التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

ولما كانت الشواهد القطعية والدلائل العقلية والنقلية مطابقة متوافقة على أنَّ آية الكرسي سيدة آيات القرآن لما فيها من معنى السيادة، المأخوذ في مفهومها المتبوعية، الثابتة لواحد من نوعه، والتابعية لغيره من أفراد ذلك النوع أو الفضيلة والشرف له في المعنى المشترك بينه وبين أمور واقعة تحت معنى نوعي أو جنسي، فسيد الإنسان ما يكون في باب الإنسانية المعتبرة فيها معرفة الله وعبوديته كاملاً غاية الكمال كنبينا (صلّى الله عليه وآله) وسيد الأنيباء من يكون له الأكملية في معنى النبوة كهو (عليه السلام) وسيد الكواكب ما يكون نوره أقوى وأشد من أنوار الكواكب، إذ روح الكواكب وملاكها هو النورية الحسية والإشراق، والشمس أشد الكواكب نورية وإشراقاً فتكون هي حَريَّة بهذا الاسم فيما بينها.
وهكذا الحال في كل معنى مشترك يكون له فرد كامل شديد الكمال، سواء كان إطلاق السيادة في الجميع على سبيل الحقيقة - وذلك إذا لم يعتبر فيها العقل والشعور - أو على سبيل التشبيه في غير ذوي العقول، والتحقيق فيهم لاعتبار ذلك فيها.
وإنما تحققت السيادة في آية الكرسي على سائر الآيات لما فيها من تحقق الأفضلية في المعنى، الذي هو روح القرآن ولبابه الأصفى، وسره ومقصده الأقصى، وهو دعوة العباد الى الجبار، وسياقتهم إلى العزيز الغفار، وهذا المطلب كأنه أمر مشترك جنسي، أو نوعي، منحصر في ستة أنواع، أو أصناف بعضها كالدعائم والأصول المهمة، وبعضها كالروادف والتوابع المعينة المتمة، أما الدعائم الأصولية فبعضها معرفة الحق الأول، المسلوك إليه، المصمود به لما فيه من الصفات العظمى، والأسماء الحسنى، والأفعال القصوى، وبعضها معرفة الصراط المستقيم، الذي يجب ملازمته في السلوك إليه، وبعضها معرفة الحال عند الوصول إليه فهذه ثلاثة أقسام.
وأما الروادف المعينة:
فأحدها: معرفة أحوال المحبين للدعوة ولطائف صنع الله فيهم.
وثانيها: حكايات الجاحدين وكشف فضائحهم، وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق.
وثالثها: معرفة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والاستعداد.
والمقصود في الأول، إما التشويق والترغيب، أو الاعتبار والترهيب، وفي الثاني إما الإيضاح، والتثبيت، والتقرير - وذلك في جنبة الحق - أو الإفضاح، والتحذير، والتنفير - وذلك في جنبة الباطل - وفي الثالث: سرعة الوصول إلى أصل الأصول، ورفع العوائق عن التوجه والسير إلى خلاق الخلائق ومحقق الحقائق.
ثم القسم الأول من الأقسام الثلاثة الأصولية يتوزع على معارف ثلاث: معرفة الذات، ومعرفة الصفات، ومعرفة الأفعال.
أما الأولى: فهي الكبريت الأحمر الذي لم يظفر بقدر يسير منها إلاّ ملوك الآخرة وسلاطينها، الذين هم الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، لكونها أضيق المعارف مجالاً، وأعسرها مقالاً، وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر، ولا يطلع عليها إلاّ واحد بعد واحد من أكابر الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، وذلك بعد فنائهم عن ذواتهم، واندكاك جبل إنياتهم ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلاّ على تقديسات وتنزيهات، وسلوب نقائص وكثرات.
وأما الثانية: فالمجال في الصفات أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، وبلوغ الأفهام إليها أسهل وأيسر، لكونها معاني كلية ومعقولات عامية يقع الاشتراك فيها بوجه بين الحق والخلق، ويوجد ظل ضعيف من حقائقها فيما سوى الواحد الأول، ولذلك أكثر آيات القرآن مشتملة على أمهاتها وهي العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والحكمة.
وأما الثالثة: فبحرها أيضاً متّسع الأكناف، ولا تُنال بالاستقصاء فيها الأطرافُ، بل ليس في الوجود إلاّ الله وأفعاله، إذ ما سواه فعله من حيث هو أثره، وكون وجوده تابعاً له ظلاً لنوره. لكن القرآن يشتمل على معرفة الجلي منها الواقع في عالم الحسّ والشهادة ككليات الأجرام الشديدة البنيان، ومعظمات الطبائع والأركان، حيث يذكر فيه خلق السماوات، والكواكب، والأرض، والجبال، والبحار، والحيوان، والنبات، وإنزال الأمطار والثلوج، وتصريف الرياح، وإثارة السحاب المسخّر بين السماء والأرض إلى غير ذلك من الآيات وسائر أسباب النشوء والحياة، إذ كل ذلك من الأمور الجليّة الظاهرة للحواس.
وأمّا الأمور الخفية منها فهي التي لا تصل إليها أفهام أكثر الناس، وهي أعجبها ترتيباً، وأشرفها رتبة، وأعظمها جلالة، وأدلّها على عظم مبدعها وخالقها برهاناً لكونها من عالم الملكوت والروحانيات. ولما كان الروح الإنساني المسمى باللطيفة الربانية من جملة أجزاء الآدمي ومن سنخ الملكوت وعالم الغيب، فيمكن له عند استكماله بالعلم، والتجرّد عن الدنيا أن يدرك بالبصيرة الباطنية خلائق عالم الملكوت الأعلى وحقائقها الغيبية، وهم على مراتب متفاوتة، ودرجات مختلفة.
منها: الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنس وهي التي سجدت لآدم.
ومنها: الشياطين المتمردون عن الطاعة المسلطون على أفراد الإنسان إلاّ من أخلص لله سبحانه، وهي التي امتنعت عن السجود.
ومنها: الملائكة السماوية، وأعلى منهم الكروبيون وهم العاكفون على حظيرة القدس، الذين لا التفات لهم إلى هذا العالم، لاستغراقهم في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وجلال الساحة الإلهية.
واعلم أن إدراك أكثر الخلق مقصور على عالم الحسّ والتخيّل، وهو النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت، والقشر الأقصى عن اللب الأصفى، ومن لم يجاوز هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الزمان إلاّ قشرية، ومن عجائب الإنسان إلاّ بشرية.
فإذا تمهد ما ذكرناه من بيان أبواب القرآن وأقسامه - وأن الغرض من الجميع والمقصود الذي هو روح القرآن وسرّه ولبابه هو سياقه الإنسان إلى جوار ربّ الملائكة والإنس والجان - تحقق وتقرر أن لبعض آيات الكتاب العزيز فضيلة وشرافة على غيره منه، وعُلِمَ حقيّة ما دلّت عليه الأخبار والآثار النبوية والأحاديث المروية عن خير البرية عليه وآله الصلوات الزكية والتسليمات المرضية، الدالّة على شرف بعض السور على بعض من قوله (صلّى الله عليه وآله):
"فاتحة الكتاب أفضل القرآن" .
وقوله (صلّى الله عليه وآله): "قل هو الله أحد يعدل ثلث القرآن" .
وقوله (صلّى الله عليه وآله): "يس قلب القرآن" .
وكذلك الأخبار الدالّة على فضيلة بعض الآيات من قوله (صلّى الله عليه وآله): "آية الكرسي سيدة آي القرآن" .
وما وردت من الأخبار والآثار الدالة على تفضيل بعض السور، وتخصيص بعض الآيات، وكثرة الثواب في تلاوتها والمنافع المذكورة في القوارع القرآنية المذكورة على ألسنة الرواة، والمثبتة في كتب الأحاديث المروية بالأسانيد العامية والخاصية المنتمية الى سادات الأمة ورؤساء العصمة والإمامة، وأهل بيت النبوة والولاية (عليهم السلام) أكثر من أن تحصى.
ومن توقف بعد هذه الدلائل النقلية والقواعد العقلية العرفانية في تفضيل بعض السور والآيات، وضعف نور بصيرته عن إدراك التفرقة بين آية الكرسي وآية الزانيات، وسورة الإخلاص النازلة في معرفة الرب، وسورة تبّت يدا أبي لهب فحرام عليه أن ينسرح في ميدان معرفة الصانع بل يجب عليه أن يغض بصره عن آثار رحمة الله، ولا ينظر إليها ويشتغل من لباب القرآن بالقشور ويتوجّه إلى القرطاس المنقوش من الرقّ المنشور، ويكتفي من العلوم الشرعية التي تستنبط أصولها وفروعها من آيات الكتاب بنوادر الطلاق ودقائق علم السلم، والرهانة، وغرائب النحو واللغة، وصنعة الكلام وطريقة المجادلة مع الخصام التي هي متاع الأنعام "قد علم كل أناس مشربهم"قوة كل طائر على قدر حوصلته" نظم:

كَر بيرد يشه جندانكه هست كى كمال صرصرش آيد بدست
إذا لم تستطع أمراً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

فمن رجع إلى ملاحظة المقصود الأصلي من إنزال القرآن وروح المعنى المراد منه والقدر المشترك بين أقسامه - الذي هو سياقة الخلق إلى جوار رحمة الله سبحانه - وأنه مما يتفاوت في تلك الأقسام كمالاً، ونقصاً، وشدة، وضعفاً، إما لأجل التدرج في التعليم من مرتبة أخرى فوقها، أو التلطّف في الهداية من جهة الانتقال من فن إلى فن لكيلا يلزم الإسهاب والإملال بسبب التكرار والمواظبة على نهج واحد في المقال، وإما لأجل اختلاف القرائح والطبائع في اللطافة والكثافة، والذكاء والغباوة.
فلكل إنسان بحسب عقله طور من الأطوار، كما أن لكل حيوان بحسب جسميته شكل من الأشكال كالفرس، والحمار، والبعير، والإنسان، المتخالفة في الحركات والآثار، فتفظن وتيقن أن المقصد الأقصى واللباب الأصفى من أقسام القرآن وعلومه هي معرفة ذات الله تعالى، وصفاته، وأفعاله، ويعلم أن سائر الأقسام مرادة لهذا القسم، وهو مراد لنفسه لا لغيره، فإن العلم الأعلى والحكمة الإلهية هو رئيس سائر العلوم الحقيقية ومخدومها، لأنّ غاية العلوم الآلية التي هي مقصودة لغيرها هي المعارف الربانية وهي ليست غاية لشيء آخر غيرها بل غاية الغايات وآخر سير الأفكار ونهاية الحركات، وما عداها من العلوم الكلية والجزئية هي خدمها، وتوابعها، وعبيدها، وهو السيد المطاع، والرئيس المقدَّم، الذي تتوجه إليه وجوه الأتباع وتتولى شطره قلوب الخدم، فيحذون حذوه، وينحون نحوه، ويخدمون غرضه.
وإذا تأمل الناظر المتفكر وتدّبر بعين البصيرة في جملة المعاني التي تشتمل عليها آية الكرسي من المعارف الإلهية والمطالب الربوبية - من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العليا والأفعال العظمى - لم يجدها مجموعة في آية واحدة من آيات القرآن إلاّ هذه الآية، فلذلك لا تستحق السيادة والرياسة على سائر آي القرآن إلاّ هي وحدها، فإنَّ
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ } [آل عمران:18] ليس فيه إلاّ التوحيد و { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] ليس فيه إلاّ التوحيد والتقديس و { { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران:26] ليس فيه إلاّ الأفعال وكمال القدرة "والفاتحة" فيها مرامز إلى هذه الصفات من غير شرح، وهي مشروحة في آية الكرسي.
والذي يقرب منها في جميع هذه المعاني آخر الحشر وأول الحديد، إذ يشتمل على أسماء وصفات كثيرة، ولكنها آيات لا آية واحدة، وهذه آية واحدة، فإذا قابلتها بآحاد تلك الآيات وجدتها أجمع للمقاصد الإلهية، التي هي روح القرآن فلذلك تستحق السيادة على الآي كلها، وتكون مصداقاً لما ورد في فضلها وشرفها من الأخبار والآثار.
منها: ما ورد منه (صلّى الله عليه وآله) أنه قال:
"آية الكرسي سيدة آي القرآن" .
ومنها: أنه قال (صلّى الله عليه وآله): "ما قُرئت هذه الآية في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة" .
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) "سمعت نبيّكم وهو على أعواد المنبر يقول: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه عن دخول الجنة إلاَّ الموت، ولا يواظب عليها إلاَّ صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه، وجاره، وجار جاره، والأبيات حوله" .
وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام):"أين أنتم عن آية الكرسي؟" - ثم قال: - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): " يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي. يا علي إنَّ فيها لخمسين كلمة، في كل كلمة خمسون بركة" .
وعن أُبي بن كعب قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا أبا المنذر أيُّ آية في كتاب الله أعظم؟ قلت: الله لا إله إلاَّ هو الحي القيوم قال: فضرب في صدري ثم قال: ليهْنئكَ العلم والذي نفس محمد بيده ان لهذه الآية للساناً وشفتين، تقدّس الملك عند ساق العرش" . نقلها أبو علي الطبرسيرحمه الله في مجمع البيان.
ومنها: ما وري عن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة والسلام قال: "من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر".
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) "ان لكل شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي".
كيف وفيها "الحي القيوم" وهما من اسم الله الأعظم كما سيظهر لك لمعة من أنواره ونكتة من أسراره، ويشهد له ما ورد في الخبر بأن:
"الإسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران" .
وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: "لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنظر ما يصنع قال فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حيّ يا قيّوم لا يزيد على ذلك، ثم رجعت إلى القتال، ثم جئت وهو يقول ذلك فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه ولا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له" .
وناهيك إيقاناً بهذا أنَّ الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعال عن أن يقال: "إنه هو أشرف من غيره" لأنّ ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة، وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ولمَّا كانت الآية مشتملة من نعوت جماله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات.
فقد ثبت مجملاً وتحقق بما أشرنا إليه قبل الخوض في بيانه أن لآية الكرسي بخصوصها سيادة وشرافة على كل واحدة واحدة من آيات القرآن، لأنها أجمع من كل منها وأشمل لمعان هي روح القرآن ولبابه الأصفى - من معرفة الذات، والصفات، والأفعال - إذ ليست هذه المعاني مجموعة في غيرها من الآيات وهي بأسرها مذكورة فيها، فإن قوله تعالى: { ٱللَّهُ } إشارة إلى الذات الموصوفة بالوجوب والغنى الذاتيين "والإلهية" إفادة الوجود وإعطاء الكمال والخير والجود لغيره وقوله: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } إشارة إلى توحيد الذات، ونفي المماثل في الوجود، والشريك في الإيجاد، والشبيه في الصفة.
وقوله: { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } إشارة إلى نعت الذات وجلالتها وعظمتها لما فيه من معنى الحياة المأخوذ فيه العلم والقدرة وسائر ما يتعلق بهما ويتعلق به (ومتعلقاته - ومتعلقاً به - ن) إذ "الحي" هو الذي يدرك ويفعل، ومعنى "القيومية" المستفاد منه جميع الصفات الكمالية والبراءة عن جميع النقائص الإمكانية، فإن معنى "القيوم" هو الذي يقوم بنفسه ويجب بذاته ويقوم به غيره، فلا يتعلق قوامه بشيء، وهو يسلتزم سلب النقائص كلها، إذ ما من نقيصة إلاّ ومنبعه الافتقار الذاتي والإمكان، ويتعلق به قوام كل شيء وهو يستلزم استجماع الخيرات والفضائل كلها ومنبعيّة كمالات الأشياء ومقاصدها بأسرها التي تتم بها قصوراتها وتجبربها نقصاناتها، وهذا غاية العظمة والجلالة.
وقوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } من الصفات التقديسية السلبية، لأنه تنزيه وتقديس له عمّا ينافي القِدم والإلهية من صفات الحوادث، وسمات المركبات. ولا شك أنَّ التقديس عن وصمة التنقيص نوع من العرفان بل أوضح أقسامه في حق من لا سبيل إلى اكتناه ذاته بالبرهان.
وقوله: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } إشارة إلى الأفعال كلها خلقها وأمرها، وعقولها ونفوسها، وأعاليها وسوافلها، وأنّ جميعها يبتدي ويصدر منه، وينتهي ويرجع إليه.
وقوله: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } إشارة إلى انفراد بالملك والأمر وتوحّده بالوجود والتقوم، وفناء ذوات الكل عند ذاته، واضمحلال أشعّة نفوسهم عند سطوع النور الأول، وأنَّ من يملك الشفاعة والوساطة فإنما يملكها بتشريفه إياه والإذن فيه بالأمر التكويني المتعلق أولاً بذوات الوسائط المستمعة بآذان قابلياتها الواعية الصافية، وقلوبها السامعة الفاهمة خطاب الحق يقول: "كن" وأمره في دخولها دار الكون قبل غيرها، وإجابة دعوته تعالى وامتثال أمره في دخولها باستماع الخطاب وإدخال غيرها باسماع كلامه تعالى إياه لقوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ:38].
وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }، الآية إشارة إلى صفة العلم على الوجه التفصيلي الذي هو آخر مراتب العلم ونفي صفة العلم المساوق للحياة بل الوجود عن غيره، إلاّ من عطائه وموهبته حسب إرادته ومشيئته.
وقوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } إشارة إلى عظمة ملكه وبسطة قدرته. وفيه سرٌّ شريف ومعرفة غامضة سينكشف لك ما يحتمل سماعه طاقة أمثالك عند إيضاحنا نبذاً من شرح صفة الكرسي واتّساعه السماوات والأرض.
وقوله: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } إشارة إلى كمال قدرته وعدم تناهي قوته وتنزهها عن الدثور، والكلال، والنقصان، والزوال.
وقوله: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } إشارة إلى أصلين عظيمين في الأسماء والصفات سنشير إلى شرحهما حسبما تحتمله الأسماع.
فمن تأمل جملة هذه المعاني من التوحيد، والتقديس، والجمال، والجلال، والعظمة، والبسطة، والقهر، والملك، والملكوت، تأملاً تامّاً، كاملاً وتفكّر فيها تفكّراً شافياً كافياً، وجدها غاية مقصد السالكين، ونهاية مطلوب المحتاجين، بحيث بها يمكن أن يصل كل ذي حاجة ومسكنة إلى مبتغاه ومتمناه، وبها ينتهي كل طالب مشتاق إلى شيء مطلوب، وكل مشتهي متمني إلى نفسه ومرغوب مناه ومهواه، إذ فيها أصل السعادات ومنشؤها، وغاية الخيرات ومنتهاها.
فلنشرع في تفسير هذه المعاني وشرحها حسب ما ألهمنا الله بها، ومنحها على قدر وسعنا وطاقتنا، ومبلغ استطاعتنا وقوتنا، لا على قدر جلالة تلك المعاني وعظمتها، ومبلغ شرافتها وحقيقتها، ولنورد جملة هذه المعاني في عدة فصول تكون هي للحقائق العلمية دعامات وأصول، مدرجاً كل جملة من المقاصد المتعلقة بكلام مفرد إسنادي خبري في مقالة واحدة ليسهل أخذها على المتأمل الطالب، ويتيسّر ضبطها على السالك الراغب، مورداً في كل باب قبل الإشارة إلى ما هو صريح الحق والصواب، وقرة عيون أُولي البصائر والألباب، طائفةً من كلمات القوم وتأليفاتهم، وفوائدهم وتدقيقاتهم في الكتاب، ملخصاً لثمرات كلامهم، ومقرباً لأبعاد مرامي سهامهم، ومقصراً لمسالك أقدامهم، ومجاوزاً عن ما يعدُّونه غاية مرامهم، وملتقطاً من عقود نظامهم فرائده من غير إخلال، ومجتنباً من عنقود ثمارهم فوائده من غير إهمال، ليكون معواناً على ما نحن بصدده، ومعداً للناظر فيما يحتاج إلى مدده.
وها أنا أشرع فيما وعدناه، وأخوض فيما قصدناه، بإذن مبدإ الجود ومنتهاه، وغاية الوجود ومبتغاه.
المقالة الأولى
فيما يتعلق باسمه تعالى "الله"
وفيه أبحاث وتحقيقات لفظية ومعنوية أوردناها في مسائل:
المسألة الأولى
في كيفية كتابة هذا اللفظ
يجب إبقاء "لام التعريف" في الخط على ما هو أصله في لفظ "الله" كما في سائر الأسماء المعرَّفة وأما حذف "الألف" قبل "الهاء" فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة، ولأنه يشبه "اللاَّة" في الكتابة.
قال أهل الإشارة: الأصل في قولنا "الله"الإله" وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ - ألف ولامان وهاء - فالهمزة من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهذا حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقّى قليلاً في مقامات العبودية حتى يصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ويدخل في عالم المكاشفات والأنوار، ثم يأخذ بالرجوع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل: "النهاية هي الرجوع إلى البداية".
ومن اللَّطائف المتعلقة بمواد هذا الاسم وحروفه أنَّك إذا أسقطت "الهمزة" بقي "لله"
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الفتح:4]. فإن تركت من هذه البقية "اللاَّم" الأولى بقيت البقية على صورة "له" { { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة:116]، وإن تركت "اللاَّم" الباقية أيضاً بقيت الهاء المضمومة من "هو" { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1]، و "الواو" زائدة حصلت من إشباع الضمة بدليل سقوطها في التثنية والجمع "هما، هم".
فانظر إلى تقدس هذا الاسم وتنزهّه عمّا يشبه القوة والبطلان ويوهم النقصان والإمكان، ولو بحسب مرتبة من مراتبه، وتفطّن منه إلى صمدّية مسمّاه وترفّعه عن التعطّل والقصود في إفاضة الوجود والرحمة على ما سواه.
رُوي أنَّ فرعون قبل أن يدعي الإلهية قصد أو أمر أن يُكتب "بسم الله" على بابه الخارج، فلمَّا ادّعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعاه فلم ير به أثر الرشد وقال: "إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً؟" قال تعالى يا موسى: "لعلّك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره، وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه" فالنكتة فيه أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من العذاب - وإن كان كافراً - فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون.
المسألة الثانية
في كيفية التلفُّظ باسم الجلالة
إعلم أنَّ القرَّاء والمجوِّدين استحسنوا تفخيم اللاَّم وتغليظها من لفظ "الله" بعد الفتحة والضمة دون الكسرة.
أمَّا الأول: فللفرق بينه وبين لفظ "اللاَّت" في الذكر، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم، ولأنَّ اللاَّم الرقيقة تُذكَر بطرف اللِّسان والغليظة تذكر بكل اللسان، فكان العمل فيه أكثر؛ فيكون أدخل في الثواب، وهذا كما جاء في التوراة: "أجب ربك بكلِّك" وربما قال بعضهم بالوجوب مستدلاً بأنه أمر شائع فلا يجوز خلافه.
وأمّا الثاني: فلأن النقل من الكسرة إلى اللاَّم الغليظة ثقيل على اللِّسان لكونه كالصعود بعد الانحدار.
وربما قيل بالتفخيم في الأحوال الثلاثة، ونقل ذلك عن بعض القرَّاء.
وإنَّما لم تعدَّ اللام الغليظة حرفاً والرقيقة حرفاً آخر كما عدَّ الدال حرفاً والطاء حرفاً آخر - مع أن نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، فإنّ الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان - لاطراد استعمال الغليظة مكان كل رقيقة ما لم يعق عائق الكسرة، وعدم اطّراد الطاء مكان كل دال.
أقول: وهاهنا وجه آخر وهو أنَّ الوجدان يجد تفرقة بينهما سوى التفاوت بالجزئية والكلية في المخرج، وهو التفاوت بالرخاوة والشدَّة، مع أن كليهما من الحروف الشديدة عند القرَّاء، وهي حروف "أجد قط بكت" إذ لا شبهة لأحد أنَّ جميع هذه الحروف ليست في درجة واحدة من الشدَّة، كما أنَّ الرخويات ليست متساوية في حدٍّ من الرخاوة.
وحذف الألف لحن تبطل به الصلاة، وإنما ورد في الشعر للضرورة، ولا ينعقد به اليمين عند أصحابنا، إذ ليس حينئذٍ من الأسماء المختصة ولا الغالبة.
وأمَّا الشافعية فاليمين لما كان عندهم على ضربين: الصريح - وهو الذي ينعقد عندهم بمجرد التلفظ بالاسم من غير نيّة وهو الحلف بالأسماء المختصة - والكنائي - وهو ما يحتاج فيه إلى النيّة بأن ينوي الحالف الذات المقدّسة وهو الحلف بالأسماء المشتركة كالحيّ والسميع، والبصير - فاليمين بالاسم المذكور ينعقد عندهم مع النية. وأمّا على ما ذهب إليه أصحابنا فاليمين لا ينعقد إلاَّ بشرطين أحدهما: النية، والثاني: كونه من الأسماء المختصة له تعالى وهو مفقود عند حذف الألف.
المسألة الثالثة
في أنه من أي لغة كان - عربي، أو عبري، أو سرياني -
وفي أنه اسم، أو صفة، جامد أو مشتق
قد اختلفت ألسنة الفحول، وتشعبت آراء أرباب العقول، وتفننت أنظار علماء النقول وأصحاب الأبنية والأصول، واضطربت أقوالهم في لفظة الجلالة، كما تاهت أفكار العقلاء في مدلولها وتحيَّرت أذهانهم في مفهومها، وكما اضمحلّت ذوات العارفين في حقية مسماها، واندكّت جبال إنيَّاتهم في هوية الأول المحتجب بشدة ضوئه الأبهر، ونوره الأقهر عن عيون خفافيش العقول، فكأنه قد وقعت رشحة من بحر تعززه وتمنّعه، وعكست شعلة من نار كبريائه وجلاله على منصَّات ظهور جماله، حتى اللَّفظ الذي بإزاء هويته، فتلجلج لسان الفصحاء عند بيانه، وتمجمج البلغاء في الإخبار عن شأنه.
فقيل: هو لفظ عبري.
وقيل: هو سرياني، وأصله "لاها" فعرِّب بحذف الألف من آخره، وأدخل اللاَّم والألف عليه.
وقيل: بل هو عربي وأصله "إله" حذفت الهمزة وعوّض عنها بالألف واللاَّم، ومن ثم لم يجز إسقاطهما حال النداء ولا وصل الهمزة تحاشياً عن حذف العوض أو جزئه.
فقيل: في النداء: "يا أَلله" بالقطع كما يقال: "يا إله" وإنَّما خصّ القطع به تمحيضاً لهما في العوضية للاحتراز عن اجتماع أداتي التعريف - وفيه ما فيه -.
و"الإله" من أسماء الأجناس كالرجل والفرس فيقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما غلب "النجم" على الثريا، و"السنّة" على عام القحط، و"البيت" على الكعبة.
وأما "الله" - بحذف الهمزة - فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره فاختلفوا فيه هل هو اسم أو صفة؟ فالمختار عند جماعة من النحاة كالخليل وأتباعه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن لفظ الجلالة ليس مشتق وأنه اسم علَم له سبحانه لوجوه:
أحدها: إنه لو كان مشتقاً لكان معناه كلياً لا يمتنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، وحينئذٍ لا يكون قولنا: "لا إله إلاّ الله" موجباً للتوحيد المحض، ولا الكافر يدخل به في الإسلام، كما لو قال: "أشهد أن لا إله إلاّ الرحيم" أو "إلاّ الملك" بالاتفاق.
ويرد عليه: أنه يجوز أن يكون أصله الوصفية، إلاَّ أنّه نقل إلى العلمية.
والثاني: إنّ الترتيب العقلي يقتضي ذكر الذات، ثم تعقيبه بالصفات، نحو "زيد الفقيه الأصولي النحوي" ثم إنَّا نقول "الله الرحمن الرحيم" ولا نقول بالعكس، فنصِفه، ولا نصِف به، فدلَّ ذلك على أن "الله" اسم علم.
ويرد عليه: أنّ هذا لا يستلزم العلَمية لجواز كونه اسم جنس أو صفة غالبة يقوم مقام العَلم في كثير من الأحكام، ويخدشه أيضاً قوله تعالى:
{ { صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ * ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } [إبراهيم:1 - 2] في قراءة حفص.
وأُجيب بأن قراءة حفص عند من قرأ بها ليست لأجل أنَّه جعلَه وصفاً، وإنما هو للبيان، كما في قولك: "مررت بالعالم الفاضل زيد".
والثالث: قوله تعالى:
{ { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم:65]. وليس المراد الصفة وإلاّ لزم خلاف الواقع، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلاّ "الله".
ولقائل أن يمنع تالي شق الأول مسنداً بأن المراد من الصفة كمالها المعرى عن شوب النقص.
والرابع: إنه سبحانه يوصف بصفات مخصوصة فلا بدَّ له من اسم خاص تجري عليه تلك الصفات، إذ الموصوف إمَّا أخص أو مساوٍ للصفة.
وفيه أولاً: أن هذه مغالطة من باب الاشتباه بين أحكام اللفظ وأحكام المعنى، فإنّ الاختصاص بالنعوت والأوصاف يوجب مساواة ذات الموصوف أو أخصيّتها بالقياس إلى الصفة لا وقوع لفظ مخصوص بأزاء الذات، والأول لا يسلتزم الثاني.
وثانياً: إنه على تقدير التسليم لا نسلّم لزوم العلَمية، لأنّ الصفات مفهومات كليّة وأنَّ تخصص بعضها ببعض لا ينتهي إلى التعيّن الشخصي، غاية ما في الباب أن يصير كلياً منحصراً في فرد، فيكفي لموصوفها عنوان هو أمر كلي منحصر في فرد.
وثالثاً: إنَّه يرد عليه ما ورد أولاً على الثاني.
وأما القائلون بالاشتقاق فحجتهم أمور:
منها: قوله تعالى:
{ { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام:3]. إذ لو كان علَماً لم يكن ظاهر هذه الآية مفيداً معنى صحيحاً - لا كما وجّهه بعضهم من أنَّه يشعر بالمكانية لأنّ ذلك حديث آخر يتعلق بعلم أرفع من مباحث الألفاظ ولعلّ الألفاظ المشعرة بالتجسّم في القرآن غير محصورة والسر في الجميع شي واحد ليس هذا الموضع محل بيانه - بل لأنّ المعنى الجامد لا يصلح للتقييد بالظروف وغيرها بخلاف المعنى الوصفي، فإنه لا يجوز أن يقال "هو زيد في البلد" وإنما يقال: "هو العالم في البلد" أو "الواعظ في المجلس".
والجواب: إنَّ الاسم قد يلاحظ معه معنى وصفي اشتهر مسمّاه به فيتعلق بالظرف كما في "أسد علي" لتضمنه معنى الصائل أو المقدم، فكذلك يلاحظ هاهنا معنى المعبود بالحق لكونه لازماً لمسماه مشتهراً في ضمن فحواه.
ومنها: إنَّه لمَّا كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى كان العلَم له ممتنعاً.
ومنها: إنَّ العلَم للتمييز، ولا مشاركة فلا حاجة إليه.
والجواب عن الوجهين: إنَّ وضع العلَم لتعيّن الذات المعيّنة ولا حاجة إلى الإشارة الحسّية، ولا يتوقف على حصول الشركة.
قال بعض العلماء: يشبه أن يكون النزاع بين الفريقين لفظياً غير مؤدّ إلى فائدة لأنّ القائلين بالاشتقاق متفقون على أن "الإله" مشتق من "أله - بالفتح - آلهته" أي: عبد عبادة. وأنَّه اسم جنس يقال على كل معبود، ثم غلِّب على المعبود بحق كما مرّ، وأما "الله" بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره، ولم يفهم سواه وهذه خاصية العلَم.
وقيل: اشتقاقه من "ألهت إلى فلان" أي: سكنت. وهذا المعنى أيضاً لا يتحقق إلاَّ بالقياس إلى جنابه المقدس فإنَّ النفوس لا تسكن إلاَّ إليه والعقول لا تقف إلاَّ لديه لأنه غاية الحركات، ومنتهى الرغبات، كما برهن في الحكمة الإلهية ولأنّ الكمال محبوب لذاته
{ { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28].
وقيل: من "الوله" وهو ذهاب العقل، وهو بالحقيقة ثابت للذوات بالنسبة إلى قيّوم الهويات وجاعل الإنيات، سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان المستغرقون في لجّة يمِّ الإيقان، والواقفون في ظلمات الجهالة والعميان المتزحزحون في تيه الخذلان.
وقيل: من "لاه" بمعنى ارتفع، وهو تعالى مرتفع عن شوب مشابهة الممكنات ومتعال عن وصمة مناسبة المحدثات.
وقيل: من "أله في الشيء" إذا تحيّر فيه، لأنّ العقل وقف بين الإقدام على إثبات ذاته - نظراً إلى وجود مصنوعاته - والتكذيب لنفسه؛ لتعالي ذاته عن ضبط وهمه وحسّه، ولذلك قال المحققون: السالك الواصل إلى درك الواجب لذاته هو نحو البرهان المأخوذ عن معنى الوجود وأنَّ له مبدءاً قيوماً لذاته فهو الشاهد على ذاته وعلى كل شيء لا العقل، إذ ليس له إلاَّ أن يقرَّ بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدارك الجمال والجلال، فعجز العقل هاهنا عن درك الإدراك إدارك.
وقيل: من "لاه يلوه" إذا احتجب. لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول فإنَّه إنَّما يستدل على كون الشعاع مستفاداً من الشمس بدورانه معها وجوداً وعدماً، وطلوعاً وأفولاً، وشروقاً وغروباً، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان بكون الشعاع مستفاداً منها، ولما كانت ذاته باقيةً على حالها وكذا الممكنات التابعة له، فربما يخطر ببال ضعفاء العقول أنَّ هذه الأشياء موجودة بذواتها، وكثير منهم لا يمكنه تصوّر دوام المجعول مع الفاعل التام مع أن البقاء لأحدهما بالأصالة والحقيقية، وللآخر بالتبعية والمجاز إذ المهيّات والأعيان مظلمة الذوات بذواتها لازمة الفقدان والعدم بأنفسها، إلاَّ أنها مرائي لحقيقة الأول ومجالي لظهور نور الحق لم يزل فاختفى الحق بالخلق وظهر الخلق بنور الحق، فلا سبب لاحتجاب نوره إلاّ كمال ظهوره، كما لا سبب لظهور الخلق إلاّ غاية بطونه وبطلانه، فالحق محتجب والخلق محجوب.
وقيل: من "أله الفصيل" إذا ولع بأمه، لأنّ العباد يتضرعون إليه في البليات
{ { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } [الروم:33] هذا شأن الناقصين، وأما العارفون الكاملون فهم في بحر شهوده مغرقون وهو جليسهم وأنيسهم.
شكى بعض المريدين كثرة الوسواس فقال له الشيخ: "كنت حداداً عشر سنين، وقصاراً عشراً، وبواباً عشراً" فقيل: "وكيف ما رأينا منك؟" فقال: "القلب كالحديد، ألنته بنار الخوف عشراً، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشراً، ثم وقفت على باب القلب عشراً أسل سيف لا إله إلاّ الله، فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله تعالى، ويدخل فيه حب الله فلما خلت عرصة القلب عن غيره وقويت محبته، سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة، وفنى عن الكل، ولم يبق فيه إلاَّ محض سرِّ لا إله إلاّ الله.
وقيل: من "أله الرجل يأله" إذا فزع من أمر نزل به، فآلهه أي آجره، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله ولا يجار عليه.
كشف تحقيقي
الحق أنَّ وضع الاسم المخصوص للذات الأحدية والهوية الغيبية مع قطع النظر عن النسب والإضافات غير متصور أصلاً لا لما قيل "إن ذاته تعالى من حيث هي غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليها بلفظ". إذ يرد عليه ما ذكره بعض المحققين: إن أقصى ما يلزم منه عدم تمكن البشر من وضع الاسم له جلّ شأنه، والمدعى أن ليس له تعالى علَم أصلاً، وقد صح أن أسماءه توقيفية، فيجوز أن يضع هو لذاته المقدسة اسماً، على أن القول بعدم تمكن البشر من وضع العلم محل كلام، إذ يكفي في وضع الاسم تعقل المسمى بوجه يمتاز عمّا عداه.
بل لأنّ الغرض من وضع الألفاظ والنقوش الكتابية ليس إلاَّ الدلالة على المعاني الذهنية الدالّة على الحقائق الخارجية، إذ لو كانت الحقيقة بنحو وجودها الخارجي حاضراً عند المخاطب سقط اعتبار اللفظ، بل لا يحتاج إلى إشارة عقلية ولا حسية لكونها مدركة بصريح المشاهدة، ولمَّا لم يتصور لحقيقة الباري صورة ذهنية مطابقة لذاته، فلا يمكن الدلالة عليه بالألفاظ الدالة على الصورة الذهنية المطابقة له، ولا اسم لذاته المخصوصة أيضاً إذ لا يمكن نيل ذاته المقدسة إلاّ بصريح ذاته وإشراق نور وجهه الكريم بعد فناء السالك عن ذاته، واندكاك جبل إنيّته، واضمحلاله في العين، وإماطة أذى هويته في طريق الحق من البَين، وحينئذٍ فلا اسم له، ولا رسم، ولا نعت، ولا خبر عن الغيب المحض والمجهول المطلق، فالسالك ما دام في حجاب وجوده وعينه فلا فائدة للألفاظ في حقه، ولا خبر عن الحق أصلاً، وإذا وصل إلى الشهود الحقيقي فلا أثر منه عند الغير كما قيل:

اين مدعيان در طلبش بيخبراند كانرا كه خبر شد خبرى باز نيامد

ومن هاهنا يتبين ويتحقق أن وضع الألفاظ للمفهومات والصور الذهنية لا للأعيان الخارجية، سواء كان الغرض تعرف أحوال تلك الأعيان وأحكامها أم لا - كما في الأحكام الذهنية -.
ومما يؤكد أن وضع الألفاظ للصور الذهنية أنه قد ثبت في مقامه أن لا سبيل للعلم بأنحاء الوجودات الخارجية للمهيات إلاّ بالحضور العيني والمشاهدة الإشراقية، أو الإحساس، فعلى هذا كيف يتصور أن يفهم من مجرّد إطلاق اللفظ الهوية الخارجية، إلاَّ بسبب سبق علم شهودي أو إحساس بتلك الهوية، وإذا لم يكن الأمر العيني مما يتصور في حقه المشاهدة الاكتناهية أو الإحساس كذاته تعالى فلا فائدة لوضع الألفاظ لذاته المخصوصة بوجه أصلاً.
فإن قلت: لا شبهة في أن للعلوم والصور الذهنية دلالات على المعلومات والأعيان الخارجية - وإن لم يحضر الأمر الخارجي - فالعلم بها لا يتوقف على حضورها. وأيضاً لا شك أنَّ الأحكام الخبرية ليست كلها جارية على مجرد الصور العقلية، وإلاّ لكانت القضايا كلها ذهنيات فلم يبق قضية حقيقة أو خارجية، فللحكم على الشيء لا بد من إدراكه.
قلنا: نحن لا ننكر أن للصورة العقلية دلالة على الشيء الخارجي بوجه من الوجوه، لكنّا نقول: هذه الدلالة على الأمر الخارجي بهويّته المخصوصة لا يمكن إلاّ بعد العلم الحضوري به، فاللفظ إذا دلّ عليه فإنما دلّ أولاً على الصورة الذهينة، وبتوسطها على الأمر الخارجي بالشرط المذكور، وأما القضايا والأحكام الخارجية أو الحقيقية فالحاضر بالذات للعقل عند إطلاق اللفظ في الحمليات مطلقاً ليس إلاّ الصور الذهنية، إلاّ أنها قد تكون مأخوذة على وجه يصير عنواناً لحقيقة خارجية، كما في المحصورات الخارجية، فإن المحكوم عليه في قولنا "كل إنسان كاتب" هو الصورة العقلية للإنسان المأخوذة من حيث هي هي على وجه يصير مرآة لملاحظة الأفراد على سبيل الإجمال، بمعنى أنَّ كل واحد واحد من الأفراد لو كان حاضراًً مشهوداً بهويته العينيّة لكان متحداً مع تلك الصورة المأخوذة كذلك.
وهكذا الحكم في الأفراد المقدرة في القضية الحقيقية بخلاف الطبيعة الذهنية، فإنّ المحكوم عليه فيها مجرد الصورة من حيث كونها متعيّنة، في الذهن ففي القبيلين المدرك بالذات ليس إلاَّ صورة الشيء الخارجي ووجهه دون هويته وذاته، إلاّ أن في أحدهما اعتبر المطابقة مع ما في الخارج على الوجه المذكور، وفي الآخر لم يعتبر، وهذا هو الفرق بين العلم بوجه الشيء وبين العلم بالشيء من وجه، مع الاتفاق في كون المعلوم بالذات هو الوجه، لا الكنه.
