التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٥٧
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

المقالة السادسة عشرة:
في قوله سبحانه: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }
وفيه لوائح:
اللائحة الأولى
في اللغة
الولي: فعيل بمعنى فاعل من "الولي" الذي هو القرب من غير فصل، وهو الذي يكون أولى بالغير وأحق بتدبيره، ومنه يقال للمحب المعاون "ولي" لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك، ومن ثم قالوا في خلاف الولاية "العداوة" من "عدا الشيء" إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العادوة.
ومنه "الوالي" لأنّه يلي القوم بالتدبير وبالأمر والنهي. ومنه "المولى" لأنه يلي أمر العبد بسدّ الخلّة وما به إليه الحاجة. ومنه "المولى" لابن العم، لأنَّه يلي أمره بالنصرة لتلك القرابة. ومنه "ولي اليتيم" لأنَّه يلي أمر ما له بالحفظ والقيام عليه، والولي في الدين وغيره لأنَّه يلي أمره بالنصرة والمعونة لما توجبه الحكمة فجميع هذه المواضع معنى الأولي واللاحق ملحوظ فيها.
وولّى عن الشيء: إذا أدبر عنه، لأنَّه زال عن أن يليه بوجهه. واستولى على الشيء: إذا احتوى عليه، لأنَّه وليَه بالقهر.
والله سبحانه ولي المؤمنين على ثلاثة أوجه:
أحدها: إنَّه يتولاَّهم بالمعونة على إقامة الحجة والبرهان لهم في هدايتهم.
وثانيها: إنَّه وليّهم في نصرهم على عدوّهم وإظهار دينهم على أديان مخالفيهم كلّها.
وثالثها: إنَّه وليهم، يتولاهم بالمثوبة على الطاعة والمجازة على الأعمال الصالحة.
وهذه الوجوه الثلاثة مما ذكره الشيخ أبو علي الطبرسي في تفسيره الكبير وسيأتيك تحقيق الحق إن شاء الله.
اللائحة الثانية
في النظم
لما ذكر الله تعالى المؤمن والكافر، أراد أن يبيّن ولي أمور كل منهما وداعي أشواقهم، وإرادتهم، وحركاتهم، فقال: الله ولي الذين آمنوا أي: نصيرهم ومعينهم في كل ما لهم إليه الحاجة، وما فيه الصلاح في أُمور دينهم، ودنياهم، وآخرتهم، ويشوقهم إلى منتهى قصدهم، ومرمى غرضهم ويوصلهم إلى أعلى مقاماتهم وكراماتهم.
اللائحة الثالثة
في لمِّيَّة اختصاص المؤمنين بولاية الله سبحانه
إعلم أنَّ في هذا المقام إشكالاً عظيماً حلّه على ذوي الأفهام، لأنَّك قد علمت من الأصول التي أفدناك فيما سبق - من تقديس الله تعالى عن وصمة الكثرة، والتغير، والتفنّن، في الإضافات، والاختلاف في النسب والإضافات - أنَّ وجوده عام ورحمته شاملة للكلّ على نسق واحد، أعطى كل ذي حقّ حقّه وأفاض على كل قابل ما يستحقّه، فلو كانت لمادة البصل - مثلاً - قوة قبول الزعفران، ولنطفة البقر قبول صورة الإنسان لما ترك الواهب الأشرف الأفضل وما فاض عليهما البقر والبصل.
فإذا تقرر ذلك، فولاية الله تعالى إن تعلقت بالمؤمنين قبل قبولهم دعوة الإيمان، واستكمالهم بالعلم والعرفان، فإنَّ ذلك ترجيح من غير مرجح، وإن كانت بعده يلزم الدور لكون الإيمان مسبباً عنها، كما يفصح عنه قوله تعالى: { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } لأنَّ منشأ إيمانهم الذي هو عين تنورهم بنور المعارف وخروجهم إليه من ظلمات الجهل والعمى هو هذه التولية، فلو كانت بعد الإيمان يكون دوراً بالضرورة.
وهذا الإشكال صعب الانحلال عند من يحذو حذو أهل الاعتزال - القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين في الأفعال، واستحالة الترجيح من غير مرجح -.
وأما الأشاعرة المجوزون لإيجاد القبائح وترجيح أحد المتساويين فالأمر هيّن عليهم، بل هم احتجوا بهذه الآية على تصحيح مذهبهم، وأنَّ ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر، قائلين إنَّ الآية دلَّت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين، ومعلوم أنَّ الولي للشيء هو المتولي لما سيكون سبباً لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب لأجله، كما قال تعالى:
{ { يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } [الأنفال:34]. فجعل القيِّم بعمارة المسجد وليّاً له، ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءَه.
