قرع سمعه وصفها الأول المشابه لجنّات الدنيا وأشجارها التي تجري تحتها الأنهار، فكأنّه لما ذكر الوصف الأول، اختلج بباله ووقع في خلده أن ثمار تلك الجنّات أشباه ثمار الدنيا، فأزيح بذلك.
والمعنى: كلّ حين رزقوا مرزوقاً مبتدءً من الجنان، مبتدء من ثمرة قالوا: هذا.
و "كلَّما" منصوب على الظرفيَّة، و "رِزْقاً" مفعول به، و "مِنْ" الأولى وكذا الثانية واقعة موقع الحال؛ قيد "الرِزْق" بأولوهما وأولاهما بثانيتهما، فصاحب الحال الأولى "رِزْقاً"، وصاحب الحال الثانية ضميره المستكنّ في الأولى.
وليس المراد بـ "الثَّمَرة" التفّاحة الواحدة أو الرمّانة الفذّة، وإنّما المراد النوع من أنواع الثمار، ويحتمل أن تكون الثانية بياناً لها كما في قولك: "رأيت منك أسداً تريد "أنت أسد"، فيراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنّات الواحدة.
وقوله تعالى: { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا } في صحَّته ثلاثة وجوه:
أحدها: إنَّ "هذَا" إشارة إلى نوع ما رُزقوا، كقولك مشيراً إلى نهر جار: "هذا الماء لا ينقطع"، لا تريد به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمرّ بتعاقب الجزئيات والأمثال، وإن كانت الإشارة إلى عينه، لكن يراد بها نوعه، ووحدته النوعيّة واستمرارها، لا ينافي كثرته العدديّة وتجدّدها.
وثانيها: إنّه لمّا اتّحدا في الماهيّة - وإن تغايرا بالعدد - صحّ أن يقال: "هذا هو ذاك" فإنّ الكثرة العدديّة للأشخاص، لا تنافي اتّحادها معنى وحقيقة.
وثالثها: إنّه لمّا اشتدّت المشابهة بين ما رزقوا منها وبين ما رزقوا من قبل، صحّ لهم هذا القول، كما تقول فيمن تشتدّ مشابهته لأبيه: "إنّه الأب".
ثم اختلفوا في أنّ المتّحد به أو المشبّه به الذي كان: "رزقهم قبل ذلك" هل هو من أرزاق الدنيا أم من أرزاق الجنّة؟ والقول الأول هو عن ابن عباس وابن مسعود، والثاني عن الحسن وواصل وأبي عبيدة ويحيى بن كثير.
إلا أنّ الحسن وواصل وجّها الآية بأنّ معناها: هذا الذي رزقناه من قبل في الجنّة كالذي رزقنا؛ وهم يعلمون أنه غيره، ولكنهم شبّهوه به في طعمه ولونه وطيبه وجودته.
وإن الثانيين وجّهاها؛ بأنّ ثمار الجنَّة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها، فيشتبه الأمر عليهم فيقولون: هذا الذي رزقنا من قبل، كما روى أنّه - عليه وآله السلام - قال
"والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنّة ليتناول الثمرة ليأكلها، فما هي واصلة إلى فيه حتّى يبدّل الله مكانها مثلها" .
وأسدّ القولين قول ابن عباس وابن مسعود - وهو أنّ المرزوق السابق من أرزاق الدنيا - بوجهين:
أحدهما: ما نقل عن شيخ الطائفة الإماميّة أبي جعفر -رحمه الله - أنّه قال طباقاً لغيره من علماء التفسير، إن قوله: "كلَّما رزقوا منه" عامٌّ يتناول جميع المرّات، فيتناول المرّة الأولى، فهم في المرّة الأولى من أرزاق الجنّة لا بدّ وأن يقولوا: { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ }، ولا يتأتّى لهم هذا القول في أول ما أوتوا به، إلا أن يكون إشارة إلى ما تقدّم رزقه في الدنيا.