فقد استنار وانكشف أنَّ حقيقته المقدسة باعتبار الأحدية الغيبية لا وضع للألفاظ بأزائه، إذ لا يمكن له إشارة عقلية كما لا يمكن إشارة حسية، وهذا سرُّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام:
"إنَّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإنَّ الملأ الأعلى يطلبونه كما أنتم تطلبونه" .
المسألة الرابعة
في أن موضوع لفظ الجلالة ماذا؟
إعلم أن أقسام الأسماء الواقعة على المسمّيات تسعة:
أولها: إسم الشيء بحسب ذاته كزيد.
ثانيها: إسمه بحسب جزء من أجزائه كالحيوان على الإنسان.
ثالثها: إسمه بحسب صفة حقيقيّة قائمة بذاته كالأسود والحار.
ورابعها: إسمه بصفة إضافية كالمالك والمملوك، والمتيامن والمتياسر.
وخامسها: إسمه بصفة سلبية كالجاهل والأعمى.
وسادسها: إسمه بصفة حقيقية مع إضافة لها إلى شيء كالعالم والقادر.
وسابعها: إسمه بصفة حقيقية مع صفة سلبية كإطلاق الجوهر بمعنى الموجود بالفعل لا في الموضوع على ما له وجود زائد على مهيته.
ثامنها: إسمه بصفة إضافية مع صفة سلبية كالأول فإن معناه سابق غير مسبوق.
تاسعها: صفة حقيقية مع إضافة وسلب. فهذه أقسام الأسماء المقولة على الشيء ولا يكاد تجد اسماً خارجاً عنها سواء كان لله أو لمخلوقاته.
إذا تقرر هذا فلقائل أن يقول: لما تبيّن وتحقق أن حقيقته تعالى المقدسة عن لوث الأفهام والأوهام بحسب هويته الغيبية (العينية - ن) غير قابلة لاسم ولا رسم، ولا حدٍّ، ولا إشارة، وإنما ألفاظ الأسماء والصفات جارية على ذاته باعتبار مفهومات هي نعوت كمالية أو إضافية أو سلبية فالاسم "الله" لا يكون موضوعاً للذات الأحدية بل لواحدة من الصفات الحقيقية أو الإضافية سواء كانت مع السلوب أم لا.
لكن لقائل أن يعارض ذلك ويقول: إنَّ الاسم "الله" لو لم يكن موضوعاً للذات لكان إمَّا موضوعاً لصفة كمالية بخصوصه - كالعالم مثلاً أو القادر أو غيرهما - فكان المفهوم من كلمة "الله" هو بعينه المفهوم من "العالم" مثلاً، ولم يكن لقولنا "الله عالم" معنى زائداً على معنى أحد جزئيه، بل يكون مثل قولنا "الله الله"والعالم عالم" حيث لم يفد المجموع معنى غير ما أفاده أحد جزئيه، والتالي باطل فالمقدم مثله.
وإما أن يكون موضوعاً لصفة إضافية محضة كالأولية، والسببية، والآخرية، والغائية وهو أيضاً باطل بمثل البيان المذكور. وإما أن يكون موضوعاً للسلوب المحضة كالقدوسية، والفردية، والجلالة، وهو ظاهر الاستحالة، لأنَّا لا نفهم من هذا اللفظ إلاَّ تحصيل أمر حقيقي، أو إضافي، لا رفع أمر.
وإما أن يكون موضوعاً لجزء من الذات وهو أيضاً مستحيل لاستلزامه تركب الواجب تعالى عنه علوّاً كبيراً، والحال في كونه موضوعاً للمركب من بعض المعاني المذكورة مع بعض يعرف بما ذكرناه من الاستحالة.
فلم يبق من الاحتمالات التسعة المذكورة الحاصلة من وقوع الأسماء على المسميات إلاّ واحد وهو كون الاسم "الله" واقعاً على الذات دالاًّ عليها مطابقة لاستحالة غيره لما علمت من استحالة التوالي بأسرها عند فرض المقدمات الثمانية المحتملة في بادئ النظر وأنَّ فساد التوالي يستلزم فساد المقدمات، وكذا استحالة المفهوم المردد بين التوالي يسلتزم استحالة المفهوم المردد بين شقوق المقدم، واستحالته يوجب ثبوت نقيضه - وهو الذي ادعيناه من كون لفظ الجلالة بأزاء الذات الأحدية المعرّاة عن الاعتبارات - حقيقية كانت، أو إضافية، أو سلبية - وإلاّ يلزم كون هذا الاسم مع جلالته مهملاً غير موضوع لمعنى هو ظاهر البطلان.
وأقول في الجواب: إنَّ هذا الاسم - في التحقيق الذي لا مجمحة فيه - من الأعلام الجنسية للذات المستجمعة للصفات الكمالية بأسرها، المنزهة عن النقائص الإمكانية برمّتها، فهو علم لهذا المفهوم الجامع المقدس المنحصر في ذات الواجب القيوم بذاته، وليس من أسماء الأجناس، إذ ليس إسم جنس لذاته لعدم كونه تعالى كلياً طبيعياً كما زعمته طائفة من المتصوفة - تعالى عمّا يقوله الظالمون علوّاً كبيراً - ولا أيضاً إسم جنس لصفة من الصفات بخصوصها، أيّ صفة كانت، إيجابية، أو سلبية، كما مرّ ذكره.
فلم يبق من الاحتمالات إلاّ الذي ادّعيناه، إذ لا يرد عليه شيء من النقوض والإيرادات المذكورة وهو خارج عن الشقوق التسعة المشهورة، ودعوى انحصار أقسام الأسامي فيما ذكر ممنوع، لأنه غير مستند إلى أمر عقلي بل مجرد استقراء غير تام يكاد يوجد اسم خارج عن الجميع، سواء كان لله أو لغيره، وسواء كان الواضع هو الله أو غيره.
فإن قلت: هذا الاسم أشرف الأذكار وهو الاسم الأعظم عند بعضهم وإذا كان كذلك فلا بدَّ أن يكون مسمَّاه الذات الأحدية؛ لأنّ شرف الذكر والاسم بشرف المذكور والمسمى، كما أنَّ شرف العلم بشرف المعلوم.
قلنا: قد مرّ أن ذكر الذات الأحدية باعتبار هويته الغيبية وكذا تسميته بخصوصه والإشارة إليه بعينه والإشعار به غير متصور أصلاً، بل أمر مستحيل؛ لأنه من الحيثية المذكورة مجهول مطلق لما سوى ذاته تعالى - والمجهول المطلق من حيث هو مجهول مطلق لا يخبر عنه، ولا يذكر، ولا يشاء إليه بوجه من الوجوه.
وهذا لا القدح في كون هذا الاسم أشرف الأذكار وأعظم الأسماء، فإنَّ المذكور، والمسمى في كل ذكر وإسم من الأذكار والأسماء الحسنى معنى من المعاني العقلية الاعتقادية الصادقة في حقه تعالى، اللائقة بجناب إلهيته وقيّوميته وليس شيء منها نفس ذي المقدسة؛ لتعاليه عن أن يحوم حول إدراكه فكر أو قياس، أو ينال ذاته عقل ووهم أو حواس إلاّ أن ما يدل عليه هذا الاسم باعتبار الاستجماع الذي أشار إليه لم يبعد أن يقال إنه أشرف المذكورات الدالّة عليها سائر الأسماء، فلو اتفق لعبد من عباده الوقوف على ذلك الاسم على ما يكون - بأن تجلّى له معناه وانكشف له فحواه أوشك أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات.
ثم القائلون بأنّ الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه:
منهم من قال: هو "ذو الجلال والإكرام" متمسكين بقوله (صلّى الله عليه وآله):
"ألظّوا بياذا الجلال والإكرام" .
وردّ: بأن الجلال من الصفات السلبية، والإكرام من الإضافية، ومن البيّن أن الذات المأخوذة مع الصفات الحقيقية، أو الذات المطلقة المأخوذة بلا قيد أشرف من السلوب والإضافات.
ومنهم من قال: إنه "الحي القيوم" لما مرَّ سابقاً من الروايات
"ولقوله (صلّى الله عليه وآله) لأُبي بن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ فقال: الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم. فقال: ليهنئك العلم يا أبا المنذر" وعورض: بأن "الحي" هو الدرَّاك الفعَّال، وهذا ليس فيه عظمة، ولأنه صفة. وأما "القيوم" فمعناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، والثاني إضافي وسنذكر لك ما يليق بهذا المقام وبيان كون هذين الاسمين من الأسماء العظام.
ومنهم من قال: إن أسماء الله كلّها عظيمة لا يبغي أن يتفاوت بينها.
وردّ: بما مرّ من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة.
وفيه: أن الذات البحتة لم يوضع لها اسم.
والأولى أن يقال: إن المفهوم من بعض الأسماء أشرف من بعض بكثير، إلاّ أن القول بأن الاسم الأعظم غير منحصر في واحد أو اثنين غير بعيد عن الصواب كما سنشير إليه وبه يندفع التدافع بين النصوص الواردة في أعظميّة اسم والواردة في أعظمية اسم آخر غيره.
ومنهم من قال: إن الاسم الأعظم "هو الله" وهو قول منصور، لأنّك قد علمت أنّه علم للذات المستجمعة للصفات الكمالية والإلهية مع التقدس عن جميع النقائص الكونية فهو يجري مجرى العلَم للذات الحقيقية الأحدية وينوب منابه فكأنه دالّ على ذاته المخصوصة الأحدية وهذا المقام غير متحقق لشيء من الأسماء العظام لعدم دلالته على ما دلّ عليه هذا الاسم إلاّ على سبيل الالتزام مع بيان وبرهان كما في "الحيّ القيّوم".
ويؤيده ما روي عن أسماء بنت زيد أنها روت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال:
" اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } وفاتحة سورة آل عمران: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }" وعن بريدة: "إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سمع رجلاً يقول: اللَّهم إني أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" ولا شكّ أن الاسم "الله" في الآيتين، والحديثين أصل والصفات مترتبة عليه.
والتحقيق: أن شرافة اسم على اسم باعتبار شرافة مدلوله بأحد الدلالات، فمن نظر إلى أنّ مدلول الاسم "الله" بحسب الدلالة المطابقية هو الذات المستجمعة لجميع الصفات الجمالية والجلالية، ولا يوجد في الأسماء ما له هذه الجامعية في الدلالة الوضعية إلاّ اسم "الله" حكم بأنه الأعظم، ومن نظر إلى أن "الحيّ القيّوم" يدلّ مفصلة على ما دل عليه اسم "الله" مجملاً من تلك الأوصاف والنعوت الإلهية الوجوبية لكن على بعضها دلالة وضعية، وعلى بعضها دلالة عقلية، والدلالة التفصيلية أرجح في طلب القرب والوصول من الدلالة الإجمالية، حكم بأنّ هذا أعظم الأسماء، ومن نظر إلى أن كل واحد من الأسماء الحسنى يرشد إلى الآخر ويدل عليه دلالة عقلية عند التأمّل الصادق فيه والمواظبة على ذكره حكم بأنه لا رجحان لاسم على اسم بل كل واحد منها إذا نظرت إليه فهو عين جميع الأسماء بحسب المفاد، كقوله تعالى:
{ { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ } [الإسراء:110].
المسألة الخامسة
في إعرابه ونظمه
هو مرفوع بالابتداء، وخبره إمَّا محذوف وهو "موجود" أو "ثابت" أو "واحد" بقرينة ما بعده، وهو "لا إله إلاّ هو" مؤكداً له، ويحتمل أن يكون الجملة خبراً بنفسها لا تابعاً، ويحتمل أن يكون "الله" خبر مبتدإٍ محذوف أي: هو الله دون غيره.
ومعناه على الأول: أنّ الله بنفس ذاته موجود لا يزيد وجوده على هويته، كما في الممكنات التي لها مهيات قابلة للوجود والعدم غير مقتضية لشيء منهما بذواتها فيحتاج إلى ما يرجع أحد الطرفين فيها على الآخر، فتؤدي سلسلة الافتقار إلى موجود لا يزيد على ذاته دفعاً للدور والتسلسل، وكذا يقاس كونه واحداً.
وعلى الثاني: أن الموجود الحق بنفس هويته إله للعالم لا بصفة زائدة على ذاته، أي: صنعة الإلهية في الواجب ليست كصنائع ذوي الصناعات الإمكانية التي صانعيتها إنما تتحقق بشيء زائد على ذاتها، كما أنّ لنا شيئين نتجوهر بأحدهما - وهو النطق - ونكتب بالآخر - وهو صنعة الكتابة - وكذا النار تتجوهر بصورتها المخصوصة وتحرق بحرارتها، وكذا الشمس تتذوت بشيء وتضيء وجه الأرض بشيء، ثم لا يكفي في هذه المبادئ الفاعلية الذات والصفة، بل يحتاج مع ذلك إلى قابل وحركة حتى تظهر منها آثارها، لأنّ شأنها الإعداد والتحريك لا الجود والإفاضة، وأما الإله المحض والجواد الحق فلا ينقسم بشيئين، بأحدهما تجوهر ذاته وبالآخر إلهيّته بل هو بذاته إله وبنفسه خلاَّق، وإلاّ لاحتاج في إيجاد صفة إلهيته إلى إلهية أخرى، وهكذا حتى يتسلسل أو يدور وكلاهما، ممتنع فهو الله بذاته، هو الرحمن الرحيم بنفسه لا بصفة زائدة بها تحصل الإلهية.
أما ارتباطه بما سبق فهو أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب المجيد أنه يمزج هذه الأنواع الثلاثة بعضها ببعض - أعني علم التوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص - والمقصود من ذكر القصص إما تقدمة دلائل التوحيد وإمّا المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف، وهذا الطريق هو الأحسن في الهداية واللائق بالإنسان، فإنّ الكلام في النوع الواحد كأنه مما يوجب له الملال، فأما إذا وقع الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع فكأنّه ينشرح به الصدر، ويفرح به القلب، وينشط به الذهن، وينتعش الطبع، فيصير به الكلام أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه، وإذ قد تقدم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد.
المسألة السادسة
في تحرير القول بأن هذا الاسم عين ذاته تعالى أو غيرها
إعلم أنه قد اختلفت كلمة أهل الكلام في أنّ الاسم مطلقاً هل هو عين المسمى أو غيره؟ فالأول: منسوب إلى الأشاعرة، والثاني: إلا المعتزلة.
والمتأخرون - عن آخرهم حتى النحارير - تحيروا في تحرير محل النزاع. ومورد الخلاف بحيث يصير قابلاً للمتقابلين قبل قيام الدليل، غير قطعي الاستحالة (الدلالة- ن) في أحد الجانبين، وجزم بعضهم أن البحث فيه لفظي أو عبث، وهو كذلك بحسب الظاهر على ما هو مصطلح أهل الكلام.
وأمَّا على ما هو عرف العرفاء في الأسماء فالخطب فيه عظيم والبحث فيه مهم كما سيلوح لك منه شيء، كيف ولا يشك عاقل في أن لفظ "الأسد" ليس حيواناً مفترساً، ولا لفظ "الأسود" قابضاً للبصر، ولا لفظ "النار" محرقاً، ولا التلفظ بالعسل والسكر يوجب الحلاوة.
وربما استدلّ بعضهم على هذا الأمر الفطري بأنَّ الاسم حاصل من أصوات غير قارة، ومختلف باختلاف الأُمم، ومتعدد تارة كالمترادفة، ومتحد أخرى كالمشترك، والمسمى بخلافه في الأولين وبعكسه في الأخيرين، وبأنهما متضايفان والمضافان متغايران - وفيه تأمل - وبأن اللفظ عرض ممكن والمسمى قد يكون جوهراً بل واجباً.
واستدلّت المعتزلة بقوله تعالى:
{ { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ } [الرحمن:78] وبوقوع النكاح والطلاق شرعاً بالحمل على الأسماء.
وأُجيب عن الأول: بأنه كما يجب علينا تنزيه ذاته تعالى عن النقائص يجب تنزيه اسمه عن الرفث وسوء الأدب، وبأنه قد يراد لفظ "الاسم" مجازاً كما في قول لبيد: "إلى الحول ثم اسم السلام عليكما".
وعن الثاني: بأن المراد الذات التي يعبّر بهذا اللفظ.
هذا ما قيل في هذا المقام.
وأقول: الاسم في عرف المحققين من أكابر العرفاء المعتبرين عبارة عن الذات المأخوذة مع بعض الشؤون والاعتبارات والحيثيات، فإنّ للحق سبحانه بحسب
{ { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29]. شؤوناً ذاتية ومراتب غيبية يحصل له بحسب كل منها اسم أو صفة حقيقية، أو إضافية، أو سلبية، ولكل منها نوع من الوجود حتى السلوب فإنها مما يعرضها الوجود من وجه كما إذا تمثلت في ذهن من الأذهان، أو يكون له مصداق ينتزع منه إذا قيس إلى الأمر المسلوب.
والفرق بين الاسم والصفة في اعتبار العقل كالفرق بين المركب والبسيط إذ الذات معتبرة في مفهوم الاسم دون مفهوم الصفة، لأنها مجرد العارض، فالاسم - الله - عبارة عن مرتبة الألوهية الجامعية لجميع الشؤون والاعتبارات للذات المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلاَّ تجليات ذاته، وهي أول كثرة وقعت في الوجود وبرزخ بين الحضرة الأحدية الذاتية الغيبية وبين المظاهر الخلقية، وهو بعينه جامع بين كل صفتين متقابلتين واسمين متقابلين لما علمت أن للذات مع كل صفة معيّنة واعتبار تجلٍّ خاص من تجلياته اسماً، وهذه الأسماء الملفوظة هي "أسماء الأسماء". ومن هاهنا تحقق وانكشف أنّ المراد بأنّ الاسم عين المسمى ما هو.
وقد يقال الاسم للصفة، إذ الذات مشتركة بين الأسماء كلها والتكثر فيها بسبب تكثّر الصفات، وذلك التكثر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبية التي هي مفاتيح الغيب، وهي معان معقولة في عين الوجود الحق، بمعنى أنّ الذات الإلهية بحيث لو وجدت في العقل أو أمكن أن يلحظها الذهن لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها، فهو في نفس الأمر مصداق لهذه المعاني من دون حاجة إلى تحقق صفة في ذاته.
وهذا مراد المحققين من الحكماء وغيرهم أن صفاته غير ذاته، ومعنى كلام أمير المؤمنين وإمام الموحدين (عليه السلام): "كمال التوحيد نفي الصفات" لأنّ المدعي أن مجرّد وجود الذات هو بعينه وجود الصفات بالعرض لا أن لصفاته تعالى وجوداً في أنفسها، ولذاته وجوداً آخر في نفسه - كما في صفات الممكنات - ليلزم فيه تعالى جهتا قبول وفعل ولا أيضاً شيء من الذات بأزاء صفة وشيء منها بأزاء صفة أخرى ليلزم التركيب في ذاته تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فصفاته الحقيقة، على كثرتها - موجودة بوجود واحد بسيط أحدي هو وجود الذات، وهو بعينه مصداق تلك الصفات كلها وليس المدعى أن ليست الصفات مفهومات متغايرة في الذهن وإلاّ لكانت مترادفة الألفاظ - وهو ظاهر الفساد - فهي في أنفسها كسائر المفهومات الكلية ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة ولا عامة ولا خاصة، ولا كلية ولا جزئية بالذات بل بالتبعية، فتصير كلية في الذهن جزئية في الخارج، موجودة في العقل معدومة في العين ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل ينسحب عليها أحكام الوجود بالعرض وهي تتنوّر بنوره وتتصبغ بصبغة من الوجوب والوحدة والأزلية، كما يجري عليها أحكام الإمكان عند ظهورها في الأعيان الثابتة التي هي ناشئة منها باعتبار تعيّنها في علم الحق.
وتحقيق هذا المرام يطلب من كتب العرفاء الكرام.
قال الشيخ محيي الدين بن عربي في الفص اليوسفي من كتابه: "الوجود الحق هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسماؤه، لأنّ أسماءه لها مدلولان: أحدهما: عينه وهو عين المسمى والمدلول الآخر: ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به عن الاسم الآخر ويتميّز في العقل، فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر، وبما هو غيره، فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيّل الذي كنّا بصدده فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا ثبت كونه إلاّ بعينه" انتهى كلامه.
أقول: مراده من "الحق المتخيل" ما لوّحنا إليه من أن كلاًّ من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كانت بحسب نفس معناها عارية عن صفة الوجود الحقيقي - من الوجوب، والقدم، والحقية، والأزلية - إلاّ أنها مما عليها تلك الأحكام وتنصبغ بها بالعرض، وتقبلها بتبعية العين، وهذا النحو من الاتحاد والعينية بالعرض فيما بين ذاته تعالى والأسماء الذي ذهب إليه محققوا العرفاء ضرب من الاتحاد بالعرض غير ما ألفه الجمهور وشاع في الكتب العقلية، إذ ليس هذا الاتحاد كاتحاد العرضيّات والمشتقّات مع ذات الموضوع لها كاتحاد الأبيض والأعمى مع زيد مثلاً، بمعنى أن الوجود المنسوب أولاً وبالذات إلى "زيد" هو بعينه منسوب إلى العرضي المشتق ثانياً وبالعرض - أي على سبيل المجاز - مع جواز أن يكون لهذه العرضيات نحو آخر من الوجود يناسبها في ذاتها مع قطع النظر عن عروضها للموضوع، فإنّ لمفهوم الأبيض نحواً من الوجود في نفسه الذي يتحقق بعين وجوده الرابطي وهو جود العرض فإن وجود العرض هو بعينه وجوده لمحله، وهذا غير الوجود بالعرض، فإنّ هذا عندهم مجازي دون ذاك، وقد تبيّن الفرق بينهما في علم الميزان.
فالحاصل: أن اتحاد العرضيات بالموضوع اتحاد بالعرض، وموجودّيتها به موجودّية مجازيّة لصدقها عليه بحسب مرتبة من الواقع بعد مرتبة وجود الموضوع، وأما اتحادها بالأعراض التي هي مبادئ اشتقاقها فهو اتحاد بالذات ووجودها كوجود تلك الأعراض وجود حقيقي لاتحاد العرض والعرضي بالذات كما هو التحقيق عند المحققين.
وأما عينيه صفاته المقدسة وأسمائه الحسنى مع الذات الأحديّة فليست من هذا القبيل من المعيّة التي هي بين العرضي والذاتي في الطبائع الإمكانية إذ ليست لصفاته نحو من الوجود غير ذاته تعالى ولا كمعيّة الذاتيات مع الذات لأنّ الحق تعالى ليس ذا مهية كلية أصلاً - فضلاً عن أن يكون مركباً من مقومات متحدة في الوجود - بل حقيقته ليس إلاّ وجوداً مقدساً بسيطاً صرفاً لا اسم له ولا رسم ولا إشارة إليه إلاّ بصريح العرفان، ولا حدّ له ولا برهان عليه وهو البرهان على كل شيء والشاهد على كل وجود.
فمعنى كون صفاته عين ذاته حسبما أشرنا إليه أن الذات الأحدية بحسب مرتبة هويته الغيبية وإنيّته العينية - مع قطع النظر عن انضمام أمر أو اعتبار حيثية غير ذاته بوجه من الوجوه - بحيث يصدق في حقه هذه الأوصاف الكمالية والنعوت الجمالية ويعرف منه هذه الأحكام ويستفاد منه هذه المعاني ويظهر من نور ذاته هذه المحامد القدسية، ويتراءى في شمس وجهه هذه الشمائل العلية وهي في حدود أنفسها مع قطع النظر عن نور وجهه لا شيئية لها ولا ثبوت أصلاً، فهي بمنزلة ظلال وعكوس لها تمثل في الأوهام والحواس.
وكذا الحكم في الأعيان الثابتة وسائر المعقولات والأعيان المعلومة، ما هي إلاّ نقوش وعلامات دالّة على أنحاء الوجودات الإمكانية التي هي رشحات جود الحق، وأشعة نور الوجود المطلق، ومظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأما نفس تلك الأعيان والمهيّات مع قطع النظر عن الوجودات فلا وجود لها بالذات لا عيناً ولا عقلاً كقوله تعالى:
{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم:23].
ولعلّ الكلام انجر إلى ما لا يطيق تقريره أسماع الأنام بل يضيق عن فهمه نطاق أكثر الأفهام، وتضعف عن سلوكه الأقدام.
المسألة السابعة
في أنه هل لمعنى هذا الإسم حدّ أم لا؟
الحدّ عند الحكماء قول دالّ على تصوّر أجزاء الشيء ومقوماته فما لا جزء له لا حدّ له، وما لا حدَّ له لا برهان عليه، لأنّهما متشاركان في الحدود كما بيّن في الميزان، وإذا تقرر هذا فلا شبهة في أنّ ذات الباري تعالى لتقدسه عن شوب التركيب - سواء كان من الأجزاء الوجودية، أو المقدارية، أو الذهنية، أو التحليلية على ما اقتضاه برهان التوحيد - لا حدّ له ولا برهان عليه.
وأما أن مفهوم لفظ "الله" هل له حدّ أم لا؟ فالحق هو الأول، لأنّ معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكمالية، فكل منها عند التفصيل جزء من مفهومه، والفرق بين الحد والمحدود ليس إلاّ بالإجمال والتفصيل في نحوي الإدراك، فإنّ الألفاظ المذكورة في الحدّ تدلّ على ما دلّ عليه لفظة المحدود بعينه بدلالة تفصيلية، وليس من شرط الحدّ أن يكون تأليفه من جنس وفصل، بل من أجزاء الشيء، سواء كانت بعضها أعمّ من بعض مطلقاً أو متساوية، أو متباينة، أو لها أعميّة من وجه، إلاّ أن المشهور بين الجمهور أن الحدّ لا يكون إلاّ من جنس وفصل؛ لما رأوا أن الحقائق المتأصلة التي لها طبيعة نوعية لا تكون إلاّ كذلك.
وبالجملة: كل لفظ وضع لمعنى إجمالي قابل للتحليل إلى معان متعددة يدلّ عليها بألفاظ متعددة يكون الأول محدوداً والثاني حدّاً وهكذا اسم "الله" بالقياس إلى جميع الأسماء الحسنى، فإنّ نسبة المجموع إليه بحسب المعنى نسبة الحدّ إلى المحدود، وهذا لا يضر بساطة الذات المقدسة وأحدية الوجود القيّومي تعالى عن التصور والتمثيل والتخيّل والتعقل لغيره، فإنّ كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية والاصطلاحية فهي خارجة عن ساحة العزّ والكبرياء، إنما يجد الذهن سبيلاً إليها من ملاحظة مظاهرها ومجاليها ومشاهدة مربوباتها ومحاكيها.
قال ابن عربي في الفص النوحي: "إن للحق في كل خلق ظهوراً خاصاً فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلاّ عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته، وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبّر للصورة فيؤخذ في حدّ الإنسان مثلاً باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود، فالحق محدود بكل حدّ، وصور العالم لا تنضبط ولا يحال بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلاّ على قدر ما حصل لكل عالم من صورته فلذلك يجهل حدّ الحق فإنه لا يعلم حدّه إلاّ بعلم حدّ كل صورة. وهذا محال حصوله، فحدّ الحق محال.
ثم قال: "فحدّ الألوهية له بالحقيقية لا بالمجاز" انتهت ألفاظه.
ويتلخص من كلامه أن مسمّى لفظ "الله" هو المنعوت بجميع الأوصاف والنعوت الإلهية، ثم لما تقرر عندهم أنه ما من نعت إلاّ وله ظل ومظهر في العالم وثبت أيضاً أنّ الاشتراك بين كل اسم ومظهر ليس بمجرّج اللفظ فقط حتى يكون ألفاظ "العلم" و "القدرة" وغيرها موضوعة في الخالق بمعنى وفي المخلوق بمعنى آخر وإلاّ لم تكن هذه المعاني فينا دلائل على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف - والمتحقق خلافه - فبطل كون الاشتراك فيها بمجرّد اللفظ، نعم هذه المعاني في المخلوق في غاية الضعف والقصور وفي الحق تعالى في غاية العظمة والجلالة.
فتكون الأسماء الحسنى مع مظاهرها ومجاليها التي هي المهيّات المسماة بالأعيان مشتركة في أصل المعنى سواء كانت المظاهر من الصور المنوعة الجسمانية المدركة بالحواس الظاهرة التي هي من عالم الشهادة وعالم الخلق ومظهر الاسم "الظاهر" المشتمل على الأسماء الكثيرة التي تحت حيطته ولها مظاهر مختلفة من هذا العالم الظاهر، أو كانت من الصور العقلية المجرّدة الذوات المدركة بالمدارك الباطنة العقلية والروحية التي هي من عالم الغيب ومظهر الاسم "الباطن" المشتمل على أسماء كثرة على اختلافها تحت حيطة ذلك الاسم، كما أن مظاهرها المختلفة الأنواع مندرجة تحت عالم الأمر.
وحدّ الشيء كما عرفت عبارة عن صورة عقلية تفصيلية يدلّ عليها بألفاظ متعددة دالّة على ما يدلّ عليه لفظ واحد هو معنى إجمالي لذلك الشيء بل معناها عين معناه، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان صورتان إداركيتان، إحداهما: موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى: موجودة بوجودات متعددة تفصيلية فيقال للمفصلة "إنها حدّ" وللمجملة "إنها محدودة" فعلى هذا يلزم أن يكون مفهومات جميع الأسماء ومظاهرها التي هي أجزاء العالم ظاهراً وباطناً على كثرتها حدّاً حقيقياً لمفهوم اسم "الله".
والمراد من لفظة "الحق" في قوله: "فالحق محدود بكل حدّ" هو مفاد لفظ "الله" باعتبار معناه العقلي ومفهومه الكلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحدية وغيب الغيوب، إذ لا نعت له، ولا حدّ، ولا اسم، ولا رسم، ولا سبيل إليه للإدراك والتعقل، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلاّ بعد فناء هويّتهم واندكاك جبل وجودهم.
ويؤيّد ذلك ما قال في الفص الإسماعيلي: "إعلم أن مسمى "الله" أحدي بالذات، كل بالأسماء، وكل موجود فما له من الله إلاّ ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل، وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لأنه ينال الواحد منها شيئاً والآخر منها شيئاً لأنها لا تقبل التبعيض فأحديته مجموع كله بالقوة" انتهى.
المسألة الثامنة
في تحقيق أن مسمى "الله" معبود للكمَّل من العرفاء دون غيرهم بحسب الحقيقة
إعلم أن أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنما يعبدون معتقداتهم في ما يتصورونه معبوداً لهم فإلههم في الحقيقة أصنام ينحتونها ويتصورونها بقوة اعتقاداتهم العقلية والوهمية، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل بيت النبوة والولاية سلام الله عليهم أجمعين: "كل ما ميّزتموه بأوهامكم وعقولكم في أدقّ معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم" - إلى آخر الحديث - أي: فلا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صورة معتقدهم فقط إلهاً إلاّ بما جعل في نفسه وتصوّره بوهمه، فإلهه مجعول لنفسه، منحوت بيد قوته المتصرفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتّخذت آلهةً وبينه في أنّها مصنوعة لنفوسهم سواء كانت في خارجها أو في داخلها، بل الأصنام الخارجية أيضاً إنما عبدت من جهة اعتقاد الألوهية من عابدها في حقها، فالصورة الذهنية معبودة حينئذٍ بالذات، والصورة الخارجية معبودة بالعرض.
فمعبود عبدة الأصنام كلها ليست إلاّ صور معتقداتهم وأهواء أنفسهم كما أشير إليه بقوله تعالى:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23] فكما أن أصحاب الأصنام الجسمية يعبدون ما عملوها بأيدهم، فكذلك أصحاب الاعتقادات الجزئية في حق الحق يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم { { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأنبياء:67].
وأما الكمّل من العرفاء فهم الذين يعبدون الحق المطلق المسمّى باسم "الله" من غير تقييد باسم خاص وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحق تعالى المنعوت بجيمع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجلِّيات الأسمائية والأفعالية الآثارية بخلاف المحجوب المقيد الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن عليه واحتجاب بعض المجالي عن بعض في حقه.
ومن هذا الاحتجاب منشأ الاختلاف بين الناس فيكفّر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، وكل أحد يثبت للحق تعالى غاية ما يراه ويعتقده لائقاً بالربوبية من العظمة والجلالة وينكر غيرها وقد أخطأ وأساء الأدب معه تعالى وهو عند نفسه أنه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدّب.
وكذلك حال كثير من الملكوتيين والملائكة إلاّ الإنسان الكامل الذي علّمه ربّه علم جميع الأسماء ومظاهرها، كما قال تعالى:
{ { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة:31 -32] الآية.
فإذا تجلى الحق سبحانه بالصفات السلبية التنزيهية للعقول المسبحة المنزهة تقبله تلك العقول ويمجدونه ويسبحونه وينكره كل من لا يكون مجرّداً بل يكون كالوهم والخيال والنفوس المنطبعة، إذ ليس من شأنهم إدراك الحق إلاّ في مقام التشبيه كأكثر الناس.
وإذا تجلى بالصفات الثبوتية فتقبله القلوب والنفوس الناطقة، لأنها مشبهة من حيث تعلقها بالأجسام ومنزِهة من حيث تجرّد جوهرها، وينركه المحجوبون بالتجرّد المحض كأكثر الفلاسفة، فيقبل كل نشأة من النشآت العقلية والنفسية والخيالية من التجليات الإلهية ما يناسبها ويليق بحالها، وأما الإنسان الكامل والعارف الفاضل فهو الذي يقبل الحق ويهتدي بنوره في جميع تجلياته ويعبده بجميع أسمائه وصفاته، فهو عبد الله في الحقيقة.
ولهذا سمي بهذا الاسم أكمل نوع الإنسان (صلّى الله عليه وآله)، فإن الاسم الإلهي كما هو جامع لجميع الأسماء وهي تتحد بأحديته كذلك طريقة جامع طرق الأسماء كلها، وإن كان كل واحد من تلك الطرق مختصاً باسم يرب مظهره ويعبده ذلك المظهر من ذلك الوجه ويسلك سبيله المستقيم الخاص بذلك المظهر، وليس الجامع لها إلاّ ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي المحمدي صلوات الله عليه وآله وخواص أمته الذين كانوا خير أُمّة أُخرجت للناس، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء، وهو الغرض من بعثة الأنبياء ونصب الأولياء، وبه تحصل النجاة من عذاب نار القطيعة وجهنم البعد، والاحتجاب عن ربّ الأرباب، مع أن كل أحد يرجع إلى ربه بوجه، كما قال:
{ { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [الأنبياء:93]. إلاّ أن أكثرهم ناكسة رؤوسهم، محجوبة عقولهم، مقيدة أبدانهم بالسلاسل والأغلال، وجميع الطرق تتشعب وتتفرع من طريق التوحيد.
ويؤيّد ذلك ما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لما أراد أن يبين ذلك للناس خطّ خطاً مستقيماً، ثمّ خط من جانبيها خطوطاً خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، والخطوط الخارجة منها جعل سبل الشيطان كما قال الله تعالى:
{ { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام:153]. يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلاّ فالسبل كلها إليه، لأنّ الله منتهى كل سبيل فإليه يرجع الأمر كله، ولكن ما كل من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب، فسبيل السعادة واحد: { { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف:108]. وأما جميع السبل فغايتها كلها إلى الله أولاً ثم يتولاه الرحمن آخراً، ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه.
وهذه مسألة عجيبة قلّ من استقام عقله عند سماعها، ودرك معناها، ووصل فهمه إلى نيل فحواها، لكن المقصود من بيان هذه ونظائرها ليس كل من له صلاحية المخاطبة العرفية دون المكاشفة الذوقية، بل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإن كان نوع من الانتفاع عام لغيره، أو لا ترى أن الخطاب في الكلام المجيد شامل لكل أحد والفهم يختص بمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه؟ لقوله تعالى:
{ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [آل عمران:7] - في قراءة الوصل - والدليل عليه قوله تعالى: { { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } [العنكبوت:49]. وقوله: { { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ق:37]. وقوله: { { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ } [النمل:80]
وكما أنّ الأذواق مختلفة في الانتفاع والالتذاذ بالأرزاق الصورية والأغذية الجمسانية بحسب سلامة القوة الذوقية ومراتب البعد من الأمراض والمحذرات المزاجية، كذلك الفهوم والمدارك مختلفة في الانتفاع والاستمداد بالأرزاق المعنوية والأغذية الروحانية بحسب سلامة الفطرة عن الأمراض الباطنية ومراتب خلوص القلب عن الوساوس الوهمية والتعلّقات النفسانيّة. لقوله تعالى في حقّ الكل:
{ { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } [النحل:71] وقوله في حق الأنبياء: { { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة:253] وقوله: { { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [البقرة:253] وقوله في حق الملائكة: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات:164].
فظهر أن مشارب الناس وحظوظهم مختلفة، وأذواقهم متفاوتة في باب الأخذ عن مشارع العلم ومنابع الحكمة
{ { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269] { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40].
المقالة الثانية
فيما يتعلق بقوله سبحانه: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }
وفيه مشارع:
المشرع الأول
في نظمه بما سبق وما لحق
إعلم أن الغاية القصوى في القرآن عاماً وفي هذه الآية خاصة توحيده تعالى ذاتاً، وصافتاً، وأفعالاً، إذ به يرتقي الإنسان من أسفل سافلين إلى أعلى عليين. وبحسب مراتب التوحيد له تعالى يكون تفاوت درجات الموحدين قرباً وبعداً وكمالاً ونقصاً، وفضيلة ورذيلة، وشرافة وخسّة، قربَّ موحّد فاز بتوحيد الذات الواجبية بوجه ولم يفز بتوحيد الصفات والأفعال كأكثر المتكلمين وهم أصحاب أبي الحسن الأشعري، وربَّ فائز بتوحيد الذات والصفات دون الأفعال كجمهور الفلاسفة القائلين بعينية الصفات للذات، المثبتين للوسائط الجاعلات، والعلل المؤثرات الموجبات، وهو نوع من الشرك إلاّ أن محققيهم مطبقون على أن الفاعل الحقيقي هو الحق تعالى والوجود معلول له على الإطلاق، والوسائط معدَّات وميهئات، وسوابق ومقدمات، قدمها الباري بمقتضى نظمه البديع، وحكمته الأنيقة، لا أن لها دخلاً في التأثير والإيجاد بل في التهييء والإعداد.
إذا تقرر هذا فنقول: قوله "الله" إشارة إلى توحيد الذات، وقوله { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } إشارة إلى توحيد الصفات، وقوله "الحيّ القيوم" إشارة إلى توحيد الأفعال.
أمّا بيان الأول: فلأنّ معنى اسم "الله" كما علمت هو الذات المستجمعة للصفات الكمالية الذاتية الوجوبية، ولا شبهة في أن التركيب من الأجزاء ينافي الوجوب الذاتي لكونه مستلزماً لافتقار المركب إلى كل واحد من الأجزاء، والافتقار ناشئ عن النقصان والإمكان الذاتيين، وهما منافيان للكمال والوجوب الذاتيين، فمعنى الإلهية المستلزمة لكون الشيء مبدأ سلسلة الوجود والإيجاد ينافي التركيب المستلزم للحاجة.
وأمّا بيان الثاني: فلأنّ التعدد في الصفات الكمالية الإلهية يسلتزم التعدد في وجود الذات لافتقار كل صفة إلى موصوف، ولكون كل صفة لشيء فرع وجود ذلك الشيء فيلزم من تعددها تعدده - ولو بحسب العقل - فلو تعددت الصفات الخاصة بالواجب تعالى - كالإلهية للعالَم، والقادرية على ما يشاء، والعالِمية بجميع الأشياء - يلزم تركب كل من الذات والصفة، والتركيب ينافي الإلهية - تنافي الإمكان للوجوب -.
لا يقال: التركيب والتعدد في مجموع الذات والصفة لا ينافي بساطة الذات، والواجب الوجود هو الذات فقط دون المجموع من الذات والصفة.
لأنا نقول: الكلام في الصفات الكمالية، فإذا لوحظ وجود الذات بحسب نفسه وقطع النظر عن ما يزيد عليه "أهو موصوف بالصفة الإلهية الكمالية أم لا؟" لا سبيل إلى الثاني وإلاّ لزم افتقاره إلى الغير في كمال ذاته، ولم يكن أيضاً مبدأً لسلسلة الممكنات كلها سواء كانت صفاتاً أو أفعالاً والبرهان قد دلّ على وجود أمر بسيط تفتقر إليه الأشياء - هذا خلف - فهو بنفس ذاته المقدسة إله ومبدأ للكل، فمقوّم ذاته هو بعينه مقوم إلهيته وكذلك سائر الصفات التي تستوجبها الإلهية وتسحقها الواجبية - من الوجود والعلم والقدرة والإرادة - فيجب أن يكون مصداق حملها جميعاً على ذاته نفس هويته البسيطة من غير تركب وتعدد، لا باعتبار مغايرة الصفات، ولا باعتبار المغايرة بينها وبين الذات.