فلذلك كان الولي: المتكفل بالمصالح.
ثم إنه تعالى جعل نفسه وليّاً للمؤمنين على التخصيص، علمنا أنّه تعالى تكفّل بمصالحهم فوق ما تكفّل بمصالح الكفار.
قالوا: فهذه الآية مبطلة لقول المعتزلة بـ "أنَّ الله تعالى قد سوَّى بين المؤمن والكافر في الهداية والتوفيق والألطاف".
وربما يجاب من قبل القائلين بالاعتزال - كالزمخشري وغيره -: إن هذا محمول على زيادة الألطاف كما في قوله سبحانه:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد:17]. وقوله: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2].
وتقريره من حيث العقل: إنَّ الخير والطاعة مما يدعو بعضه إلى بعض وذلك لأنَّ المؤمن إذا حضر مجلساً يجري فيه الوعظ فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار، ويكون حاله مفارقاً لحال من قسى قلبه بالكفر والمعاصي، وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره، فكان تخصيص المؤمنين بأن الله وليّهم محمولاً على ذلك.
وهذا الجواب مما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير نيابة عن المعتزلة، وهو غير سديد من وجهين:
أحدهما: إنَّه غير حاسم لمادة الإشكال على الوجه الذي قررناه، إذ لأحد أن يجري الكلام في سبب أصل الهداية والتوفيق وسياقتهما من الله في حق بعض أفراد الإنسان حتى صار من أهل الإيمان. وسبب الضلالة والخذلان، وسياقتهما منه في حق بعض آخر حتى صار من أهل الكفر والعصيان، فنقول: إذا كانت نسبة الهداية والتوفيق واحدة من الحق تعالى في الجميع على أصولكم، فما وجه اختصاصهما ببعض الناس حتى يكون مؤمناً، واختصاص مقابل كل منهما ببعض آخر حتى يكون كافراً؟ فحينئذٍ لا يتم الجواب، ولم يبق مهرب عن لزوم الترجيح من غير مرجح في هذا الباب.
وثانيهما: إنَّ للأشاعرة أن يقولوا لهم: إن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم، ولا يكون لله في حق المؤمن إلاَّ أداء الواجب، وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر، بل المؤمن فعل ما لأجله استوجب ذلك المزيد، فيكون ولي المؤمن هو المؤمن نفسه الذي فعل ما لأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف. هذا وستسمع منّا لبَّ التحقيق.
وربما يجاب عن أصل الإشكال بوجوه أخرى من المقال، جارية على نهج الاعتزال:
أحدهما: إنه تعالى يثيبهم في الآخرة، ويخصّهم بالنعيم المقيم، والإكرام العظيم، فكان التخصيص محمولاً عليه.
ويرد عليه مثل ما يرد على الوجه المذكور آنفاً - تحقيقاً وجدلاً - بأن يقال: ذلك الثواب واجب على الله تعالى على أصولهم، فوليُّ المؤمن هو الذي جعله مستحقاً على الله ذلك الثواب، فيكون وليه نفسه.
وثانيها: إنَّه تعالى كان ولياً للكل بمعنى كونه متكفلاً بمصالح الكل على السوية، إلاَّ أنّ المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن، فيصح تخصيصه بهذه الآية كما في قوله:
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2].
ويرد عليه أنَّ هذا الأمر الذي به امتاز المؤمن عن الكافر في باب الولاية، صدر عن العبد لا من الله تعالى، فكان ولي العبد - على هذا القول - هو العبد نفسه لا غيره.
وثالثها: إنه تعالى وليهم، بمعنى أنَّه يحبهم، والمراد منه أنه يحب تعظيمهم.
ويجاب: إنَّ "المحبة" معناها: إعطاء الثواب: وذلك بعينه هو الوجه الأول من هذه الوجوه وقد مرّ الإيراد عليه.
اللائحة الرابعة
في التخلص عن أصل الإشكال على طريقتي الحكماء والصوفية
أما على طريقة الحكماء فمثل ما يقولون في دفع الإشكال الوارد عليهم في إثبات الصور النوعية للأجسام الطبيعية، فإنهم لما أثبتوا تلك الصور في الأجسام بواسطة ثبوت الآثار واللَّوازم المختلفة فيها بأن قالوا: "الجسمية أمر واحد في الجميع فلو لم يوجد في بعض الأجسام صورة منوعة وفي بعض آخر صورة منوعة أخرى يلزم في ترتب بعض الآثار لبعض منها - كالحرارة في النار - وترتب بعض أخرى لبعض آخر - كالبرودة للماء - ترجيحاً من غير مرجح".