وثانيهما: إن الإنسان بالمألوف آنَس، وإلى المعهود أميل، فإذا رأى ما لم يألفه نفَر عن طبعه، ثمّ إذا ظفر بشيء من نوع معهوده ومألوفه على وجه أشرف وأبهى مما ألفه، عظم ابتهاجه وسروره، فأهل الجنة إذا أبصروا ما ألفوه في الدنيا ثم وجدوه أشرف وأبهى، كان فرحهم به أشدّ وأعظم.
ثم القائلون: بالقول الثاني اختلفوا، فمنهم من يقول: الاشتباه يقع في المنظَر والمطعَم وغيرهما، ومنهم من يقول: الاشتباه وإن حصل في اللون لكنّها تكون مختلفة في الطعم، كما حكي عن الحسن: إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثمّ يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى، فيقول الملك "كُلْ - فاللون واحدٌ والطعم مختلف".
هدايةٌ:
واعلم إن في تحقيق الآية طريقين آخرين، أحدهما مسكل الحكماء ذوي الإعتبار، والثاني مسلك أهل الكشف والاستبصار.
فمعناها على لسان الحكمة، أنّ السعادة القصوى ليس إلاّ في معرفة ذات الله عزّ وجلّ، ومعرفة صفاته، ومعرفة أفعاله من الملائكة الكرّوبيّة والروحانيّة، وطبقات الأرواح وعالَم ملكوت السموات والأرض؛ وبالجملة، بحيث يصير روح العارف كمرآة مجلوّة يحاذي بها لعالم القدس.
ثمّ إنّ هذه المعارف تحصل في الدنيا، ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج، لكون العلائق البدنيّة عائقة عن ظهور تلك السعادة واللذّة، فإذا زالت هذه العوائق، حصلت السعادة الكبرى والغبطة العظمى، لأنّ المعرفة انقلبت مشاهدة، والعلم صار عياناً.
فحينئذٍ نقول: كلّ سعادة روحانيّة يجدها الإنسان بعد الموت، فيقول هذه هي التي كانت حاصلة لي في الدنيا، لكن اشتدّت لذّتها في الآخرة لمّا اشتدّ وجودها ظهوراً لزوال العائق.
ومعناها على لسان أهل الكشف: أن جميع ما في الدنيا من الثمار وغيرها، هي قشور وقوالب وأمثلة لما في الآخرة، وما في الآخرة لبوب وحقائق لما في الدنيا، لتطابق العوالم بعضها لبعض، وتحاذيها حذو النعل بالنعل.
ولمّا كان وجود الصور المحسوسة التي في الدنيا هي بعينها مبادي حضور الصور التي يدركها الإنسان في باطنه وخياله - لما تقرّر أنّ فاقد الحس لشيء فاقد التصوّر له -، والإنسان إذا أدرك واختبر لذّات هذا العالم ثم زهد فيها - أو تناولها بقدر الحاجة ولم يسرف -، حصلت في نفسه بواسطة التقوى قوّة عظيمة، يكاد بها أن يحضرها عند نفسه متى شاء، لكن القوّة غير شديدة ما دام كونه في هذا العالم وشواغله، فإذا خرج عن هذا العالم، وزال العائق، يجد في الآخرة ما تشتهي نفسه وتلذّ عينه لقوّة الشهوة وشدّة الرغبة، وكون الافاضة والرحمة من الله مبذولة والعوائق مرتفعة؛ فكلّ ما اشتهاه في الدنيا، يجده مرزوقاً عنده في الآخرة فيقول: { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ }.
فهذا المسلك لإثبات الجنّة الجسمانيّة، والأول لإثبات الروحانيّة؛ والأولى جنّة العلوم، والثانية جنّة الأعمال؛ والأولى للروح العقلي، والثانية للنفس العمليّة.
قوله تعالى: { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } موقعه موقع الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير، كقولك: "نعم ما فعلَ زيد ورأى وكان صواباً" تصديقاً لرأيه.
والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدنيا والآخرة، والمرجع نوع المدلول عليه بقوله: { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ }، أو شخصه من حيث الماهية، ونظيره قوله تعالى:
{ { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [النساء:135]. أي بنوعي الغني والفقير؛ وعلى الثاني إلى الرزق.