وبالجملة تأكد الوحدة في الذات الواجبية يستلزم استحالة التعدد في الصفات الإلهية مطلقاً، سواء كان مع تعدد الموصوف عيناً كفرض إلهين منفصلين، أو عقلاً فقط كفرض صفات واجبة متعددة لموصوف واحد كما ذهب إليه الصفاتيون تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
واعلم أن الفساد والاستحالة في هذا الشق أشنع وأفحش والظلم فيه أشد عندي إذ يلزم فيه فوق ما يلزم في الأول - من التركيب اللازم للتعدد المنافي للوجوب - شيء آخر، وهو خلو الواجب في حدّ نفسه عن الواجبية والصفات الكمالية بحسب أول الوضع، وهي مفسدة مختصة بهذا الشق دون الشق الأول إذ لأحد أن يفرض واجبين يكون صفات كل منهما عين ذاته إلى أن يقوم البرهان على استحالته، والبرهان وإن جميع بينهما في هذه الاستحالة أيضاً لكن بحسب التأدية والاستجرار، لا بمقضى الوضع صريحاً من أول الأمر.
وكما أن فوق كل ذي علم عليم إلى أعلم العلماء وهو صاحب القوة القدسية فكذلك تحت كل ذي جهل جهيل إلى أجهل الجهال وهو الجاهل بلزوم أحد النقيضين للآخر إذ لزم من أول الوضع، وإن كانت جميع الجهالات مشتركة في التأدية إلى الجهل بوضع شيء بعينه مع نقيضه، ومتفاوتة مراتبها بحسب مراتب سرعة التأدية وبطئِها، وطول مسافة المقدمات وقصرها إلى النتيجة، فالرسوخ في الجهل يتحقق إما بعدم التفطّن بفساد الشيء البيّن الفساد مع الإصرار به - وهذا هو الغاية - أو بعدم العلم باندارج الأكبر للأصغر مع قلّة الحدود والوسائط بينهما مع اعتقاد نقيض النتيجة، وفي مقابله الرسوخ في العلم وهو سرعة التفطن بالنتيجة مع كثرة الحدود والمبادئ الذي يقال له: "الحدس الشديد" وغاية القوة القدسية التي للأنبياء والأولياء.
وعدم الرسوخ في كل منهما يعرف بمعرفة الرسوخ فيه إذ مراتب كل منهما، لكونهما وجودين متقابلين مختلفة شدة وضعفاً ورسوخاً وفتوراً.
وأما بيان الثالث: فلأن "القيّوم" لكونه صيغة مبالغة يدلّ على كمال الاستقلال في التقويم والإيجاد شدة وعدة، فلو كان في الوجود فاعل آخر - سواء كان تاماً في الفاعلية أو ناقصاً مبايناً أو مشاركاً للأول - يلزم خلاف المفروض وهو كونه تعالى ضعيفاً في الفاعلية قاصراً فيها.
أما على تقدير كون الثاني تاماً في الفاعلية والإيجاد، فلأنه يلزم أن يكون بعض الممكنات خارجاً عن صنعه وإيجاده، فلم تكن قدرته شاملة له لامتناع توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد معيّن، فيكون عدد مقدوراته ناقصاً يمكن الزيادة عليه، فلم تكن قيوميته في الغاية بحسب العدد.
وأما على تقدير كون الثاني مشاركاً له في الفاعلية - سواء كان جزءاً أو معيناً أو معداً، أو آلة، أو سبباً غائياً، أو مصلحة، أو انتظاراً لفرصة، أو غير ذلك - لم يكن بحسب ذاته قوياً (قيّوماً - ن) على ما تقوى عليه ذاته مع الشريك.
فقيوميته تدلّ على أن لا فاعل غيره، كما أنّ ذاته تدلّ على أن لا واجب سواه لقوله:
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران:18].
فهذه العلوم الثلاثة التوحيدية - أعني توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال - أعلى طبقات العلوم، وأعلى هذه وأشرفها هو علم الذات، ثم علم الصفات، ثم علم الأفعال، ولهذا وقع بهذا الترتيب في قوله تعالى: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } وكذا وقعت الدلالة على هذه العلوم الثلاثة في قوله سبحانه:
{ { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة:163] بهذا المنهج، فإن قوله "إلهكم إله واحد" توحيد للذات، وقوله "لا إله إلاّ هو" توحيد الصفات على ما قررناه وقوله "الرحمن الرحيم" أي رحمن الدنيا ورحيم الآخرة توحيد الأفعال.
هذا طريق التدرّج في مسلك الإلهية.
وأما طريق التدرج في مسلك العبودية فبعكس هذا الترتيب، وهو الترقي من الأفعال إلى الصفات، ومن الصفات إلى الذات، فكما أن طريق الإلهية يقتضي التدرج النزولي إلى أدنى المراتب
{ { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق:16] "أنا عند المنكسرة قلوبهم، أنا عند المندرسة قبورهم"لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط إلى الله" وذلك لأنّ كمال النورية والظهور يوجب كمال القرب والدنو، ألا ترى أنه إذا كان في سطح واحد سواد وبياض ترى البياض لوضوحه أقرب، والسواد لخفائه أبعد، ففي طريق العبودية يقع التدرّج الصعودي إلى أعلى المراتب، وهو مقام العندية "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل".
فوقع بيان هذه المراتب في كلام الله تعالى على سنّة الإلهية كما علمت وفي كلام الرسول (صلّى الله عليه وآله) على سنّة العبودية، حيث قال:
"أعوذ بعفوك من عقابك" فهذه ملاحظة توحيد الأفعال ثم قال: "وأعوذ برضاك من سخطك" هذا بملاحظة توحيد الصفات، ثم قال: "وأعوذ بك منك" هذا بملاحظة توحيد الذات فلم يزل إلى القرب يترقّى من طبقة إلى طبقة ومن مرتبة إلى مرتبة في الشرف والقرب حتى انتهى إلى النهاية، ثم عند النهاية اعترف بالعجز والقصور، لأنّ الذات الأحديّة ليس لأحد فيها قدم، فقال: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
فهذا أدق العلوم وأشرفها، ومثله في الشرف والغموض علم الآخرة وعلم المعاد وهو متصل بعلم المعرفة.
هذه العلوم الأربعة قد أودعنا في بعض كتبنا ورسائلنا شيئاً من مجامعها وأوساطها دون القدر الذي رزقنا منه مع قصر العمر، وطول الشواغل، وقلّة الأعوان والرفقاء، وكثرة الأضداد والمعاندين، ولم يشبع الكلام حسب ما جعله الله قسطي لأنه مما تكلّ عنه أكثر الأفهام ويستضرُّ به الضعفاء وهم أكثر المترسمين بالعلم وإني ما رأيت في مدة عمري هذا وقد بلغ سنُّه إلى نيف وأربعين من عند خير من علم الآخرة على وجه يطابق القرآن والحديث، وعمل بمقتضى الكشف الصحيح بل قل من العلماء من أحكم ظواهر العلوم الحقيقيّة ومبادئها فضلاً عن أواخرها وأقاصيها، حتى ارتاضت نفسه، واستقامت على سواء السبيل، فلم يبق له طلب وشوق إلاّ إلى الحق، وحرام في العلم الأول الواجبي والقضاء السابق الإلهي أن يرزق شيء من هذه العلوم الأربعة خصوصاً معرفة الذات وعلم الآخرة، إلاّ مع رفض الدنيا، وطلب الخمول، وترك الشهرة مع فطنة وقّادة، وقريحة منقادة، وذكاء بليغ، وفطرة صافية، وحدس شديد.
المشرع الثاني
في قراءة التهليل
إعلم أن "لا إله إلاّ هو" بالمدِّ، وكذلك جميع التهليل. روى الهاشمي عن ابن كثير المد الطويل مع أنه من جملة القرّاء الذين يقصرون المدَّات المنفصلة وهي التي تحصل حيثما يكون حرف المدِّ في كلمة وسببه وهو "الهمزة" في كلمة أخرى، وذلك لورود الأثر في باب المدِّ لهذه الكلمة، وهو ما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"من قال لا إله إلاّ الله ومدّها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر" .
ومن العجب أن بعض المتشفعين (المتقشفين - ن) المعلنين بالذكر في المجالس استدلوا بمثل هذا الحديث على فضيلة الجهر ورفع الصوت في الذكر، والصياح في الدعاء والنداء وهو ظن فاسد ووهم كاسد، وقد ورد في القرآن ما ينادي بخلافه كقوله تعالى: { { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [الأعراف:205] ومثل ما ورد في الحديث عن النبي "خير الذكر الخفي، وخير العبادة أخفاها، وخير المجالس أوسعها" الحديث.
قال بعض أصحاب القلوب: يا رافع الصوت بالدعاء، ويا جهوري الصياح في النداء أمِنَ الضرب تتألم أو مع أكفائك تتكلم؟ أقسّام جهل قسمك؟ أم رزاق نسي اسمك؟ سبحان اله عمّا يصفون وتعالت ذاته عمّا يشركون، أنام من خَلَقَ الأَنام؟ أتظنون أن لا تأكلوا أرزاقكم دون أن ترفعوا أصواتكم انتهى.
ثم لا شبهة في أن لسان الحال أفصح، ورواح الرحمة أبسط وأفسح، وفائدة الذكر والتهليل هو القرب من الحق الجليل، وهو إنما يحصل بمكالمة الباطن بلسان الحال دون مقارعة الأسماع بآلة الاصطكاك بالمقال، وكلما كانت العبادة اسرَّ وأخفى فهي أبعد عن شائبة الرعونة والرياء، ولهذا المعنى اختار المخلصون من أهل الله والسالكون سبيل العبودية الخلوة عن الخلق للذكر والمناجاة، وآثروا العزلة عن الناس حذراً عن الوسواس، واستوحشوا من رؤيتهم خوفاً عن مزاحمة الأغيار، بل لا يحتملون الهمس من الخفيف في أوقات انزعاجهم إلى الحق، كيلا يشوَّش حالهم ولا يتكدّر عيشهم ومنالهم.
هذا حال المريدين السالكين قبل الوصول، وأما عند تحققهم بالوجود البقائي بعد تمام حركاتهم ذاهبين إلى ربهم أولاً ثم ذاهبين فيه أخيراً فلا يتفاوت عندهم الخلوة والجلوة، والإسرار والإظهار، بل ربما كان لهم ولغيرهم في الجهر والإعلان مصلحة دينية وحكمة شرعية ترجع إلى نفس الإنسان بشخصه أو إلى إصلاح مدينة فاضلة كما في الجمعة والجماعات والأعياد والجيوش، وحيث ما ورد في الشرع الأقدس من استحسان رفع الصوت والإعلان كما في الأذان وفي مواضع من الصلوات المكتوبة وغيرها.
ويناسب ذلك ما روي عن أهل الشرائع القديمة أنهم ندبوا في شريعتهم إلى رفع الأصوات بالأذكار في معابدهم، وكذا ما قاله بعض قدماء الحكماء: ارتفاع الأصوات في بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويَّات يحلُّ ما عقدته الأفلاك الدائرات والكواكب السائرات.
وما قال بعض أرباب القلوب في بعض مخاطباته للنفس: "أذكري أيتها المدينة الفاضلة ربّك بأصواتك المتجامعة والصياح، والتفخيم، والتعظيم، ما أبهاك يا مدينة تحيي بذكر الله أسواقها ومشارعها وسككها وبيوتها وسطوحها عند بلوغ رأس النيّرات إلى مراسم التسبيح، وكبّري تكبيراً جهرياً تهزم به جنود الشيطان، وتقهر عبدة الطاغوت، وترعد خبيثات النفوس، وتهز الأرواح وتحرّك الأشباح الصيحة الجمهورية فريضة في كتاب الله المسطور بالبنان".
وبما قررنا ظهر أن كلاًّ من الجهر والإخفات، والإعلان والإسرار مستحسن بوجه وحيثية، واندفع التدافع الذي يتراءى بحسب الظاهر بين ما ورد في باب كل منهما من الاستحسان والاستهجان، وذلك لأنَّ ملاك الأمر في أعمال العبد وأفعاله النيّة الخالصة، والتوجه التام إلى معبوده والإقبال بالكلية إلى مقصوده، إذ العبادة والعمل بدون الإخلاص في النيّة معطّل ومهمل، كجسد لا روح فيه وبذر لا ثمرة منه، كقوله تعالى:
{ { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة:5]. فالأمر إنما تعلّق بالعبادة بهذا الوجه.

فإذا كان تمام العمل بالإخلاص فالإنسان ما دام في هذه النشأة الدنيوية ولم يطلق روحه عن أسر هذه القيود الجسمانية لا يأمن عمّا يشوش روحه ويبعدها عن حاق النية الإلهية، فيحتاج غالباً في أوقات انزعاجه إلى الحق إلى العزلة والخلوة والاستيحاش عن الخلق، والإسرار في العبادات والأذكار، تخلصاً عن فتنة السُّمعة والرياء في الإظهار، وتحفظاً على إدامة مراسم العبودية لله الواحد القهّار، وإقامةً لوظائف المذلة والتواضع والانكسار، تقرّباً إلى العزيز الغفّار لقوله: "أنا عند المنكسرة قلوبهم".
وأما إذا قوّى روحه بالعلم والعمل واستحكم أساس معرفته وإيمانه بالله عز وجل، وفنى نفسه عمّا سوى الله بحيث يكون وجود الدنيا وما فيها في نظر شهوده كظلّ وفيء - بل كلا شيء - فلا يتغير حاله عند تغيّر الأحوال، ولم يبرح عمّا هو عليه في كل حال فالأحسن لمثل هذا الإنسان أن يبرز من مكمنه ويظهر للخلق مرتبته وحاله ليتأسّوا به ويتبرّكوا بوجوده، ويتقيّدوا به في طريق السلوك، والعبادة، والطاعة، وهكذا كان دأب أكابر العلماء والمجتهدين في البداية والنهاية.
المشرع الثالث
في حقيقة الوحدة المقصودة من كلمة التهليل
إعلم أنّ لفظ "الواحد" قد يكون اسماً وهو الواحد بما هو واحد، وقد يكون صفة وهو الشيء الواحد.
فالأول: هو الذي يتقوم منه العدد بتكريره.
والثاني: كقولك: "شخص واحد" وربما يوجدان في أمر واحد باعتبارين كعشرة واحدة فإن الوحدة العارضة للعشرة غير الوحدات التي تتقوّم هي منها.
ومطلق الوحدة معناه أنه لا ينقسم من جهة ما يقال إنه واحد، فالإنسان الواحد يستحيل أن ينفسم من حيث هو إنسان إلى إنسانين، لأنّ صرف الشيء وحقيقته لا يكون إلاّ معنى واحداً، فكلما فرضته ثانياً له، فإذا نظرت إليه فهو بعينه هذا ولا يفارقه إلاَّ لمعنى آخر غير حقيقته، فالإنسان ينقسم إلى أبعاض وأجزاء ليس شيء منها إنساناً، أو إلى جزئيات وأشخاص ليس تعددها في نفس الإنسانية بل بأمور عارضة ومشخصات لاحقة لنفس مهيّتها، وذلك من جهة أخرى.
ومن هاهنا يعلم ويتحقق أنَّ الوحدة لازمة لكل حقيقة ولكل مهيّة، والكثرة أمر لاحق لها من الخارج، كما أنَّ الوجود فاشٍ منبسط على كل شيء (عام منبسط لكل شيء) من الأشياء حتى اللاَّوجود، فإنَّه من حيث له مفهوم ذهني له نحو من الوجود العقلي، إذ هو بهذه الحيثية شيء من الأشياء لا باعتبار أنَّه سلب للوجود، بل المعدوم المطلق، والمجهول المطلق لكل منهما عنوان في الذهن بحمل ذلك العنوان على نفسه بالحمل الأولي الذاتي - وإن لم يحمل بالحمل الشايع الصناعي لا على نفسه ولا على غيره لكن يحمل على نفسه نقيض ذلك المفهوم، وهو الموجود في الجملة والمعلوم بوجه ما - فكذلك الوحدة لشمولها وانبساطها تصدق على نفسها وعلى مقابلها أي الكثرة حيث يقال "كثرة واحدة" و "عدد واحد" كما مرّ.
فالوحدة والوجود كأنَّهما رفيقان متصاحبان أينما تحقق أحدهما تحقق الآخر، بل الكشف والبرهان يحكمان بأنهما أمر واحد ذاتاً وحقيقة.
وما قيل: من أن الوحدة تغاير الوجود لأنّ الوجود ينقسم إلى الواحد والكثير والمنقسم إلى شيئين مغاير لما به الانقسام.
فالجواب: أن الكلام ليس في أن المفهوم من "الوحدة" عين المفهوم من "الوجود" لأنه مستبين الفساد، وإلاَّ لكانا مترادفين، ولكان قولنا: "موجود واحد" غير مفيد لكونه بمنزلة قولنا: "موجود موجود" أو "واحد واحد" ولكان قولنا: "موجود كثير" تناقضاً والتالي باطل فكذا المقدم بل المقصود أنَّ حقيقة الوحدة عين حقيقة الوجود، وكل نحو من أنحاء الوجود عين نحو من أنحاء الوحدة فحينئذٍ نقل: المقسم في هذا التقسيم مفهوم الوجود المطلق العام لا حقيقته الخاصة، فكما أنَّ الوجود بالمعنى العام ينقسم إلى الواحد والكثير فكذا الوحدة بالمعنى العام الشامل للواحد الحقيقي والكثير الحقيقي تنقسم إليهما؛ لما سبق أنَّ الواحدة مما يعرض للكثرة.
وبيان ذلك: أن الموجودات متفاوتة في درجات الوحدة، كما أنها متفاوتة في فضيلة الوجود، وكما أن أحق الجميع بالموجودية الوجود القيّومي، إذ هو صرف الوجود الذي لا يتصور فيه عدم بوجه من الوجوه أصلاً، لكونه موجوداً بجميع الاعتبارات، واجباً على جميع التقادير وجوباً أزلياً أبدياً، وضرورة ذاتية أزلية - بخلاف سائر الضرورات الذاتية، أو الوصفية لتقيدها بما دام الذات أو ما دام الوصف - وبعده الوجودات العارضة للمهيات - على تفاوت مراتبها - فإن صدق الموجودية لها ضرورية مقيدة بما دام الوجود بإدامة الجاعل التام إياها، ثم نفس المهيات الممكنة المعروضة للوجود في الخارج، ثم الذهنيات الصرفة والفرضيات الكاذبة.
فكذلك أحق الأشياء بالوحدة نفس الواحد بما هو واحد، الذي صدقُ الواحد عليه بالضرورة الأزلية فهو الواحد الحقيقي الذاتي الأزلي، ثم الوحدات الحقيقية العارضة للبسائط أو للمركبات من جهة صورتها الطبيعية التي هي جهة وحدتها، ثم الأمور التي لها كثرة حقيقية ولها وحدة جمعية اشتراكية من جهة أُخرى، وتلك الجهة إمَّا مقوِّمة أو عارضة، أو لا هذا ولا ذاك.
فالأول: قد يكون جنساً لكثير كاشتراك الإنسان والفرس في الحيوان، وقد يكون نوعاً كاشتراك زيد وعمرو في الإنسان، ويساوقه الاتحاد في الفصل أيضاً.
والثاني: قد يكون محمولاً لها وهو الواحد بالمحمول كالقطن والثلج المتحدين في الأبيض المحمول عليهما، وقد يكون موضوعاً كالكاتب والضاحك المتحدين في الإنسان المحمولين عليه.
والثالث: وهو الواحد بالإضافة إلى شيء واحد.
ثم المشاركة في المحمول إن كانت في النوع تسمى "مماثلة" وفي الجنس "مجانسة" وفي الكيف "مشابهة" وفي الكم "مساواة" وفي الوضع "مطابقة" وفي الإضافة "مناسبة".
وجهة الوحدة في هذه الأمور المذكورة إذا قيست إلى نفسها وإن كانت وحدتها حقيقية بالمعنى الأعمّ لكنها ليست في مرتبة واحدة من الكمال، لأنّ وحدة الجنس ليست كوحدة النوع، ووحدة الإضافة ليست كوحدة الذاتي المقوِّم وإن كان الجميع عقليات لا وجود لها في الخارج بخلاف الوحدة الشخصية لأنها خارجية، ثم الواحد الشخصي الذي لا ينقسم أصلاً أحق بالوحدة من الذي ينقسم بوجه.
والثاني: أيضاً على مراتب، فإنه قد يكون واحداً بالاتصال وهو الذي ينقسم بالقوة إلى أجزاء متحدة في تمام الحقيقة انقساماً لذاته كالمقدار، أو لغيره كالجسم الطبيعي الواحد البسيط، وقد يكون واحداً بالتركيب والانضمام وهو ما يكون كثرته بالفعل، ويقال له: "الواحد بالاجتماع"، وذلك على ضربين: "تام" إن حصل فيه جميع ما يمكن حصوله فيه، "وغير تام" إن لم يحصل فيه ذلك، ويقال له "كسر" ويسميه الناس "غير واحد"، ثم التمامية إما بحسب الوضع كالدرهم الواحد، أو الصناعة كالبيت التام، أو الطبيعية كالإنسان التام الخلقة، والخط المستقيم لقبوله الزيادة إلى غير النهاية ليس بواحد من جهة التمام بخلاف المستدير إذا تمّت إحاطته بالمركز.
وأما الذي لا ينقسم في الخارج أصلاً - أي لا بالقوة كالمتصل ولا بالفعل كالمجتمع - فهو إما ذو وضع كالنقطة، أو غير ذي وضع كالعقل والنفس.
وإذا حققت الحقائق علم أن شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه، وشرف كل واحد بغلبة الوجود فيه، وإن لم يخل موجود ما عن الوحدة حتى العشرة في عشريتها، ولم تخل وحدة ما عن الوجود، كالأعداد الغير المتناهية والفرضيات العقلية، فكل ما هو أبعد عن الكثرة فهو أشرف وأكمل، وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إلى أقل.
فالأحق بالوحدة من أقسام الواحد الحقيقي بالمعنى الأعم هو ما لا ينقسم أصلاً لا في الكم ولا في الحدِّ، ولا بالقوة ولا بالفعل، ولا ينفصل وجوده عن مهيته بحسب العقل، ثم ما لا ينقسم في الكم أصلاً لا بالفعل ولا بالقوة وإن تصوّر انقسامه إلى أجزاء الحدِّ ذهناً، ثم الواحد بالاتصال، ثم الواحد بالاجتماع ثم الواحد العددي أحق بالوحدة من الواحد النوعي، لكون وحدته كوجوه ذهنية، وهو أحق من الواحد الجنسي لشدة إبهامه وعدم تحصّله، وكذا الأجناس يتفاوت ضعفها في الوحدة بحسب مراتب عمومها وإبهامها وبعدها عن الوحدة العددية الشخصية.
إنارة عقلية يزاح بها غشاوة وهمية
ولقائل أن يقول حسبما وجد في الكتب الحكمية الرسمية أن الوحدة مغايرة للوجود، لأنّ الكثير من حيث هو كثير موجود، ولا شيء من الكثير من حيث هو كثير بواحد، ينتج: فليس كل موجود بواحد. فإذاً الوحدة مغايرة للوجود، نعم يعرض لذلك الكثير وحدة وخصوصية لا أنه تعرض الكثرة لما عرضت له الوحدة.
فنقول له: إن أردت بالموصوف بالحيثيّة المذكورة في المقدمتين ما يراد منه في مباحث المهية لأجل التمييز بين الذاتي والعرضي فالصغرى ممنوعة لأنّ الكثير بهذا المعنى لا موجود ولا معدوم، بمعنى أن وصف الوجود ليس بعينه وصف الكثرة. وإن أُريد أن معروض الكثرة حين كونه معروضاً للكثرة أو بشرط اتصافه بها موجود سلمناها، لكن منعنا الكبرى إذ كما أنه موجود فهو واحد أيضاً، إذ ما من شيءٍ إلاَّ وله وحدة حتى الكثير في كثرته، فثبت أنَّ الوجود غير منفك عن الوحدة.
فإن رجع وقال بعد اختيار الشق الثاني: إنَّ الوحدة هاهنا عرضت للكثرة لا لِمَا يعرض له الكثرة فموضوعاهما متغايران، مثلاً العشرة عارضة للجسم والوحدة عارضة للعشرة من حيث أنَّها عشرة فهاهنا شيئان "الكثرة وموضوعها" فالكثرة للموضوع والوحدة لتلك الكثرة، فوحدة الكثرة لا تناقض وتلك الكثرة لعدم اتحاد الموضوع بخلاف وحدة موضوع الكثرة فإنها تنافي كثرته مع اتحاد الزمان، ولا تنافي وجوده فثبت المغايرة بين الوجود والوحدة.
فنرجع ونقول: قد مرَّ أنَّ الوحدة كالوجود على أنحاء شتّى وكل وحدة خاصة يقابلها كثرة خاصة، والوحدة المطلقة يقابلها الكثرة، كما أن الوجود الخاص الذهني أو الخارجي يقابله العدم الذي بأزائه، والعدم المطلق بأزاء الوجود المطلق، والدعوى أنَّ وحدةً ما عين وجودٍ ما بأي اعتبار أخذ.
فإذا تقرر ذلك فنقول: ما ذكره لا يدلّ على مغايرة الوحدة المطلقة للوجود المطلق، إذ الكثير المقابل له مما لا وجود له أصلاً، لأنّ كل موجود فله جهة وحدة ولو بالاعتبار، فموضوع الكثرة - كالرجال العشرة مثلاً من حيث كونهم عشرة - ليس لهم وجود غير وجودات الآحاد إلاَّ بالاعتبار العقلي لا في الخارج، وإلاَّ لم ينضبط شيء من التقاسيم، إذ كل ما ينقسم إلى شيئين اثنين فإذا كان موضوع الاثنينية موجوداً يكون منقسماً إلى ثلاثة أشياء، وهكذا ولم ينحصر أيضاً المقولات في شعر، إذ موضوع هذه العشرة لو كان موجوداً خارجياً لكان مقولة أخرى غير إحدى المقولات العشر فقد علم أنّ الكثير من حيث الكثرة لا وجود له إلاَّ في الاعتبار العقلي، وكما أنَّ للعقل أن يعتبره موجوداً فله أن يعتبره شيئاً واحداً فأتقن في هذا المقام لأنه مما زلّت فيه الأقدام.
إذا تقرر ما ذكرناه فنقول: إنّ الواحد الحق لكونه مبدأ سلسلة الممكنات يجب أن يكون وحدته هي الوحدة الحقيقية بالمعنى الأخص، بمعنى أن ذاته نفس حقيقة الوحدة بلا شوب كثرة واثنينية، إذ لو كانت الوحدة عارضة لذاته بذاته فلم تكن ذاته من حيث هي هي واحدة، ويكون الواجب في اتّصافه بالوحدة مفتقراً إلى سبب وذلك السبب إما ذاته أو غيره.
فعلى الأول: يلزم أن تكون ذاته موجودة واحدة قبل هذه الوحدة، لكونها علة للواحد، وعلة الواحد واحدة، فينقل الكلام إلى الوحدة السابقة ويتسلسل أو ينتهي إلى سبب واحد يكون وحدته عين ذاته وهذا خلف مع أنه المطلوب.
وعلى الثاني: يلزم افتقار الواجب في وحدته إلى الممكن وهو محال، لأنّ الافتقار في الوحدة يسلتزم الافتقار في الوجود، إذ الشيء ما لم يكن واحداً متعيّناً لم يوجد، وأيضاً يلزم الدور في افتقار الواجب في وحدته إلى الممكن وبالعكس، لكون كل ممكن مفتقراً إلى علة تامة معيّنة، فثبت أنّ وحدة الواجب كوجوده عين ذاته، ومن هاهنا يظهر للبيب العارف أنَّ حقيقة الوجود وحقيقة الوحدة أمر واحد.
فإن قيل: هذا الكلام يتوقف على أمرين:
أحدهما: أنَّ الوحدة صفة ثبوتية.
والآخر: أنها متحققة في الخارج، ونحن لا نسلم كونها ثبوتية، لم لا يجوز أن تكون سلبية معناها نفي الكثرة؟ ولو سلمنا كونها أمراً ثبوتياً فلا نسلم أنها مما له ثبوت في العين - فضلاً عن أن يكون له صورة عينية - وذلك لأنه لو كانت للوحدة وجود عيني لكانت الوحدات متساوية في مهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلمَّ جرّاً، وذلك هو التسلسل المحال.
فالجواب: أما عن الأول فهو أنَّ المفهوم من الوحدة أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبياً كان سلباً للكثرة، فإن كانت الكثرة سلبية - وسلب السلب ثبوت - فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب، ولو كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى لها إلاَّ مجموع الوحدات، فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال، فثبت أن الوحدة صفة ثبوتية.
وأما عن الثاني: فلأنه لا يمكن أن يقال لا تحقق لها إلاَّ في الذهن لأنَّا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن يوجد ذهننا واعتبارنا.
فثبت أن كون مهية ما واحدة، صفة ثبوتية زائدة على تلك المهية قائمة بها مع قطع النظر عن الاعتبارات والنسب والحيثيات العقلية.
ثم إن كون الوحدة موجودة لا يستدعي إلاَّ أن تكون واحدة، أعم من أن تكون بنفس ذاتها أو بأمر عارض كما في سائر المشتقات - على ما هو التحقيق - بل وزان الأمر في الوحدة كوزانه في الوجود، فإنَّ كون الأشياء موجودة إنَّما يكون بالوجود، وكون الوجود موجوداً إنَّما هو بنفس الوجود لا بأمر زائد عليه لاستغنائه عنه، فكذا الحكم في كون الوحدة واحداً.
على أن المأخوذ في مفهوم المشتقات هو المعنى المصدري للشيء، وكلامنا في إثبات حقيقة الوحدة، أي ما به الشيء واحد، لا في الواحدية المصدرية، فإذا كان للوحدة حقيقة في الخارج لكانت واحدة، لكن لا يلزم أن تكون وحدتها بغير نفسها قياساً على الأشياء الواحدة التي حقيقتها أمر غير الوحدة فتحتاج في واحديتها إلى أن تقوم بها وحدة خارجة عن ذاتها، فوحدة الوحدة وراء ذاتها ليست إلاَّ واحديتها، كما أن وجود الوجود وراء حقيقته ليس إلاَّ نفس موجوديته، وبهذا يندفع التسلسل المذكور في مثل هذا المقام لأنَّ خطرات الأوهام لا تقف عند حدّ.
والعجب من بعض الحكماء كيف عول في نفي موجودية الوجود والوحدة وغيرهما على مثل ذلك البيان مع أنه قد حقق الكلام في باب حقيقة النور أنها ظاهرة بذاتها لا بضوء زائدة عليها، وكذا في الامتداد الجوهري الذي بنفس ذاته ممتد، وامتداد أجزاء الزمان بأنفسها تقدُّمات وتأخرات وذوات تقدم وتأخر.
وخلاصة القول إن للوحدة كالوجود معنيين:
أحدهما: أمر عام مصدري وهو كون الشيء واحداً.
والثاني: هو منشأ الواحدية وهو قد يكون عين ذات الشيء وقد يكون زائداً عليها، والواحد الحقّ من قبيل الأول لكونه أحقّ الأشياء بالواحدية، إذ الكثرة منشأ الإمكان والنقص والقصور، ومن ضرورة كونه واحداً حقيقياً كونه وجوداً صرفاً مقدساً عن المهية، وذلك لأنه لو كانت له مهية كلية لكانت وحدته وحدة مبهمة مشوبة بالكثرة والانقسام، ولم تكن الوحدة عين ذاته، لأنّ كل مهية - سواء كانت نوعية، أو جنسية - تكون الوحدة عارضة لها إذ المهية من حيث هي هي ليست واحدة ولا كثيرة، فثبت أن ما حقيقته الوحدة لا يمكن أن يكون ذا مهية كلية، فالواجب بحت الوجود ومحض الهويّة.
وبهذا ثبت معنى كلمة التوحيد فإنَّ معنى "لا إله إلاّ هو" على هذا التحقيق (التقدير - ن) "لا إله إلاَّ ما يكون ذاته هيوته" أي وحدته العينيّة (الغيبيّة - ن) الحقيقية بخلاف غيره من الأشياء التي تكون تعيّناتها زائدة على أعيانها الثابتة.
ثم من ضروريات كون الحقّ واحداً بهذا المعنى الذي يقال له "الأحديّة الصّرفة" كونه واحداً بمعنى "عديم الشريك" ويقال له "الواحدية" و"الفردانيّة" وذلك لأنّ الاشتراك في الإلهيّة والواجبيّة يوجب الاشتراك في الذات، إذ الصفات الكماليّة الواجبيّة قد مر أنّها عين الذات والاشتراك فيها اشتراك في نفس الذات فتكون وحدتها وحدة اشتراكية من قبيل الوحدة النوعيّة أو الجنسيّة وقد مرّ أن وحدة المهيّة الكلية وحدة عارضة، وأن حقيقة الوحدة لا يمكن أن تكون عارضة لشيء، فلو كان للواجب الحق شريك - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - يلزم أن تكون وحدته الحقة وحدة غير حقيقية، فيلزم الخلف.
وهذا نمط جديد في البرهان على التوحيد يستنبط من نفس كلمة التوحيد تحدسنا به إلهاماً من الله والتأييد، على أن لنا برهاناً عرشياً على هذا المطلب العالي الشريف لم يسمح (لم يسنح - ن) بمثله أحد قبلنا حيث لم يرد عليه شيء من الإيرادات والشبهات وخصوصاً الشبهة المشهورة المنسوبة إلى ابن كمونة الواردة على الدلائل المتداولة، قد كتبناه في أسفارنا الأربعة من أراد ذلك فلينظر فيها.
المشرع الرابع
في كيفية التوصل إلى معنى التوحيد الحقيقي وطريق السير إلى عالم الوحدة الحقة
إعلم أن النظر إلى مفهوم الوجود يؤدي إلى وجود قائم بذاته، واجب بنفسه، وإلاَّ لم يتحقق موجود ما أصلاً، لأنّ الوجود مهيّته أنّه في الأعيان، فإذا لم يكن ما هو في نفسه لنفسه بنفسه وجوداً موجوداً ثابتاً لم يكن لشيء من الأشياء وجود أصلاً، كما أنه لو لم يكن في الوجود نور في ذاته لم تكن لشيء من الأشياء صفة النورية أصلاً، إلاَّ أنه ليس من شرط كون الشيء نوراً أن يكون قائماً بنفسه بلا علة بخلاف كون الشيء وجوداً بنفسه فإنه يلزم أن يكون وجوداً صرفاً، مقدساً، أحدياً، بلا علة وفاعل، وغاية، وتركُّب، وتكثّر، وتحيّز، وتجسم وحلول، وتعلق، لأنه إذا ثبت وجوب الوجود، فهو يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقراً في شيء من الأشياء إلى شيء من الأشياء أصلاً، وإلاَّ لزمت فيه جهة إمكانية غير جهة الوجود - خارجة عن حقيقة الوجود - فيكون مركباً وكل مركب ممكن فلا يكون ما نفس حقيقته الوجود الصرف إلاّ ما كان في غاية الجمال والعظمة والجلال والإكرام، متبرئ الذات عن أنحاء التعلّق بشيء والتركب من شيء ثم لا ريب في أن من كمالات الجميل كونه عديم المثل والنظير، كما هو المشهور عند الجمهور.
وأما بحسب النظر العلمي فلأن الاشتراك مع الغير في الحقيقة مما يوجب الإبهام وعدم الاستقلال في التحصّل، وهذا ينافي كون الشيء وجوداً حقيقياً ذا هوية حقيقيّة، ويلزم تركب الوجود الصرف وهو خلاف المقدر.
هذا إذا كانت جهة الاشتراك أمراً مقوماً، وأما إذا كانت صفة حقيقية فهو أيضاً محال؛ لما مرَّ من أن حقيقة الوجود القائم بذاته كماله بنفس ذاته لا بأمر زائد وأما إذا كانت صفة سلبية أو إضافية فالسلوب والإضافات ليست في الحقيقة أشياء، يسلتزم الاشتراك فيها اشتراكاً في صفة كمالية، بل هي في الحقيقة سلب صفات، أو مجرّد أمور اعتبارية محضة هذا.
أقول: ومن تحقَّق معنى حقيقة الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجود الواجب تعالى ولا في أن واجب الوجود لذاته واجب الوجود في جميع صفاته الكمالية، ولا في أن واجب الوجود في جميع صفاته الكمالية واحد بجميع حيثياته فرد عن جميع اعتباراته - حتى عن حمل مفهوم الوحدة عليه، لأنّ طبيعة الحمل تقتضي الاثنينية ولو في العقل وهو منحط عن درجة الأحدية وعن تصور ذاته.
وهاهنا حالة عجيبة فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة.
فاعرف هذه الأسرار؛ لتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار، وتفوز بمقامات الأبرار، وتستغرق في بحار عالم الأنوار؛ بشروق نور الواحد الجبّار.
المشرع الخامس
في نفي أنحاء الشركة عن الواحد الحقيقي مطلقاً
لمَّا تحقق وتقرّر كونه تعالى واحداً بنفس ذاته في أعلى مراتب الوحدة فلك أن تقول إنه لا مماثل له في ذاته، ولا مجانس له في حقيقته ولا مشابه له في صفاته، ولا مقارن، ولا مكافئ ولا مساوي، ولا مطابق ولا مناسب ولا مع، لأنّ كلاًّ من هذه المعاني يعرض لما يعرض له الكثرة مع جهة وحدة ما ناقصة كما علمت، على أن المماثلة والمجانسة تعرضان لما له ماهية كلية ونوعية أو جنسية - وحقيقة الوجود متقدِّس عنه - والمشابهة والمضاهاة تعرضان لما له كيفية قائمة به وصفة كمالية زائدة عليه - والحق تعالى إنما يتجمّل بذاته ويتزين بنفسه لا بأمر آخر صفة كانت أو غيرها، والمساواة والمحاذاة تعرضان لما له تكمّم وتقدر والمطابقة تعرض لما له وضع وتجسم - والله تعالى منزه عن أن يكون جسماً أو جسمانياً - والمناسبة تعرض لما له إضافة يتحد معه غيره فيها وإضافته تعالى إلى الأشياء ليست إلاَّ قيوميّته لها وحيث لا قيّوم سواه فلا مناسب له أصلاً، والمعية والاقتران يعرضان للزماني المتحد مع آخر في الزمان أو المكانيِّ المتحد مع غيره في المكان، والمكافأة تكون بين شيئين متفقين في درجة الوجود وفي رتبة العلية والمعلولية وما سوى الحق الأول معلول له إما بواسطة أو بغير واسطة والمعلول لا يكون في درجة الوجود مع علته.
وقس عليه جميع أنحاء الاشتراك والاتحاد، وقدس الحق الأول عن كل وحدة غير حقيقية توجب نحواً من الشرك الخفي أو الجلي، وأزل عن قلبك رينها وشرها (شركها - ن) بصيقل هذا التوحيد كي يتجلى عنه غبار وجود الأغيار، ويتجلى له الحق الواحد القهّار.
فإذا علمت وتحققت هذا المقام ظهر لك أن المناسبات التي أثبتها بعض المتصوفة في حقه تعالى كلها أوهام مضلّة، فما أبعد من درجة التوحيد قول من توهّم من هؤلاء أنَّ نسبة الباري تعالى إلى العالم كنسبة نفوسنا إلى أبداننا وذلك لأنّ نسبة النفس إلى البدن ليست نسبة القيومية، بل نسبة التدبير والتصرف بالتعاون، فإنها وإن كانت مجرّدة عن المادة البدنية ذاتاً لكنها مزاولة لها فعلاً بمعنى أن لا تأثير لها في شيء من الأشياء إلاَّ بتوسط البدن بحسب الوضع كسائر القوى الجسمانية التي تتوسط المادة بينها وبين آثارها بالوضع، بل نسبة النفس إلى البدن وقواه في هذا العالم كنسبة صاحب السفينة إلى السفينة وآلاته في البحر لأنها مما تحتاج إليها للجري في بحر الطبيعة لاقتناص جزيات هذا العالم لتنتفع منها وتتزوّد بها في سفر الآخرة وتتّجر بها تجارة لن تبور - وهي أن تسعد للقاء الله تعالى ورضوان منه - وأيضاً الارتباط الذي هو بين النفس والبدن ارتباط تعلقي يوجب تأثر كل منهما عن صاحبه وافتقاره إليه بوجه يحل منهما نوع واحد طبيعي والله تعالى مقدَّس عن لحوق معنى التأثر والانفعال به، متعال عن ذلك علوّاً كبيراً.