أورد عليهم: أنّ هذا بعينه وارد عليكم عند إثبات تلك الصور أيضاً، فإنّ اختصاص جسمية النار بصورتها الخاصة دون غيرها، واختصاص جسمية غيرها بغير تلك الصورة كجسمية الماء بصورته مع استواء الجميع في الجسمية المطلقة المشتركة مما يوجب الترجيح من غير مرجح.
لكنهم أجابوا عن ذلك - بعدما أحكموا بيان تحققها وجوهريتها بوجوه أخرى - إنَّ اختلاف تلك الصور مستند إما إلى اختلاف الاستعدادات السابقة كما في العنصريات، أو اختلاف المواد كما في الفلكيات، أو اختلاف الجهات والحيثيات الحاصلة في المبادئ الفعَّالة العقلية سيما العقل الأخير كما عند المشائين، أو اختلاف ذوات تلك المبادئ العقلية، كما عند الرواقيين القائلين بكثرة العقول التي في الطبقة العرضية على حسب تكثر الأنواع الجسمانية، أو اختلاف صورها العلمية الواقعة في عالم القضاء الإلهي، أو القدر الرباني الموجودة في القلم الأعلى العقلاني، أو في اللَّوح المحفوظ النفساني على الوجه المقدس عن التغير - بخلاف الصور الجزئية الواقعة في القدر الانطباعي السماوي لتغيرها بالمحو والإثبات - أو اختلاف الصور الربانية المسماة بالعناية الإلهية عند من جوَّز قيام علم الله تعالى بذاته - أي العلوم التفصيلية.
فكذلك يقال في انحلال ذلك الإشكال، وإيراد السؤال عن لميّة اختصاص المؤمن بولاية الله تعالى والإكرام والإفضال، واختصاص الكافر بمقته الموجب للنَّكال، من حوالة هذا التخالف بينهما في الهدى والضلال، والسعادة والوَبال، والثواب والعقاب، بعد الإيمان والكفر إلى أمور سابقة موجبة، ومقدمات متأدية مقتضية، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أمور قضائية إلهية.
وهذه سنة الله التي لا تبديل لها، وحكمته التي لا مزيد عليها، ولا فتور يعتريها من ربط الأشياء بالعلل والأسباب، وربط الأسباب بالمسببات، إلى أن يبلغ إلى قدرته، وإرادته، وجوده، وحكمته الموجبة لإيصال كل شيء إلى خير يليق به، وكمال يؤثر عنده، والحافظ لها (والمحافظة إياه - ن) عن كل شين ونقص يعتريه، وشرّ وآفة يلحقه بقدر الإمكان.
فالخير مرضي والشر مقضي، ولكل منهما طالب لا يسكن إلاَّ لديه، ولا ينزعج إلاَّ إليه.
فهذا أنموذج لهذا المقام، وقد بقي بعدُ من الشكوك ما لا ينحل إلاَّ ببسط في الكلام مع اشتغال شديد من المريد السالك في تحقيق المرام، ليتجلى له من الحق ما يتجلى للحكماء الكرام أو الأتقياء العظام.
وأما على طريقة أهل التصوف فبأن لله تعالى في ذاته وفي عالم إلهيته شؤوناً وحيثيات مسماة بأسماء وصفات - كما يعرفه أهل الله لا على وجه يقدح في أحديته الحقة - وهو سبحانه مع تلك الشؤون والحيثيات، مبدأ للكل وعالم بالأشياء وقادر على جميع الممكنات، ولو خرج شيء من الأشياء من علمه وقدرته، وتأثيره، وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل، وهو مع ذلك منزه عن فعل القبائح والشرور، ولكن لا بالوجه الذي بلغ فهم المعتزلة إليه، وإلاَّ لناقض كونه مبدأً للكل، وفي كونه مالك الملك.
بل الوجه أن يقال: وجود العالم بجميع أجزائه وأفراده المتكثرة والمتخالفة على هذا الوجه المشاهد ظلال لأسمائه المتعددة المتخالفة، على وجه كالأول، والآخر، والظاهر، والباطن، ولكل منها أثر خاص ومظهر ومعلول معين كالمبدع والكائن، والمحسوس والمعقول.
وعلى هذا القياس فنقول: إنَّا لله سبحانه صفتي "لطف وقهر" ومن الواجب في الحكمة أنَّ الملك - ولا سيما ملك الملوك - يكون هذا، إذ كل منهما من أسمائه الحسنى ومن أوصاف الكمال، ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك كابر وعاند، ولا بد لكل من هاتين الصفتين من مظهر.