ولقائل أن يقول: التشابه هو التماثل في الكيفيّة والصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا وثمرات الآخرة، كما قال ابن عباس: "ليس في الجنَّة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء".
فنقول: الاشتراك حاصل بينهما في الماهيّة المشتركة مع التفاوت العظيم في الشرف والخسَّة، والقوَّة والضعف، فإنّ ما في الدنيا خسيسة الوجود ضعيفتها، لاقترانها بالمادة، وتلوّثها بأرجاسها وأخباثها، وما في الآخرة شريفة الوجود قائمة بفاعلها - لا بمادّتها -، مطهّرة عن ألواث الأرجاس وأدناس الأخباث، والاشتراك في الماهيّة مناط الإسم، وهو كاف في اطلاق التشابه.
وبالجملة، الحقيقة الوجوديّة مختلفة بينهما كما قال ابن عبّاس، والماهيّة مشتركة بينهما، وهو كاف لإطلاق الإسم وثبوت التشابه.
وقيل: "التشابه بينهما حاصل في الهيئة التي هي مناط الإسم - دون المقدار والطعم"، وفيه ما فيه! فإن الأسامي للمعاني والماهيّات - لا للأشكال والهيئات -.
وهٰهنا وجهان: الأول عقلي والآخر كشفي:
أما الأول: فهو أن السعادة عند الحكماء على ضربين: الحقيقيّة المحكمة، والظنيّة المتشابهة. فالسعادة الحقيقية، عبارة عن الاتصال بالعقليّات الدائمة، ومجاورة الحقّ الأول، والخير المحض، وملائكته المقرّبين النازلين في مقاعد الصدق ومنازل القدس، والسعادة الظنيّة، هي التلذُّذ بالشهوات، والتنعُّم بنعم الجنّات؛ وتلك اللذّات الحيوانيّة الموجودة في دار الحيوان، وجنّة النفوس من الإنسان، هي أشباه اللذات الحقيقية الموجودة في عيون الحياة ومنابع الخيرات وينابيع السعادات؛ والأولىٰ للمقربين، والثانية لأصحاب اليمين.
فالمذكور هٰهنا ما لأصحاب اليمين من مواريث أعمالهم الصالحة، وهي أشباه ما حصلت للمقرّبين؛ ولهذا قال: { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } أي بما في عالَم القدس.
وأما الثاني: وهو أن مستلذات أهل الجنّة، في مقابلة ما رُزقوا في الدنيا من الثمرات المتفاوتة في الطعم واللذّة، من جهة تفاوتها في النضج وعدمه، وفي الصحّة والفساد، والسلامة والآفة، ومن جهة تفاوت حال الأكل، وتغيّر مزاجه وأحواله وشهوته ونفرته وغير ذلك - وهذه كلّها منتفية في الجنّة عن الآكل والمأكول -، فيكون المراد من تشابهها: تماثلها في الشرف والمزيّة، وعلو الطبيعة وشهوة الأكل وقوّته.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من: { هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } ما رُزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات، والمراد ثوابه - على حذف المضاف -، ويكون تشابهها، تماثلها في الشرف وعلو الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله:
{ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت:55]، في الوعيد.
وستجيء آيات وأنوار مشرقة، ينكشف بأنوارها وإشراقاتها أنّ جميع ما يتنعّم به الإنسان في الجنان، أو يتعذّب به في النيران، هي نتائج الأعمال وغاياتها، وثمرة الأخلاق والمَلَكات ونهاياتها.
فصل
قوله [تعالى]: { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي مما تتلوّث به النساء وتتدنّس من أحوالهن وأقذارهن - كالحيض، والنفاس، وكثافة الطبع، وسوء الخُلْق والرذالة -، فإنّ التطهّر، كما يستعمل في الأجسام عن الأخباث والأقذار، يستعمل أيضاً في النفوس عن الخبائث والسيّئات والأنجاس الإعتقادية - كالكفر وأمثاله -، وحمل اللفظ على المعنى الشامل للقسمين أوْلىٰ.