وأسخف من هؤلاء اعتقاداً وأردأهم مذهباً من ذهب إلى أن الحق تعالى ذات واحدة مصورة بصور مختلفة وهيئات متغايرة هي حقائق الممكنات وصورها - سبحانه سبحانه - هذا الذي تفوهوا به صفة الهيولى الأولى التي هي أظلم الذوات وأخسّ الموجودات وأكدرها، التي تكون لغاية النقص والخسّة والقصور فعليتها محض القوة والفاقة ووجودها أدون مراتب الوجود لكونها شبيهةً بالعدم واللاَّوجود، لأنّ وجودها هو استعداد وجود الصور وذلك كفر صريح، وأين هي من الله تعالى وهو محض الجمال، والفضيلة، والغنى والفعلية والوجوب
{ { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } [مريم:89-90] حيث يشّبهون مجمع الكثافة والظلمة برب العزة - تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً -.
وجماعة منهم زعموا أنّ الحق تعالى قوة سارية في جميع العالم من أسفله إلى أعلاه ويكون في كل شيء منشأ أثره الخاص، وهذا الذي افتروا به على الله هي الطبيعة الكلية السارية في الأجسام وأين هو من رب العزة؟ سبحانه سبحانه.
وجماعة منهم زعموا أنّ للعالم بجميع أجزائه ذاتاً واحدة متصرفة فيه مدبرة إياه مقلبة له كيف تشاء، وبها حياة كل جسم من الأجسام وحركته الإرادية وتشوقه إلى الديمومة والبقاء وقالوا: "إن الباري عزَّ اسمه هو نفس العالم التي بها حياته وحركته" ولم يهتدوا بأن هذه صفة النفس الكلية للجسم الكلي فإن العالم بجميع أجزائه حيوان له نفس واحدة كلية هي مجموع النفوس، وهذه النفس هي عبد من عباده تعالى عالمها عالم اللَّوح والقدر - وقد مرَّ أن الله تعالى منزّه عن هذا الوهم تنزيهاً عظيماً -.
وجماعة زعموا أن للعالم نوراً كلياً محيطاً به علوّاً وسفلاً يحرّك النفوس على سبيل التشويق والإمداد، وبه يستفيد الإنسان الكمالات من العلوم والمعارف والإلهامات وهذه النسبة أيضاً مما يجب تنزيه الحق عنها، لأنها صفة عبد من عباده - وهو العقل الكلي الذي هو أول ما خلق الله. قال له: "أقبل" فأقبل ثم قال له: "أدبر" فأدبر. هو قلم الحق، عالمه "عالم القضاء الإلهي" وهو الممكن الأشرف، والعبد الأعلى، والمخلوق الأعظم، لأنه تعالى قال:
"فبعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعظم منك، فيك أُعطي وبك آخذ وبك أُثيب وبك أُعاقب" - كما وقع في الحديث النبوي (صلّى الله عليه وآله).
وكونه أشرف الممكنات لا يضاد كون محمد (صلّى الله عليه وآله) أشرف المخلوقات - حتى الملائكة المقرّبين - وذلك لأنّ حقيقته هي الحقيقة المحمدية، فهو عند الإقبال والبداية عقل أول هو أول الجواهر والعقول، وقائد سلسلة العلة والمعلول، وفاتح باب الرحمة والجود، وواسطة فيض الحق في الوجود. وعند الإدبار والنهاية عقل آخر هو زبدة العناصر والأصول وخاتم كل نبي ورسول، وثمرة شجرة عالم الأضداد، وسائق العباد إلى منزل الرشاد ودرجة السداد، وهادي الخلق إلى رضوان الله الملك الحق والمعبود المطلق.
فثبت وتحقق أنَّ الحق تعالى كما أنَّه واحد فرد في ذاته، فكذلك في جميع صفاته وإضافته وسلوبه؛ لأنّ جميع صفاته الحقيقية ترجع إلى صفة واحدة هي وجوب الوجود، الذي هو عبارة عن الوجود المتأكد الصرف القائم بذاته وكذلك جميع إضافاته من القادرية، والعالمية، والرزاقية، والمبدأية، والسببية، والتقدم، ترجع إلى إضافة واحدة هي قيوميته تعالى للأشياء على الوجه الذي يعرفها الكاملون في المعرفة والراسخون في العلم، وكذا سلوبه - كسلب الجوهرية، والجسمية، والتحيّز، والحلول، والعجز، والفتور، والتقصير، والتغير - كلها ترجع إلى سلب الإمكان مطلقاً - كما يظهر لمن تدرب في الصناعة العلمية.
فإذ لا شريك له في هذا السلب فلا شريك له في السلوب كلّها، وإذا لا شريك له في قيّوميته تعالى فلا شريك له في الإضافات كلها، فهو واحد فرد في ذاته، وجماله، وأفعاله، وجلاله.
فظهر أنّه سبحانه كما أنَّه منزّه عن المثل والشبيه فهو منزّه عن المثال والنظير، فما حكم به الغزالي وغيره "أنه تعالى منزه عن المثل لا عن المثال" محل نظر، نعم هذه الأمثلة الواقعة في القرآن المبين والحديث المتين وكلام أكابر الدين والأئمة المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين - الجارية في حق الله عند تفهيم الخلق وتقريب أفهامهم لدرك حقيقة نسبته تعالى إلى العالم وكيفية نظمه للموجودات، وحكمته، وصنعه للأشياء، وإن لم يكن شيء منها مثالاً له بالحقيقة - لعدم اتحاد شيء من الأشياء معه تعالى في إضافاته ونسبه إلى ما سواه - لكن كل منها شبيه بالمثال لكونه مقرباً من وجه، فإطلاق المثال عليه من باب الإطلاق على الشيء باسم شبيهه.
فإذا حقّقت الأمر واستقمت في توحيده تعالى على هذا الوجه المستدعي لتقديسه وتنزيهه من الاثنينيّة والشركة في الإضافات - بل في السّلوب أيضاً - فقد صرت من الفائزين بكرامة التحقيق واليقين، السالمين عين شين الظن والتخمين، ولهذا المعنى قيل: "التوحيد إسقاط الإضافات".
وهذه المرتبة من التوحيد تفضي السالك إلى مقام يقصر عنه البيان ولا يفيد إلاَّ المشاهدة والعيان، دون المشافهة مع العميان، ومن كشف له الغطاء صار حيران، ومن طبع على قلبه وحرّم على طبعه منيَ بالخذلان، وبَعُدَ عن حقيقة الإيمان، وانحطّ عن درجة الإيقان وكل ميسَّر لما خلق لأجله متهيئ لسلوك منهجه وسبيله.
المقالة الثالثة
فيما يتعلق بقوله سبحانه { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }
وفيه فصول:
الفصل الأول
في مفهوم هذا الاسم واشتقاقه
أما المفهوم من "الحيّ" فقيل: الحي هو الذي يصحّ أن يعلم ويقدر. أو الدراك الفعال.
فأورد عليه: أنَّ هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخسّ الحيوانات إياه في ذلك.
ويمكن الجواب بأن مفهوم "الإدرااك" و"القدرة" مما يقبل الأشدَّ والأضعف، والمقول بالتشكيك مما يختلف صدقه على الأشياء بالكمال والنقص، والأولوية وعدمها - وفي كل بحسبه - و "العلم" في حق الحيوان يكون هو الإحساس، وفي حق الحق التعقل. وكذا "الفعل" في الحيوان يكون من باب التحريك، وفي حقه تعالى من باب الإبداع، فمعنى "الحي" وإن كان مفهوماً عاماً إلاَّ أنَّه ينصرف في الحيوان إلى الحساس المتحرك، أي ما من شأنه أن يحسّ ويتحرّك، وفي الواجب إلى ما يكون عالماً بالفعل بجميع الأشياء، قادراً بالذات على كل الموجودات لتعاليه عن القوة والكلال، وارتفاعه عن التجدد والانتقال ولا شك أنَّ هذا مما يوجب المدح والثناء.
أقول: وعلى هذا التحقيق لا يحتاج إلى ما عدل إليه الخطيب الرازي وتبعه النيسابوري من أن "الحي" في اللُّغة ليس عبارة عمّن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط، بل كل شيء يكون كاملاً في جنسه فإنَّه يسمى "حيّاً" ومن هاهنا صحّ أن يقال لعمارة الأرض الخربة "إحياء الموات" وقال تعالى:
{ { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [الروم:50]. وقال: { { إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا } [فاطر:9] فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة فسمّيت حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضرة فسميت حياة، والصفة المسماة بالحياة في عرف المتكلمين كمال للجسم، لأنّ كمال الجسم أن يكون حساساً متحرّكاً، فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم من "الحيّ" هو "الكامل في جنسه" والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته، فلا حي بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته انتهى قوله.
وفيه من التعسف ما لا يخفى على الذوق المستقيم:
أما أولاً: فلأن دعوى كون "الحياة" في اللغة لا بمعنى ذي الشعور والفعل الإرادي بعيد عن الإنصاف كما يظهر لمن تتبع موارد استعمالات هذا اللفظ.
وأمّا ثانياً: فلأن كمال كل شيء - في جنسه أو نوعه - لو كان حياته في عرف اللغة لجاز أن يقال في اللغة لكل كامل في جنسه إنَّه حيوان، وليس كذلك إذ لا يقال للذهب الكامل العيار إنه حيوان، وللثوب الكامل في نسجه إنه حيوان وللدر الصافي إنَّه حيوان، وللسّواد الشديد، والخطّ الطويل، والدائرة التامة إنَّها حيوانات.
وأمّا ثالثاً: فلأن تبادر معنى من اللفظ إلى الذهن من غير قرينة دليل الحقيقة وعدمه دليل المجاز، ونحن إذا سمعنا لفظ "الحيوان" لم يتبادر في ذهننا إلاَّ ما له صلاحية الإدراك والفعل الإرادي - وإن كان ناقصاً في جنسه أو نوعه -.
ثم من العجب أنَّ كثيراً من علماء العربية ينكرون كون الأفلاك حيّة مع أنّها كاملة في الجسمية، لكونها كاملة البنيان عظيمة المقدار، رفيعة المكان، بل هي مكرمة الذوات والصفات، مرفوعة عن أرجاس العنصريّات، وذلك لأنّ المعتبر عندهم في الحيوان هو التفنن في الإرادات والحركات بلا نسق، أو الاختلاف في الدواعي والأغراض مع كَلالٍ وتعب، أو وجود رأس وذنب وشهوة وغضب لأنهم ما عاهدوا من الحيوان إلاّ هذه الديدان الأرضية (كالأرضَة - ن) التي لا غذاء لها إلاَّ من الأرضيات، ظنّاً منهم أن ليس لله تعالى عالم غير هذه المدرة، وليس لها خلائق حيّة ناطقة إلاَّ هذه الحيوانات الحاصلة من العفونات صامتها وناطقها، ولم يعلموا بالطمأنينة العرفانيّة أنَّ له تعالى عالماً آخر هو دار الحيوان بالحقيقة، لقوله تعالى:
{ { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64] وله سبحانه خلائق ملكوتيون حياتهم بالعقل الكلِّي والشوق الإلهي، وغذاؤهم التسبيح والتقديس، والله يطعمهم ويسقيهم كقوله: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" .
وأمّا اشتقاقه: فالحي أصله "الحيي" كحذر وطمع، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما وكلا اليائين أصل. وقال ابن الأنباري: أصله "الحيو" بدليل الحيوان، فاجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً فأدعمت الواو في الياء فجعلتا ياء مشددة. وزيف بكونه عديم النظير، فإنه لم يوجد ما عينه "ياء" ولامه "واو".
وأما معنى "القيُّوم" في اللغة.
فقال الراغب: يقال: قام كذا، أي: دام، وقام بكذا، أي: حفظه.
"والقيّوم" القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه.
وقيل عليه: إنَّ الظاهر من عبارته أنَّ القيام بمعنى الدوام، ثم بسبب التعدية صار بمعنى الإدامة والحفظ، وحينئذٍ يتوجه عليه أنَّ المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى "القيوم" عن أداة التعدية لم يكن إلاَّ بالمعنى اللاَّزم فلا يصح تفسيره بالحافظ، ثم إنَّ المبالغة في الحفظ كيف يفيد إعطاء ما به القوام؟
وأجيب: بأنَّ الاستقلال بالحفظ إنَّما يتحقق بذلك، لأنَّ الحفظ فرع التقويم فلو كان التقويم بغيره لم يكن مستقلاً بالحفظ، وعلى هذا لا يرد ما يورد على تفسير "الطهور" بـ "الطاهر لنفسه المطهّر لغيره" من أن "الطهارة" لازم والمبالغة في اللازم لا يوجب التعدية. وذلك لأنّ المبالغة في اللازم ربما يتضمن معنى آخر متعدياً، بل المعنى اللاَّزم قد يتضمن بنفسه ذلك، كالقيام المتضمن لتحريك الأعضاء.
أقول: في كلام هذا القائل - سؤالاً وجواباً - نظر: أما في السؤال فلأنّا لا نسلّم أن المبالغة ليست من أسباب التعدية في الجملة، بمعنى أنَّ الشيء إذا اشتدّ كماله في معنى من المعاني أو صفة من الصفات يفيض منه شيء ويتعدى إلى غيره، لست أقول: إنَّ المبالغة من أسباب التعدية وضعاً، أو أنَّ صيغة المبالغة في كل لازم وضعت للتعدية - كما هو شأن باب الإفعال والتفعيل وحروف الجر - بل المراد أنَّ الشيء إذا صار تاماً في معنى من المعاني واشتدّ تمامه فيه حتّى صار فوق التّمام يفضل منه ذلك المعنى على غيره، فكذلك المبالغة في معنى القيام مما تستدعي - عقلاً لا لفظاً - الإقامة والإدامة والحفظ.
والحاصل أنَّ دلالة "القيوم" على "الحافظ المديم لكل شيء" دلالة عقلية لا وضعية، وكثيراً ما يذكر في اللغة المعاني الالتزاميّة الّتي صارت لكثرة الاستعمال بمنزلة المعنى المطابقي.
ثم لأحد أن يقول: لم لا يجوز أنْ يكون القيُّوم بالمعنى المذكور غير مأخوذ من قام بالمعنى الّذي مرّ، بل بمعنى آخر مناسب قد ترك استعماله فيه ونظائره في اللغة كثيرة، مثال ذلك "يذر" و "يدع" المأخوذان من "وذر" و "ودع" - على رأي - وأصلاهما مهجوران في الاستعمال.
وأمّا في الجواب: فلأنّ المبالغة في لفظ واحد لا تكون إلاّ مبالغة واحدة في معناه الأصلي، فإذا سُلِّم كون المبالغة في هذا اللفظ ممّا يجعل معنى "القيام" معنى "الحفظ" فلم يحصل من المبالغة في القيام التي هي من أسباب التعدية بحسب اللفظ - على ما تصوّره وفرضه - إلاّ مجرّد الحفظ، لا الاستقلال فيه فمن أين حصل معنى "الاستقلال" من التعدية التي مفادها الحفظ والإدامة ومنشؤها المبالغة في معنى القيام؟ ليتفرّع عليه توقفه على إعطاء ما به القوام.
بل الحق أن يقال في هذا المقام: إنَّ هذا المعنى أيضاً يحصل من المبالغة في أصل القيام، فإنَّ الشدَّة والكمال فيه على الوجه الأبلغ الأوفى كما يوجب الإقامة للغير يوجب الاستقلال في الإقامة أيضاً، وهذا مما لا يحصل إلاَّ بإفادة أسباب كل شيء وإعطاء ما به قوام ذاته ووجوده، ولهذا حكموا بأن لا مؤثر في الوجود إلاَّ الله، وهذا أحد الوجوه لتوحيد الأفعال، وبه تعلم أيضاً وجهاً من وجوه عظمة هذا الاسم لدلالته على التوحيد، كما يدلّ على غيره من الصفات الإلهية.
ثم إنَّ لفظ "الطهور" ليس موضوعاً للمبالغة، واعتبار التطهير فيه ليس لما زعمه - من أنه ناشئ من المبالغة - بل هو اسم لما يتطهر به كالسحور والفطور، والذي يتطهر به يلزمه غالباً الطّهارة والتطهير، فيصدق عليه أنّه طاهر مطهِّر، فتعريف "الطهور" بهما تعريف باللاَّزم لا أنه تفسير لمفهوم اللفظ.
وأمّا اشتقاقه "فالقيّوم" كان في الأصل "قيووم" على "فيعول"، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة، ولو كان "قوووما" على "فعوول" لقيل "قوّوم".
وقرئ: الحيّ القيّام، والقيّم.
الفصل الثاني
في إثبات كونه تعالى هو الحيّ القيوم
بيانه أنَّ كل جملة من علل ومعلولات لا بدّ وأن تنتهي إلى طرف هو علّة ليس بمعلول، لأنَّ تلك الجملة إمّا متناهية، وإمّا غير متناهية، والثاني باطل بالقواطع البرهانية المذكورة في موضعها، حيث ذكر أنّ كل مقدار أو عدد ذي ترتيب بالطبع أو الوضع موجود معاً فلا بدّ وأن يكون متناهياً، فكل جملة مترتبة من علل ومعلولات لها مبدأ، وهو علة ما سواه وموجده ومبدعه.
ولأنّه لو لم يكن لهذه الجملة طرف لم يصلح واحد من الآحاد للعلِّية ولا للمعلولية، لأنّهما معاً ممكنان ولا مزية لأحد من الممكنات على الآخر من حيث هي مهيات ممكنة، بخلاف ما إذا كان لها طرف يقتضي الاستغناء عن الغير والتقدم للكل، فيكون ما هو أقرب إليه مستحقاً لفضيلة التقدّم على ما هو أبعد منه فيكون علّة له، وإذا لم يكن للجملة طرف خارج عن الممكنات واجب الوجود بذاته متقدِّم على غيره فلا تكون للمكنات نسبة قرب ولا بعد، ولم يتميز من تلك الجملة شيء هو علّة عن شيء هو معلول.
ولأن العلل والمعلولات كثيرة، وكل كثرة فالواحد الحقيقي موجود فيها لأن كل كثرة لا يوجد فيها الواحد لا تتناهى أبداً - لا هي ولا جزء منها أصلاً - إذ كل جزء منه لا يخلو إمَّا أن يكون واحداً أو لا، وعلى الثاني إمَّا أن يكون لا شيئاً محضاً أو كثيراً. فعلى الأول يستحيل أن يجتمع من لا شيء شيء كثير، وعلى الثاني كان الكلام باقياً فينجر إلى غير النهاية، وهو جزء من الكثير الأول فيلزم أن يكون ما لا يتناهى من الأعداد الموجودة المترتبة معاً جزءاً مما لا يتناهى، فلم يكن حينئذٍ فرق بين كل من أجزاء الكثير الأول وبينه، فلا فرق بين الجزء والكل وكلا الشقّين باطلان.
فثبت من هذا القول أنَّ الواحد موجود في كل كثرة لكن لا شيء من المعلولات من جملة هذه الكثرة بواحد حقيقي، إذ كل معلول زوج تركيبي - ولو بوجه - فهو واحد من وجه، ولا واحد من وجه، وإذا لم يكن في المعلولات واحد - ولا بدّ في الكثرة من واحد - فيكون الواحد في الكثرة، وليس في المعلولات، فلذلك الواحد هو العلة للجميع، وهو الواحد الحق الذي يفيد سائر الأشياء الواحدية.
وهذا برهان شريف استفدناه من كلام بعض المتقدّمين الربانيّين على إثبات الصانع ووحدته أيضاً، ولهذا المطلب مسالك وطرق أخر تركنا ذكرها مفصلاً مخافة التطويل:
منها: مسلك الخليل (عليه السلام) وهو النظر في الحركات والأشواق الكلِّية للأجرام العظام الفكليّة المستلزمة للأفول في هويّ الإمكان، وهو مبغوض ممقوت للسالك الهارب عن النقص والفناء، الطالب للوجود والبقاء، ولذلك قال لمَّا رأى أفول الكواكب:
{ { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام:76]، وقال أيضاً - على نبيّنا وعليه السلام -: { { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء:77] عند انزعاجه إلى المحبوب الأول وانقطاعه من الأسباب والعلل.
ومنها: طريقة النفس الإنسانية من جهة قوامها لا بالبدن وتجرّدها عن الأحياز والأمكنة، وعلمها بذاتها وكونها مع تجرّدها مما لا يخلو عنها جزء من أجزاء البدن - علوُّها وسفلها - فإمكانها يوجب الانتهاء إلى موجود واجب الوجود مقدس عن الأجرام والأحياز والأمكنة والأقدار، ومع ذلك لا يخلو عنه سماء ولا أرض، ولا برّ ولا بحر، إذ موجد الشيء أولى بأن يكون بريئاً من النقائص التي يبرأ عنها المعلول.
وهذه طريقة نبينا لقوله (عليه السلام):
"من عرف نفسه فقد عرف ربّه" .
وهي أشرف الطرق المسلوكة لغيره من الأنبياء والحكماء، وذلك لأنّ المسلك فيها عين السالك فلا يمكن أحسن منها في الطرائق الإمكانية فما أشرفها وأشرف سالكها ناهجها (صلّى الله عليه وآله)، نعم هاهنا طريقة أخرى أشرف الطرائق كلها، بل لا نسبة لها إلى غيرها وقد سلكها الرسول وسلكها الصدّيقون من أهل بيته وأولاده - عليه وآله الصلاة والسلام - وسلكها الشهداء الصالحون من أمته - التي هي خير أُمّة أُخرجت للناس - وهي النظر أولاً في حقيقة الوجود المطلق الفطري التصوّر هويّة، الضروري التصديق هليّة، لكونه أظهر من أن يستر وأجلى من أن يخفى، ثم الارتقاء منه إلى نيل مرتبة الأحدية، ودرك حقيقة الواجبية، وهويّة نور الأنوار، وإنيّة الواحد القهار.
وهذا أشرف الطرق وأنورها وأفضلها مطلقاً، لكون الوجود هو السالك فيها بالحقيقة والمسلك المسلوك إليه جميعاً، وخصاية هذه الطريقة هو فناء السالك أولاً في التوحيد، ثم بقاؤه بالوجود الحقاني كما أشير إليه بقوله:
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [آل عمران:18].
فانطر إلى الطريقة المحمدية، وقس إليها الطريقة الإبراهيمية لتجد بينهما من التفاوت ما لا يحصى فإنَّ طريقة الخليل (عليه السلام) التجريد المحض، والسفر الأول، والسير إلى الله، لقوله:
{ { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات:99] والاحتجاب عن الخلق بالحق وترك ما سوى المرتبة الأحدية، لقوله: { { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء:77] وهي مما يوجب الذهول عن لوازم الإلهية والمظاهر الأسمائية، وطريقة الحبيب (صلّى الله عليه وآله) حفظ الأدب مع الله تعالى والمواظبة على العبودية في المواطن كلها، والجمع بين المحبة الذاتية والأسمائية والأثارية وملازمة الحق في جميع الأسفار الأربعة - إليه وفيه وبه منه - وفي قوله تعالى: { { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد:4] وهذه المعاني مشروحة مفصلة في مسفوراتنا وما ذكرناه يكفي للمستبصر فيما نحن بصدده إن شاء الله.
فإذا ثبت أنَّ مبدأ الممكنات موجود واجب بالذات ثبت كون الباري قيوماً لكونه قائماً بذاته مقوماً لغيره.
ثم إنَّ المؤثر إمَّا أن يكون مؤثراً على سبيل الجبر والتسخير وإمَّا مؤثراً على سبيل القدرة والاستقلال، لكن الانجبار والتخسير ينافيان الوجوب الذاتي والمبدأية المطلقة، فيتعين أن يكون تأثيره بالقدرة، فأزيل توهّم كونه مجبوراً في القيومية والإيجاد بقوله: { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } فإن "الحي" معناه - كما سبق "الدراك الفعال" فقوله "الحي" دلّ على كونه عالماً قادراً، وقوله: "القيُّوم" دلّ على كونه قائماً بذاته ومقاماً لكل ما عداه. وعند من ذهب إلى أن كمال كل شيء حياته - كما مرّ - فالقيومية لما دلّت على كمال الوجود وتأكده كما أشرنا إليه فالقيُّوم يكون حيّاً لا محالة.
والنكتة في عدِّ هذين الكلمتين اسماً واحداً من أسماء الله تعالى كما صرّحوا به وقالوا: إنه من قبيل "بعلبك" - وهي توافقهما في المعنى قوة أو فعلاً وتداخلهما في المفهوم كلاًّ أو بعضاً، كما في أجزاء المركب الطبيعي.
الفصل الثالث
في أن جميع المعارف الربوبية والمسائل المعتبرة في علم التوحيد تنشعب من هذين الأصلين
منها: إنَّ واجب الوجود بسيط الحقيقة غير مركب من الأجزاء الخارجية، لافتقار كل مركب خارجي إلى أجزائه في الوجود العيني، والافتقار إلى شيء ينافي القيومية.
ولا من الأجزاء العقلية لأنَّ كل ما له جزء عقلي من جنس وفصل فله مهية كلية غير الوجود، فلا يكون قيوماً، لافتقاره في الوجود والقيام إلى جاعل يجلعه موجوداً قائماً، وقد برهن على أن الوجود لا يمكن أن يكون لازماً لمهية من المهيات.
ولا من الأجزاء المقدارية وإلاَّ لكان جسماً أو جسمانياً، وشيء من الجسم والجسماني لا يمكن أن يكون قيوماً، أما الجسماني فلافتقاره إلى الجسم بالحلول فيه، وأما الجسم فلتركبه وافتقاره إلى الأجزاء: إمَّا من الجواهر الفردة كما زعمه المتكلمون، أو من جوهرين هيولى وصورة كما رآه جماعة من الحمكاء، وإمَّا من جوهر وعرض كما رآه آخرون. هذا بحسب المهية والحقيقة وأما بحسب التشخص والعدد، فمن الجسمية واللواحق المشخصة كما ذهب إليه الكل والمفتقر إلى الشيء لا يكون قيوماً.
وإذا ثبت أن كل قيُّوم بسيط الحقيقة ثبت أن "القيُّوم" لا يكون إلاَّ واحداً وإلاَّ فلو فرض وجودان قيومان لكانا مشتركين في حقيقة الوجود القائم بذاته والاشتراك يوجب كون المشترك فيه أمراً كلياً وكون كل من المشتركين ذا مهية كلية، فلم يكن وجوداً بحتاً قيوماً. وهو خرق الفرض لأنَّ كلاًّ منهما بذاته قيُّوم لا بسبب عارض أو خارج. وأيضاً يلزم كون كل منهما مركباً مما به الاشتراك، وما به الامتياز إذ الاشتراك بشيء لا ينفك عن الامتياز بشيء آخر لما مرَّ من أن الوحدة الاتّحادية إنَّما معروضها الكثرة.
ومنها: إنَّ واجب الوجود ليس حالاً في شيء ولا عرضاً في موضوع ولا صورة في مادة؛ لأنّ الحال مفتقر إلى المحل، والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته.
وليس في جهة من الجهات ولا في حيّز من الأحياز، وإلاَّ لكان جسماً أو جسمانياً وقد ثبت بطلانهما، وبطلان التالي يوجب بطلان المقدم.
وإذا لم يكن متحيّزاً لا يكون مشكّلاً ذا أعضاء - كما توهمه الحنابلة - ولا ذا حركة وسكون لأنّهما من عوارض الأجسام.
وإذا لم يكن متحرّكاً لا يكون زمانياً، لأنّ الزمان كمية الحركة وعددها من جهة التقدم والتأخر فلا يكون في حقّه المضي والحال والاستقبال، فلا يتجدد له حال ولا يعتريه انتقال وانفعال.
ومن هاهنا يثبت ما قاله العرفاء الحكماء: "إن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات" إذ لو لم يكن واجب الوجود بحسب حيثية من الحيثيات لكان إمكان وقوعه مستلزماً لمحالين:
أحدهما: التجدد والانتقال.
والآخر: التركب من جهتي الفعل والانفعال كما هو مفصل محقق في مقامه.
ومنها: إنّه عالم بذاته وذلك لأنّ العلم هو صورة حاضرة من المعلوم عند من له صلاحية العالمية، والمعلوم إما معلوم بالقوة - وذلك إذا كان صورة مغشوشة بغواش مادية ولواحق جسمانية - وإمَّا معلوم بالفعل - وذلك إذا كان صورة مجرّدة قائمة بذاتها فالواجب تعالى لما كان قيوماً بذاته لم يكن ذاته صورة لمادة فيكون معقولاً بالفعل لا بالقوة، وإذا كانت ذاته معقولاً بالفعل كان عاقلاً بالفعل - إذ إثنينية في ذاته - فيكون العقل والعاقل والمعقول فيه شيئاً واحداً، وليس من شرط المعقول أن يكون غير ذات العاقل، ولا من شرط العقال أن يكون غير ذات المعقول، والإضافة بينهما أمر ذهني لا يوجب الاثنينية لا في الذات ولا في الاعتبار.
ومنها: إنّه إذا كان قيوماً - بمعنى كونه مقوّماً لغيره ومؤثراً فيما سواه جميعاً إما بواسطة أو بغيرها - وكان عالماً بذاته، وقد ثبت أنَّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول، فوجب أن يكون عالماً بجميع الأشياء كليّاتها وجزئياتها، معقولاتها ومحسوساتها، إذ ما من شيء إلاَّ ويرتقي إليه تعالى في سلسلة الأسباب، وهو عالم بأسبابها ومبادئها واستعداداتها وارتباطاتها، والنسب الحاصلة فيها وحركاتها وأزمنتها، إلى غير ذلك من الأمور التي تتأدَّى إليها الأسباب الكلية إلى أن ينتهي إلى وجود الأشخاص الكائنة الفاسدة، فيعلم عين هذه الكائنات بنحو وجودها الجزئي، وتغيّرها، وتجدّدها، وزوالها، وانتقال المواد والموضوعات من صورة شخصية إلى صورة أخرى شخصية، ومن عرض شخصي إلى عرض شخصي آخر، إلى غير ذلك من المعلومات الشخصية والحوادث الجزئية، ومع ذلك فلا يتغير علمه بشيء ولا يخفى عليه خافية في وقت من الأوقات، ولا يغيب عن إداركه ذرّة من الذرّات، ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات.
ومنها: إنَّ فاعليته للأشياء على سبيل العناية، لأنه لما كان حيّاً قيّوماً كان شاعراً بذاته الفاعلة لما سواه، فيعلم (ذاته) من ذاته كيفية صدور الأشياء عنه على الوجه الأفضل قبل حصولها، وذلك لأنّ ذاته بذاته دون انضمام أمر إليه منبع نظام الخير، فلو لم يعلم ذاته على الوجه قبل إيجاد العالم لم يكن عالماً بذاته، فثبت أنَّ وجود الأشياء عنه على هذا النحو الذي هي عليه من ضرورات علمه بذاته، فيتحقق حينئذٍ القول بالعناية والقضاء، أي وجود العوالم قبل صدورها في العالم الربوبي والصقع الإلهي وجوداً على وجه أشرف وأعلى.
ومنها: إنه لما كان بذاته قيّوماً يلزم أن يكون حدوث العالم وفناؤه أمراً لازماً لهويته القاصرة عن قبول فيض الوجود أزلاً وأبداً - لا لمنع وتقتير أو تجدد وتغيير من جانبه تعالى - وإلاّ فالجود مبذول منه والعناية ذاتية له والخير هجّيراه، والقصور إنّما يكون من القوابل من جهة عدم استعدادها لقبول الوجود على الوجه الأكمل.
ومن هنا يعلم لميّة تحقق الشرور في هذا العالم، على أن الشرّ بالذات ليس إلاَّ أمراً عدميّاً والعدمي لا يكون معلولاً لأمر أصلاً، بل يكفي في ثبوته عدم تحقق علّة ما هو عدم له.
وأما ما فرَّعه بعض الفضلاء على قيّوميته تعالى من حدوث العالم "ووجّه ذلك بأنه لمَّا كان قيوماً لكل ما سواه، كان كل ما سواه محدثاً، لأنّ تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقائه لأنّ تحصيل الحاصل محال فإمَّا حال عدمه أو حال حدوثه، وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل حادثاً" محل نظر، إذ قد تبيّن في مقامه أن الممكن مفتقر إلى العلّة، وعلّة افتقاره إليها هي من جهة إمكانه، لا من جهة حدوثه شرطاً أو شطراً أو استقلالاً، والإمكان حاصل للممكن دائماً ما دام ذاته، لأنّه من لوازمه البيّنة، بخلاف الحدوث، وإذا كانت العلّة دائمة كان المعلول دائماً، فالافتقار إلى المرجح ثابت للممكن حين بقائه كما هو ثابت له حين حدوثه، فالعلّة مؤثرة في رجحان وجود الممكن على عدمه حدوثاً وبقاءً.
وأما حديث تحصيل الحاصل: فالحق أن المحدث تحصيله بتحصيل ثان لا بنفس هذا التحصيل، إذ لا محذور فيه، بل العليّة لا تنفك عنه، على أن السبب المؤثر في الشيء حدوثاً وبقاءً أقوى في السببيّة وأولى باسم السبب ممّا يكون أثره نفس الحدوث دون الدوام، على أن العليّة ليست إلاَّ مجرّد الاستتباع في الوجود، كحال النيّر والضوء الحاصل منه في الأجسام القابلة، لا كنسبة ذات الكاتب وكتابته، بل كنسبة المتكلم وكلامه.
والعجب أنَّ أصحاب هذا الفاضل ممن صرّحوا القول بأن الباري سبحانه لو جاز العدم عليه بعد إحداث العالم لما ضرّ وجود العالم. وهذا غاية الجهل والفساد في النفس، حيث ارتكبوا هذا القول الشنيع والظلم الفظيع، وغفلوا أن المعلول ليس وجوده إلاَّ لمعة فائضة من المبدإ الأعلى، أو ظلاً حاصلاً عن السبب الأقصى، وإنَّما حداهم إلى هذا القول القبيح والظلم الصريح أصول فاسدة ارتكبوها تعصّباً وعناداً من غير بصيرة كشفية، ولا معرفة حاصلة من أصول صحيحة إلهيّة مقتبسة من مشكاة نبويّة، أو حذراً من الاعتراف بالجهل والقصور في إدارك الأسرار الإيمانيّة والمعارف الربوبيّة، وكيفيّة صدور الأفعال الإلهيّة على الوجه الذي لا يوجب نقصاً ولا نقضاً، فإنّ ذلك ممّا لا يتيسَّر إلاَّ برفض الهوى والشهوات، وترك الجاه والترفّعات، واختيار الخمول والانزواء، وإيثار الفناء على الشهرة والرياء مع سلامة الفطرة وشدّة الذكاء.
ومنها: إنَّه تعالى إذا كان حيّاً كان سمعياً بصيراً، لأنّ الحياة مصحّحة للإدراك بأنحائه إلاَّ ما يوجب تكثراً أو تجسماً، والمصحح للشيء بمعنى الإمكان العامي في عالم الربوبية وعالم التجرّد كاشف عن الضرورة اللزوميّة، إذ لا جهة إمكانية في ذات الواجب لاستلزامها التركيب فيه من الجهتين - الإمكان والوجوب - كما لا وجه هناك للإمكان بمعنى القوة والاستعداد، لأنّه من لواحق المادة الجسمانية - كما حقق في مقامه -.
وإنَّما قلنا: إنَّ السمع والبصر مع كونهما نحوين مخصوصين من الإدراك لا يوجبان نقصاً ولا تكثراً لأنَّ تخصصهما ليس باعتبار المحلّ ليوجب التجسم - تعالى عنه علوّاً كبيراً - بل إمَّا باعتبار المتعلّق - فإن مدرَك أحدهما الأصوات والحروف ومدرَك الآخر الأضواء والألوان - أو باعتبار نفس الإدراك، فإنَّهما مما يعتبر فيهما المشاهدة الحضوريّة والانكاشف الإشراقيّ النوري، بخلاف مطلق العلم بالمسموعات والمبصرات، إذ لا يقال له السمع ولا البصر ما لم يكن بنحو المشاهدة، فيكون اتصافه تعالى بهذين الوصفين بالحقيقة لا بالمجاز - كما ظنّ - وأمَّا الجارحة المخصوصة فليست معتبرة في مطلق السمع ولا في مطلق البصر، إذ لو فرض أنَّ الله خلق الحالة الإدراكيّة البصرية في الجبهة لكان الشخص بصيراً، وكذا الحال في السمع، أو لا ترى أنَّ الإنسان في حالة النوم - وهو عبارة عن عدم استعمال النفس حواسها الظاهرة لكَلال وفتور يعرضها - يبصر ويسمع لا بهاتين الجارحتين ولا بغيرها؟ بل بذاتها الحيّة السميعة البصيرة؟ فإنَّ للنفس في ذاتها سمعاً، وبصراً، وذوقاً، وشمّاً، ولمساً، ويداً باطنة، ورجلاً ماشية، وهذه الحواس الظاهرة الجسمانيّة حجاب لها عن استعمال مشاعرها الداخلة، وقواها وجنودها الباطنة، وعند رفض هذه العوائق - إما بالموت الإرادي أو الطبيعي - تتحقق بذاتها وتتخلص في استعمال آلاتها الذاتية وجنودها الباطنية.
وإليه أشير في قوله تعالى:
{ { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق:22] فاجعل النفس الإنسانية مقياساً لك في معرفة كثير من الصفات الإلهية لأنه سبحانه خلقها لتكون معرفتها ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً مرقاة لمعرفة باريها كذلك.
فإن قلت: فلماذا لم يستعمل في حقه تعالى أنه شام أو ذائق أو لامس؟
قلنا: لإشعار هذه الثلاثة بالتجسيم دون الحالتين الأوليين، لأنهما ألطف الحواس، ومحسوسهما ألطف المحسوسات - كما ذكره بعض الحكماء الإسلاميين في رسالة له (قدّس سرّه) -.
ومنها: إنَّ كونه قيّوماً يوجب كونه حكيماً جواداً غنياً، لأنّ حكمته إيجاد الموجودات على أحكم وجه وأتقنه بحيث يترتّب عليها المنافع ويندفع عنها المضار، ولو لم يكن حكيماً لكان في إيجاده للأشياء نوع خلل أو قصور أو نقصان، فلم يكن قيُّوماً بذاته إذ يتصور قيُّوم آخر غيره لم يكن فعله ذا خلل وآفة - هذا خلف -.
فثبت أنَّه حكيم في أفعاله على الوجه المذكور، وهو إنما ينتظم بإبداعه في كل شيء عشقاً جبليّاً لما هو كامل منها لكماله - ليتحفظ به كماله - وشوقاً غريزياً لما هو ناقص منها إلى كماله ليتحرك نحو كماله الممكن في حقه ويجبر بها نقصه، ولهذا قيل: "لولا عشق العالي لانطمس السافل".
و "جوده" تعالى عبارة عن إعطائه لكل شيء ما يليق به من غير غرض ولا عوض، سواء كان عيناً أو ثناءاً أو صيتاً أو فرحاً، وبالجملة "الجواد الحقيقي" من لا يكون إعطاؤه شيئاً لأجل أولوية حاصلة من العطاء عائدة إلى ذاته، وإلاَّ لم يكن إعطاؤه جوداً محضاً، بل معاملة واستفاضة، فلم يكن تاماً في ذاته، لأنَّه عادم كمال يجبر بذلك الإعطاء نقصانه، وكلما كان كذلك لم يكن قيوماً بذاته وإلاَّ لم يقتصر في تحصيل كماله إلى وسط، فحيث يكون كمال بلا نقص، وتمام بلا قصور، وفعل بلا قوة، كان فعله منبعثاً عن ذاته بذاته، وكرمه ناشئاً عن حاقّ حقيقيته غير معلل لغيره ولا مستند إلى ما سواه، فيكون فعله جوداً حقيقياً.
وإذا ثبت أنَّه جواد حقيقي لم يكن في ذاته ولا في فعله مفتقراً إلى غيره، فيكون غنياً من جميع الوجوه، وكل ما سواه لإمكانه مفتقر إليه، كما في قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } [محمد:38].
ومنها: إنَّه لما كان قيوماً كان مالكاً وملكاً للموجودات الممكنة، وتكون العوالم كلها ملكه لقوله تعالى:
{ { وَلَهُ ٱلْمُلْكُ } [الأنعام:73]. ولقوله: { { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [آل عمران:189] وذلك لأنَّ القيُّوم - بمعنى المقوّم لما سواه ذاتاً ووجوداً - يلزمه أن يكون له وجودات الأشياء وذواتها، لأنَّ المعلول - بما هو معلول - إنَّما وجوده لعلّته الموجبة له - وقد حققنا ذلك بما لا مزيد عليه في موضعه - و "المالك للشيء" ما له ارتباط ما إليه، و "الملك للشيء" ما له تصرف ما فيه، فإذا كانت ذات كل شيء للقيُّوم تعالى كان هو المالك والملك بالحقيقة.