فالملائكة ومن ضاهاهم من المؤمنين والأخيار مظاهر اللطف، والشياطين ومن والاهم من الكفار والأشرار مظاهر القهر، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها، ومظاهر القهر هم أهل النار والأعمال المعقبة إياها. فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل أهل الجنة، وللنار خلقاً يعملون بعمل أهل النار.
فكما أن وجود كل من صفتي اللطف والقهر مما لا بدَّ فيه، فكذا لا بدَّ من وجود مظاهر كل منهما بحسب كل مرتبة، وكما لا اعتراض لأحد عليه تعالى في وجود أصل المظاهر والمعاليل لكونها من لوازم الإلهية وآثار الربوبية، فكذا لا اعتراض لأحد عليه في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به، فإنه لو عكس الأمر لكان هذا الاعتراض بحاله.
ومن هاهنا تظهر حقيقة السعادة والشقاوة "فمنهم سعيد وشقي" والإيمان والكفر "فمنهم مؤمن ومنهم كافر" وتظهر حقيقة كونه تعالى ولي الذين آمنوا وعدوّ الذين كفروا - وإنما وليّهم الطاغوت فالله سبحانه موصوفاً بصفة اللطف ولي المؤمنين وعدوّ الكافرين أيضاً، وإن كان من جهة الرحمة المطلقة والفيض العام، والجود التام، يوجدهم ويرزقهم ويعطيهم المال والجاه، ويجيب دعاءهم ويسمع نداءهم.
وفي هذا المقام أسرار لا يجوز التصريح بها لأنَّ ضرر سماعها للطبائع الغير المرتاضة أكثر من نفعها.
فإذا تُؤمِّل في ما بيَّنا، يظهر أنَّ هذا الترتيب والتميز في الوجود من لوازم الترتيب والتميز الواقع فيما سبق من الأحكام الأزلية الناشئة من معدن الإلهية والعلم السابق الإلهي، ويعلم أنَّ ولاية المؤمن من الله قبل إيمانه بالذات.
كما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"إنَّ خلقَ أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات، فيكتب علمه، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد" .
فإن قلت: إذا كانت السعادة والشقاوة بالقضاء، والإيمان والكفر بالقدر، فأي فائدة في بعثه الرسل وإنزال الكتب؟
قلت: فائدتهما بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين، الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سبباً وواسطة لاهتدائهم.
{ { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [النازعات:45]. كما أنَّ فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح.
وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه
{ { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة:125]. غاية ذلك إلزام الحجة وإقامة البيِّنة عليهم ظاهراً { { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء:165] { { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [طه:134] وهو في الحقيقة للنفي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء.
أقول: فيه وجه آخر وهو أنَّ لكل شيء بحسب قصده وغلبة الطبيعة أسباب وعلل بها يتوجه إلى حيّزه الطبيعي ومعاده الأصلي، فمن الأسباب المؤدية للأشقياء إلى درك الشقاء، وهي بعينها الأسباب التي تسوق السعداء إلى الدرجات العلى، إرسال الرسل وإنزال الكتب.
فإنَّ هذين الأمرين - الإرسال والإنزال - كما يوجبان ظهور ما يكمن في النفوس الشريفة - من آثار الكرامة، والعلم، والمروة، والتقوى، والصفات الحسنة، والأفعال الجميلة - فكذلك موجبان للنفوس الخبيثة ظهور ما يكمن فيها - من الحماقة، والجهالة، وحب الدنيا، والشهوات - فيوجبان للنفوس الخبيثة زيادة في جحودهم واستنكارهم، وشدّة في غيظهم واستكبارهم.
أما ترى أنَّ بالوعظ والنصيحة ينكشف ويظهر من حال قساوة بعض القلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة ما لا يظهر قبل ذلك، فعند سماع الآيات يستحكم لكل من القبليتين ما هو مركوز في جبلته من الصفات إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ.
كما دلَّ عليه قوله تعالى:
{ { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [الأنعام:104] وقوله تعالى: { { وَأَنْ أَتْلُوَ ٱلْقُرْآنَ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ } [النمل:92]. فإنَّ فيها إشارة إلى أنَّ نور القرآن يظهر ويكشف جوهر الهداية والضلالة في معدن قلب الإنسان السعيد والشقي، كما يظهر ويكشف ضوء الشمس الذهب والحديد في المعادن.
وكذا قوله تعالى:
{ { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [البقرة:26]. وآيات كثيرة في هذا المعنى.
وقال عليه آله الصلاة والسلام
"الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" . الحديث.