قال أهل الإشارة: الآية دالّة على وجوب التوبة لوجوه:
أحدها: إن المرأة إذا حاضت، نهاك الله عن مباشرتها بقوله:
{ { قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ } [البقرة:222]. فإذا منعك عن مباشرتها لنجاستها التي هي معذورة فيها، فإذا كانت الأزواج اللاتي في الجنة [مطهّرات] فلأن يمنعك عنهن حال كونك متلوّثاً بنجاساتك المعاصي مع أنك غير معذور فيها، كان أَوْلىٰ.
وثانيها: إن مَن قضى شهوته من الحلال، فإنّه ممنوع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل برٍّ وفاجرٍ، فمن قضى شهوته من الحرام، كيف يمكَّن من دخول الجنّة التي لا يسكنها إلاّ المطهّرون، ولذلك لمّا أتى آدم عليه السلام ما أتى أُخرج منها.
وثالثها: إنّ من كان على ثوبه [ذرّة] من النجاسة لا تصح صلاته، فمَن كان على قلبه من نجاسات المعاصي، كيف تقبل صلاته ويصحّ ذكر الله منه.
حكايةٌ:
عن مالك بن دينار، أنّه كان رأى في أزقّة البصرة جارية من جواري الملوك ومعها الخدم، قال: "أيبيعكِ مولاكِ"؟ فضحكت، وأمرتْ به أن يحمل إلى دار مولاها؛ فأخبرته. فضحك، وأمر أن تدخل به إليه، فلما دخل، ألقيت له الهيبة في قلب السيّد، فقال: "ما حاجتك؟" قال: "بعني جاريتك".
قال: أوتطيق إذاً ثمنها؟ قال: قيمتها عندى نواتان مسوستان. فضحكوا وقالوا: كيف؟
قال: "لكثرة عيوبها، فإنّها إن لم تتعطَّر زفرت، وإن لم تستك بخرت، وإن لم تتمشَّط وتدّهن قملت وشعثت، ذات حيضٍ وبولٍ وأقذارٍ، وحزنٍ وغمٍ وأكدارٍ، ولعلّها لا تودّك إلا لنفسها، ولا تحبّك إلا لتنعّمها؛ لا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودّك، وأنا أجد بدون ذلك الثمن جارية خلقت من سُلالة الكافور، ومن المسك والجوهر والنور، لو مزج بريقها أجاج لطابَ، ولو دعي بكلامها ميّت لأجاب، ولو بدا مِعصمها للشمس لأظلمت دونه وكُسفت، ولو بدا وجهها في الظلمات لأنارت به وأشرقت، ولو واجَهت الآفاق بُحلّيها وحُللها لتعطّرت بها وتزخرفت، لا تخلف عهدها، ولا تبدّل ودّها؛ فأيّهما أحقُّ برفع الثمن؟".
قال السيّد: "التي وصفت، فما ثمنها؟".
قال: "اليسير المبذول لنيل الخطير المأمول، ركعتان تخلصهما لربّك والليل داجٍ، وترفع همّك عن دار الغرور".
فقال الرجل: "يا جارية - أنتِ حرّة لله، وضيعة كذا وكذا صدقة عليك، وسائر الضياع والخدم وجميع مالي صدقة في سبيل الله"؛ ولبس خشناً ساتراً.
فقالت الجارية: "لا عَيْشَ بعدك"؛ لبست خشناً وخرجت معه، فودّعهما ابن دينار ودعا لهما، وأخذ طريقاً وأخذا، فتعبّدا جميعاً حتى جاءهما الموت راجعين إلى الله تعالى.
إشارة أخرى على لسان أهل المعرفة:
وهو أن نسبة النفوس إلى الأرواح العلويّة، نسبة الزوجات إلى الأزواج، وكنسبة حوّا إلى آدم عليهما السلام، فقوله تعالى: { أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي للأرواح المقدسة الكاملة في العلم والعمل، المتحلّية بفضيلة الإيمان والإصلاح، والنفوس المطمئنّة الساكنة في مقعد القدس، نفوس مطهّرة عن كثائف الأبدان، ونقائص الحدثان، سائحة في جنّات الأعمال، سائر في رياض الرضوان.