وأما التخصيص المفهوم من قوله تعالى:
{ { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة:4] ففيه وجه وجيه يعلمه الراسخون في العلم، ولا يمكن لهم كشفه للمحجوبين مع أن ذكره يؤدّي إلى شنعة الجهّال المتشبهين بأهل العلم، وكذلك القياس في إثبات سائر الصفات الإلهية والأحكام الوجوبية، فإنك إن ساعدك التوفيق وتأمّلت في هذه المعاقد التي كشفنا القناع عن وجهها وأحسنت إعمال روّيتك؛ فيها علمت أنَّه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلاَّ بوسيلة كونه تعالى حيّاً قيوماً، فلا جرم لي ببعيد القول بأن الاسم الأعظم هو هذا.
وأما سائر الآيات الإلهية كقوله:
{ { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [البقرة:163] وقوله: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران:18] ففيه بيان للتوحيد بمعنى نفي الضد والنِّد.
وأما قوله:
{ { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] ففيه أيضاً بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والنِّد، وبمعنى أنَّ حقيقته غير متألفة من الأجزاء.
وأما قوله:
{ { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأعراف:54] ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان الوحدة الحقيقية.
وأما قوله: "الحي القيوم" فإنه يدلّ على الكل، لأنَّ كونه "قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته وأن يكون مقوماً لغيره، وكونه قائماً بذاته يقتضي اتصافه بالوحدة الحقيقية الموجبة لنفي الكثرة، وذلك يقتضي الوحدة الانفرادية الموجبة لنفي الضد والنِّد، ويقتضي نفي التحيّز والحلول ونفي الجهة والإشارة الحسية، وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو نفساً، ويقتضي إسناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر.
فظهر أنَّ هذين اللَّفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى، واستوجب أن يكون هذا الاسم من أعظم أسماء الله تعالى، ويشهد له ورود الخبر بأن الاسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران، وقد وجّهنا القول وبيّنا السرَّ سابقاً في كون هذا الاسم أعظم الأسماء من وجه، وفي كون اسم "الله" أعظم من وجه آخر، وفي كون كل من الأسماء عظيماً من وجه آخر عند طائفة، فتذكره تعرف أنَّه إذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين انكشف للعبد عند تجلّي اسمه "الحي" معاني جميع أسمائه وصفاته، وعند تجلي اسمه "القيُّوم" فناءَ جميع المخلوقات إذا كان قيامهم بقيّومية الحق لا بأنفسهم.
وإذا جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلاَّ الحي القيوم، فنفى التعدد وبقيت الوحدة، فمن ذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية فقد ذكره باسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، لأنه ينطق حينئذٍ بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه، لكونه مطابقاً لما في القضاء، فأما الذكر عند غيبته من عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم كما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم، فقال: "الاسم الأعظم ليس له حدّ محدود، لكن فرغ قلبك لوحدانيته، فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت".
المقالة الرابعة
فيما يتعلق بقوله تعالى { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }
وهي مقاصد:
المقصد الأول
في انتظامه بما سبق
وهو أنَّه تعالى لما بيّن أنَّه حيٌّ أراد أن يؤكد ذلك بإبطال نقيضه مطلقاً، وهو "عدم القيام بتدبير الخلق على الوجه الأتمِّ الأحكم" وإنما يثبت ذلك بملاحظة أنَّ انتفاء العام بانتفاء جميع أفراده وتحققه بتحقق فرد ما، لكن الأمر الكلي إذا كان مقولاً بالتشكيك على أفراده المتفاوتة بالكمال والنقص، فإن كان أمراً وجودياً فوجود الفرد الشديد عن الفاعل كاشف عن إمكان وجود النحو الضعيف عنه واقتداره عليه بالطريق الأولى، لأنَّه أهون عليه وأسهل، كما قال تعالى في باب إعادة الخلق يوم القيامة:
{ { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم:27] لأنَّ نفس الإيجاد مما يقبل الأشدَّ والأضعف كالوجود، وإيجاد الشيء ثانياً أسهل على الفاعل من إيجاده أولاً، فاقتداره على الإبداء كاشف عن اقتداره على الإعادة.
وهذا بخلاف تحقق الفرد الضعيف، فإنَّه ليس دليللاً على تحقق الفرد الشديد، فإنَّ تحقق إعطاء الدرهم من زيد لا يدلّ على إمكان إعطاء الصرة منه.
وفي جانب السلب بعكس ذلك، إذ سلب الفرد الضعيف عن شيء يدل على سلب الفرد القوي أيضاً بدون عكس، فإنَّ حرمة الأُفِّ للأبوين دالّ على حرمة الضرب والقتل دون العكس.
وسلب القيومية عن الشيء الواحد يتصور على أنحاء: إمَّا برفع ذاته - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - وإمَّا برفع أصل صفة الإيجاد والإدامة، وإمّا بتحققها مع الفتور. ومراتب الفتور في الفاعلية أيضاً مختلفة كمالاً ونقصاً، وأضعف الجميع السِّنة، ثم النوم، لأنَّ الفتور الحاصل بفساد أسباب الفاعلية كصفة القدرة، أو الإرادة، أو العطوفة، أو الرحمة، أو العلم برجحان الفعل، وغير ذلك أقوى وأشد.
ثمَّ إنَّ مراتب كل من السِّنة والنوم مختلفة كمّاً وكيفاً، فإنَّ السِّنة في السَّنة أشدُّ في بابها من السِّنة في الشهر، وكذا النوم في اليوم أشد في بابه من النوم في الساعة، وأضعف الجميع "سنة ما" و "نوم ما" على التنكير الإبهامي، إذ يكفي في تحققه لحظة ما وأقل منها، فإذا انتفى هذا الفرد الضعيف عنه تعالى فلا بدَّ أن يكون غيره من الأفراد منتفية، وبانتفاء الجميع تنتفي طبيعة الأمر العدمي، أعني رفع القيومية، هذا الرفع يتحقق قيوميته تعالى، لأنّ رفع الرفع يسلتزم الإيجاب، فقال سبحانه: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ليكون تأكيداً لقوله: { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }.
والمعنى أنَّه تعالى لا يفتر عن تدبير الخلق لحظة، وإلاَّ لتساقطت السماوات والكواكب وفسدت الأرض ومن عليها وفيها، وبطلت الأزمنة والفصول، وفنت المواد والأصول، ولا يمكن بعده إيجاد الموجودات، لأنّ الحدوث التكويني من غير مادة مستحيل، وإعادة المعدوم بالمرة ممتنع، فالفتور في تدبير الخلق ولو لحظة واحدة يوجب انسداد باب الصنع والإيجاد للموجود وقطع الفيض والكرم والجود - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً -.
فإن قلت: فإذا كانت السِّنة عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قال "لا تأخذه سِنة" فقد دلّ على أنَّه لا يأخذه نوم بطريق أولى، فكان ذكر النوم بعده تكراراً؟
قلنا: تقدير الكلام لا تأخذه سِنة، فضلاً عن أن يأخذه النوم.
المقصد الثاني
في معنى السِّنة والنوم
أما "السِّنة" فهو فتور وكَلال ما في الحواس يتقدم النوم يسمى "النعاس" و "النوم" ترك استعمال النفس حواسها الظاهرة لأجل صعود بخارات غليظة من المعدة إلى الدماغ.
وإنَّما قيّدنا بترك الاستعمال المذكور وعللناه بالصعود المذكور لئلا يصدق على الموت، فإنَّ النوم والموت أخوان مشتركان في عدم استعمال النفس الحواس والآلات الظاهرة التي بها يقع الروح في هذا العالم، إلاَّ أنهما يختلفان في أنَّ ترك الاستعمال المذكور في أحدهما - وهو النوم - إنَّما يكون لعارض خارجي يمنع عن ذلك مع بقاء الاستعداد والتهيّؤ في الحواس، بمنزلة الكاتب الذي أدخلت يده في كمّه أو قيّدت بسلسلة، وفي الآخر - وهو الموت - إنَّما يكون لأمر طبيعي لازم، هو بطلان الاستعداد رأساً، بمنزلة الكاتب الذي زمنت يده وخرجت عن أن يكون لها صلاحية الكتابة، فإنَّ معنى "الموت" في الحقيقة زمانه البدن كله، وأنت تعلم أنَّ زمانة اليد خروجها عن طاعة النفس مع وجود شخصها، لبطلان القوة التي بواسطتها تستعمل اليد.
فافهم إنْ كنت من أهله أنَّ الموت زمانة مطلقة في جميع الأعضاء يبطلان قواها، فيسلب الموت منك يدك ورجلك وعينك وسائر وحواسك وأنت باق أعني حقيقتك التي بها أنت أنت، فإنَّك الآن الإنسان الذي كنت في الصبا ولعلّه لم يبق منك من تلك الأجسام شيء، بل انحلّت كلها وحصل بالغذاء بدلها وأنت أنت، وجسدك غير ذلك الجسد.
فالحاصل أنَّ للنفس في استعمالها القوى والحواس الظاهرة حالات أربعة: قوة، واستعداد، وفعلية، وبطلان.
فالقوة: كما للجنين قبل خروجه إلى الدنيا.
والاستعداد: كما للنائم والسكران والمغمى عليه.
والفعلية: كما لليقظان.
والبطلان: كما للميت.
واعلم أنَّ النوم والموت مشتركان أيضاً في بقاء المدارك الباطنية للنفس الناطقة - كالعقل والوهم والخيال -.
وتحقيق ذلك أنَّ العوالم بكثرتها ثلاثة، والمدارك الإنسانية على شجونها ثلاثة، والإنسان بحسب غلبة كل واحد منها يقع في عالم من هذه العوالم والنشآت، فبالحسّ يقع في العالم الدنيوي، وبه ينال الصور الحسية الكائنة الفاسدة الملذة والمؤلمة بسحب الملاءمة والمنافرة، وبالقوة الباطنية الجزئية يقع في النشأة الثانية التي هي عالم الصور الأخروية المنقسمة إلى الجنة والجحيم، وبالقوة الباطنة العقلية يقع في النشأة الثالثة التي هي عالم الصور العقلية الإلهية الأفلاطونية.
فالناس أصناف ثلاثة: أهل الدنيا وهم أهل الحس كالأنعام والبهائم أو أضلّ سبيلا، كما قال تعالى
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179] وأهل الآخرة وهم الصلحاء وأهل الاعتقادات التقليدية الظنية الخيالية، وأهل الله وهم العرفاء بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر كما وقع في الحديث: "الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله تعالى" .
ولهذه المعاني بيانات علميّة ذكرناها في تحقيق الآيات المشيرة إلى أحوال القيامة والغرض هاهنا بيان ماهية النوم ليعرف بعد ذلك أنَّها مما يستحيل على إله العالم.
المقصد الثالث
في بيان استحالة السِّنة والنوم على الله تعالى بوجه حكمي
إعلم أنَّ إقامة السماوات والأرض من الله سبحانه وتحريكه وتسكينه القوى الفعَّالة السماوية والمنفعلة الأرضية بجميع ما فيها، ليست كاستعمال النفس للبدن وقواه المحرّكة والمدركة الحسّاسة، لأنَّك قد علمت بالبرهان الحكمي أنَّ نسبة الحق الأول إلى العالم ليست كنسبة الروح إلى البدن ونحو ذلك.
وبعد ذلك فنقول: إنَّ الفتور العارض للنفس في استعمالها الحواس والقوى - سواء كان في النوم أو غيره - إنَّما هو لتعصّي جوهر البدن وقواه عن طاعة النفس، فإنَّها لها بمنزلة آلات لذوي الصنايع، فتكون لها طبائع متخالفة لجوهر النفس في الذات والاقتضاء، وإنَّما تجبرها النفس متسعملة إيّاها في مقاصدها الإرادية، وهي مستدعية للخلاص عنها إلى ما يلائم طبائعها من الميل إلى أحيازها الطبيعية بحسب الجزء الغالب على سمت خط واحد مستقيم، ثم السكون بعد حصولها فيها، أو اللصوق بوجه الأرض إن لم يتيسّر الوصول إلى آخر ما يقتضيها الثقل الطبيعي من الجزئين الكثيفين الغالبين في بدن الإنسان والحيوان، وكذلك حكم سائر القوى المتعلقة بأعضاء البدن.
وبالجملة التخالف والتصادم الواقعان بين الحركات والأفعال الإرادية النفسانية الواقعة من النفس في الأغراض الشهويَّة والغضبية والفكرية، وبين الحركات والأفعال الطبيعية من القوى الأسطقسية مما يوجب تعصّي البدن والحواس وخروجها عن طاعة النفس، إذ البدن العنصري ليس معلولاً للنّفس - كما برهن عليه في علم النفس - حتى يكون موافقاً لها في جميع الوجوه والحيثيات فلا يعرض له كَلال ولا للنّفس ملال، بل بينهما علاقة عرضيّة ستزول - أمّا بعضها فبالنوم، وأما كلها فبالموت.
فإذا تقرر هذا وظهر أن منشأ النوم كَلال يعرض للبدن وملاَل يعرض للنفس بما هي نفس، أي مستعمل له وقواه لأجل تخالفهما في الطبيعة والذات، وليس للباري بالقياس إلى العالم هذه الحالة، فإنَّ وجود كل ما في العالم تابع لوجود الحق الأول، ليس فيها جهة تباين سوى جهة المخلوقية والعبودية والطاعة، فإنّ وجودها من الباري كوجود الظل من ذي الظل - لو كان لذي الظل علم بذاته الذي هو نفس ذاته وعلم بوجود ظله الحاصل من علمه بذاته -.
ولا شبهة في أنَّه إذا كان وجود السماوات والأرض وما فيهما مع ما يلزمهما من الحركات وغيرها عن الباري، كوجود الظل من الشخص ووجود النداوة من البحر، لم يتصور عروض الكَلال والكلفة والتعب للباري جلت قدرته في صدورها عنه تعالى، كما لا يتصور عروض الوهن والكَلال للشخص بثبوت الظل عنه، وإذا لم يتصور الكَلال والتعب في حقه، لم يتصور السِّنة والنوم لأنَّهما من توابع الفتور الحاصل لمبدإ الحركة والإحساس.
وهاهنا مباحث أخرى متعقلة ببيان حالات تعرض للقوى الفعَّالة النفسانية وهي التعب والمَلال والألم وغيرها، وبيان التفرقة فيها وتحقيق القول في استحالة عروضها له سبحانه بوجه حكمي لمّي ينكشف به على السالك أنَّ ساحة العظمة والكبرياء أرفع من أن يعتريها شيء من هذه الانفعالات والتغيرات، أخّرنا ذكرها إلى أن يحين حينها فيما سيأتي إن شاء الله من المعاني المتعلقة بقوله تعالى: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } لأنّهما ألصق وأربط بذلك المقام فانتظر مفتشاً.
ومن الدلائل على نفي السِّنة والنوم والسهو والنسيان عن الله تعالى واستحالة عروضها له، أنَّ هذه المعاني إمَّا عبارات عن أعدام العلم أو عن أضداد العلم وعلى التقديرين فجواز طريانها عليه وعروضها له يقتضي جواز زوال علم الله تعالى، فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً ويصح أن لا يكون عالماً فحينئذٍ يفتقر في حصول صفة العلم له تعالى إلى فاعل يجعله عالماً.
وننقل الكلام إلى ذلك الفاعل هل هو عالم من جميع الوجوه في جيمع الأوقات أو لا؟ فإنْ كان الأول فالباري جلَّ ذكره هو بعينه ذلك الفاعل الذي لا يجوز عليه الشين والنقص، إذ لا نعني بالباري إلاَّ ما يجب وجوده ويجب كمال وجوده، ويستحيل عليه عدم الذات وعدم كمال الذات وقد فرضنا غيره، وإنْ كان الثاني فننقل الكلام إلى فاعل آخر يخرجه عن القوة إلى الفعل، وهكذا إلى أن يدور أو يتسلسل وهما محالان.
فلا بدَّ وأن يكون مبدأ سلسلة العلماء عالماً يكون علمه بالفعل من جميع الوجوه، ولا يكون فيه جهة غير جهة العقل (الفعل - ن) بالفعل، فيكون عاقلاً في جيمع الأوقات بجميع الموجودات من جميع الحيثيات، وإذا كان كذلك كان النوم والسهو والغفلة محالاً عليه سبحانه.
فما أبعد من الصواب قول بعض المتفلسفين الذاهبين إلى نفي علمه تعالى بالمتغيرات ظناً منهم أنَّ العلم بالمتغيرات والزمانيات من حيث كونها متغيرة زمانية لا يمكن إلاَّ بآلة جسمانية، وأبعد منه اعتذارهم عن هذا الظن الفاسد بأنه كما أنَّ كثيراً من الأفاعيل نقص على الباري تعالى فكذلك كثير من التعقلات.
وأنت - إنْ كنت من أهل المجاهدة العقلية مع كفرة أعداء الله تعالى من القوى الوهميّة والخياليّة الجاحدة للحق، المتمردة عن طاعة الشريعة العقلية والتدين بدين الله وطريق التوحيد الخاصي - تعلم بصفاء الذهن وسلامة الفطرة أنَّ استثناء شيء من الجزئيات بعد قيام البرهان على قاعدة كلية عقلية في العقليّات مما لا سبيل إليه.
فإذا ثبت أنَّ الباري فاعل الكل وعلّة الجميع - ومن قوانينهم المسلّمة والمبرهن عليها أنَّ العلم التام بالعلة التامة يوجب العلم التام بالمعلول - فإذا تحقق علمه تعالى بذاته، وتحقق كونه سبباً للجميع، وتحقّق كونه بالفعل من جميع الوجوه من غير أن يكون فيه جهة قوة واستعداد وانفعال لزم كونه عالماً بجميع الأشياء.
وأما أنَّ العلم بالمتغير - من حيث كونه متغيراً - متغير فهو ممنوع: أما إذا كان حصوليّاً فلأنه يمكن تعلق العلم بالمتغيّر مع تغيّره وحدوثه وتجدده إذا لم يكن مستفاداً من ذلك المتغيّر، بل حاصلاً من جهة الإحاطة بأسبابه وعلله المؤدية إليه، كل ذلك على الوجه الكلّي، وأمّا إذا كان حضورياً فلأنّ مرجعه إلى إضافة نورية إشراقية من العالم بالقياس إلى المعلوم، والتغيّر في الإضافات - على فرض وقوعه - ولا يوجب التغير على الذات.
لا يقال: منشأ نفي العلم بالجزئيّات المتغيّرة عنه تعالى منهم أنَّهم ذهبوا إلى أن مناط التشخص هو كون الشيء محسوساً، فما لا يكون إدراكه بالحسّ لا يعلم الأمر الشخصي بما هو شخصي.
لأنّا نقول: هذا أيضاً لا يستلزم ما ذكرتم، إذ كون المحسوسيّة مناط الجزئيّة لا يوجب أن لا يكون ذات المحسوس بوصف محسوسيّته وشخصيته مدركاً لغير الجوهر الحاس، فكما أنَّ المحسوس بخصوصه قد يكون مدركاً بالإدراك الخيالي - مع أن التخيل غير الإحساس - فكذلك قد يكون مدركاً بالإدراك العقلي، والحاصل أنَّ الكليّة والجزئيَّة على هذا الأصل صفتان للإدراك لا للمدرِك، والتفاوت في الإدراك لا يوجب التفاوت في المدرِك.
فالواجب الحق يعلم جميع الكليّات والجزئيات بعلم يليق بشأنه من غير فتور، وسهو، ونوم، ونسيان تعالى الله العزيز المنَّان عمّا يقوله أهل الزور والبهتان، والبغي والطغيان.
المقصد الرابع
في ذكر حكاية مروية في هذا الباب
روي
"عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه حكى عن موسى بن عمران - على نبيّنا وآله وعليه السلام - أنّه وقع في نفسه: هل ينام سبحانه أم لا؟ وقيل: سأل الملائكة: هل ينام ربّنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام، ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوئتين في كل يد واحدة منهما وأمره بالاحتفاظ بهما، فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فضرب إحدى القارورتين على الأخرى فانكسرتا، فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان أنّه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرضين" .
واعلم أنَّ مثل هذا لا يجوز أن ينسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) سيما أولوا العزم من الرسل مثل موسى (عليه السلام) خصوصاً على مذهب أصحابنا الإماميّة - رضوان الله عليهم - حيث لا يجوّزون صدور الذنب منهم - صغيراً كان أو كبيراً - وأي ذنب أكبر من الجهل بالصفات التي هي من لوازم الإلهية ومن ضرورات الواجبية؟ وهي العلم التام بمبدعاته من غير خلل وفتور، ولا سهو ولا قصور.
ومن جوز النوم عليه سبحانه أو كان شاكاً في استحالته كان كافراً، فيكف يجوز نسبة هذا إلى موسى (عيله السلام)، فهذه الرواية إن صحّت وجب أن تنسب إلى جهَّال قوم موسى كطلب الرؤية، فإن الجسمانية كانت غالبة على قومه بحيث لم يمكنهم تصوّر أمر مفارق الذات والصفة عن المواد الجسمية لا في الممكن ولا في الواجب، كالحنابلة من أمّة نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) الذين جعلوا إلههم جسماً مستوياً على العرش، والأشاعرة وإن كانوا أرفع قليلاً من هؤلاء إلاَّ أنهم يشاركونهم في نفي التجرّد وإثبات التحيّز لما سوى الواجب تعالى، وهو عين الجهالة أيضاً، فإنَّ كون الواحد نصف الإثنين ليس مفتقراً في تحققه لا هو ولا مفرداته إلى تحيّز وتجسم، والداعي لهم إلى نفي المجردات زعمهم أنَّ تحقق أمر مجرد في غير الواجب تعالى يوجب للواجب شريكاً، ولم يعلموا أن التجرد سلب محض والاشتراك في السلوب لا يوجب الاشتراك في معنى ذاتي أو عرضي، فيلزم التركيب أو النقص في حقّه تعالى كما مرّ في بيان توحيده تعالى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله.
على أنَّك قد علمت مما قررنا أنَّ السلوب الصادقة عليه تعالى كلها ترجع إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان، وهو المصحح لجميع السلوب، فسلب المادة - أي مفهوم التجرّد - ليس من صفات الله تعالى بالذات، بل من الضرورات اللاَّزمة من سلب الإمكان عنه (عليه - ن) والاشتراك في اللَّوازم العامّة لا يوجب الاشتراك في الملزومات ولا يلزم اشتراك الواجب والممكن في الشيئيّة، والمفهومية، والإمكان العام اشتراكهما في الذات، فيسدُّ بذلك إثبات الواجب والعلم به تعالى للزوم الاشتراك بين الواجب والممكن في الثبوت والمعلومية.
المقالة الخامسة
فيما يتعلق بقوله سبحانه: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }
وفيه مطالب:
المطلب الأول
في النظم
لما بيّن كونه قيوماً وأكده بنفي ما ينافيه، أراد أن يترتب عليه ما يتفرّع عليه من وجود آثار القيوميَّة وتوابعها، وقد تقرّر في علم الميزان أنّه إذا أُريد تعريف المبادئ البسيطة والقوى الفعّالة، تعرّف بأفاعيلها ولوازمها وآثارها، وقد صرّح بعض رؤساء المنطقيّين، بأن تعريف الشيء البسيط بآثاره المنبعثة عن نفس ذاته الناشئة عن حاق حقيقته ليس بأقلّ إيضاحاً وكشفاً من التعريف بالحدِّ للمركب، لإيصال هذا النحو من الخواص إلى حاق خصوصية ما هو خاصة له، كإيصال الحد إلى حاق حقيقة المحدود.
مثلاً: تعريف الجوهر النطقي - أي النفس الإنسانيّة - بـ "إدراك الكليات"، وتعريف فصل الحيوان - أي النفس الحيوانية - بـ "الحساس"، وتعريف الهيولى بـ "المستعد" وأمثال ذلك ليست أقل فائدة من التحديد، إذ كما أنَّ مفهوم الحدّ منتزع من نفس ذات المحدود وأثر حاصل منها، كذلك هذه المفهومات حكايات لذوات تلك القوى والمبادئ الفصلية والجنسية.
فإذا تقرر هذا الكلام أقول: كنه ذات الواجب وهويّته الأحديّة وإن لم يكن معلوماً لأحد غيره ولا يمكن تعريفه أصلاً - لا بالحد لعدم تركّبه، ولا بالخواصّ والآثار إذ لا شيء أجلَّ نوريّة وانكشافاً منه حتّى يصير وسيلة لانكشاف ذاته إذ المعرِّف للشيء يجب أن يكون أجلى منه، وسبب خفائه غاية وضوحه وانكاشفه - لكن لنا سبيل إلى معرفة صفاته المختصّة، مثل: الإلهية، والقيومية، والخالقية المطلقة لأنها مفهومات عامة كلية متعلقة بذوات الممكنات وهياكل الماهيات التي هي بمنزلة صفحات وسطوح مصيقلة وقعت عليها أشعة هذه الصفات من النور الحقيقي والنيّر الإلهي الذي هو نور السماوات والأرض.
فللعقل أن يتصوّرها ويدلّ عليها بألفاظ موضوعة لمعانيها الحاضرة في الذهن، وإذا تصورها القعل بكنهها فقد تصور الذات الأحدية من هذا الوجه لأنها صفات تنشأ من نفس ذات الحق وتنبعث من حاق حقيقتها، لا باعتبار قوة أخرى قائمة بها.
وهذا التصور من العقل المكحَّل بنور الهداية والحكمة لهذه الصفات، ومن استلزام تصور ما ينبعث - هي - عنه وينشىء من حيث كونه مبدأً لها وينبوعها، لثبوتها لما ذكرنا من أن القوى تعرف بأفاعيلها وآثارها المنبعثة عن صرف ذاتها إلاَّ أنَّ ذلك لا يستوجب أن يمكن لأحد أن يعرف الذات الأحديّة مع قطع النظر عن النسب والإضافات، لأنَّ تعقل الحق الأول باعتبار ذاته بذاته مستحيل قد أقيمت على استحالته البراهين القطعية، وأما تعقله باعتبار أنَّه قيُّوم للعالم، وأنّه مبدأ الموجودات، وخالق ما في السماوات والأرض، أو أنّه مسلوب الكثرة والاشتراك، واحد أحدي، فللعقل سبيل إلى الاكتناه بهذه المعاني.
فحينئذٍ نقول: قوله سبحانه: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } وقع تأكيداً وتعريفاً للحي القيوم، لأنَّ معنى "القيّوم" إذا كان مقوّم الممكنات وجاعل الماهيّات وهي منحصرة في ما في السماوات وما في الأرض - لأنّ الأول: عبارة عن الأجرام البسيطة المستديرة الأشكال والمستديرة الحركات الشوقية الإراديّة، مع نفوسها المحركة القريبة المتشوّقة إلى نيل الكمال، المشتهية إلى المبدإ الفعّال، وعقولها المتحركة البعيدة المعشوقة لنفوسها تحريكاً مقدّساً عن المباشرة والانفعال، منزّهاً عن التّجدد والانتقال. وأما الثاني: فهو عبارة عن العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة مع صورها ونفوسها الثلاثة الأرضية، أعني النباتيّة والحيوانية والإنسانية - فإذا لم تعرف إضافة هذه الأشياء إليه تعالى لم يعرف كونه قيوماً.
فكما أنَّ من لم يعرف ذاته تعالى من جهة الإلهيّة والقيُّوميّة فكأنّه لم يعرف شيئاً من العالم الإمكاني لما تقرر في الميزان أنَّ العلم التام بذي السبب لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببه، فكذا العكس، فإنَّ من لم يعرف شيئاً من العالم الإمكاني، فكأنه لم يعرف الإله القيوم أصلاً.
ومن هنا يستتم ما ذكره ابن عربي في الفصِّ الإبراهيمي: "إنّ بعض الحكماء وأبا حامد ادَّعوا أنَّ الله يُعرف من غير نظر في العالم، وهذا غلط، نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه فهو الدليل عليه" انتهى.
أقول: يشبه أن يكون النزاع بينه وبينهم لفظيّاً، إذ لا يبعد أن يكون مرادهم من اسم الله تلك الذات القديمة الأحديّة مع قطع النظر عن صفة الألوهية، ولا شبهة للجميع في أن معرفة ذاته تعالى - من حيث ذاته المجردة عن كل نعت وصفة - لا تتعلّق بمعرفة العالم، لكن الخلاف في أنَّ حقيقة الواجب سبحانه أهي نفس الوجود القائم بذاته بشرط سلب الزوائد والقيود الإمكانيّة عنه؟ أو الوجود المطلق المقدس عن الإطلاق والتقييد جميعاً؟
فالأول: هو مذهب الحكماء.
والثاني: هو مذهب ابن عربي ومتابعيه، ولهذا ذكر متصلاً بكلام نقلناه منه قوله: "ثم بعد هذا في ثاني الحال يعطيك الكشف أنَّ الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته، وأن العالم ليس إلاَّ تجلّيه في صورة أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنّه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها، وهذا بعد العلم به منّا أنه إله لنا".
المطلب الثاني
في تحقيق الإضافة المستفادة من حرف "اللاَّم" في قوله "له"
قيل: المراد من هذه الإضافة الملك والخلق، وتقريره أنّه لمَّا كان واجب الوجود واحداً، كان ما عداه ممكن الوجود لذاته، وكل ممكن الوجود فله مؤثر، وكل مؤثر فهو معلول، محدث بإحداثه، مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد.
أقول: المستفاد من هذا الكلام الوجود الارتباطي المنسوب إلى غيره، والوجود المنسوب إلى غيره قسمان:
أحدهما: أن يكون الموصوف بذلك الوجود نفس ذات الوجود.
والآخر: أن يكون ماهيّة غير الوجود، وعلى التقديرين هذا الوجود النسبي إمّا عين وجود الشيء في نفسه أم غيره فهاهنا أربعة احتمالات:
أحدها: الوجود المضاف الذي هو غير زائد على نفس الشيء الموجود ومع ذلك وجود النسبي عين وجوده لأمر آخر وهذا كوجود الممكنات عند جمهور الحكماء المنسوب إلى ماهياتها.
والثاني: الوجود المضاف الزائد على ماهية الشيء، المتَّحد مع وجوده في نفسه كوجود الأعراض والصور لموضوعاتها وموادها.
قال بعض الحكماء: وجود الأعراض في أنفسها هو وجوداتها لموضوعاتها سوى العرض الذي هو الوجود، فإنه لمَّا كان مخالفاً لها لم يصح أن يقال: "إنَّ وجوده في موضوعه هو وجوده في نفسه" بمعنى أن للوجود وجوداً كما يكون للبياض وجوداً، بل بمعنى أن وجوده في موضوعه نفس وجود موضوعه، وغيره من الأعراض وجودها في موضوعه وجود ذلك الغير أعني العرض.
والثالث: الوجود المضاف الذي لا يزيد على الماهية، ومع هذا وجوده النسبي عين وجوده في نفسه، هذا كوجود الواجب المضاف إلى الممكنات بالإلهية والقيُّومية.
الرابع: الوجود المضاف الزائد على الشيء المغاير لوجوده في نفسه، كوجود الفرس للإنسان.
فإذا تقرر هذا فاعلم أنَّ العقلاء اختلقوا في أنَّ موجودية المعلول بالقياس إلى جاعله التام - كموجودية ما في السماوات وما في الأرض له تعالى - من أي قسم من هذه الأقسام الأربعة؟
فقوم من العقلاء ذهبوا إلى أنه من قبيل القسم الثالث، لما شاهدوا بحسب الظاهر أن لها وجوداً منفصلاً عن وجود باريها، فهي موجودات مستقلة في الموجودية الزائدة على ذواتها الإمكانية - سواء كانت جواهر أو أعراضاً - ولها نسبة إلى الباري جلّ اسمه بالمخلوقية، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور.
وذهب قوم إلى أن وجودها له تعالى كوجود الأعراض لموضوعاتها، وهم جماعة من مقلدة أهل العرفان، والمتشبهين بالصوفية، المغترين بظواهر عباراتهم - مثل أن نسبة الحوادث إليه تعالى كنسبة الأمواج للبحر - فتوهموا أنَّ إله العالم مادة الممكنات، جهلاً بأن مادة الشيء أمر ناقص بالقوة، وجهلاً بأن الفاعل للشيء لا يمكن أنْ يكون قابلاً مستعداً له.
وقوم آخرون ذهبوا إلى أن نسبة وجودات الممكنات إلى ذات الحق تعالى من قبيل القسم الأول - وهم الراسخون في العلم من الحكماء، القائلين بأن للموجودات الإمكانية تحصّلاً بحسب الخارج، غير مستفاد من تحصل الماهيات بل الماهية تحتاج في تحصّلها وتحققها إلى الوجود، وكل وجود يتقوم بوجود علّته الجاعلة إيّاه جعلاً بسيطاً، فيكون كونها في نفسها هو عين فيضانها عن جاعلها الذي هو الوجود النسبي، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط في الكلام في صفاء تام، ولطف شديد في المدارك والأفهام.
المطلب الثالث
في كلمة "ما"
إعلم أنَّ "ما" هاهنا هي الموصولة، والفرق بينها وبين "من" سواء كانتا موصولتين أو استفهاميتين أنَّ "من" إنما تستعمل في ذوي العقول دون "ما" ولكن بينهما فرق آخر عندما استعملتا استفهاميتين: وهو أنَّ أحدهما سؤال عن ماهية الشيء وحقيقته، والآخر سؤال عن هويته ونحو وجوده.
وأما النكتة في إيراد لفظ "ما" في قوله: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } دون "من" في الموضعين، مع أن الموجود في كل منهما مشتمل على ذوي العقول وغير ذوي العقول هي أنه لما كان الغرض نسبة الموجودات إليه سبحانه بالمخلوقية والمملوكية، وكان الغالب فيها ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكل، فأطلق القول وعبّر عن الجميع بلفظ "ما" تنبيهاً على أن المراد من هذه الإضافة مجرّد المخلوقية.
هذا ما قيل، لكن في الحكم بأن الغالب في السماويات ما لا يعقل محل نظر وكذا في السماويات والأرضيات جميعاً فإنَّ الأفلاك وما فيها أحياء ناطقون مسبحون لربهم عند الحكماء الإسلاميين، وما وقع في الحديث أنَّه
"ليس فيها موضع قدم إلاَّ ويوجد فيه ملك ساجد أو راكع" يؤيد ذلك.
وفي بعض خطب أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - من كتاب نهج البلاغة تصريحات بليغة ناصّة على كون الأفلاك وما فيها من الملائكة مسبحون لربهم وساجدون وراكعون بحيث لا يسأمون، إذ لا يغشاهم نوم العيون ولا فترة الأبدان ولا شبهة في أن التسبيح والصلاة لا يصدران إلاَّ من العقلاء، وأيضاً قوله تعالى:
{ { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء:33] - حيث وقع بالواو والنون - يؤيد ما ذكرناه وينور ما قررناه.
فالوجه أن يقال: إنَّ هذه الآية لمَّا كانت في مقام إثبات التوحيد والجلالة والقهر له تعالى، وتوسيع ملك وجوده وتفسيح دائرة هويته بحيث يقهر ويضمحل الكل عند عظمة كبريائه، ويفنى كل فيء وظل حين سطوع نور جلاله وبهائه، فالمناسب فيه أن يجعل الكل - وإن كانوا عقلاء كاملين في وجوداتهم - بمنزلة ذوي النقائص في الوجود.
أو لا ترى إلى قوله: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } كيف يدلّ على حالة طلوع شمس الحقيقة وظهور الوحدة التامة وفناء كل شيء ورجوعه إليه عند القيامة كذوبان الجميد بطلوع الشمس، كما قال تعالى حكاية عن مثل هذه الحالة:
{ { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر:16]. مشيراً إلى ظهور دولة حكم المرتبة الأحدية، وكذا قوله: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } يشير ٍإلى هذا المقام، أي بروز الوحدة التامة، وفناء الكثرات، وزال التعيّنات فإنَّه إذا ظهر علوّه وعظمته فمن ذا الذي يكون له رتبة الوجود في جنب عظمته وعلوّه، ولذلك عبر عن الجميع بلفظ "ما" الدالة على مطلق الشيئية العامة، التي تشمل المعدوم والموجود والمحال والممكن، لكونها غريقاً في الإبهام بعيداً عن التحصّل والتعيّن.
وممّا يدلّ على هذا - أي جعل ذوي العقول مستهلكة العقول في جنب عظمته وسطوع نور جلاله وسطوته - قوله تعالى:
{ { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [البقرة:116]. حيث أتى أشياء بعينها في مقام واحد وهو مقام الأحدية وظهور سلطان الذات وتجلّي العظمة والجلال باسم الإبهام، وفي مقام آخر هو مقام الكثرة وظهور سلطان الأسماء وتجلّي صفات الرحمة والجمال باسم الجمعية الكمالية تنبيهاً على ما ذكرناه.
المطلب الرابع
في معنى كلمة "في"
إعلم أنَّ بعض المتكلمين النافين لوجود ضرب من ملائكة الله المقرّبين كالعقول والنفوس، تمسّكوا بهذه الآية وأمثالها على نفي المجردات قائلين بأنّ الله تعالى لما كان غرضه عرض ما يوجد في مملكته وسلطانه من الموجودات وإظهار المالكية بجميع الممكنات، بحيث لا يخرج عن إقليم إيجاده وخالقيته وملكه شيء أصلاً، فلو كان في عالم القدرة شيء غير جسماني لكان ينبغي أن يكون معدوداً من جملة ما أضيف إليه تعالى بإضافة الإنشاء والخلق والملك، ومنخرطاً مع سائر المعدودات في الذكر، بل هو أولى بالذكر من غيره لكونه أشرف وأعظم منها، فلمَّا اقتصر على ما في السماوات وما في الأرض ولم يذكر غيرها، علم من ذلك أن ليس للمجرد وجود، وذلك لأنَّ لفظة "في" موضوعة لنسبة الظرفية، وطرفا هذه النسبة وهو الظرف والمظروف كلاهما جسمانيان، وكل ما في السماوات والأرض لا يكون إلاَّ جسمانياً وهو المطلوب.
وأما الجواب: فقبل الخوض فيه يجب أن يعلم كل أحد أنَّ الحقائق الكلية والعلوم الحقيقية لا يمكن أن تقتنص من الإطلاقات اللفظية، فإن لكل حقيقة سبب خاص وعلّة قريبة لا توجد إلاَّ بها، وكما أنَّ ذات كل حقيقة لا تحصل إلاَّ من وجه خاص. فكذا العلم بها أيضاً لا يحصل إلاَّ من جهة العلم بمبادئها ومقدماتها، إذ العلم هو صورة المعلوم، فهذا هو طريق اليقين والعرفان، وأما الظنون وسائر الإداركات فربما تحصل من غير هذا الوجه.
ففي مقام لا ينجح فيه إلاَّ المعرفة التامة والكشف الصريح لا يمكن استنباطه من الألفاظ، لأنَّ دلالتها ليست قطعية، نعم في العمليات التي هي أحكام خاصة والمقصود منها العملي خاصة أو الرياضة النفسية، أو المصلحة النوعية والنظام الجملي، فمجرّد الظن والرجحان كاف للعمل به، لأنّ العلم هنا وسيلة العمل فلا يكون أشرف منه، وأما المعارف الإلهية كمعرفة الذات ومعرفة الصفات ومعرفة كيفية الأفعال، فلا يصيح الاكتفاء فيها بالأخذ لها من الألفاظ استقلالاً، بل على سبيل التأييد والتنبيه، كما هو دأب أكثر المتكلمين.
وفي قوله تعالى:
{ { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [يونس:36]. إشعار لطيف بما ذكر، إذ الحق عبارة عن الاعتقاد الصحيح الذي يطابقه الواقع، فافهم تهتد.
فإذا تقرر هذا نقول: إنَّ لفظة "في" استعمل في معان مختلفة تدلّ على بعضها بالاشتراك وعلى بعضها بالتجوز، فإنَّ كون الماء في الكوز، وكون الشيء في الزمان، وكون الجزء في الكل وكون الشيء في المكان، وكون الخاص في العام، وكون الكل في الأجزاء، وكون الكلي في الجزئيات، وكون الشيء في الخصب والراحة، وكونه في الحركة، ليست لفظة "في" في جميعها بمعنى واحد فكون الماء في الكوز ليس بمعنى كون الشيء في الشهر والسنة، وكون السواد في الثوب ليس بمعنى كون الجسم في المكان، وكذلك كون الماهية في الخارج ليس بمعنى كونها في الذهن، وكون اللفظ في المعنى ليس بمعنى كون النقوش في الكتاب، بل لفظة "في" يختلف معناها في هذه المواضع وغيرها اختلافاً كثيراً لا يحصى ولا يجمع الكل إلاَّ إضافة ما.