المقالة السابعة عشرة:
في معنى قوله سبحانه: { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }
وفيه معارج:
المعراج الأول
في تحقيق الآية
إنَّ الله سبحانه لمَّا ذكرنا أنَّه يحب الذين آمنوا ومتولي إيمانهم، ومعينهم في قبول الهداية، ومكمل قلوبهم بكمال العرفان المعبّر عنه بالإيمان، أراد أن يبين كيفية هذا التكميل والاستكمال، ولمّية هذا الفعل والانفعال، فأشار إلى أن كيفيته بأن يخرجهم من ظلمات الخِلقة إلى نور الهداية، حتى اهتدوا وآمنوا، فإنَّ كل واحد من الناس بحسب أصل طينته وهيولانيته من سنخ الظلمات كالجسمية والطبيعية والحيوانية التي مقتضى ذاتها أفعال توجب الطرد والبعد عن حرمة الله الخاصة الموجبة لدخول الجنة، وإنَّما التفاوت بحسب تفاوت الأرواح والقلوب في الكدورة والصفاء الفطريين، ثم بحسب العقائد والأعمال.
ويجوز أن يحمل قوله تعالى:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [مريم:71]. على ما يستوجبه الإنسان بحسب ما تقتضيه طينته الجمسانية الظلمانية.
ويحتمل أن تأول "الظلمات" بالأوصاف النفسانية كالشهوة، والغضب، والوهم، قبل أن يسخرها القلب ويستعملها فيما خلقت لأجله، ويستخدمها في طاعة الله على وجه التعليل والتوسيط، فإن وجودها لا على الوجه المذكور ظلمة ووبال على النفس الآدمية توجب لها الاستحقاق لعذاب الله بالجحيم، والنار، والموت، والحرمان عن نعيم الأبرار، كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:
{ { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } [الأنعام:122].
فثبت أنه تعالى أخرجهم ذلك اليوم بإصابة رشاشة النور - كما ذكر في الحديث المشهور - من ظلمات الطينة حتى اهتدوا اليوم فآمنوا، ولولا محبته إياهم وتنويره قلوبهم، ومزيد العناية، وتوليته لهم بالنصرة والمعونة فضلاً منه ورحمة لَما آمنوا وكانوا من الكافرين، كقوله تعالى:
{ { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [البقرة:64]. ونظائره من الآيات الدالّة على مزيد فضل الله لعباده الصالحين.
فما أشدّ سخافة عقل من أنكر مزيد محبة الله وعنايته للمحبوبين المقرّبين من الأنبياء والمرسلين والأبدال الواصلين، ويرى أن التوفيق، والهداية، والمحبة من قبله تعالى مساوية (سواسية - ن) النسبة إلى أفضل خلق الله وأحبهم إليه كخاتم المرسلين عليه وآله أفضل صلوات المصلين - وأرذل خلقه وأبغضهم لديه - كالشيطان اللعين؟! بدون تفاوت ذواتهم في ابتداء الفطرة بحسب صفاء جوهر القلب وظلمته وصفائه وكدورته، اللذان هما من مظاهر قهره تعالى ورأفته، وآثار مقته ورحمته كما مرّ ذكره.
المعراج الثاني
في بيان طوائف (طبقات - ن) المؤمنين في الإيمان وكيفية إخراج كل طائفة من الظلمة إلى النور، وأنَّ مراتب الإيمان متفاوتة
المؤمنون فيه على ثلاثة مراتب لكونهم ثلاث طوائف: عوام المؤمنين وخواصهم، وخواص خواصهم.
فالعوام: يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية كقوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد:17].
والخواص: يخرجهم من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية الربَّانية؛ لقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الرعد:28]. ومعرفته واطمئنان القلب بالذكر والمعرفة لم يكن إلاَّ بعد تصفيته عن الصفات النفسانية، وتحليته بالصفات الروحانية، وإلاَّ فمن صفته الاطمئنان بالحياة الدنيا وشهواتها، كقوله تعالى: { { وَرَضُواْ بِٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا } [يونس:7].
فإذا استولى سلطان المعرفة على نفس المؤمن وقلبه، تنوّرت النفس بنور الذكر، وخرجت عن ظلمة صفاتها، فتبدلت أخلاقها الذميمة بالحميدة، فيكون اطمئنانها مع العلوم الإلهية وذكر الله بدل ما كان مع الدنيا، فتستحق حينئذٍ أن يخرجها الله تعالى بخطاب:
{ { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر:27 - 28] من ظلمات الصفات الغير المرضية إلى نور صفة { { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } [الفجر:28 - 29]. أي مقام خواص عبادي { { وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر:30]. أي المخصوصة المشرَّفة بإضافتها إليَّ، فهي خاصة لخواص عبادي.