و "الزوج": يقال للذَكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرينٌ من جنسه، كزوج الخفّ، واطلاقه على أحدهما كما في قوله تعالى:
{ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [الرحمن:52]، من جهة أن لكلّ منهما مدخلاً في الزوجيّة، وكان له حصّة منها، وكذا المتمّمان في كلّ من أفلاك السيّارات، إذ لكلّ منهما دخلٌ في التتميم.
وقرئ: "مطهّرات"، بدل "مطهّرة"، وكلتاهما فصيحتان، يقال: "النساء فَعَلَتْ" و "فعلْن" و "هي فاعلة" و "فواعل"، فالجمع على اللفظ، والإفراد على تأويل الجماعة.
وقرئ: "مطهرة"، بمعنى "متطهّرة"، والأولىٰ أبلغ منها ومن "الطاهرة"، للإشعار بأنّها مطهَّرات بتطهير الله عز وجل على وفاق قوله تعالى:
{ { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } [الأحزاب:33].
فصل
في قوله [تعالى]: { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
واعلم أنّ الذين يريدون أن يقتنصوا حقائق المعاني من الألفاظ والمباني، اختلفوا في معنى الخلود، "هلْ هو بمعنى الزمان الممتد مطلقاً، أو بمعنى الدوام المؤبّد".
فالمعتزلة على أنه بمعنى الثبات اللازم، والبقاء الدائم الذي لا ينقطع، مستدلين بقوله تعالى:
{ { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [الأنبياء:34]. فنفى الخلد عن البشر مع تحقّق العمر الطويل لبعضهم، فالمنفيّ غير المثبَت.
والأشاعرة على أنّه بمعنى الثبات المديد - دام، أم لم يدُم - واحتجّوا بقوله [تعالى]:
{ { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [النساء:57]. ولو كان التأبيد داخلاً في معنى الخلود، لكان ذلك تكراراً؛ ولذلك قيل للأثافي والأحجار "خَوالِد"، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيّاً "خلْد"، ويستعمل أيضاً فيما لا دوام له، كقولهم: "وقفٌ مخلَّد"، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، ولا يلزم شيء منهما إذا كان موضوعاً للأعمّ فاستعمل في الأخصّ، من جهة اندراجه تحت الأعمّ، كاطلاق الجسم على الإنسان.
والمراد به هٰهنا المعنى الأخصّ، لدلالة الآيات والأخبار وشهادة العقل على أنه بمعنى الدوام الذي لا ينقطع، وإلاّ لكان خوف الانقطاع ينغّص عليهم تلك النعمة، وكلّما كانت النعمة أعظم كان خوف انقطاعه أشدّ، فيلزم أن لا ينفكّ أهل الثواب البتّة عن الغمّ والحسرة؛ والجهل بسوء العاقبة أو عدمها غير جائز عليهم، لأن الدار دار اليقين لا دار الشك والتخمين - فضلاً عن اعتقاد خلاف الحقّ -.
واعترض هٰهنا: بأنّ الأبدان مركّبة من أجزاء متضادّة الكيفية، معرضة للاستحالات والانقلابات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال، فكيف يعقل خلودها في الجنان؟
وأجاب بعضهم عنه: بأنّه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة، ولا يعتورها الانفساد، بأن يجعل أجزاءَها متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة، لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة لا ينفكّ بعضها عن بعض، كما يشاهد في بعض المعادن.
وهذا الجواب في غاية الضعف، فإنّ تجويز كون الأجزاء العنصريّة غير قابلة للاستحالة والانقلاب، خروجٌ بها عن طبائعها الأصلية، واستحكامها في المزاج - كبعض المعدنيّات - لا يفيد التأبيد، والتساوي في الكيفية والقوّة بحسب الاعتدال الحقيقي - على تقدير إمكانه وحدوثه -، ممّا يستحيل بقاؤها أبداً لتناهي الأفاعيل والانفعالات القوى الجسماينة - كما برهن في مقامه -، لا سيما وقد حقّقنا في موضعه أن الجواهر الطبيعيّة المادّية كلّها لازمة السيلان والتجدّد، غير منفكّة عن الانتقال والحدثان في كل آن بحسب جوهرها وطبيعتها، كما في قوله [تعالى]:
{ { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل:88].