وليست نفس الإضافة متقضية لنسبة "في" فإنَّ "مع" و "على" و "اللام" وغيرها مما يدلّ على إضافة ما، وليست مترادفة ولا مرادفة لها، والإضافة المكانية تغاير الإضافة الزمانية في ذاتها، وإذا لم تكن نفس الإضافة مراداً بلفظة "في" وخصوص الإضافة مختلفة فيهما ولكل واحد مدخل في معنى "في" فاللفظ واقع بينهما بالاشتراك.
وأما كون الكل في الأجزاء فهو بالتجوز أشبه، لأنَّ الكل هو مجموع الأجزاء والمغايرة شرط صحة الإضافة، ولا يكون في كل واحد أيضاً، ويقال أيضاً: إنَّ الجزء في الكل فلا يكون بمعنى واحد، وإلاَّ يلزم اشتمال الشيء على ما يشتمل عليه، وكذلك كون الشيء في نفس الأمر بالتجوز أشبه.
فإن قلت: يجمع الكل الاشتمال والإحاطة.
قلت: المرجع والمآل في الاشتمال والإحاطة أيضاً إلى الظرفية، فإنه ليست إحاطة الزمان وطرفيته للشيء الزماني كإحاطة المكان وظرفيته للمتمكن، بمعنى ظرفية الماء في الكوز والمتمكن في المكان الحقيقي العرفي، سواء كان سطحاً أو بعداً مجرّداً.
فقد علم مما ذكر أنَّ لفظة "في" مستعملة في معانٍ كثيرة الاختلاف لا يجمعها معنى محصل نوعي، أو جنسي، فيحتاج في التخصيص بأحد المعاني إلى قرينة، فقوله تعالى: { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } يشمل بحسب أصل الاستعمال للأحوال القائمة بها - أعراضاً كانت أو صوراً - وللأجزاء المقدارية المركوزة فيها كالكواكب والأفلاك الجزئية والعناصر، والأجزاء المعنوية مثل المادة والصورة والنفس والأبدان، والأمور المتعلّقة بها كالملائكة المدبّرة إيّاها والمحرّكة لها بأمر مبدعها القيّوم، وكالنفوس والعقول المقوّمة لها بقواها المنطبعة والمجردة.
فالمراد من لفظة "في" هنا إمَّا جميع هذه المعاني المحتملة أو البعض، فالأول أولى على ما هو سياق الآية كما ذكره القائل، إذ التخصيص خلاف الأصل لاشتمال الجميع على قدر جامع كلّي، وهو مثل إضافة التعلق والارتباط.
المطلب الخامس
في دلالة هذه الآية على توحيد الأفعال كما مرّت الإشارة إليه
إعلم أنَّ بعضهم قد احتجّوا بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قالوا: لأنّ قوله تعالى: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يتناول كل ما يكون فيهما، ومن جملة ذلك أفعال العباد، فوجب أن تكون منسوبة إليه تعالى انتساب الملك والخلق إلى الملك والخالق، لما مرّ أنّ هذه الإضافة "إضافة الملك والإيجاد" ولاستحالة توارد الموجدين الفاعلين على مفعول واحد بالعدد.
وكما أن اللفظ يدلّ على هذا المعنى فالعقل أيضاً يؤكده، لأنّ كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح إلاّ بتأثير واجب الوجود لذاته، وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال.
واعلم أنَّ هذا الدليل العقلي جدلي من قبل الأشاعرة الذاهبين إلى تجويز الترجيح من غير مرجح، ولا يمكنهم أن يصححوا عقيدتهم في هذا الباب بهذا الدليل، بل غرضهم إلزام المعتزلة، ومع ذلك فغير تامّ، إذ للمعتزلة أن يمنعوا ذلك بالاستناد إلى أن الممكن يجوز أن يترجح بممكن آخر، وذلك المرجح لإمكانه يترجح إمَّا بممكن آخر او بواجب الذات، وعلى التقديرين لا بدَّ من الانتهاء إلى الواجب بالذات جلَّ اسمه دفعاً للتسلسل أو الدور.
فإذن ليس من شرط الممكن أن يكون مرجح ابتداء وجوده ابتداء هو الواجب إذ مجرّد الإمكان لا يقتضي ذلك ولا خصوصية كل ممكن، بل خصوصيّة بعض الممكنات يستدعي الاستناد بالواسطة كالماديات والمتغيرات والمركبات، فإنَّ المركب مثلاً لا بد في وجوده من سبق وجودات الأجزاء لتقوُّمه بها، فلا يمكن أن يكون وجود الكل والجزء في درجة واحدة يكون كل منهما منسوباً إليه تعالى بالجعل والإيجاد من غير توسط، وكذلك أفعال الحيوان - من الإحساس والتحريك - وأفعال النبات - من التغذية والتنمية والتوليد - وكذلك الأفعال القبيحة الإنسانية ومبادئها مثل الحسد، والكبر، والجهل المركب، والشهوة، والغضب، ونظائرها لا يجوز أن تنسب إليه تعالى من دون وساطة المبادئ القريبة لأنَّه منزّه عن الفحشاء والمنكر والبغي.
واعلم أنَّ مذهب الأشاعرة ليس من توحيد الأفعال في شيء، ولا أيضاً ما ذهب إليه المعتزلة من كون العباد خالقين لأفعالهم مستقلين في وجودها، بل الحق الصحيح الذي ذهب إليه خواص الإمامية ومحققوهم، ويستفاد من أحاديث الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، ويكون مطابقاً لما عليه متألهة الحكماء والرواقيون: أنَّ فيَّاض الوجود منحصر في الواجب بالذات، والوسائط مكثّرات لحيثيات (تجليات - ن) جوده وجهات فيضه.
وادّعى المحقق الطوسي (رضوان الله عليه) اطباق الحكماء على ذلك، وذكر أن ما يوجد في كلامهم من نسبة التأثير والإفاضة إلى بعض الممكنات - المتوسطة بينه تعالى وبين المراتب النازلة - إنما يكون من باب المساهلة في التعاليم في باب كيفية صدور الكثير عن الواحد الحقيقي بحسب الواسطة، من غير أن يكون للوسائط دخل في الإيجاد، بل شأنها مجرّد الإعداد، وتكثير جهات الفيض للواهب الجواد.
ويؤيد ما ذكره قول بعض المشائين: الأول يبدع (مبدع - ن) جوهراً عقلياً هو بالحقيقة مبدع، وبتوسطه جوهراً عقلياً وجرماً سماوياً.
وقوله بعض توابع الرواقيين: إنَّ النور القوي لا يمكّن الضعيف في الإنارة، فالقوة القاهرة الواجبية لا تمكّن الوسائط لشدة نوريتها وقهرها للكل، ليس شأن ليس فيه شأنه تعالى.
وتحقيق هذا المقام أنَّ لكل ممكن ماهية ووجوداً به تتحقق ماهيته وتتحصل والوجود في الجميع معنى واحد بسيط لا اختلاف فيه إلاَّ بالشدة والضعف، والكمال والنقص، وأمَّا الاختلافات النوعية والجنسية بين الممكنات وتخصيص كل منها بنقائص وذمائم وخواص ولوازم فإنَّما هو من جهة ماهياتها، ومراتب إمكاناتها الناشئة من تنزلات الوجود.
فالفائض من الواحد الحقيقي والقيُّوم الأحدي هو أمر واحد منبسط على هياكل الممكنات وذلك الأمر هو محصّلها ومخرجها من القوة إلى الفعل ومن العدم إلى الوجود ومن الكمون إلى البروز، فالوجود أمر واحد مجعول للواحد الحق، والمراتب المختلفة بالتقدم والتأخر والأولية (والأولوية - ن) واللحوق ناشئة عن خصوصيات الماهيات الحاصلة من تنزلات الوجود.
فالوجود في كل مرتبة يقتضي ماهية خاصة، تلزمها خواص ولوازم حاصلة بلا جعل جاعل وتأثير مؤثر، لأنَّ ماهية لوازمها غير مجعولة، فعين الكلب مثلاً ماهية تقتضي النجاسة العينية من غير جعل وإفاضة يتعلقان بها، وإنَّما الفائض من الباري جلّ ذكره هو وجودها، فليس له تعالى إلاَّ إفاضة الوجود، فإنَّ نفس الوجود هو نور يفيض منه تعالى على القوابل حتى القاذورات والأعيان النجسة - شخصية كانت أو نوعية - ومنشأ تخصصات الأفعال والآثار خصوصيات الأعيان الثابتة التي ما شمّت رائحة الوجود.
إذا عرفت هذا فقس عليه أفعال العباد واجعلها وقاية عن نسبة الشرور والآفات إلى الحق الجواد.
فهذه صورة المسألة عند هؤلاء الأكابر، وأما البرهان اليقيني (المتعين - ن) المناسب لأهل البحث على هذا المطلب الشريف فهو مثبت في بابه، ليس هنا مجال بيانه، لأنه يطول به الكلام ويخرج عمّا نحن بصدده من المرام.
المقالة السادسة
في معنى قوله سبحانه: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }
وفيه مشاعر:
المشعر الأول
في معنى "الشفاعة"
إعلم أنَّ الشفاعة - أي ما به يصير الشخص شفيعاً - هو نور يشرق من الحضرة الإلهية على جواهر الوسائط بينه وبين النازلين في مهوى البعد والنقصان، به يجبر النقائص الحاصلة من تضاعف (نقائص - ن) الإمكان، فالمتوسطون في (من - ن) سلسلة البدو: هم العقول الفعَّالة، ثم النفوس العمَّالة، ثم الطبايع النقَّالة الكلية. وفي سلسلة العود: الأنبياء، ثم الأولياء، ثم العلماء.
فكما أنَّ الأشخاص هناك تتقوم بالطبايع، وهي تتقوم بالنفوس، والنفوس تتقوم بالعقول، ونور الوجود إنَّما يفيض من الحق تعالى على الكل لكن على العقول بالاستقامة وعلى غيرها بالانعكاس من بعض إلى بعض، فكذلك هاهنا يتقوم الناس بحسب الحياة الأخروية والوجود العلمي المعادي بالعلماء، والعلماء بالأولياء، والأولياء بالأنبياء، ونور الهداية الوجود المعادي إنَّما يفيض منه تعالى على جوهر النبوة وينتشر منها إلى كل من استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة بالانعكاس لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن، وكثرة الذكر له بالصلاة عليه، كما قال تعالى حكاية عنه:
{ { فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [آل عمران:31].
ومثال ذلك نور الشمس إذا وقع على الماء، فإنَّه ينعكس منه إلى موضع مخصوص من الحائط لا على جميع الحائط، وإنَّما يختص بذلك الموضع بالانعكاس لمناسبة وضعية مخصوصة بينه وبين الماء توجب تلك المناسبة ارتباطاً له بالنيّر بواسطة الماء في الوضع، وتلك المناسبة مسلوبة عن سائر أجزاء الحائط، وذلك هو الموضع الذي إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية متساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من الماء إلى قرص الشمس، وهذا لايمكن إلاَّ في موضع مخصوص من الجدار.
ومن هذا المثال يتفطن اللبيب أنَّ المناسبة التي توجب استفاضة الكمال من الله بتوسط النبي ليست أي مناسبة كانت، بل هي المناسبة المخصوصة التي لها جهة اشتراك مع المناسبة التي بين النبي وبين الله كما في المثال، فإنَّ جميع أجزاء الجدار لها نسبة وضعية مع وجه الماء، ومع ذلك لا يستضيء من تلك الأجزاء إلاَّ جزء خاص، وذلك لاتحاد نسبتها إلى وجه الماء مع نسبة وجه الماء إلى الشمس، لكونهما واقعين معاً في سمت سطح واحد عمود على سطح الماء.
وهكذا حال نسبة البصر مع الصورة الخارجة التي يراها الإنسان، فإنَّ الخط الخارج من البصر إلى المرآة والمنعكس من المرآة إلى الصورة الخارجة دائماً محيطان بزاوية يكون سطح تلك الزواية قائماً على سطح المرآة، كما يثبت في علم المناظرة وتشهد به التجربة، فكذلك حكم المناسبات المعنوية مع النور الإلهي والوجود القيومي.
ومن هنا يظهر معنى قوله (صلّى الله عليه وآله):
"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أبغضني فقد أبغض الله" فإنَّ المناسبات المعنوية العقلية تقتضي للجواهر المعنوية استفاضة النور العقلي بوسيلة من استولى عليه التوحيد، وتأكدت مناسبته مع الحضرة الأحدية، وأشرق عليه النور الإلهي من غير واسطة، ومن لم يترسّخ قدمه في ملاحظة الوحدانية لتضاعف جهة الإمكانية، وضعف جهة الوحدة وغلبة التجسم، والتثكر، والحجب، لم تستحكم علاقته إلاَّ مع الواسطة، أو مع واسطة الواسطة، فافتقر إلى واسطة، أو إلى وسائط، كما يفتقر الحائط الذي ليس بمكشوف للشمس إلى واسطة المرآة المكشوف للماء المكشوف للشمس.
وعند اتحاد الجهة في الارتباط الموجب للشفاعة كما أشرنا إليه يكون حكم الواسطة الثانية في الإشراق والإنارة كحكم الواسطة الأولى من غير تفاوت إلاَّ بالقوة والضعف مع الاتحاد في الماهية، كما أنَّ حكم الواسطة الأولى كحكم النير الحقيقي من غير تفاوت إلاَّ بالأصالة والتبعية، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله):
"من أكرم عالماً فقد أكرمني" .
وإذا تأمل أحد يعلم أنَّ إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة في الدنيا أيضاً فإنّ السلطان قد يغمض عن جريمة أصحاب الوزير ويعفو عنهم لا عن مناسبة أصلية بينهم وبين الملك، بل لأنهم يناسبون الوزير المناسب للملك، ففاضت العناية عليهم بالواسطة لا بالأصالة، ولو ارتفعت انقطعت العناية عنهم بالكلية.
المشعر الثاني
في تعيين الشفعاء ومعنى "الإذن"
قد علمت مما سبق من تفسير الشفاعة أنَّ "الشفيع" من يكون يوم القيامة له مناسبة مع رب العالمين ومناسبة بينه وبين العباد المشفوع لهم فتشرق من المولى عليهم رحمته بالواسطة. ومعنى "الإذن" عبارة عن جعله تعالى بعض الممكنات مخصوصاً بالقرب إليه والتوسط بينه وبين من ليس له هذه المرتبة، وذلك التقديم والتأخير إنَّما يكون لأجل استحقاق ذاتي وتافوت جبليّ حاصل لبعض الأعيان والماهيات بالقياس إلى البعض بحسب الفيض الأقدس، وهو ثبوتها في علم الله تعالى قبل وجودها الخارجي مع آثارها ولوازمها، فقوله تعالى: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ } استفهام إنكاري، أي: لا يشعف عنده إلاَّ بأمره.
وذلك لأنّ الكفرة والمشركين كانوا يزعمون أنَّ الأصنام لهم شفعاء مقرّبون كما أخبر تعالى عنهم بقوله:
{ { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر:3]. وقوله تعالى: { { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس:18] ثم بيّن تعالى أنَّهم لا يجدون هذا المطلب لِمَا علمت أنَّ الشفيع هو الواقع في سلسلة الإيجاد والعلة الطولية دون الأمور الخسيسة الاتفاقية العرضية، فقال: { { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } [يونس:18]. فإنَّ النافع للشيء هو ما يكون مؤثراً في وجوده أو كمال وجوده بنحو من السببية، والضارّ هو عدم ذلك الشيء أو ما يساوقه، فأخبر تعالى هاهنا أنه لا شفاعة عنده إلاَّ من استثناه الله بقوله: { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ونظيره قوله تعالى: { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ:38].
وعلم من هذا أنَّ المأذون للشفاعة أولاً وبالذات ليس إلاَّ الحقيقة المحمدية المسمَّاة في البداية بـ "العقل الأول" و "القلم الأعلى" و "العقل القرآني" عند وجودها الصوري التجردي، وفي النهاية بمحمد بن عبد الله وخاتم الأنبياء عند ظهورها البشري الجسماني، قال: "كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين"أنا سيد ولد آدم وصاحب اللواء وفاتح باب الشفاعة يوم القيامة".
ثم أقرب الأولياء إليه سلفاً وخلفاً بحسب التابعيّة المطلقة هو الحقيقة العلوية المسمَّاة في البداية بـ "النفس الكلية الأوَّلية" و "اللوح المحفوظ" لِمَا أفاده وكتبه القلم الأعلى و "أم الكتاب" الحافظ للمعاني التفصيلية الفائضة عليه بتوسط الروح الأعظم المحمدي
{ { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف:4]. وهو العقل الفرقاني، وذلك عند وجودها التجرّدي. وفي النهاية بعيسى بن مريم وعليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، وهذا عند وجودها البشري الجسماني.
ومن جملة المضاهاة الواقعة بينهما (عليهما السلام) أنَّ كلاًّ منهما ممن وقع الشك في إلهيته. وذلك لغلبة أوصاف الوحدة والتجرّد والولاية عليهما.
ثم الأقرب فالأقرب من العقول والنفوس الكلية بعد العقل الأول والنفس الأولى، الظاهرة في صور الأنبياء والمرسلين سابقاً وصور الأولياء والأئمة المعصومين لاحقاً سلام الله عليهم أجمعين.
ثم الحكماء والعلماء الذين منازلهم دون منازل الأنبياء والأولياء إذا اقتبسوا أنوار علومهم من مشكاة النّبوة والولاية، وإلاَّ فليسوا من الحكماء والعلماء في شيء إلاَّ بالمجاز، وذلك لأنَّ باتّباع الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، إذ العقل لا يهتدى إليه اهتداءً تطمئن به القلوب ويرتفع عن صاحبه الريب والشكّ، ولا سبيل له في معرفة الحق إلاَّ بأن ينظر في الممكنات ويستدلّ بها على موجدها وهو الحق تعالى، ثم على وحدته ووجوبه وعلمه وقدرته، ولا يعلم من صفاته الثبوتية إلاَّ هذا القدر ومن صفاته التقديسية إلاَّ أنَّه ليس بجسم ولا جسماني ولا زماني ولا مكاني وأمثال ذلك.
وليس هذا الاستدلال إلاَّ من وراء الحجب إذ لا يحضر عنده إلاَّ مفهومات ذهنية ومعقولات ثانية لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا بعينه كمن أراد أن يستغني بمفهوم الحلاوة عن السكر وبمفهوم السلطنة عن السطان، فأصحاب العقول كلهم كالذين قال الله فيهم:
{ { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت:44]. لأنهم يجعلون الحق بعيداً عن أنفسهم ويكتفون عن ذات الحق الأول ومشاهدة الذوات المقدسة العقلية وملاقاة حقائق أهل الجبروت والملكوت، القاطنين في طبقات الوجود، بمفهومات ذهنية وحكايات مثالية، ومع هذا لا يجري لهم طريق الاستدلال إلاَّ في الذهنيات والكليات التي هي طور العقل، وأما في الأمور التي هي وراء طور العقل من أحوال الآخرة وأحكام البرازخ فيثبت فيها عقولهم ويقف من غير أن يهتدي إليها إلاَّ باتباع الشريعة.
ولهذا اعترف شيخهم ورئيسهم بالعجز في إدارك المعاد الجسماني وصرح بأن لا سبيل للعقل إليه إلاّ من جهة تصديق خبر النبوة التي أتى بها سيدنا ومولانا محمد (صلّى الله عليه وآله) ومن هنا يظهر معنى الشفاعة ومعنى كون النبي (صلّى الله عليه وآله) مأذوناً فيها ومعنى كون الشفاعة منحصراً فيه بالأصالة، فإنَّ النجاة من العقاب الدائم لا يمكن للإنسان بحسب الكمال العلمي للقوة النظرية - وهو المراد من الإيمان - إلاَّ باستفاضة الحقائق العلمية من معدن النبوة الختمية صلوات الله على الصادع بها وآله، إمَّا بغير واسطة - كما للأولياء - أو بواسطتهم كما للعلماء - أو بحسب الحكاية والتمثيل كما للعوام المسلمين.
قال بعض المحققين من العرفاء: "إنَّ الإنسان الكامل هو سبب إيجاد العالم وبقائه، أزلاً وأبداً، دنياً وآخرة".
وقال صاحب الفصوص الحكمية (رضي الله عنه - ن) "فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة".
قال بعض الشارحين لكلامه: أما "حدوثه الذاتي" فلعدم اقتضائه من حيث هو هو الوجود، وأما "حدوثه الزماني" فلكون النشأة العنصرية مسبوقة بالعدم الزماني، وأما "أزليته" فبالموجود العلمي، فعينه الثابتة أزلية وبالوجود الروحاني، فلأنه غير زماني متعال عن أحكامه مطلقاً، إليه الإشارة بقول النبي (صلّى الله عليه وآله)
"نحن الآخرون السابقون" وأمّا دوامه وأبديته فلبقائه ببقاء موجده دنياً وآخرة.
وأيضاً كل ما هو أزلي فهو أبدي وبالعكس، وإلاَّ يلزم تخلف المعلول عن العلة أو التسلسل في العلل، لأنَّ علته إن كانت أزلية لزم التخلف، وإن لم تكن كذلك يجب استنادها أيضاً إلى علة حادثة بالزمان، وحينئذٍ إن كان للزمان فيها مدخل يجب أن يكون معلولها غير أبدي لكون أجزاء الزمان متجددة متصرمة بالضرورة - والفرض بخلافه - وإن لم يكن فيها مدخل فالكلام فيها كالكلام في الأول فيتسلسل، والتسلسل في العلل التي لا مدخل للزمان فيها باطل، وإلاَّ يلزم نفي الواجب.
فالأبديات مستندة إلى علل أزلية أبدية، كما أن الحوادث الزمانية مستندة إلى علل متجددة متصرمة، والنفوس الناطقة الإنسانية حدوثها بحسب التعلّق بالأبدان لا بحسب ذواتها، والصور الأخروية كما أنها أبدية كذلك أزلية حاصلة في الحضرة العلميّة، والكتب العقليّة، والصحف النورية، وإن كانت ظهوراتها بالنسبة إلينا حادثة.
وأما كونه "كلمة فاصلة" فلتميّزه بين المراتب الموجبة للتكثر والتعدد في الحقائق، وأمّا كونه "جامعاً" فلإحاطة حقيقته بالحقائق الإلهية والكونية كلها علماً وعيناً" انتهى.
وأقول: غرض الشيخ الماتن (قدّس سرّه) من قوله: "فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي" هو الذي أرادته الحكماء من قولهم: "العلّة الغائية متقدمة بحسب الوجود العقلي على ما هي علّة له، ومتأخّرة عن وجوده بحسب الخارج" وقد ثبت عندهم أنَّ العقول الفعَّالة لها جهة الفاعلية للأشياء الكائنة، ولها جهة الغائية، فإذا كان روح النبي (صلّى الله عليه وآله) - أي الحقيقة المحمدية - متّحداً مع العقل الأول فيلزم أن يكون أزليّاً وأبدياً من حيث حقيقته، حادثاً من حيث بشريته.
أمّا أزليته: فباعتبار مبدئيته للأشياء بحسب صورتها العلمية الثابتة في علم الله.
وأمّا أبديّته: فلكونها الثمرة القصوى لوجود الخلائق، أو لا ترى أنَّ جميع الموجودات العنصريّة لها توجّهات وحركات نحو الكمال، فالعناصر تتحرك نحو الجماد والجماد يتوجّه إلى النبات، والنبات إلى الحيوان، وهو إلى الإنسان، وأول الإنسان ذو العقل (هو العقل) الهيولاني، وهو يتوجه في تحصيل الكمال إلى العقل الفعَّال، بعد طيِّ مراتب العقل بالملكة والعقل بالفعل فيصير مرتقياً إلى ما ينزل منها، وذلك العقل الفعَّال صار ثمرة شجرة هذا العالم بعد أن كان بذر هذه الشجرة، فما يكون بذراً صار ثمرة.
فانظر إلى حكمة الباري وقدرته كيف ينقل البذر في تقاليب الأطوار إلى أن يبلغ مرتبة الثمار، فيبتدئ أوله وهو بذر يفسد لبّه في الأرض ويفنى عن نفسه في الأماكن الغريبة عن ذاته، يم يستحيل وينتقل بقوّته النامية من حال إلى حال ومن طور إلى طور، حتى ينتهي آخره إلى ما كان أولاً ويصل إلى درجة اللّب التي كان عليها سابقاً مع عدد كثير من نوع ذاته، وفوائد كثيرة وخيرات جمة من فروع ذاته ولوازمها وقشور صفاته، وضروريّات هي أرباح تجارية وفوائد سفره من الأوراق المخضرّة والأغصان المثمرة والأنوار والأزهار، وجميع ما يسقط منه ويضمحل ويفسد، وهي التي بسببها تارة يكون محبوساً عن المراد مقيداً بصحبة الأضداد، وتارة بمخالطتها وحراستها محروساً عن الاضمحلال والفساد، وبمعاونتها وصيانتها مصوناً عن العفونة للمواد، فيخرج من بين فرث تلك الأوراق والحشائش، ودم العروق والأغصان، دهناً خالصاً، ولبّاً صافياً (ذهباً خالصاً ولبناً صافياً - ن) وبذراً سالماً غانماً بإذن الله وثمرة صالحة هي نتيجة المقدمات والانتقالات موجودة باقية أبديّة مع انفساخ أكثرها وزوالها ودثورها.
فأحسن إعمال رويّتك بملاحظة هذا التمثيل وتطبيق قرائنه وحمل ألفاظه لتظهر لكل كيفيّة كون الحقيقة المحمديّة سبباً داعياً لوجود العالم، ونتيجة مترتبة عليه، وكل ما كان كذلك كان واسطة لوجود العالم سابقاً ولاحقاً، دنياً وآخرة، فتحقق معنى قوله:
"كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين" ، وقوله: "لولاك لما خلقت الأفلاك" وقوله: "نحن الآخرون السابقون" فيكون شفيعاً يوم القيامة وسراجاً منيراً وهادياً، كما أنَّه كان وسيلة وداعياً يوم الابتداء.
فيلزم مما ذكرنا أن تكون روحه (صلّى الله عليه وآله) أو شيء تعلّقت به القدرة وإن سمي بأسماء مختلفة باعتبارات متكثرة بقوله:
"أول ما خلق الله نوري" و "أول ما خلق الله روحي" وفي رواية: "العقل"......... وفي رواية: "القلم" وفي رواية: "اللَّوح".
قال بعض الكبراء: أول ما خلق الله على الإطلاق ملكاً كرّوبياً يسمى "العقل" وهو صاحب القلم بدليل توجّه الخطاب إليه في قوله: "أقبل" فأقبل ثم قال له: "أدبر" فأدبر كما جاء في الحديث المنقول في كتاب الكافي وغيره، ولمَّا سماه "قلماً" قال له: "إجر بما هو كائن إلى يوم القيامة" فبحسب كل صفة يسمى باسم آخر، فقد كثرت الأسماء المسمّى واحد، فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمّي "درة" و "جوهرة"، كما جاء في الخبر:
"أول ما خلق الله جوهرة مثل درّة فنظر إليها فذابت، فخلق منها كذا وكذا" ، وباعتبار نوارنيته وظهوره بذاته وظهور الخلائق به سمّي "نوراً" وباعتبار تجرّد ذاته عن الأكوان وحضوره عند ذاته سمّي "عقلاً بالفعل"، وباعتبار غلبة الصفات الملَكيّة والأخلاق الحسنة سمّي "ملكاً"، وباعتبار تصويره للحقائق مفصلة على ألواح النفوس الناطقة سمّي "قلماً".
وإذا أمعنت النظر وجدت كلما وصف به العقل وحكي منه فهو خاصية من خواص روحه - عليه وعلى آله الصّلوات - وهو مثل قوله: "أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر"، وهذا بعينه هو روحه، إذ قال له: "أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين، فأقبل" ثم قال له: "أدبر، فأدبر"، أي: ارجع إلى ربك، فأدبر عن الدنيا وركع إلى ربّه ليلة المعراج ثم قال للعقل: "وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ منك" وفي رواية "أعظم" وهذا هو حاله (صلّى الله عليه وآله) لأنه كان حبيب الله وأحبّ الخلق إليه وأعظمهم عنده، وقوله تعالى للعقل: "بك أعرف وبك آخذ وبك أُعطي وبك أُعاقب ولك أُثيب". فهذا كله حال النبي (صلّى الله عليه وآله)، لأنَّ من لم يعرف النبي بالنبوة والرسالة لم يعرف الله ولو كان له ألف دليل على معرفة الله، كما يعلمه أهل الحق بالإيمان الكشفي الإشراقي - بعد الإيمان الغيبي الاقتدائي التبعي -.
فمعنى الحديث عند أهل البصيرة: أنَّ بمعرفتك أعرف أي: من عرفك بالنبوة عرفني بالربوبية وبك آخذ أي: آخذ طاعة من أخذ منك ما آتيته من الدين والشريعة وبك أُعطي أي: بشفاعتك أُعطي درجة أهل الدّرجات، كما روي عنه (صلّى الله عليه وآله):
"الناس محتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم (عليه السلام)" وبك أُعاقب وبك أُثيب وذلك لقوله تعالى: { { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [آل عمران:81]. وذلك لأنَّ الله أخذ ميثاق كل نبي بعثه بأن يؤمن بمحمد ويرضي أمته بالإيمان به ونصرة دينه، فمن آمن به من الأمم الماضية قبل بعثته وبعد بعثته فهو من أهل الثواب، ومن لم يؤمن به من الأولين والآخرين فهو من أهل العقاب، فصح فيه قوله: "بك أُعاقب وبك أُثيب" ومن هاهنا ينكشف قوله (صلّى الله عليه وآله): "لو كان موسى في زمني لا يسعه إلاَّ اتّباعي" .
فكل ما ذكر في معرفة "الروح الأعظم" فهو حال النبي (صلّى الله عليه وآله)، وناهيك في الاعتقاد بكونه (صلّى الله عليه وآله) متّحد الحقيقة مع العقل الفعَّال والروح الأعظم البرهان من قوله تعالى: { { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب:6]. وقوله في حديث غدير خم مخاطباً لأمته: "ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه" .
بيان ذلك: أنَّ المراد بالمؤمنين هم العارفون الذين صارت نفوسهم عقولاً بالفعل، والعقل بالفعل هو الموجود الحقيقي، والحياة العقلية الأخرويّة، والنبي بروحه المقدَّس سبب لوجوداتهم الحقيقيّة، ومبدأ لكمالاتهم العرفانيّة ومنشأ لفيضين (لفيضان - ن) الكمالين الأولي الأقدس والثانوي المقدَّس، وعلّة الشيء أولى بنفس ذلك الشي من نفسه، إذ الشي بالقياس إلى علّته بالوجوب حيث كان بالقياس إلى نفسه بالإمكان، فلو لم يكن روح النبي (صلّى الله عليه وآله) علّة لوجوداتهم الحقيقيّة لم يكن أولى من أنفسهم، فهو الأب الحقيقي لهم ولذلك كانت أزواجه أمّهاتهم مراعاةً لجانب الحقيقة.
فهو الوسط بينهم وبين الحق، ومبدأ فطرتهم في سلسلة الافتقار النزولي هو المرجع في كمالاتهم في سلسلة الارتقاء الصعودي، ولا يصل إليهم فيض الحق بدونه، لأنَّه الحجاب الأقدس والتعيّن (المتعين - ن) الأول، فلو لم يكن أولى وأحب إليهم من أنفسهم لكانوا محجوبين بأنفسهم عنه فلم يكونوا ناجين إذ نجاتهم إنَّما هي بالفناء فيه، لأنه المظهر الأعظم.
وهذه معانٍ تحتاج إلى تفصيل في المقال، ليظهر جليّة الحال على الذكي المستبصر بأساليب الارتقاء إلى الكمال، بعد تصفية القلب من مشوشات الدنيا وتجلية الذهن والبال، وتحصيل الاستعداد والاتصال بالعقل الفعّال والله الهادي إلى طريق الإصافة في الأقوال والأفعال، وبيده أزمّة الأمور في الآباد والآزال.
المشعر الثالث
في تعيين المشفوع له
وهو كل من صحّت نسبته إليه من فقراء أمته، ولفظة "الصحّة" يشمل الإمكان الذاتي والاستعدادي جميعاً، فالمراد من الأول: المطيعون من أهل الإيمان، ومن الثاني: العاصون من أمّته وإن اقترفوا الكبائر واللّمم ما لم يصر منشأ عصيانهم جهلاً مستحكماً أو ملكة ذميمة راسخة بحيث يمتنع زوالها، فلا تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال القفّال نصرة لأهل الاعتزال: "إنَّه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل المعصية والطاعة" وطوّل في بيان ذلك والعجب أنَّ تعلّق ضرب من الشفاعة بأهل المعاصي ليس يقبح عند العقل، والمعتزلة قائلون بالتحسين والتقبيح العقليّين، فكيف يتأتى لأحد منهم أن يدَّعي أن تعلّق الشفاعة والرحمة بأهل الكبائر والعفو عن ذنوبهم قبيح في الحكمة؟
وأمّا التسوية المذكورة فغير لازمة من جهة مجرّد العفو والشفاعة، لأنَّ منزلة الكاملين في العلم والعمل ليس كمنزلة العصاة من أهل الرحمة والشفاعة.
وإن أراد أنه لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي في أمر من الأمور فهو جهل محض، لأنه تعالى قد سوّى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيّبات وكثير من المرادات.
وإن كان المراد أنّه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فهو مما لا ينكره أحد، بل الجميع قائلون بموجبه - وكيف لا - والمطيع لا يكون له فزع ولا يكون خائفاً من العقاب، والمذنب يكون في غاية الخوف، وربما يدخل النار ويتألّم مدة مديدة ثم تتداركه الرحمة يخلصه الله عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله).
على أن أكثر المعتزلة - وهم البصريّون منهم - ذهبوا إلى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول، إلاَّ أنَّ السمع دالّ على عدم وقوعه، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ إلاَّ ما اشتثناه - وهم الراسخون في الأوصاف الذميمة التي هي مبادئ الأعمال القبيحة - على ما هو مبيّن في مقامه، نعم هذا الاستدلال لا يستقيم على مذهب الكعبي إلاَّ أنَّ الجواب ما ذكرناه.
فعلم أنَّ هذا القفّال قليل الوقوف على مسلك الاعتزال، ناقص النصيب في علم الكلام، مع رسوخه كالزمخشري في التعصّب لهذا المذهب والمبالغة في المنع عن جود الله في حق أهل الكبائر من الإسلام، والصدّ عن نيل رحمته إيّاهم في دار السلام.
ويمكن الجواب عن شبهة القفّال بوجه آخر على طريقة أهل الكلام، وهو أنَّ العقاب حقّ الله وللمستحق أن يسقط حق نفسه بخلاف الثواب فإنّه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه وهذا الجواب مما ذكره الإمام الرازي وهو من علماء مذهب الأشاعرة، فكأنَّه ذكره على قانون الجدل إلزاماً على المعتزلة، وإلاَّ فالأشاعرة ليسوا قائلين بالاستحقاق في العبد للثواب ولا للعقاب.
واعلم أنَّ الناس بحسب العاقبة ستة أصناف، لأنَّهم إمّا سعداء وهم أصحاب اليمين، وإمّا أشقياء وهم أصحاب الشمال، وإما السابقون وهم المقرّبون، قال الله تعالى:
{ { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } [الواقعة:7]. الآية.
وأصحاب الشمال: إمّا المطرودون الذين حقَّ عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي، المختوم على قلوبهم أزلاً كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [الأعراف:179] الآية، وقد روي في الحديث الإلهي الربَّاني: "خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي" . وإمَّا المنافقون الذين كانوا مستعدين بحسب الفطرة، قابلين للنّور في الأصل والنشأة، لكن احتجبت بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي.
وأصحاب اليمين: إمّا أهل الفضل والثواب، ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوِّئون درجات الجنّة على حسب استعداداتهم من فضل ربّهم، وإمَّا أهل العفو الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، وهم قسمان: المعفو عنهم رأساً؛ لقوّة اعتقادهم وعدم رسوخ سيئاتهم، والمعذبون حيناً بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا فنجوا، وهم أهل العدل والعفات (العقاب - ن) والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سّيئات ما كسبوا لكن الرحمة تتدراكهم وتنالهم بالآخرة.
فهذه أصناف النفوس الإنسانيّة، والجميع محتاجون إلى شفاعة السيّد (صلّى الله عليه وآله) يوم القيامة كما إنَّهم محاجون إلى هدايته في الدنيا، لكن بعضهم ممتنع القبول للشفاعة في العقبى كما للهداية في الأولى، وبعضهم ممكن القبول للشفاعة لهم بالإمكان العام الشامل للضرورة والإمكان الذاتي والاستعدادي قريباً كان أو بعيداً.
وتفاصيل هذه الأمور وبيانها بالبرهان مما يطلب في كتب أهل الكشف والعرفان، والله وليس الهداية والإتقان.
المقالة السابعة:
في قوله سبحانه: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في العلم
"العلم" يطلق على معان بعضها من باب الكيف، وبعضها من باب الإضافة وبعضها من مقولة المعلوم.
أمّا الأول: فهو حال بها تتميّز الأشياء عند العقل.
وأمّا الثاني: فهو النسبة التي بين العالم والمعلوم يعبّر عنه في لغة الفرس بـ "دانستن" وقيل: العالمية عبارة عن اتحاد الشيء مع مفهوم هذا المشتق، أي "العالم" ومفهومه كسائر المشتقات أمر بسيط يعبّر عنه في الفارسية بـ "دانا" والذات والنسبة خارجتان عن مفهوم المشتق.
وأمّا الثالث: فهو الصورة الموجودة للشيء المجرّد عن المادة تجريداً تامّاً أو ناقصاً.
فالتامّة في التجريد ما يكون مجرّداً عن المادة ولواحقها وإضافتها جميعاً - إمَّا بحسب الفطرة أو بسبب تجريد مجرّد يجردها - فعلى أي الوجهين يكون معقولاً كليّاً أو شخصياً، معقولاً لغيره أو لنفسه.
والناقصة في التجريد ما يكون مجرّداً عن المادة فقط دون لواحقها أصلاً - فيكون محسوساً - أو عنها وعن بعض لواحقها دون بعض آخر - فيكون متخيّلاً - أو عنها وعن لواحقها جميعاً دون إضافتها - فيكون موهوماً -.
والمشهور أنَّه من باب الكيف وهو خطأ، بل قد يكون جوهراً بحسب الماهية والوجود جميعاً كعلم المجرد بذاته أو بحسب الماهية دون الوجود كعلمه بغيره من الطبايع الكليّة الجوهريّة، فإنّها جواهر الماهيّة المعلومة الذهنيّة، عرض بحسب كونها حالة علميّة شخصية خارجية وقد يكون مجرّد الوجود القائم بذاته غير داخل تحت مقولة أصلاً، وهو علم الواجب لذاته بذاته وبجميع ما عداه علماً إجمالياً، فإنَّ ذاته تعالى لكونه في غاية التجرّد - لتجرّده عن التعلّق بغيره، سواء كان ماهية أو أمراً مبايناً يكون (لكونه - ن) حاصلاً لذاته حصولاً واجباً بالذات، إذ لا مغايرة لا ذهناً ولا عيناً - فيكون عاقلاً لذاته، ولما كانت ذاته بذاته مبدأ جميع الممكنات فيكون علمه بذاته مبدأ العلم بجميع الممكنات، إذ العلم التام بالعلّة التامة يوجب العلم التام بالمعلول، ولما كانت ذاته وعلمه بذاته - وهما العلّتان - شيئاً واحداً فتكون ذوات المجعولات ومعلوميتها له تعالى شيئاً واحداً.
فتلك الذوات بأنفسها علم ومعلوم له تعالى، وهي من حيث كونها شخصاً واحداً له صورة واحدة علمية معلوم له تعالى بعلم واحد، متقدم عليها ومقارن بها، ومن حيث كونها أموراً متكثرة متفاصلة يعلمها بعلوم تفصيلية بعضها متقدم وبعضها متأخر ولها مراتب:
أولها: نفس ذاته تعالى، فإنَّه علم تفصيلي بذاته وعلم إجمالي بما عداه بمعنى أنَّ نسبته إليها نسبة صورة الشيء التي بها قوامة وتمامه، ونسبتها إليه نسبة الحكاية إلى المحكي عنه لكونها مظاهر أسمائه، وقد مرّت الإشارة أيضاً إلى أنّ الأعيان الثابتة مظاهر أسمائه المتكثرة، وأسماؤه على كثرتها تفصيل مسمّى لفظ "الله" ومعناه الكلي، وهو مع كليتها عين ذاته الأحدية المتشخصة بنفسها، لكونه بحت الوجود القائم بذاته.
وثانيها: مرتبة "القلم" وهو العالم العقلي المحيط على الجميع إحاطة كليّة إجمالية.