وخواص الخواص: يخرجهم من ظلمات حدوث الخلقة الروحانية بإفنائهم عن وجودهم إلى نور تجلّي صفة "القديم" لهم ليبقيهم به، كقوله تعالى:
{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ } [الكهف:13 - 14]. الآية نسبهم إلى الفتوّة لمَّا خطروا بأرواحهم في طلب الحقّ، وآمنوا بالله وكفروا بالطاغوت دقيانوس.
فلمَّا تقرّبوا إلى الله تعالى بقدم الفتوة، تقرّب إليهم بمزيد العناية، قال:
{ { زَادَهُمْ هُدًى } [محمد:17] تحقيقاً لقوله (صلّى الله عليه وآله): "من قربني شبراً قرّبته ذراعاً" .
فلمَّا تنوّرت أنفسهم بأنوار أرواحهم اطمأنّت إلى ذكر الله وأنست به، واستوحشت عن صحبة أهل الدنيا وما فيها وأحبّوا الخلوة مع الله، فقال أكبرهم وشيخهم: { { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } [الكهف:16]. فأووا إلى الغار ليخلوا مع الله ويطلبوه.
فإذا قاموا عن وجودهم وبذلوا جهدهم في طلبه، ومشوا إليه استقبلهم بجوده هرولة، فبدّل أوصافهم بألطافه كما قال:
{ { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [الكهف:14] أي أفنيانهم عنهم بنا بنشر رحمتنا عليهم، و "النشر" هو الإحياء، فأفناهم عنم وأبقاهم به، وهو الولاية التي تكرّم الله تعالى به خواص عباده، إذ يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور جوده (وجوده - ن) بعد تربيتهم بالرفق، وإنامتهم نومة العروس بعزل الحواس لتصفية القلب، والفراغ بالكليّة إلى الحق عن الدنيا، لئلا تتأذى نفوسهم بنصَب الرياضة وتعب المجاهدة - وتقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال - أي: من صفات أصحاب الشمال إلى صفات أصحاب اليمين وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، لا يزاحمهم بدواعي الحيوانية حتى تمت مدة تربيتهم في تبديل أوصاف البشرية بأخلاق الربوبية.
ومن علامة هذا المقام - الذي يصل إليه خلّص عباد الله الكرام - ما أظهره الله عليهم للاحترام هيبة من آثار صفات جلاله، كما قال سبحانه:
{ { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } [الكهف:18]. وعداوة علماء الدنيا لأهل الله والعرفاء وغيظهم، إنّما تنشأ من غاية ما وجدوا من الهيبة والجلالة فيهم، ولهذا ملؤوا (لملؤوا - ن) منهم غيظاً كما ملؤوا رعباً.
المعراج الثالث
في إتقان القول بأنَّ الله تعالى هو المبدأ الفعَّال في إخراج النفوس الإنسانية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور المعرفة والكمال، ودفع شبهة المنكرين والجهَّال.
أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من "الظلمات والنور" هما "الكفر والإيمان" وما يجري مجراهما من اللوازم والملزومات، فتكون الآية صريحة في أنَّ الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من مرتبة الكفر - الذي هو ضرب من الجهل - وأدخله إلى مرتبة الإيمان - الذي هو ضرب من العلم -.
والبرهان العقلي عليه هو أنَّ الإنسان في مبدإ الفطرة خالٍ عن العلوم كلها، ثمّ قد يصير مؤمناً بالحقائق الربانية، عالماً بالمعالم الإلهية، ولا شك أنَّ كل ما خرج من القوة إلى الفعل بحسب الكمال العلمي فلا بدَّ له من سبب يخرجه منها إليه، وذلك السبب إمَّا أن يكون كاملاً في ذاته، عالماً بالفعل من غير قصور، أو لا يكون كذلك - بل كان عالماً كاملاً بعد ما لم يكن -.
فإن كان الأول: فهو إمَّا واجب أو ممكن، فإن كان واجباً فهو المطلوب وإن كان ممكناً: فسببيته لتكميل هذا الإنسان إما بحسب حقيقة ذاته (حيثيته الذاتية - ن) الممكنة، أو من جهة إفاضة الواجب تعالى نور العلم والكمال عليه.
والأول محال - لأنّ الممكن بحسب ذاته الإمكانيّة عدم محض، وقوة صرفة، فاستحال أن يصير سبباً لوجود أو فعلية - فتعيّن الثاني وهو مطلوبنا.
وإن لم يكن كاملاً كذلك ينقل الكلام إلى سببه المخرج إيّاه من النقص إلى الكمال، ومن القوة إلى الفعل، فإمَّا أن تذهب السلسلة إلى غير النهاية، أو تدور، أو تنتهي إلى الواجب تعالى. والشقّان باطلان، فتعيّن الثالث وهو الحق.