نعَم؛ يمكن دوامها من جهة الإمداد العلوي والايجاد الفاعلي، إمداداً بعد إمداد، وايجاداً بعد ايجاد.
والحقّ أنّ الحافظ للمزاج - أيضاً -، والمديم لأجزاء المركّب عن التبدّد والافتراق، ليس صور تلك الأجزاء، كلاّ، لأنها متداعية إلى الانفكاك، مقتضية للحركة إلى أحيازها الطبيعيّة، وإنّما هي مجبورة بقَسر قاسِرٍ، وجبْرِ جابِر سلَّطه الله عليها، يجبرها على الالتيام، ويمنعها عن الافتراق والانهزام، وهي صورة، أو نفس، أو ملك جسمانيّ متعلق بها، حافِظ لها ومبقٍ إيّاها - لا بالعدد، بل بالنوع -، ونوعيّتها وتجدّدها العددي، لا ينافي شخصيّة المركّب وبقائه بالصورة، لأنّ مناط الشخصيّة بالصورة لا بالمادّة.
فالحيوان - مثلاً -، بدنه في التحلّل والذوبان، لعكوف الحرارة الغريزية والغريبية، ونار الطبيعة على تحليلها وإذابتها ما دامت حياته، ومع ذلك شخصيّته باقية تلك المدّة بالصورة الحيوانيّة، وهي نفسه أو أمر آخر؛ لكن الفاعل المديم، إن كان أمراً قائماً بالجسم في وجوده أو في فاعليّته، فلا يمكن دوامه بالشخص - وإلاّ فيمكن -، ولهذا يجب الحشر فيما يحتمل البقاء من النفوس.
فالصواب أن يقال في كيفيّة بقاء الأبدان الأخرويّة، وصيرورة هذه تلك مع انحفاظ الشخصيّة بالعدد: إنّ العبرة في ذلك بالنفس - لا بالبدن -، فالنفس باقية، حافظة للبدن.
أمّا في الدنيا فبإيراد البدل عليه، لانضياف الأجسام الغذائية إليه.
وأمّا في الآخرة، فبإنشاء النشأة الآخرة بمجرّد التصورات والجهات الفاعلية، فإنّ إنشاء الجسم وتصويره - لا عن مادّة وحركة بل بمجرّد التصوّر -، من ديدن القوى المجرّدة، فإنّ وجود الأفلاك عن مباديها من الملائكة الفعّالة بإذن الله، من هذا القبيل، وكذا الحكم في ما تحضره نفس الإنسان في عالَم باطنه وغيبه من الأجسام العظيمة، والأشكال العجيبة التي لم تعهد من هذه الأجساد، والبساتين النزهة التي لم يخلَق مثلُها في البلاد، فإن جميعها حصلت من جانب الفاعل بلا مشاركة القابل.
وسينكشف لك إنشاء الله، سرّ المعاد وحشر الأجساد على وجه لم يبق لأحد فيه مجال الشكّ والارتياب، ويزول به التشوّش في الكلام والاضطراب.
والحق، أن قياس أمور الآخرة وأحوالها، على ما يجده الإنسان ويشاهده من هذا العالم، من نقص العقل، وقصور الحكمة، وضعف البصيرة - والله أعلم -.
تتمة:
لمّا كان معظم اللذّات الحسّية المساكنُ والمطاعمُ والمناكحُ، وكان مِلاك السرور بها كلّها الدوام وعدم الإنصرام - وإلاّ لكانت منغّصة غير صافية عن شوائب الآلام بالتّمام -، بشّر الله المؤمنين بالجنان، وبما رُزقوا فيها من المطاعم والمناكح، وآمنهم من خوف الفوات بوعد الخلود زيادة في البشارة، وتكميلاً لبيان السعادة.