وثالثها: مرتبة اللَّوح المحفوظ المسمّى بـ"أم الكتاب" المشتمل على الصورة الكلية على سبيل التفصيل، وعالمها "عالم القضاء الإلهي" الذي جرى عليها القلم إلى يوم القيامة.
ورابعها: مرتبة لوح المحو والإثبات، وهي مرتبة الصور المثالية للكائنات بأسرها، المنطبعة أو المتعلقة بالنفوس الجزئية الفلكية، المترائية في مرايا أجرامها الصافية، معيَّنة مقرونة بمخصصاتها الزمانية والمكانية على نحو جزئي.
وخامسها: مرتبة الصور الخارجية المادية.
فالواجب يعلم بنفس ذاته جميع هذه المراتب - على كثرتها وتفاصيلها الكلية والجزئية - بعين تلك الصور ومحيط بها على الوجه المقدس عن الزمان والمكان حتى المرتبة الأخيرة مع تغيّرها وتجددها، فإنّ الصورة الواقعة وإن كانت في نفسها من حيث كونها مغشاة بأغشية هيولانية محسوسة لا معقولة، إلاَّ أنَّ إحاطته تعالى بها من جهة قيوميتها، ومشاهدته إياها من جهة مشاهدة أسبابها ومقوماتها المؤدية إليها، لا من جهة انفعال وتأثير منها له تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
فالمعلومات الجزئية المتغيرة مع جزئيتها وتغيرها وفسادها معلومة له تعالى على وجه ثابت دائم، مصون عن التغير والفساد وهذا مما يحتاج دركه إلى لطف قريحة.
المسألة الثانية
في مرجع ضمير الجمع
الضمير لما في السماوات وما في الأرض، لأنَّ فيهم العقلاء، فغلبوا، أو لما دلَّ عليهم "من ذا" من الملائكة، والأنبياء، والعالمين، والأولياء، والصالحين، والشهداء، أو للمأذونين منهم في الشفاعة خاصة، ويحتمل أن يكون للإنسان أو للحاضرين من أمته (صلّى الله عليه وآله).
المسألة الثالثة
في أنَّ القبْلية والبعْدية المستفادتين من الكلام بأي وجه كانتا؟
قد ذكر المفسِّرون فيهما وجوهاً:
منها: أنه يعلم ما بين أيديهم أي ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما خلفهم أي ما كان بعدهم من أمور الآخرة عن مجاهد وعطا والسدّي.
ومنها: يعلم ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم يعني الدنيا، لأنّهم يخلفونها وراء ظهورهم عن الضحَّاك والسدي.
ومنها: يعلم ما بين أيديهم من السماء إلى الأرض، وما خلفهم يريد ما في السماوات عن ابن عباس رواه عطاء.
ومنها: ما ذكره الرازي في الكبير: يعلم ما بين أيديهم بعد انقضاء آجالهم وما خلفهم أي ما كان من قبل أن يخلقهم.
ومنها: ما فعلوا من خير وشرّ وما يفعلونه بعد ذلك.
ومنها: ما ذكره نجم الدين الداية في تفسير المسمى بـ "بحر الحقائق": يعلم أي الذي يشفع عنده وهو محمد (صلّى الله عليه وآله)، لأنه مأذون في الشفاعة أصالة كما مرّ تحقيقه - ما بين أيديهم - من أوليات الأمور ومقدماتها قبل خلق الخلائق، وهو عالم الأرواح التي خلقها الله قبل الأجساد بألفي عام - وما خلفهم - من أحوال القيامة وأهوالها، وفزع الخلق، وغضب الرب، ويطلب الشافعة من الأنبياء، وقولهم "نفسي، نفسي" ورجوعهم بالاضطرار.
أقول: ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد مما بين أيديهم صور المعلومات الجزئية الحسية أو البديهيات، وما خلفهم صور المعقولات الكلية أو النظريات؛ لتقدم الأولى وتأخر الثانية بالقياس إلى الإنسان، وعدم حصول الثانية له إلاَّ بوسيلة سبق الأولى، كما قيل "من فقد حسّاً فقد علماً".
وحاصله: أنه تعالى عالم بجميع الأشياء - جزئية كانت أو كلية - ومن جملتها الشافع والمشفوع له، والجهة التي بها يستحق الشفعاء للشفاعة، والمشفوع لهم للاستشفاع دون غيره، حتى أنَّ الشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطاعة ما يستحقون هذه الدرجة الرفيعة، والمنزلة العظيمة عند الله سبحانه، ولا يعلمون أنَّه سبحانه هل صيّرهم مأذونين في الشفاعة أم لا؟ بل يستحقون المَقت والزَّجر فإنَّ العزة لله جميعاً، والممكن بحسب ذاته متخمّر من الكدورة والظلمة المنشأة عن ماهيته الإمكانية، وإنَّما المنوِّر لها والمخرج إياها من العدم والإبهام إلى الوجود والتحصيل، ومن القصور والنقصان إلى التمام والتكميل، هو الحق تعالى القيُّوم بذاته، الذي يعطي نور الوجود لما يشاء - كل بحسبه - ويصطفي من الملائكة والبشر رسلاً وأنبياء، ويكسيهم كسوة العزَّة والبهاء والقدرة والغنى، ومنزلة الهداية والشفاعة في الأولى والعقبى.
المقالة الثامنة:
في قوله سبحانه: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ }
وفيه إشارات:
الإشارة الأولى
قال الرازي في الكبير: "إن المراد من "العلم" هنا. "المعلوم" كالخلق بمعنى المخلوق، وفي الأدعية: "اللَّهمَّ اغفر لنا علمك فينا" أي: معلومك. أو لا ترى أنَّه إذا ظهرت آية عظيمة قيل: "هذه قدرة الله" أي مقدوره، والمعنى: أنَّ أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى".
أقول: لمَّا علم في القرينة السابقة أنَّ جميع الموجوات - سواء كانت كليّة أو جزئية، معقولة أو محسوسة، صوراً علمية أو محالاً إداركية، أو آلات ومشاعر - حاضرة عنده تعالى بحيث يكون نفس وجودها في أنفسها نفس علميتها ومعلوميتها له تعالى من غير تضاعيف الصور الإداركية، فجميع الموجودات يكون معلوماً - أي صوراً علمية ومعلومات بأنفسها لا بصورة مستأنفة أخرى - فإذا كان الأمر كذلك تكون العلوم كلها معلوماً له تعالى، والمعلومات كلها معلومات وعلوماً له تعالى معاً، فكل ما يعلمه أحد منّا يكون بعضاً من علومه تعالى - سواء كانت علوماً لنا أو معلومات -.
فحينئذٍ لا يُحتاج إلى ارتكاب المجاز، لكن لمَّا كان العلم عند هذا القائل مجرّد الإضافة احتاج إلى ذلك؛ لأنّ الإحاطة لا تتعلق بالإضافة، ولا التبعيض يناسبها.
الإشارة الثانية
إنهم لا يعلمون الغيب إلاَّ من جهة إطلاعه تعالى بعض ملائكته، أو أنبيائه على بعض الغيب، كما قال:
{ { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [الجن:26 - 27].
الإشارة الثالثة
إنَّه لمّا ثبت أنَّ لعلمه تعالى مراتب بعضها متقدم على بعض وعلّة له، وبعضها متأخر عن ومعلول له، والمتأخرات عين ذوات الأشياء فيكون علمه تعالى بذوات المجعولات - التي هي من مراتب علمه بوجه - علماً فعليّاً، وهو المشيئة الإلهية أيضاً، لأنَّ علمه الذي هو في مرتبة ذاته عين إرادته التي هي في تلك المرتبة بالذات، ويعبّر عنها بالمشيئة الذاتية، وكذا كل مرتبة من مراتب علمه عين إرادته في تلك المرتبة، إذ مراتب الإرادة على وزان ما علمت في مراتب العلم، فلا محالة تكون علوم غيره "معللة عن مشيئته الأصلية فلذا قال: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } أي بسبب مشيئته لأنّ "الباء" سببية و "ما" مصدرية، لا أنَّها صلة "يحيطون" كما يتبارد على الأذهان أولاً، وإن كان له وجه أيضاً، لأنَّ ما ذكرناه ألطف وأربط بما سبق وأليق بكلام الحق، لدلالته على أن مشيئته سبب لعلومهم، لا أن متعلقها متعلق علومهم.
الإشارة الرابعة
إنَّ المناسبة بين الشيء والمشيئة مما تحقق مذهب القائلين بالجعل البسيط بمعنى أنّ الجاعل بهويته وشيئيته علَّة لهويته المجعولية وشيئيته والآية مشعرة بذلك لإشعاره بأنه تعالى بمشيئته التي هي ذاته وعين علمه بذاته، يفيد شيئية علمه الذي هو عين معلومه، فتكون ذاته مشيّئ الأشياء ومذوت الذوات ومحقق الحقائق - كما عليه الرواقيون من الحكماء - بل ذات الذوات وحقيقة الحقائق كما عليه المكاشفون الواصلون من العرفاء.
الإشارة الخامسة
أن يكون ضمير الجمع في "ولا يحيطون" راجعاً إلى أهل المحبة والولاية، الواصلين إلى مقام الاستغراق والمشاهدة، فيشاهدونه تعالى بالمشاهدة العقلية ويشاهدون الأشياء بنور ذاته، فيكون الحق لهم سمعاً وبصراً كما وقع في الحديث المشهور، فالمعنى: لا يحيطون بشيء من علمه إلاَّ بمشيته التي هي ذاته، فبذاته يعلمون الأشياء وبه يسمعون وبه يبصرون، كما أن به يقدرون على شيء مما كسبوا.
وذلك لفنائهم عن هويّاتهم وقصر نظرهم عنها إلى ذاته، وتخلّقهم بصفاته، على ما يعلمه الراسخون في العلم والمعرفة من غير لزوم شيء من المحالات كصيرورة صفاته تعالى - التي هي عين ذاته - صفات العبد، أو حلول ذاته في ذات العبد كما توهمه المحجوبون عن نسبة القيُّومية التي لا يشابهها شيء من النسب، لأنَّها ليست بالحاليّة والمحلية، ولا الاقتران والمزايلة، ولا الاتحاد والمغايرة، ولا المماسّة والمباينة (ولا الماسة أو المناسبة - ن) ولا الملاصقة والمحاذاة، ولا المواصلة أو المفاصلة، بل هي نسبة مجهولة الكنه يعبّر عنها بأمثلة جزئية مقرّبة من وجوه ومبعدة من وجوه لمن يكون من أهل المشاهدة فضلاً عن الذين لا يكونون من أهل المشافهة كأهل الوقت، حيث ليسوا ممن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فليسوا من الواصلين للعين، ولا من السامعين للأثر.
المقالة التاسعة:
في قوله سبحانه: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ }
وفيه لوامع:
اللمعة الأولى
"الوسع" بمعنى الطاقة، يقال: "وسع فلان الشيء" إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وبلوازمه، "ولا يسعك هذا" أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله (صلّى الله عليه وآله):
"لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلاَّ اتّباعي" أي: لا يحتمل غير ذلك.
اللمعة الثانية
"الكرسي" في اللغة: كل أصل يعتمد (يحتمل - ن) عليه وكل شيء تراكب فقد تكارس، من "الكرس" - بالكسر - وهو تراكب الشيء بعضه على بعض وتلبّد جزء منه على جزء. "والكرس": أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها على بعض، وقد أكرست الدار: إذا كثرت فيها الأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض، و "تراكس الشي": إذا تركب ومنه: "الكراسة" وجمعها "الكراريس" لتراكب (لتركب - ن) أوراقها بعضها على بعض، ومنه "الكرسي" الموضوع لهذه الهيئة المعروفة المصنوع لما يجلس لتركب خشباته وقطعه، ويقال للعلماء "كراسي" كما يقال لهم "أوتاد الأرض" لأنّ عليهم الاعتماد وبهم القوام في الدين والدنيا.
اللمعة الثالثة
في تفسير لفظ الكرسي وغيره من الألفاظ التشبيهية
إعلم أنَّ للناس في هذا اللفظ وفي سائر متشابهات القرآن والحديث مسالك:
أحدها: منهج أهل اللغة، وأكثر الفقهاء، وأرباب الحديث، والحنابلة، والكرامية وهو إبقاء الألفاظ على مدلولها الظاهر ومفهومها الأول من غير مراعاة التنزيه والتقديس في ذات الله تعالى وصفاته.
وثانيها: منهج أرباب العقل والتدقيق، وهو تأويل الألفاظ على وجه تطابق قوانينهم النظرية ومقدماتهم العقلية تحفّظاً على تقديسه تعالى، وتنزيهه عن صفات الإمكان ونقائص الأكوان.
وثالثها: منهج الراسخين في العلم والإيقان، وهو إبقاء الألفاظ على مفهوماتها الأصلية من غير تصرف فيها، لكن مع تحقيق تلك المفهومات وتجريد معانيها عن الأمور الزائدة، وعدم الاحتجاب عن روح المعنى بسبب اعتياد النفس بهيئة مخصوصة يتمثل ذلك المعنى بها غالباً.
مثلاً لفظ "الميزان" موضوع لما يوزن به الشيء، وهو أمر مطلق عقلي هو بالحقيقة روح معناه وملاك أمره من غير أن يشترط فيه التخصص بهيئة مخصوصة، وكل ما يقاس به شيء بأي خصوصية كانت، حسية كانت أو عقلية يصدق عليه أنه ميزان، فالمسطرة والشاقول والكونيا والأسطرلاب والذراع وعلم النحو، والعروض، والمنطق، والعقل كلها مقاييس وموازين بها تقاس وتوزن الأشياء، ولكل منها وزان ما تناسبه وتجانسه.
فالمسطرة ميزان الخطوط المستقيمة، والشاقول ميزان الأعمدة على وجه الأرض، والكونيا ميزان ما يوازي الأفق من السطوح، والأسطرلاب ميزان الارتفاعات وغيرها، والذراع ميزان كميّة المقادير الخطية، والنحو ميزان إعراب اللفظ وبنائه على عادة العرب، والعَروض ميزان كميّة الشعر، والمنطق ميزان صحيح الفكر، والعقل ميزان الكل.
فالكامل العارف إذا سمع لفظ "الميزان" لا يحتجب عن معناه الحقيق بما يكثر إحساسه ويتكرّر مشاهدته من الأمر الذي له كفتان وعمود ولسان،وهكذا حاله في كل ما يسمع ويراه، فإنَّه ينتقل إلى فحواه، ويسافر إلى روحه ومعناه، وباطنه وأخراه، ولا يتقيّد بظاهره وأولاه، وصورته ودنياه.
وأمَّا المقيَّد بعالم الصورة فلجمود طبعه، وخمود ذهنه، وسكون قلبه إلى أول البشرية وإخلاد عقله إلى أرض المحسوسية، يسكن إلى أوائل المفهوم ويطمئن إلى مبادئ العقول، ولا يسافر عن مسقط رأسه ومنبت حسه، ولا يهاجر من بيته إلى الله ورسوله حذراً من أن يدركه الموت المزيل للصورة الحسية قبل الوصول إلى عالم المعنى، وذلك لعدم وثوقه بما وعده الله ورسوله حقّاً، وقلة تدبره في معنى قوله سبحانه:
{ { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } [النساء:100].
والحاصل: أنّ الحق الحقيق بالتصديق عند أهل الله وأرباب الحقيقة والتحقيق هو حمل الآيات والأحاديث على مفهوماتها الأصلية من غير تأويل - كما ذهب إليه محققوا أئمة الحديث وعلماء الأصول والفقه - لكن لا على وجه يستلزم التشبيه والنقص والتجسيم في حقه تعالى وصفاته الإلهية.
قال بعض الفضلاء: المعتقد إجراء الأخبار على هيأتها من غير تأويل ولا تعطيل.
أقول: مراده من "التأويل" حمل الكلام على غير معناه الموضوع له، "والتعطيل" هو التوقّف في قبول ذلك المعنى، وأكثرهم على أنَّ ظواهر معاني القرآن والحديث حق وصدق، وإن كانت لها مفهومات ومعانٍ أُخر غير ما هو الظاهر، كما وقع في كلامه (صلّى الله عليه وآله):
"إنَّ للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومطلعاً" كيف ولو لم تكن الآيات والأخبار محمولة على ظواهرها ومفهوماتها الأولى من غير تشبيه وتجسيم لمَا كانت فائدة في نزولها وورودها على الخلق كافة، بل كان نزولها موجباً لتحيرهم وضلالهم وهو ينافي الرحمة والحكمة.
اللمعة الرابعة
في نقل وجوه المعاني بحسب كل منهج
فمن المنهج الأول: إنّه جسم عظيم يسع السماوات والأرض من جهة الظرفية والإحاطة المقدارية.
ثم القائلون بهذا المعنى اختلفوا: ففرقة ذهبوا إلى أن الكرسي هو نفس العرش، وهما جسم واحد - وبه قال الحسن - واستدلّوا بأنَّ "السرير" قد يوصف بأنَّه عرش لقوله تعالى:
{ { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل:23] { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } [النمل:41] { { قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } [النمل:42] وقد يوصف بأنَّه كرسيّ: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً } [ص:34] ولكون كل منهما يصلح للتمكن.
وفرقة منهم ذهبوا إلى أنَّ كلا منهما غير الآخر، ثم اختلفوا: فمنهم من قال: إنَّه سرير دون العرش وفوق السماء السابعة وقد روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) رواه الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي (طاب ثراه) عنه (عليه السلام) مرفوعاً في مجمع البيان وقريب منه ما نقل عن عطاء أنَّه قال:"ما السماوات والأرض عند الكرسيِّ إلاَّ كحلقة في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلاَّ كحلقة في فلاة".
وقال آخرون: إنَّه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.
ومنهم من قال: إن السماوات والأرض جميعاً على الكرسيِّ، والكرسيِّ تحت الأرض كالعرش فوق السماء.
وروى الأصبغ بن نباتة أنَّ عليّاً (عليه السلام) قال: "السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك ويحملونه بإذن الله، ملَك منهم في صورة الآدميين وهي أكرم الصور على الله وهو يدعو الله ويتضرّع إليه ويطلب الشفاعة والرزق لبني آدم، والملَك الثاني في صورة الثور وهو سيد البهائم وهو يدعو الله ويتضرّع إليه ويطلب الشفاعة والرزق للبهائم، والملَك الثالث في صورة النسر وهو سيد الطيور وهو يدعو الله ويتضرّع إليه ويطلب الشفاعة والرزق للطيور، والملَك الرابع في صورة الأسد وهو سيد السباع وهو يدعو الله ويتضرع إليه وطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع، قال: ولم يكن في جميع الصور صورة أحسن من الثور ولا أشدّ انتصاباً منه، حتى اتّخذ الملأ من بني إسرائيل العجل وعبدوه، فخفض الملك الذي في صورة الثور رأسه استحياءً من الله أن عبدوا من دون الله بشيء يشبهه وتخوف أن ينزل به العذاب".
واعلم أنَّ هذا المنقول عنه (عليه السلام) حكمه حكم المتشابه من القرآن في باب قصور الفهم (الفهوم - ن) عنه وتحيّر العقول في دركه، لأنّه كلام صدر عن معدن الولاية والتوحيد والعرفان، ولا يعرفه إلاَّ الراسخون في علم الأديان والله أعلم.
ومن أهل الهيئة من ذهب إلى أنَّ الفلك الثامن هو الكرسي، والعرش هو مجموع الثمانية، يتعلق به نفس تحركه بالحركة السّريعة اليوميّة، وبه قال العلاّمة الطوسي طاب ثراه.
وقال الفخر الرازي في الكبير: "إعلم أنَّ لفظ الكرسي ورد في هذه الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنَّه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القبول فوجب القبول، وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنّه قال: "موضع القدمين" ومن البعيد أن يقول ابن عباس موضع قدمي الله عزَّ وجلَّ وتقدّس عن الجوارح والأعضاء بالقواطع البرهانية الدالّة على نفي الجسمية، فوجب ردّ هذه الرواية أو حملها على أن المراد أنَّ الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم، أو ملك آخر عظيم القدر عند الله".
هذا كلامه وفيه موضع نظر علمي، وهو أنَّه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته عن وصمة التجسم وقبول الموجب للانعدام، فكذلك يجب تنزيه فعله الخاص وأهل القُرب والمنزلة عنده، فإنَّ انقسام المعلول القريب مستلزم لانقسام العلة المفيضة إياه، ولهذا حكموا بأن الأمر الثابت القار الذات - كالطبيعة - لا يكون علة لأمر متغير الذات غير قار - كالحركة - إلاّ ويلحقه ضرب من التغير لئلا يلزم فقدان المناسبة بين العلة والمعلول والقريب.
فهكذا لا بدَّ في صدور المتكثّرات، والمغيّرات، والمنقسمات من المبدإ الأعلى الذي في غاية الوحدة والبساطة والتجرّد من متوسّط روحاني غير جسماني، ليكون واسطة بين الباري تعالى وعالم الأجرام، بل بينه وبين عالم النّفوس المتوسطة بين الروح الأعظم وعالم الأجرام، فإذا كان كذلك يكون إثبات الأعضاء مستحيلاً عليه كما استحال على مبدعه.
ثم العجب تجويز ذلك عليه مع تسميته "روحاً أعظم" فإنَّ الروحانية تنافي التجسم، ولا أقل تنافي كون الشيء ذا أعضاء متمايزة في الأوضاع متخالفة في الصفات، على أن تسمية الأطباء الجسم اللطيف البخاري المتشابه "روحاً" إمّا على ضرب من التجوّز والتشبيه البعيد، أو بحسب اشتراك لفظ اللطافة بين المعنى الذي يوجد في الجسم - وهو رقّة القوام أو عدم الحجاب عن البصر - وبين المعنى الذي يوجد في المجردات، وهو عدم حجابها عن التعقل، أو نفوذ تأثيرها فيما دونها، على أنَّ أعظميّة الرّوح تنادي بانتفاء كونه روحاً حيوانياً.
ومن المنهج الثاني أقوال ثلاثة: القول الأول ما اختاره القفَّال، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه.
وتقريره أنَّه تعالى خطاب عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم، فمن ذلك أنّه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم، وذكر في الحجر الأسود "أنَّه يمين الله في أرضه" ثم جعل موضعاً للتقبيل كما يقبّل الناس أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبته العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال:
{ { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه:5] ثم وصف { { عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [هود:7] ثم قال: { { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } [الزمر:75] وقال: { { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة:17] وقال: { { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ } [غافر:7]. ثمّ أثبت لنفسه كرسياً فقال: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ }.
وإذا عرفت هذا فنقول:
كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه من العرش والكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر، ولما توقفنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنّه منزّه عن أن يكون في الكعبة، فكذا الكلام في العرش والكرسي انتهى كلام القفَّال.
وقد استحسنه كثير من العلماء المفسّرين، وتلقاه بالقبول جمّ غفير من الفضلاء المعتبرين، منهم الزمخشري والرازي والنيشابوري والبيضاوي.
أما الزمخشري فحيث قال: وما هو إلاّ تصوير لعظمته تعالى وتخييل فقط، ولا كرسي، ثمَّ ولا قعود، ولا قاعد، كقوله:
{ { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67] من تصوير قبضة وطي ويمين، وإنما تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي ألا ترى إلى قوله: { { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام:91] - انتهى - وهذا بعينه خلاصة كلام القفَّال.
وأما الرازي فحيث قال مشيراً إلى ما ذكره: "وهذا جواب متين".
وأما النيشابوري فحيث قال: "المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه، ولا كرسيّ ثَمَّة ولا قعود ولا قاعد، كما اختاره جمع من المحققين كالقفَّال والزمخشري، وتقريره أنَّه تعالى يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بكذا وكذا" وأخ في إيراد العبارة المنقولة عن القفَّال بعينها إلى آخرها فعلم من ذلك كونه معتقداً لهذا الكلام حيث نقله تماماً من غير أن يسنده إلى قائله، ووصف المختارين لمؤداه بالمحققين.
وأمّا القاضي فلقوله: "هذا تصوير لعظمته وتمثيل مجرّد، ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد".
فقد علم أنَّ هؤلاء الفضلاء المفسّرين البارعين من مذهبي الأشعريّة والاعتزال كلهم اقتفوا أثر كلام القفَّال وظني أنَّ ما ذكره القفَّال واستحسنه هؤلاء المعدودون من أهل العلم والكمال، غير مرضي عند المهيمن المتعال، ورسوله المبعوث لهداية الخلق ونجاتهم من الضلال، من حمل هذه الألفاظ القرآنية ونظائرها المذكورة في الكتاب والسنَّة على مجرد التخييل والتمثيل، من غير حقيقة دينية وأصل إيماني، بل هو قرع باب السفسطة والتعليل، وسدّ باب الاهتداء والتحصيل في آيات التنزيل، إذ يتطرّق تجويز مثل هذه التخييلات والتمثيلات من غير حقائق دينية [إلى] سدّ باب الاعتقاد بالمعاد الجسماني، وعذاب القبر، والصراط، والحساب، والميزان، والجنان، والنيران، والحور، والغلمان وسائر المواعيد الشّرعية، إذ يجوز لأحد - على التقدير المذكور - أن يحمل كلاًّ من تلك الأمور على مجرد التخييل من غير تحصيل حقيقة مخصوصة.
فكما جاز أن يحمل تعظيم العرش والكرسي، وحرمة بيت الله، وتقبيل الحجر الأسود، وما في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة، والنبيين، والشهداء، ووضع الموازين، على مجرد التخييل، والتخويف، والإرجاء، والإنذار، والترغيب، والترهيب، من غير أصل حقيقي محقق في الواقع فليجز مثل ذلك في الجنة والنار، والرضوان والنعيم، والزقوم والحميم وتصلية جحيم.
بل الحق المعتمد إبقاء صور الظواهر على هيأتها وأصلها إلاَّ لضرورة دينية إذ ترك الظواهر يؤدي إلى مفاسد عظيمة، نعم إذا كان الحمل على الظواهر مناقضاً لأصول صحيحة دينية، وعقائد حقة يقينيّة، فينبغي للإنسان حينئذٍ أن يتوقف فيها، ويحيل علمه إلى الله ورسوله والأئمة المعصومين من الخطأ، الراسخين في العلم (عليهم السلام)، لقوله تعالى:
{ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [آل عمران:7] ثم يترصد الرحمة من عند الله، ويتعرض لنفحات كرمه وجوده رجاء أن يأتي الله بالفتح، أو أمر من عنده، أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً، امتثالاً لأمره فيما روي عنه (صلّى الله عليه وآله): "إنَّ لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها" .
ثم إنَّ الذوق الصحيح من الفطرة السليمة شاهد بأنّ متشابهات القرآن ليس المراد منها مقصوراً على مجرد أمور جسمانية يعرف كنهها كل أحد من الأعراب والبدويين وعموم الخلق، وإن كان قشور من تلك الأمور مما لكل أحد منهم نصيب منها، وليس المراد أيضاً مجرد تصوير وتمثيل يعلمه كل من له قوة التمييز في الأنظار، ويفهمه كل من يتصرف بعقله في الأفكار بحسب استعمال الصناعة المنطقية في الأبحاث من غير مراجعة إلى سلوك سبيل الله ومكاشفة الأسرار معاينة الأنوار، وإلاَّ لما قال تعالى في باب المتشابه من القرآن: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [آل عمران:7] ولما قال في الغامض منه: { { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء:83] ولما دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: "اللَّهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل" فإنْ كان علم التأويل أمراً حاصلاً بمجرد الذكاء الفطري، أو المكتسب بطريق القواعد العقلية المتعارفة بين العقلاء لَما كان أمراً خطيراً وخطباً عظيماً، حيث استدعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالدعاء من الله تعالى لأحب خلقه إليه وهو علي (عليه السلام).
وممّا يدلّ على أن أسرار التنزيل والإنزال أجلّ شأناً مما يعلم بقوة تفكر مثل القفَّال وغيره من آحاد المتكلمين وأهل الاعتزال، ما رواه الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني - بسنده المتصل إلى أبي بصير - عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: "نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله".
وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده (عليهم السلام)".
وعن أبي جعفر محمد (عليهما السلام) برواية أبي بصير قال: "سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في هذه الآية: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } فأومأ بيده إلى صدره".
فقد تبيّن من هذه الأمور أنَّ فهم متشابهات القرآن لا يتيسر لأحد إلاَّ باقتباس أنوار الحكمة من مشكاة النبوة والولاية، واستضاءة أضواء المعرفة والهداية من جهة إحكام التابعية المطلقة، وتصفية الباطن بالعبودية التامة، واقتفاء آثار الأئمة الهادين، وتتبع أنوار أهالي بيوت النبوة والولاية، وأبواب مدائن العلوم والهداية - صلوات الله عليهم أجمعين - لينكشف على السالك شيء من أنوار علوم الملائكة والنبيين، ويتخلص من ظلمات نقوش أقاويل المتفكرين والمناظرين، وسنسمع أنموذجاً مما وصلنا إليه بنور المتابعة والاقتداء في هذا الباب، ليكون لك مقياس يمكنك أن تنظر من ثقبة أسطرلابه إلى شيء من أنوار عالم الأسرار ومنزل الأبرار.
القول الثاني: إنَّ المراد من الكرسي "العلم" فمعنى الآية: وسع علمه السماوات والأرض عن ابن عباس ومجاهد، وروى هذا القول صاحب مجمع البيان الشيخ أبو علي الطبرسي طاب ثراه مرفوعاً عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (عليهما السلام)، وذلك لأنّ موضع العالم هو الكرسي، فسمّيت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز، أو لأنّ العلم هو الأمر المعتمد عليه والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه، فجهة الوحدة في المشابهة بينهما هي الاعتماد، فأطلق الكرسي على العلم تسمية للشيء باسم ما يشابهه، ومنه يقال للعلماء "الكراسي" كما يقال لهم "أوتاد الأرض".
القول الثالث: وهو معتمد كثير من علماء التفسير، أنَّ المراد من الكرسي "السلطان" و "القدرة" فيكون المعنى: أحاط قدرته السماوات والأرض. أو "الملك" تسمية للشيء باسم محله ومكانه، لأنّ كلا من هذه المصادر قد يستعمل مبنيّاً للمفعول فيكون صفة له، ثم يقال تارة: الإلهيّة لا تحصل إلاَّ بالقدرة والخلق والإيجاد، والعرب تسمي الملك بالكرسي، لأنَّ الملك يجلس على الكرسي، فسمّي الملك باسم مكان الملك.
فهذه جملة من الأقوال المنقولة عن العلماء النظّار المتفكرين في كتاب الله بقوة الأفكار، السائرين على أحد المنهجين إلى نيل نتائج الأنظار.
ثم لا يخفى على من له تفقّه في الغرض المقصود من الإرسال والإنزال أنَّ مسلك الظاهريين الراكنين إلى إبقاء صور الألفاظ وأوائل المفهومات أشبه من طريقة المأولين بالتحقيق، وأبعد من التصريف والتحريف، وذلك لأنَّ ما فهموه من أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق التي هي مراد الله ومراد رسوله.
وأمّا التحقيق فهو مما يستمد ويستنبط من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير، بل لعلّ الإنسان لو أنفق عمره في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمدقاماته ولواحقه لكان قليلاً، بل لا نقطع عمره قبل استيفاء جميع لواحقه، وما من كلمة من القرآن إلاَّ وتحقيقها يحوج إلى مثل ذلك، وإنَّما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره وأغواره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم، وتوفّر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب ويكون لكل عالم منهم حظ - نقص أو كمل - ولكل مجتهد ذوق - كثر أو قلَّ - فلهم درجات في الترقي إلى أطواره وأغواره، وأما الاستيفاء والوصول إلى الأقصى فلا مطمع لأحد فيه، ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً فأسرار كلمات الله لا نهاية لها، فنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله.
فمن هذا الوجه تتفاوت العقول في الفَهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير الذي ذكره المفسّرون، وليس ما حصل للراسخين في العلم من أسرار القرآن وأغواره مناقضاً لظواهر التفسير، بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره.
فهذا ما نريده لفهم المعاني لا ما يناقض الظواهر، كما ارتكبه القفّال وتبعه غيره من المفسّرين من تأويل "الكرسي" إلى مجرّد تصوير عظمته وتخييل كبريائه، وكذا ما فعله غيره من تأويله إلى مجرد القدرة والسلطان، أو إلى العلم، لأنها كلّها مجازات بعيدة لا يصار إليها، إلاَّ بحسب نقل صريح عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ثم لا ضابط للمجازفات والظنون والأوهام، فلا بدَّ للمفسّر أن لا يعول إلاَّ على نقل صريح، أو على مكاشفة تامّة ووارد قلبي لا يمكن ردّه وتكذيبه وإلاَّ فستلعب به الشكوك، كما لعبت بقوم تراهم أو ترى آثارهم الفكرية من هذه القرون ومن القرون الخالية، وشرّ القرون ما طوي فيه طريق الرياضة والمكاشفة، وانحسم باب الذوق والتصفية، وانسدّ طريق السلوك إلى الملكوت الأعلى بأقدام المعرفة والتقوى، وشاع الجهل، والإصرار، والرعونة، والاستنكار، وطلب الرئاسة، والشهرة عند الناس، والتقرب من السلاطين في هذه الدنيا.
فإنَّ هذه توجب سخط الله وسخط الرسول وأولياء الله، وتستلزم الاحتجاب عنه تعالى، والحرمان عن الوصول إليه، والاحتراق بنار القطيعة والطرد والبعد عنه تعالى، والعمى عن مشاهدة الأنوار التي يكاشفها المجردون عن الأغراض النفسانية، الهاربون عن الخلق وعاداتهم ورسومهم الدنيّة إلى الإقبال بشراشر الهمّة إلى الحق، المعترضون لنفحات الله في أيّام دهرهم، المنتظرون لنزول الرحمة على سرِّهم، فهم في الحقيقة الواقفون على أسرار القرآن دون غيرهم، سواء كانوا من الظاهريّين المشبّهين أو من العقلاء المدقّقين، وكلاهما بمعزل عن فهم آيات القرآن، إلاَّ أن الظاهريّين أقرب إلى الصواب من المأولين لما أشرنا إليه من كون مقاصدهم قوالب المعاني القرآنية.
فقد ظهر وتبيّن لك أنَّ لأرباب الأفكار التفسيريّة والأفهام القرآنية ثلاث مقامات:
فمن مسرف في رفع الظواهر كالقفّال وكثير من المعتزلة انتهى أمرهم إلى تغيير جميع الظواهر في المخاطبات التي تجرى في الشريعة الحقة - من منكر ونكير، وميزان، وحساب، وصراط، وفي مناظرات أهل النار وأهل الجنّة في قولهم:
{ { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } [الأعراف:50]. وزعموا أنَّ ذلك لسان الحال.
ومن غالٍ في حسم باب العقل كالحنابلة أتباع أحمد بن حنبل، حتى منعوا تأويل قول "كن فيكون" وزعموا أنَّ ذلك خطاب بحرف وصوت يتعلّق بهما السماع الظاهري يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كل متكوّن، حتى نقل عن بعض أصحابه أنَّه يقول: حسم باب التأويل إلاَّ لثلاثة ألفاظ: قوله (صلّى الله عليه وآله):
"الحجر الأسود يمين الله في الأرض" وقوله (صلّى الله عليه وآله): "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله (صلّى الله عليه وآله): "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن" .
ومن العلماء من أخذ في الاعتذار عنه أنَّ غرضه في المنع من التأويل رعاية إصلاح الخلق، وحسم الباب للوقوع في الرفض، والخروج عن الضبط، فإنَّه إذا فتح باب التأويل وقع الخلق في الخرق والعمل بالرأي، فخرج الأمر عن الضبط وتجاوز الناس عن حدّ الاقتصاد.
وقال الغزالي: "لا بأس بهذا الزجر، ويشهد له سيرة السلف، فإنَّهم كانوا يقولون "إقرؤوها كما جاءت" حتى قال مالك لما سئل عن الاستواء: "الاستواء معلوم، والكيفيّة مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وذهبت طائفة إلى الاقتصاد في باب التأويل، ففتحوا باب التأويل في المبدإ وسدوها في المعاد، فأولوا في كل ما يتعلّق بصفات الله من الرحمة، والعلوّ، والعظمة، وغيرها، وتركوا ما يتعلّق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل فيها، وهم الأشعريّة - أصحاب أبي الحسن الأشعري - وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفات الله ما لم يأول الأشاعرة، فأولوا "السمع" إلى مطلق العمل بالمسموعات، و "البصر" إلى العلم بالمبصرات، وأولوا "المعراج" وزعموا أنَّه لم يكن بجسد، وأولوا "عذاب القبر" و "الميزان" و "الصراط" وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقرّوا بحشر الأجساد، والجنّة واشتمالها على المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، والملاذ الحسيّة، وبالنار واشتمالها على جسم محسوس يحرق الجلود، ويذيب الشحوم.
ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد المتفلسفون، والطبيعيون، والأطباء فأولوا كلما ورد في الآخرة، وردّها إلى آلام عقلية روحانية، ولذات عقلية روحانية، وأنكروا حشر الأجساد، وقالوا ببقاء النفوس مفارقة إما معذبة بعذاب أليم، وإما منعمة براحة ونعيم لا يدرك الحس، وهؤلاء هم المسرفون عن حدّ الاقتصاد، وحدّ الاقتصاد بين برودة جمود الحنابلة وحرارة انحلال المأولة دقيق غامض لا يطلع عليه إلاَّ الراسخون في العلم والحكمة، والمكاشفون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع الحديثي، ولا بالفكر البحثي".
أقول: كما أنَّ اقتصاد الفلك في طرفي التضاد ليس من قبيل اقتصاد الماء الفاتر الواقع في جنس الحرارة والبرودة بل الممتزج، منهما فكذا اقتصاد الراسخين في العلم ليس كاقتصاد الأشاعرة، لأنَّه ممتزج من التأويل في البعض والتشبيه في البعض، وأما اقتصاد هؤلاء فهو أرفع من القسمين، وأعلى من جنس الطرفين، حيث انكشف لهم بنور المتابعة أسرار الأمور على ما هي عليها من جانب الله بنور قذف في قلوبهم وشرح به صدورهم، ولم ينظروا إلى هذه الأمور من السماع المجرد ونقل الألفاظ من الرواة ليقع بينهم الاختلاف في المنقول فلا يستقر فيها قدم ولا يتعين موقف، وأما الذين نحن فيه الآن فكشف الغطاء عن حدّ الاقتصاد فيه يحتاج إلى استئناف مسلك إلهي، ونمط قدسي، وانقطاع عن الرسوم، وتوجه تام إلى الحي القيوم.
وأما الأنموذج الذي وعدناك ذكره من طريق العلماء الراسخين - الذين لا يعلم بعد الله ورسوله متشابهات القرآن غيرهم - فهو مما أذكر مثالاً ولمعة منه إن شاء الله، لأنِّي أراك قاصراً عن دركه وعاجزاً عن فهم سرّه وحقيقته، فإنَّه نبأ عظيم وأنتم عنه معرضون.
فاعلم أنَّ مقتضى الدين والديانة أنْ لا يأوّل المسلم شيئاً من الأعيان التي نطق بها القرآن، والحديث، إلاَّ بصورها وهيآتها التي جاءت، بل يكتفي بظاهر الذي جاء إليه من النبي والأئمة سلام الله عليهم، ومشايخ المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، اللَّهم إلاَّ أن يكون ممن قد خصصه الله بكشف الحقائق والمعاني والأسرار، وإشارات التنزيل، وتحقيق التأويل، فإذا كوشف بمعنى خاص أو إشارة وتحقيق قرر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان، لأنَّ ذلك من شرائط المكاشفة،إذ قد مرَّ أنَّ ألفاظ القرآن يجب حملها على المعاني الحقيقية لا على المجاز، والاستعارات البعيدة، وكذا ما ورد في الشرع الأنوَر من لفظ الجنة، والنار، والميزان، والصراط، وما في الجنة من الحور، والقصور، والأنهار والأشجار، والثمار، وغيرها من العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والليل والنهار. ولا يأول شيئاً منها على مجرد المعنى ويبطل صورته، كما فعله في باب الأعيان المعادية كثير من العقلاء المحجوبين بعقهلم وفطانتهم البتراء، التي كانت البلاهة أدنى إلى الخلاص منها، بل يثبت تلك الأعيان كما جاء ويفهم منها حقائقها ومعانيها.
فالله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلاَّ وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو "الآخرة" إلاَّ وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب، إذ العوالم متطابقة، الأدنى مثال الأعلى، والأعلى حقيقة الأدنى، وهكذا إلى حقيقة الحقائق.
فجميع ما في هذا العالم أمثلة وقوالب لما في عالم الآخرة، وما في الآخرة هي مثل وأشباه للحقائق والأعيان الثابتة، التي هي مظاهر أسماء الله تعالى، ثم ما خلق في العالمين شيء إلاَّ وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان، فلنكتف في بيان حقيقة العرش، وحقيقة الكرسي، بمثال لكل واحد منهما في عالمنا الإنساني.