فثبت أنَّ الله هو الذي أفاض نور الإيمان على النفوس الساذجة الإنسانية عنه بحسب الفطرة الأصليّة، وأخرجه (أخرجها - ظ) عن ظلمات التعلّقات الدنيوية إلى نور القرب المعنوي الرباني.
وأمّا الذي ذكره جمع من معتزلة المتكلمين من وجهين:
أحدهما: أنَّ الإخراج من الظمات إلى النور عبارة عن نصب الدلائل، وإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، والحث والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه، والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه، وقد نسب الله الإضلال إلى الصنم في قوله:
{ { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم:36]. لأجل أنَّ للأصنام سببية ما بوجه، فبأن يضاف الإخراج من الظلمات إليه تعالى كان أولى.
والوجه الثاني: أن يحمل "الإخراج من الظلمات إلى النور" على أنه تعالى يعدل بهم من النار الجنة، وهذا أدخل في الحقيقة، لأنَّ ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى - فكأنه فعله -.
فهو مفسوخ (منسوخ - ن) الضبط، مقدوح الحكم، وليت شعري بعد أن يكون الإخراج عبارة عمّا ذكروه أفلا يكون بين الناس تفاوت واختلاف في المفهوم والقرائح؟ حتى تفطَّن بعضهم للدلائل وتلقوها بالقبول، وأوقعت معانيها في أذهانهم وقرائحهم بأبلغ وجه وآكده، بخلاف البعض الآخر حيث تبلدت أذهانهم، وتعصّت عن قبولها، كما قال سبحانه فيهم:
{ { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة:7]. وكذا قوله: { { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة:6]. وقوله مخاطباً للرسول (صلّى الله عليه وآله) { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56].
فهذا التفاوت في الفهم والذكاء بين النفوس على هذه الغاية - التي هي أزيد مما بين الأرض والسماء، حيث يكون منهم البليد الذي لا يفلح أبداً في فكره، ومنهم شديد الحدس قوي الذكاء إلى حيث يبلغ نفساً قدسية تعرف الأشياء كما هي في زمان قليل العدد - أيكون حاصلاً بمجرد التعلم والكسب من غير تفاوت في أصل فطرة الجواهر؟ أم بفيض إليه قدَري يجعل النفس مختلفة الذوات صفاءً وكدورة، متفاوتة القلوب لطافة وكثافة، ليناً وقساوة؟
لست أشك في أنَّ أحداً من العقلاء لا ينكر هذا التفاوت الفطري ضميراً واعتقاداً - وإن عاند لساناً وقولاً - فإذا بطل أن يكون ذلك بمجرد الكسب من غير مدخل لعناية الله في حق البعض دون الآخر فقد ثبت أنَّه تعالى هو الذي خلق الظلمات والنور، والجنة والنار، وخلق لكل منهما أهلاً كما قال:
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن:2].
فإذا تحقق هذا المقام بما ذكرناه من الكلام فلنشتغل بحل ما عقدوه، والجواب عمّا ذكروه أما من الأول فمن وجهين:
أحدهما: إنَّ هذه الإضافة حقيقة في الفعل ومجاز في الحث والترغيب، والأصل حمل اللفظ على الحقيقة، على أن جواز إطلاق اللفظ في معنى لا يقتضي ثبوت ذلك المعنى فلا يصح التعويل عليه في المقاصد الاعقتادية، وقد اشتهر بين المحصلين أن الحقائق غير مقتنصة من الإطلاقات اللُّغوية أو العرفية.
وثانيهما: إنَّ هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية، صار الراجح واجباً، والمرجوح ممتنعاً، وحينئذٍ يبطل قولكم. وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج.
وأما عن الثاني فمن وجهين أيضاً:
الأول: قال الواقدي: "كل ما كان في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان، غير قوله تعالى في سورة الأنعام:
{ { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام:1] فإنه يعني به الليل والنهار - قال: - وجعل "الكفر" ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك، وجعل "الإيمان" نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك".
والثاني: إنَّ العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عندكم فلا يجوز حمل اللفظ عليه.
المعراج الرابع
في إزاحة وهم من يخص الآية بمن كان كافراً حيناً من الدهر ثم أسلم
إن ظاهر لفظ "يخرجهم من الظلمات إلى النور" اقتضى أنهم كانوا في الكفر، ثم أخرجهم الله من ذلك الكفر الذي عليه في حصة من الزمان إلى الإيمان، قال جماعة من المفسرين: "إن الآية مختصة بمن كانوا من الكافرين ثم قبلوا دعوة الإسلام" وهم ذكروا في سبب النزول روايات:
إحداها: قال مجاهد: "هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى (عليه السلام) وقوم كفروا به، فلمَّا بعث الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) آمن به من كفر بعيسى (عليه السلام)، وكفر به من آمن بعيسى (عليه السلام)".