فاعلم أنَّ مثال "العرش" في ظاهر الإنسان قلبه، وفي باطنه هو روحه النفساني، وفي باطن باطنه هو نفسه الناطقة إذ هي محل استواء الروح - الذي هو جوهر قدسي عقلي - عليه بخلافة الله في هذا العالم الصغير.
ومثال "الكرسي" في الظاهر هو صدره، وفي الباطن هو روحه الطبيعي الذي هو مستوى نفسه الحيوانية، التي وسعت سماوات القوى الطبيعية السبعة - وهي الغاذية، والنامية، والمولدة، والجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة - وأرض قابلية الجسد كما وسع الصدر محال تلك القوى من الأعصاب والرباطات وغيرها.
ثم العجب كل العجب أنَّ العرش مع عظمته وإضافته إلى الرحمن بكونه مستوي له بالنسبة إلى وسعة قلب المؤمن قيل: "إنه كحلقة ملقاة في فلاة بين السماء والأرض" وقد ورد في الحديث:
"لا يسعني أرضي ولاسمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن" وقال أبو يزيد البسطامي: "لو أن العرش وما حواه وقع في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحسّ به".
فإذا علمت هذا المثال، وتحققت بالقول على هذا المنوال، فاجعله دستوراً لك في تحقيق الحقائق وميزاناً تقيس به جميع الأمثلة الواردة على لسان النبوات.
فإذا بلغك مثلاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"إنَّ للمؤمن في قبره روضة خضراء ويرحَب له قبره سبعين ذراعاً، ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر" . أو سمعت في الحديث عنه (صلّى الله عليه وآله) أنَّه قال في عذاب الكافر في قبره "يسلّط الله عليه تسعة وتسعين تنّيناً لكل تنين - أي: حية - تسعة رؤوس ينهشونه، ويلحسونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون" فلا تتوقف في الإيمان به صريحاً من غير تأويل، ولا تحمله على المجاز أو الاستعارة، بل كن أحدَ رجلين: إمّا المؤمن بظواهر ما ورد في الكتاب والحديث من غير تصرف وتأويل، أو العارف الراسخ في تحقيق الحقائق والمعاني مع مراعاة جانب الظواهر وصور المباني، كما شاهده أرباب البصائر ببصيرة أصح من البصر الظاهري.
ولا تكن الثالث بأن تنكر الشريعة الحقة وما ورد فيها رأساً وتقول: "إنها كلها خيالات سوفسطائية، وتمويهات وخدع عامية" نعوذ بالله وبرسوله من مثل هذه الزندقة الفاحشة، ولا الرابع بأن لا تنكرها رأساً ولكن تأوله بفطانتك البتراء، وبصيرتك الحولاء، إلى معانٍ عقلية فلسفية، ومفهومات كلية عامية، فإنَّ هذا في الحقيقة إبطال للشريعة، لأنَّ بناء الشرائع على أمور يشاهدها الأنيباء مشاهدة حقيقية لا يمكن تلك لغيرهم إلاَّ بنور متابعتهم، وإنْ كان منشأ ذلك غاية القوة الباطنية العقلية.
فإن كنت من قبيل الرجل الأول فقد أمسكت بنوع من النجاة، لكن لا قيمة لك في الآخرة إلاَّ بقدر همتك في الدنيا، ولا مقدار لك في عالم المعنى إلاَّ على مبلغ علمك بحقائق العقبى، وإذ لا علم فلا رتبة هناك، لأنَّ كمال ذلك العالم هو عالم الحيوان، وقوامه بالنيات الحقَّة والعلوم الباقية، كالعلم اليقيني بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فغير العارف بمنزلة جسد بلا روح، ولفظ بلا معنى، ومع ذلك فالنجاة فوق الهلاك.
وذلك أيضاً بشرط سلامة الفطرة عمّا يغيرها من الأغراض النفسانية، وبشرط أن لا يكون فيك استعداد التجاوز عن درجة العوام، وإلاَّ فيكون تقصيرك فيما تستدعيه بقوة استعدادك وسكونك عمّا تطلبه بلسان قابليتك لمرادك موجباً لك سخط الباري في آخرتك ومعادك، وباعثاً لعذابك بانقطاعك عن مبتغاك ومناك.
وعلى أيِّ الحالين فليس لك نصيب من القرآن إلاَّ في قشوره، كما ليس للبهيمة نصيب من البُر إلاَّ في قشره الذي هو "التبن".
والقرآن غذاء الخلق كلهم على اختلاف أصنافهم، ولكن إغتذاءهم به على قدر درجاتهم، وفي كل غذاء مخ ونخالة وتبن، وحرص الحمار على التبن أشد منه على الخبز المتخذ من اللب، وأنت ونظراؤك شديد الحرص على أن لا تفارق درجة البهائم، ولا تترقى إلى درجة الإنسانية - فضلاً عن الملكية - فدونكم والانسراح في رياض القرآن ففيه متاع لكم ولأنعامكم.
وإنْ كنت من قبيل الرجل الثاني فبسبب رسوخ قدمك في تحقيق الدين، وكشف الحق واليقين، وانزعاجك عن درجة الناقصين، وتجاوزك عن مقام الظن والتخمين، تيسر لك أنْ تعرف عرفاناً كشفياً، أو علماً ذوقياً، أنَّ التنين الذي أشار إليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في الحديث المذكور، ليس مجرّد تخويف بلا أصل، ومحض تخييل بلا حقيقة، كما يفعله المشعبذون فإنَّ كلام الله وكلام رسوله أعظم وأجل من أن يحمل على مثل هذا المعنى الذي حمله عليه بعض الغافلين المتفلسفين، وأنَّ المزاح والعبث والجزاف كلها ممقوت عند ذوي المجد، حتى قال الشبلي: "الوقت كله جد لا يحتمل المزحة" فكيف كلام الله وكلام رسوله
{ { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } [الطارق:14]. نعوذ بالله أن أكون من الجاهالين.
بل معنى الحديث النبوي إنَّما هو تفسير وشرح لقوله (ص):
"إنَّما هي أعمالكم ترد إليكم" (عليكم - ن) وقوله تعالى: { { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [آل عمران: 30] بل سرُّ قوله سبحانه: { { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ } [التكاثر:5] - إلى قوله -: { { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر:7] أي أنَّ الجحيم باطنكم فاطلبوها بعلم اليقين.
بل هو سرُّ قوله تعالى:
{ { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [العنكبوت:54]. ولم يقل "إنَّها ستحيط" بل قال: هي محيطة بالكافرين وقوله تعالى: { { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف:29] ولم يقل "يحيط بهم" وهو معنى قول من قال: "إنَّ الجنة والنار مخلوقتان" وقد أنطق الله لسانه بالحق ولعلّه لا يطّلع على سرّ ما يقوله.
فإنْ لم تفهم معاني القرآن كذلك فليس لك نصيب القرآن إلاَّ في قشوره، كما ليس للبهيمة نصيب من البر إلاّ في قشره الذي هو التبن، فتكون من قبيل الشخص الأول وهو خرق الفرض.
فحينئذٍ نقول: إنَّ هذا "التنين" موجود في الواقع، إلاَّ أنه ليس خارجاً عن ذات الميت، بل كان معه قبل موته لكنه (لكن - ن) لم يحس بلدغه لخدر كان فيه لغلبة الشهوات، فأحس بلدغة بعد موته، وكشف غطاء حياته الطبيعية بقدر عدد أخلاقه الذميمة، وشهواته لمتاع الدنيا.
وأصل هذا التنين حب الدنيا، وتنشعب عنه رؤوس بعدد ما تنشعب الملكات عن حب الدنيا من الحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء، والكبر، والرياء والشره، والمكر، والخداع، وحبّ الجاه والمال، والنساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسوَّمة، والأنعام، والحرث، وغير ذلك.
وأصل هذا التنين معلوم لذوي البصائر، وكذا كثرة رؤوسه، أما انحصار عدده في "تسعة وتسعين" فإنَّما يقع الاطلاع عليه لهم بنور النبوة والاتباع فهذا التنين متمكن من صميم فؤاد الكافر المنكر للدين، لا لمجرّد جهله بالله، وكفره بل بما يدعو إليه الكفر والجهل، كما قال الله تعالى:
{ { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } [النحل:107].
فكل ما يدعو إليه الجهل بالله وملائكته المقدسين وأنبيائه المرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين) من محبة الأمور الباطلة الزائلة، فهو بالحقيقة والمعنى تنين يلسعه ويلدغه في أولاه وأخراه - سواء كان مع صورة مخصوصة كما في عالم القبر بعد الموت، أو لم يكن كما في عالم الدنيا قبل الموت -.
وعند عدم تمثل هذا الأمر اللذَّاع اللسَّاع على صورة تناسبه لا يعوزه شيء من حقيقة التنين ومعنى لفظ بالحقيقة، إذ اللفظ موضوع للمعنى الكلي وخصوصيات الصور خارجة عمّا وضع له اللفظ، وإن كان اعتياد الناس بمشاهدة بعض الخصوصيات يحملهم على الاقتصار عليه، والحكم بأن ما سواه مجاز كما مرّ في "لفظ الميزان".
على أنا نقول: يتمثل هذا التنين للفاسق الخارج عن الدين في عالم البرزخ حتى يشاهده، وينكشف عليه صورته وكسوته، لكن لا على وجه يمكن لغيره - ممكن يكون في هذا العالم بعد - مشاهدة تلك الصور وسائر الصور الأخروية.
وبهذا يندفع إنكار المنكر لعذاب القبر، إذ يقول: "إني نظرت في قبر فلان، فما رأيت شيئاً مما ورد في باب عذاب القبر" وذلك لأنَّه في عالم الشهادة، ولا بد لمشاهدة عالم الغيب من الخروج عن غشاوة هذا العالم وغباره، نعم الفاسق قد ينام فيتمثل له حاله في المنام، فربما يرى صورة حيَّة تلدغ صميم فؤاده، لأنَّه بَعُد قليلاً عن عالم الشهادة فتتمثل له حقائق الأشياء تمثّلاً محاكياً للحقيقة، منكشفاً له من عالم الملكوت، والموت أبلغ في الكشف من النوم، لأنَّه أقمع لنوازع الحسّ والخيال، وأبلغ في تجريد جوهر الروح من غشاوة هذا العالم، فلذلك يكون التمثل تامّاً محققاً دائماً لا يزول، فإنه نوم لا تنبّه منه.
فكما أنَّ المستيقظ الذي بجنب النائم - إن كان - لا يشاهد الحية التي يلدغ النائم، وذلك غير مانع من وجود الحية في حقه وحصول الألم به في نفسه، فكذلك الحاضر في قبر الميت بالقياس إلى حال الميت الذي يشاهدها في قبره الحقيقي.
وهذا ملاك التحقيق في فهم متشابهات القرآن والحديث، وهو مسلك شريف قد ذكره بعض علماء الإسلام كالغزالي في كتبه، إلاَّ أن بيانه بوجه حكمي برهاني، وتصحيحه بأوضاع ومقدمات علمية قطيعة تطابق عليها العقل والنقل، وتقويمه يدفع شبه وأغاليط وهمية ووساوس شيطانية على النظم القياسي المتألف من مواد حقة صحيحة وصور مستقيمة لازمة الإنتاج غير عقيمة الازدواج موكول إلى بعض كتبنا العرفانية المبسوطة، المتكفلة لبيان الأصول الحقة الإيمانية على مبلغ القوة والطاقة والله ولي الإفاضة والإلهام.
زيادة كشف وتبيين
بل نقول ما من شيء في هذا العالم إلاَّ وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنَّه روحه ومعناه، وليس هو هو في صورته وقالبه، والمثال الجسماني مرقاة إلى المعنى الروحاني، ولذلك كانت الدنيا منزلاً من منازل الطريق إلى الله، فيستحيل الترقي إلى عالم الآخرة إلاَّ من مثال عالم الدنيا
{ { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة:62] "من فقد حسّاً فقد علماً".
والقرآن والأخبار مشحونة بذكر الأمثلة من هذا الجنس الذي مرّ ذكره، فانظر إلى قوله (صلّى الله عليه وآله)
"قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن" فإنَّ روح "الإصبع" القدرة على سرعة التقليب، وإنَّما يكون قلب المؤمن بين لمّة الملك ولمّة الشيطان، هذا يغويه وهذا يهديه، والله سبحانه يقلّب قلوب العباد كما تقلّب أنت الأشياء باصبعيك، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخّرين إلى الله تعالى اصبعيك في روح الاصبعيّة وخالف في الصورة.
فاستخرج من هذا ما نقل عنه (صلّى الله عليه وآله):
"إنَّ الله خلق آدم على صورته" فمهما عرفت معنى الاصبع أمكنك الترقّي إلى القلم، واليد، واليمين، والوجه والصورة، ووجدت جميعها حقائق غير جسمانيّة متمثّلة بأمثلة جسمانيّة، فتعلم أنَّ روح القلم وحقيقته التي لا بد من ذكره إذا ذكر حدّ القلب "هو الذي يكتب به" فإن كان في الوجود شيء يسطر بواسطته نقوش العلوم في ألواح القلوب بأحرى به أن يكون هو "القلم" فإنَّ الله { { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:4 - 5].
وهذا هو القلم الروحاني، إذ فيه روح القلم ولم يعوزه إلاَّ قالبه وصورته، وخصوصيّة المادة - كما مرّ - غير داخلة في حقيقة الشيء، ولذلك لا يؤخذ في حدّه الحقيقي، إذ لكل شيء حدّ وحقيقة وهي روحه، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانياً وفتحت لك أبواب عالم الملكوت وأهِّلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا.
ولا تستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس، فإن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم يسند التفسير إلى قتادة. أو مجاهد، أو السدي، فالتقليد غالب عليك، وكلامنا ليس إلاَّ مع المستبصر، ومع ذلك فانظر إلى معنى قوله تعالى ما ذكره المفسّرون:
{ { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد:17] - الآية - وأنه كيف مثّل العلم بالماء والقلب بالأودية والينابيع، والضلال بالزبد، ثمّ نبّهك في آخرها فقال: { { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد:17].
ثم نقول: كل ما لا يحتمله فهمك فإنَّ القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعاً بروحك اللوح المحفوظ لتمثّل لك، وذلك مثال مناسب يحتاج إلى التعبير، ولذلك قيل: "إنَّ التأويل يجري مجرى التفسير" ومدار تدوار المفسّرين على القشر، ونسبة المفسّر إلى العارف المحقّق المستبصر كنسبة من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه في مثال المؤذن الذي كان يرى في المنام أن في يده خاتماً يختم به فروج النساء وأفواه الرجال إلى من يدرك أنَّه أذّن قبل الصبح في شهر رمضان.
فإن قلت: لم أُبرزتْ هذه الحقائق في هذه الأمثلة ولم تكشف صريحاً حتى وقع الناس في جهالة التشبيه وضلالة التمثيل؟
فالجواب: إنَّ الناس نيام في هذا العالم، والنائم لم ينكشف له غيب من اللوح المحفوظ إلاّ بالمثال - دون الكشف الصريح - وذلك ممّا يعرفه من يعرف العلاقة الحقّة التي بين عالم الملك والملكوت.
فإذ عرفت ذلك عرفت أنَّك في هذا العالم نائم - وإن كنت مستيقظاً عارفاً - "فالناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا" فينكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائق ما سمعوه بالمثال وأرواحها، ويعلمون أنَّ تلك الأمثلة كانت قشوراً وأصدافاً لتلك الأرواح ويتيقّنون صدق آيات القرآن، وصدق قول الرسول والأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تيقّن ذلك المؤذن صدق قول ابن سيرين وصحّة تعبيره للرؤيا، وكل ذلك ينكشف عن الاتصال بالموت ويعرف كل أحد تأويل رؤياه، كما قيل في الفرس:

خواب نوشين بدانديش توخوش جندان است كابن سرين قضا دم نزند در تـ ويل

وحينئذٍ يقول الجاحد والغافل: { { يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ } [الأحزاب:66] { { أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف:53] { { لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } [الفرقان:28] { { يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ:40] { { يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر:56] إلى غير ذلك من الآيات المتعلّقة بشرح المعاد والآخرة.
فافهم وتحقق من هذا إنَّك لمَّا كنت نائماً في هذه الحياة وإنّما تيقّظك بعد الموت، وعند ذلك تصير أهلاً لمشاهدة صريح الحق كفاحاً، وقبل ذلك فلا تحمل الحقائق إلاَّ مصبوبة في قالب الأمثال الخياليّة، ثم لجمود نظرك على الحسّ تظن أنَّه لا معنى له إلاَّ المتخيّل، وتغفل عن الحقيقة والسر كما تغفل عن روح قلبك، ولا تدرك إلاَّ قالبك
{ { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40].
المقالة العاشرة:
في قوله سبحانه: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }
وفيه فوائد:
الأولى في اللغة
"لا يؤده" أي: لا يثقله ولا يشق عليه: يقال: آده، يؤوده، أوداً: إذا أثقله وأجهده. و: أدت العود، أوداً: إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته. و: [ادت العود] أؤده، فانآد. نحو: عجته فانعاج. و: الأود والأوداء على وزن: الأعوج والعوجاء والمعنى واحد. والجمع: الأُود كالعوج. والمعنى: لا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض.
الثانية في النظم
لما عظّم الله تعالى أمر السماء وما فيها والأرض وما فيها سابقاً بأن نسب وأضاف ما في كل منهما إلى ملكه وسلطانه، ثم عظّم أمر الكرسي بأنه وسع السماوات والأرض، إذ كما أنَّ الكرسي بطبيعته الجسميّة المحددة للأمكنة والأزمنة محيط بما في داخله - لا كمجرد إحاطة الظرف بالمظروف محدداً كان المكان المحاط عليه أم لا، بل بأن لايتعيّن للمحاط عليه مكان أو حيّز أو وضع أو ما شئت فسمّه إلاَّ بسبب طبيعة جسميّة بخصوصها - فكذلك بحقيقته العقليّة، والنفسيّة، وروحه، وقلبه، الذي هو مستوى الرحمن مؤثرة فيما دونها من النفوس، والطبايع، الفلكيّة، والعنصرية، وملكوت العالم السفلي - من الجماد والنبات والحيوان - ولذلك تنبعث الأرزاق والآجال من هناك وترتفع الدعوات لطلب الحاجات إلى ذلك، فأراد أن يشير إلى أن ذلك لا يشق عليه ولا ينوء به فقال: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }.
أي: لا يتعب الكرسي ولا يشق على ظاهر حقيقته وباطن قلبه حفظ أجسام السماوات والأرض، وحفظ نفوسها وطبايعها وصورها ان كان الضمير راجعاً إلى "الكرسي".
أو لا يتعبه تعالى حفظهما بالكرسي على الوجه المذكور - إن كان الضمير راجعاً إليه سبحانه - كما لا يؤد الروح الإنساني حفظ أسرار السماوات والأرض ومعانيها التي أودعها الله في السر الإنساني بقوله تعالى:
{ { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة:31].
وتحقيق هذا المطلب يحتاج إلى مزيد تقرير له ليظهر لك بالبرهان كيفية دوام الممكن بدوام علّته الفيّاضة، من غير تعب وملاَل وأودة وكلاَل، وهذا هو الذي وعدناه آنفاً، فاستمع وعِه.
الفائدة الثالثة
إعلم أنَّ للحق تعالى أسماء وصفات، ولكل منهما مجالي ومظاهر في كل من العوالم، من أحصاها - أي عرفها، وعرف لوازمها، وآثارها، وبدايتها، وغايتها - وجبت له الجنة، وهي الكمال العلمي العرفاني، أي العلم بحقائق الأشياء كما هي عليها الموجب لمشاهدة المثل العقلية والأشباح الجنانية الموعودة - إن شاء الله - جزاء لصالح العمل ومرضي السعي.
فكما أنَّ عالم الجبروت من الملائكة العقلية - بجملة أعدادها الكثيرة وضروبها التي لا يحيط بها غير الله - هو عالم قدرة الله تعالى ومظهر جباريته ومستوى اسم "الجبار" كذلك "عالم الكرسي" بجملة ما فيها من ملكوت السماوات والأرض "عالم رحموته" ومظهر رحمانيته ومستوى اسم "الرحمن" إذ برحمته قامت السماوات والأرض، فالكرسي صورة رحمانية الله تعالى على الخلائق وبها يعطف بعضهم بعضاً بالترتيب الحكمي، والنظام السببي والمسببي، فلكل سبب خاص عطوفة ورحمة على مسببه بإيجاده، وإقامته، وحفظه، وإدامته.
ثم اعلم أنَّ العلّة الفاعلية بحسب المشهور على ضربين:
أحدهما: الفاعل الذي يحتاج في فاعليته إلى حركة وآلة وقابل - كالكاتب والبناء - ومثل هذا الفاعل يقال له في عرف الإلهيين بـ "المُعدِّ" و "المحرك" وهي العلّة بالعرض.
وثانيهما: الفاعل الذي لا يحتاج إلى حركة وآلة جسمانية وقابل - وهو الفاعل في عرفهم وإن سألت الحق فليس الفاعل بالحقيقة إلاَّ ما هو بريء بالكلية عن جهة الإمكان، وما هو إلاَّ الواحد الحق كما مرّت الإشارة إليه.
فالفاعل بالمعنى الأول لتعلقه بالمادة الجسمانيّة، وتحرّكه عند تحريكه يلحقه لا محالة كلاَل وإعياء ودثور وفناء، لأنّ الجسمانيّات متناهية الذوات، متناهية القوى والانفعالات، كما أنَّها متناهية الامتدادات والاتصالات، فيصحبها الكَلال أولاً ثم الزوال ثانياً، وقد صرّح بعض الحكماء بأن الفاعل الجسماني قابل في الحقيقة لفعله لمباشرته إياه، وأمّا القوى الفعَّالة المتقدّسة عن شوب الانفعال المادي، المرتفعة عن حضيض العالم السفلي فهي مسلوبة التغيّر عن حالها، ممتنعة التجدد في فعالها، بريئة الذوات عن لحوق معنى عارض يوجب كَلالها ومَلالها، أو مضاد مفسد يقتضي فسادها وزوالها.
فهي وسائط فيض الحق وروابط جوده، ومكثر جهات رحمته، ومفنّن شعوب فضله وجوده، فهي بالحقيقة عباد الرحمن المؤتمرون بأمره، المنزجرون بنهيه وزجره، كما وصفهم الله تعالى بقوله:
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].
بخلاف الفاعل بالمعنى الأول، فإنّه لوقوعه في عالم الأضداد وتصادم صور المواد، ربما يعوق عن فعله المقصود لمانع، ويقطع عن طريقه المصمود إليه لقاطع.
وإن أردت زيادة التوضيح فقد أودع الله تعالى في نفسك هذين الضربين من التأثير، أي: الإبداع والتحريك وهو المسمى بالإحداث أيضاً، لأنّ الحدوث يعرض الحركة بالذات ولما يقترنه بالعرض.
فـ "الإبداع" إيجاد شيء لا عن شيء، ومثاله فيك تصورك للأشياء بقوتك المصورة ومثولها بين يديك في عالمك الخاص، على وجه يكون وجودها لك نفس مشاهدتك إياها، و "الإحداث" هو جعل الشيء شيئاً. ومثاله فيك تكلمك وكتابتك بآلات وأسباب طبيعية أو غيرها.
ففي الضرب الأول لا يصرف منك شيء إلاَّ مجرد الالتفات والعناية، وفي الثاني يصرف منك المادة والآلة والزمان والقوة شيئاً فشيئاً، فيحصل منه المفعول تدريجاً، ويكمل عند انقضاء الحركة والزمان، وهما مقدار خروج المادة إلى الفعل، وتوجه القوة والآلة نحو الكمال، تقرّباً إلى المبدإ الفعَّال.
فإذا علمت هذين الضربين من الفاعلية، وعلمت خصوصية كل منهما وامتيازه عن صاحبه بخواص ولوازم، ظهر لك أنّ التعب والمشقة والأودة، لا تعرض إلاَّ لفاعل جسماني لا يفعل إلاَّ بأن ينفعل ويتحرك من حال إلى حال، ويكون فاعليته على سبيل المباشرة.
وأما الذي فاعليته لشيء بحيث إذا أراد أن يقول له: "كن" فيكون، أي يكون مجرّد إرادة الفعل منه مقتضياً لحصول فعله من غير أمر زائد يكون متوسطاً بينه وبين فعله - كإيجاده تعالى عالم الأمر - أو يكون الوسط حاصلاً بأمره من غير مدخلية مادة واستعداد وحركة - كإيجاده لجواهر السماوات والأرض بواسطة أمره - أو مع مدخليتها - كإيجاده الحوادث الفلكية والأرضية بإفادة الأسباب، وإفاضة الاستعدادات والحركات من غير تغيّر فيه تعالى، وإليه أشار بقوله سبحانه: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي لا يتعبه إدامة جواهر ما في السماوات وما في الأرض هذا إذا كان ضمير المفعول كناية عنه تعالى، وأما إذا كان راجعاً إلى "الكرسي" فالحكم بعدم عروض التعب والمشقّة ثابت للكرسي، لأنّه بحقيقته وذاته من وسائل جوده تعالى وربانيته، وجهات كرمه ورحمانيته التي لا تبيد ولا تنقص أبداً فلا يلحق له مشقة وتعب، وإذا لم يحصل له فاستحال حصوله للحق بالطريق الأولى.
وبالجملة كل ما هو علة لشيء بالحقيقة والذات - لا بحسب القسر للإعداد والاستعداد - يكون المعلول من توابع ذاته ورشحات وجوده وبمنزلة الظلّ للشخص، فكما لا يثقل ولا يشقّ وجود الظلّ على الشخص واستتباعه إيّاه، فكذلك المعلول بالقياس إلى ما هو علّة له بالذات، وهذه الأسباب التي يظن الناس أنَّها علَّة إنَّما يؤدها وجود ما ينسب إليها، لأنها ليست عللاً بالحقيقة، بل بحسب المجاز، وما هو علّة بالحقيقة لا يلحقه الفُتور في تأثيره، اللَّهم إلاَّ أن يكون بحسب نفس الأمر (نفسه أمراً - ن) ناقصاً ضعيف الوجود.
فاعتبر بالكتابة الصادرة من الكاتب، فإنَّ جوهر الإنسان كاتب بالعرض لا بالذات، ولهذا يلحقه التعب والمَلال، وأمّا الكاتب بما هو كاتب - وهو أمر مركب من جوهر الإنسان وأمور أخرى، بعضها نفسانية، وبعضها طبيعية، وبعضها خارجية، من الآلة والحركة والقابل وغيرها - فلا يحصل التعب للمجموع إلاَّ من جهة تصادم وقع بين أجزائه، وتعارض قد حصل في العضو الواحد بين مقتضى الطبيعة ومقصود الإرادة، فإنَّ مقتضى الطبيعة التي في العضو الثقل - أي الميل إلى مركز العالم - ومقصود الإرادة الحركة إلى جهات مختلفة فيحصل له الإعياء، فيملُّ الإنسان من الكتابة قبل أن يحصل بها الاكتفاء وعنها الغناء، وأما الأمور التي تجري مجرى التصورات المحضة والتمثلات، فحصولها من الإنسان لا يشق عليه، لأنّها إنّما صدرت منه بجهة واحدة فاعليّة ذاتية من غير تعارض الجهتين، فيكون هناك نفس التصوّر والإرادة الشّوقية نفس الحصول في صقع من النفس.
فمن هذا السبيل يجب أن يُعتقد فاعليّته تعالى للأشياء وفاعليّة ملائكته المقرّبين وملائكته المدبِّرين، فإنَّ صدور الموجودات عنه تعالى - كلية كانت أو جزئية روحانية كانت أو جرمية - نفس تعقله إياها كما حقق في موضعه، وكذا فاعلية من هو في عالم جبروته وصقع ملكوته، فمن اعتقد فاعليته تعالى على هذا الوجه وأعلى منه آمن من التجسم في حقه الموجب للعذاب الأليم.
المقالة الحادية عشرة:
في قوله سبحانه: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ }
وفيه لطائف:
اللطيفة الأولى
في كيفية نظمه بما سبق
وهو أنَّه سبحانه بعدما أثبت وأظهر المخلوقات من العرش، والكرسي، علوّاً في المرتبة وعظمة في الخلقة، إظهاراً لكمال القدرة والحكمة، تردى برداء الكبرياء في العز والعلاء، واتّزر بإزار العظمة في الرفعة والسناء، وهو أولى وأحق بالمدحة والثناء، فقال تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } أي: له العلوّ في الشأن والعظمة والسلطان، فمن علا في الآخرة فبإعلائه قد علا، ومن عظم في الدنيا فبتعظيمه قد عظم واستولى، فسبحان ربّنا العظيم، وسبحان ربّنا الأعلى.
اللطيفة الثانية
إعلم أنَّ علوّ الحق وعظمته صفتان إضافيتان، ثابتتان له تعالى بالقياس إلى اعتقاد العبد وتصوّره وإثباته الوجود لغيره تعالى، وإلاَّ فليس لما سواه وجود في جنب وجوده تعالى حتى يتّصف بالعلوّ بالقياس إلى غيره، نعم الإنسان يتصوّر بقوته الوهمية لنفسه وجوداً مستقلاً، وبواسطة وجوده الموهم يتوهّم ويعتقد للعالم وأفراده وجوداً مستقلاً يقيس إليها وجود الحق، فيصفه بالعلوّ والعظمة، ثم بقدر ما يظهر له قصور وجوده وضعفه وقصور الوجودات الإمكانية وضعفها يزيد في نظره علوّ الحق وعظمته، ولهذا المعنى قيل: "إنَّ ظهور الإنسان سبب خفاء الحق في هذا العالم" فبقدر انكساره وافتقاره ودثوره وفنائه يظهر له وجود الحق وبقاؤه وعلوّه وكبرياؤه.
وقيل أيضاً: إنَّ هذا العالم عالم الخيال يتراءى فيه الأشياء على وجه الانعكاس والانتكاس، فيرى المتبوع تابعاً والتابع متبوعاً، والمستور ظاهراً والظاهر مستوراً، بل الموجودات معدومةً والمعدوم موجوداً، فالحقّ موجود والخلق مفقود، وفي الخيال يكون بعكس هذا، وكذا الحق ظاهر جلي والخلق مستور خفي، وفي الحسّ بالعكس.
فإذا أخذ الإنسان في النزول والنقصان والهبوط في منازل الإمكان، وعاد قليلاً إلى ماله بحسب ذاته من الخلل والفقدان، واستأنف للحق في شهوده علوّاً وعظمة وجلالاً وكبرياءً، ففي كل فناء يظهر عليه للحق بقاء، وفي كل تواضع ينكشف عليه للرب تعالى كبرياء، أو لا ترى أنك تقول في انحنائك بالركوع: "سبحان ربي العظيم" وفي هويِّك بالسجود: "سبحان ربّي الأعلى" وهكذا قليلاً قليلاً إلى أن يضمحل وجوده بالكليّة ويبقى الوجود الحقّاني للواحد القهار.
ومن هاهنا يعلم أنَّ قصارى مجهود العابدين والعارفين في عبادتهم وعلومهم، ليس إلاَّ تصحيح نسبة الإمكان وحفظ مرتبة الفاقة والافتقار والعجز والانكسار، لئلا يبقى في شهودهم وجود للأغيار، ولا يكون عندهم في الدار غيره ديّار، فقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } بالنظر إلى قوم لهم بقايا الوجود الوهمي وقوله تعالى:
{ { وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الرعد:16]. بالنظر إلى قوم آخرين قبل ظهور الساعة، وقوله: { { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص:88] بحسب نفس الأمر أزلاً وأبداً بالقياس إلى الخلائق جميعاً.
اللطيفة الثالثة
إعلم أنَّ "العلوّ" علوَّان: علوّ مكاني وعلوّ معنوي وجودي:
والأول: ذاتي للمكان وعرضي للجسم، ولذا قال سبحانه في حق إدريس (عليه السلام)
{ { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم:57] فوصف مكانه بالعلوّ، وأعلى الأمكنة مكان "المحدِّد للجهات" والمحدِّد أعلى الأجسام مكاناً، فكلّ ما هو أقرب منه كان أعلى في المكان مما هو أبعد، ويقابله مكان الأرض وهو أسفل السافلين، والواقع فيه طبعاً - كالأرض - يكون تحت الأجسام، فكلّ ما هو أقرب منها كان أسفل.
وأمّا الثاني: فهو ذاتي للحق وهو حقيقة الوجود، وعرضي للماهيات الموجودة، فإطلاق قولنا "الموجود" على الماهيات كما يطلب قولنا "العالي" على الأجسام، وإطلاقه على الواجب عند العارفين كإطلاق "العالي" على مكان (جرم - ن) المحدِّد، وإطلاقه على المعلول الأول عندهم أو على الواجب عند جمهور المتكلمين كإطلاق "العالي" على جرم المحدِّد، وإطلاقه على ما سوى المعلول الأول - وهو الحقيقة المحمدية كما مرّ - كإطلاق "العالي" على غير المحدِّد.
وخرج من إطلاق الوجود بالفعل ماهية الهيولى، إذ وجودها عبارة عن الهاوية المظلمة، أي نفس السفل والقوّة والهبوط، كما خرج من إطلاق العالي جسمية الأرض ومكانها الذي هو أسل السافلين.
وقد وصف الله هذه الأمة المرحومة بالعلوّ المعنوي والمنزلة الوجودية فقال:
{ { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد:35] أي: في هذا العلوّ، وهو سبحانه مقدس عن العلوّ المكاني، فيكون المراد العلوّ الوجودي، إذ موجودية الممكن إنّما تحصل بمعية الواجب تعالى معه - إمّا ابتداءً أو بتوسط معيَّته بالأشياء الأخر، وهي العلل المتوسّطة بينه وبين المعلول الأخير - فإنَّ معيته تعالى بكل متقدّم في الوجود أقدم من معيته إلى المتأخر، لكن المراد هاهنا من "المعيَّة" ما يكون بغير وسط لأنَّه في مقام المدح.
ووجهه أنَّ الإنسان الكامل أعلى الموجودات، لأنّه خرق (قد خرج - قد خرج في - ن) الوجود وسلك سبيل الله وأحاط بالكلّ وصارت مرتبته جامعة لجميع المراتب، فله المعية الذاتية بالنسبة إلى الباري جلّ اسمه والعلوّ في المنزلة والمعنى، فيكون فوق الكل، فقد جمع له بالعمل العلوّ المكاني لأنَّ مكانه الجنة وهو أعلى الأمكنة، وبحسب العلم - الموجب للإحاطة بالحقائق - المعنوي.
والملائكة المقرّبون لهم العلوّ بحسب الرتبة، لأنَّهم وسائط جود الحق ورحمته، فقال لإبليس:
{ { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص:75]. لأنّ جوهر إبليس من الجواهر المتعلقة بعالم الظلمات، فمنزلته دون منزلة الأنوار العقلية المرتفعة عن التعلّق بغير الحق، فلها السلطنة الكبرى على القوى المتعلقة بالعالم الأدنى.
فظهر أنّ الحق تعالى "عليّ" لذاته، لأنّ وجوده عين ذاته، والإنسان الكامل "عليٌّ" بعلوّ الحق تعالى.
هذا في مقام الفرق والاشتراك في الوجود والعلوّ، وأمَّا في مقام الجمع فهو الواحد القهّار لا غير، لأنَّه لا يوصف إلاَّ بالصفات التنزيهية، فلا علوّ كما لا سفل له، والاشتراك المذكور في أصل العلوّ في الجملة بين العبد والرب في مقام الفرق، ولا بدّ من إعطاء حقّ الربوبية والعبودية من العلوّ بأنه ذاتي للربّ وعرضي للعبد، ولهذا أمر الله تعالى أشرف الممكنات - وهو الذي له المنزلة العظمى في المعية للحق، والعلوّ المعنوي دون غيره إلاَّ بوسيلته - أن يتأدب بأدب العبودية ويسبح الله عن النقص الإمكاني، فقال مخاطباً إيَّاه:
{ { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى:1] وظني أنَّ منشأ استغفار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - كما ورد في الحديث - هو هذه المعية العالية التي هي مظنّة الاشتراك بين العبد والرب في العلوّ المعنوي، فيحتاج العبد الأعلى والملك المقرّب في كل حين إلى تذكّر عظمة الله، وعلوّه، والاستغفار عن ذنب وجوده الإمكاني، لئلا يقع في السكر عن الشكر، وفي الكفر عن الإحسان، والنسيان عن الوجدان، فيجرى على لسانه شيء من السكريات فينحط عن مقام القرب والمحبّة إلى مقام البعد والمذلة نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
اللطيفة الرابعة
في بيان تقديسه تعالى عن العلوّ المكاني
وفيه دلائل كثيرة أوردنا اثنين منها:
أحدهما: أنَّ علوّه لو كان مكانياً لكان لا يخلو إمَّا أن يكون جسماً متمكناً أو نفس المكان.
والأول: باطل لتركّب كل جسم إمَّا بحسب نفس الجسيمة المشتركة كما هو مذهب جمهور الحكماء، وإمَّا بحسب تعيّنه الخاص ونحو وجوده النوعي أو الشخصي كما هو رأي الجميع، فإنَّ كل نوع من الجسم مركب في الخارج إمَّا من جوهرين، أو جوهر وعرض - على اختلاف القولين في جوهرية الصورة النوعية وعرضيتها - يكون أحد الجزئين يجري مجرى الجنس والآخر يجري مجرى الفصل، والتركيب مطلقاً ينافي الوجوب الذاتي كما علمت.
والثاني: لا يخلو إمَّا أن يكون متناهياً في جهة فوق أو غير متناه، والأول مستحيل لاستلزامه أن يكون المفروض فوقه أعلى منه فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه، بل كيون غيره أعلى منه مكاناً هذا محال ضرورة، ويلزم أيضاً أن يحتاج في تعينه إلى ما يحدد جهته.
وإن كان غير متناه فيكون ممتنعاً لامتناع اللاتناهي في المقدار بالبراهين العقلية القاطعة الدالّة على تناهي الأبعاد والمقادير.
ولنذكر من تلك البراهين ما هو أخفّ وأجود وأوثق وأنسب بهذا المقام وهو أنَّه لو كان بُعدٌ غير متناه يمكن لنا أن نفرض ذلك البُعد إلى جهة الفوق ونفرض فيه نقط غير متناهية، فلا يخلو إمَّا أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا نفرض فوقها نقطة أخرى وإما أن لا يحصل.
فإن كان الأول كانت هذه النقطة آخر النقاط فيكون طرفاً لذلك البُعد فيكون ذلك البُعد متناهياً - وقد فرضناه غير متناه هذا خلف -.
وإن لم يوجد فيها نقطة إلاَّ وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البُعد سفلاً، ولا يكون فيها ما يكون فوقاً على الإطلاق فحينئذٍ لا يكون لشيء من النقط المفروضة في ذلك البُعد علوّ مطلق، وإذا لم يكن "مطلق" لم يكن "مضاف"، وذلك ينفي صفة العلوية، وقد وصفنا أنه سبحانه عليّ بمعنى العلوّ المكاني - هذا خلف الدليل الثاني.
الدليل الثاني: إنَّ كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته وللآخر بتبعيّة الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل، وفي العرضي أقل وأضعف، فلو كان علوّ الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتيّة له، ولكان حصول العلو لله سبحانه حصولاً بتبعيّة حصوله في المكان فكان علوّ المكان أتم وأكمل من علوّ ذات الله تعالى، فيكون علوّ الله ناقصاً وعلوّ غيره كاملاً وذلك محال.
فهذان الدليلان قاطعان في أنَّ علوّ الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة، وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله تعالى:
{ { لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } [الأنعام:12]. قال: "وهذا يدلّ على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله وملكوته ثم قال: { { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [الأنعام:13]. وهذا يدلّ على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته، فتعالى وتقدّس على أن يكون علوّه بسبب المكان وتقدّمه بسبب الزمان، إذ المكان والزمان كلاهما من مخلوقات الله الواقعة في أدنى المراتب.
فتعالى ذاته وصفاته عن أن يكون مكانياً أو زمانياً، فبقي أن يكون علوّه بحسب وجوب الوجود والإلهيّة، وسرمدّيته بحسب القيُّومية الذاتية.
وعلى هذا القياس معنى عظمته، فإنَّها أيضاً بحسب المهابة، والجلالة، والقهر، والكبرياء، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم، لأنَّه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال، لِما ثبت بالقواطع البرهانيّة تناهي الأبعاد في كل الجهات، وإن كان متناهياً في الجهات كلها كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه فلا يكون مثل هذا الشيء عظيماً على الإطلاق، فالحق سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام، تعالى عمّا يقوله الظالمون علوّاً كبيراً.