وثانيتها: إنَّ الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى (عليه السلام) على طريقة النصارى، ثم آمنوا بعده بمحمد (صلّى الله عليه وآله) فكان إيمانهم بعيسى (عليه السلام) حين آمنوا به ظلماً وكفراً، لأنّ القول بالاتحاد كفر، والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام.
وثالثتها: إنَّ الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد (صلّى الله عليه وآله) وهذا التخصيص غير لازم، بل الأولى أن يحمل اللفظ على كل من آمن بالله وبمحمد (صلّى الله عليه وآله) وبما جاء به - سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر بعدية زمانية أو لم يكن - وتقريره حسبما أشرنا إليه أنَّه لا يبعد أن يقال: "يخرجهم (يقول بخروجهم - ن) من النور إلى الظلمات" وإن لم يكونوا فيها البتة، ويدلّ على هذا الجواز النقل والعقل:
أما النقل فيدل عليه القرآن، والخبر، والعرف.
أما القرآن: فقوله تعالى:
{ { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [آل عمران:103]. ومعلوم أنَّهم لم يكونوا قط في النار، وقوله: { { لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ } [يونس:98]. وما كان نزل بهم عذاب البتة، وقال في قصة يوسف (عليه السلام): { { تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [يوسف:37]. ولم يكن فيها قط، وقال: { { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } [النحل:70]. وما كانوا فيه قط.
وأما الخبر:
"فروي أنَّه (صلّى الله عليه وآله) سمع إنساناً يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله فقال: على الفطرة فلمَّا قال: أشهد أنَّ محمداً رسول الله فقال: خرج من النار ومعلوم أنه لم يكن فيها" .
وروي أيضاً أنَّه (صلّى الله عليه وآله) أقبل على أصحابه فقال: "تتهافتون في النار تهافت الجراد، وها أنا آخذ بحجزكم" ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار.
وأما العرف: فهو أنَّ الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له: "قد أخرجتني من مالك" أي: لم تجعل لي فيه شيئاً، لا أنه كان فيه فأخرجه منه.
وأما العقل: فالتحقيق فيه كما مرَّ أنَّ الإنسان وإن لم يكن في النار ظاهراً، ولم يكن كافراً قط، إلاَّ أنه كانت نفسه في أول الفطرة ناقصة في معنى الإنسانية، خالية عن الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك مشارك للحيوانات في الإغراض الشهوية والغضبية، بل أنزل رتبة وأضلّ سبيلا منها في الدواعي النفسانية، والميل إلى الدنيا، والإخلاد إلى الأرض، فإن بقي على هذه الحالة التي هي بعينها سبب دخول الجحيم وغضب الجبار، أو نفسها - كما هو عند بعض - كان على شفير جهنم، فإذا تنوّرت ذاته بالإيمان اليقيني، والمعارف الإيمانية، وعمل بمقتضاها، فقد حصل له ما هو سبب دخول الجنان، ومجاورة الرحمن، أو عينها - كما هو عندهم -.
فمعنى هذه الآية وغيرها من النقول المذكورة هو ما ذكرنا، فإنَّ العبد لو خلي ساعة من توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات مما توجبه الشهوات وغيرها، فصار إمداد لطفه، وإفاضة نوره آناً فآناً سبباً لدفع تلك الظلمات عنه، وبين الدفع وبين الرفع مشابهة، فبهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع.
المقالة الثامنة عشرة:
في قوله سبحانه وتعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ }
وفيه مطالع:
المطلع الأول
في اللفظ
"الطاغوت" بلفظ الواحد (الواحدان - الوحدان - ن) والأولياء بلفظ الجمع، ليعلم أنَّ الولاء والمحبة من قِبَل الكفار للطاغوت لا من قِبَله لهم، فلو كان من قِبَله، لقال: "وليهم الطاعوت" أو "الطاغوت وليهم" وأمَّا ما قرأه الحسن "أولياؤهم الطواغيت" واحتجّ بقوله تعالى بعده: { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } فهو إسناد مخالف للمصاحف، على أنَّه قد مرَّ أنَّ هذا اللفظ مفرد لا يجمع، ولهذا يقع في موضع الجمع.
ومن الدلائل على ما حملناه - من كون الأولياء بمعنى المبني للمفعول بعد كون الطاغوت بمعنى الشيطان قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة:168] وقوله: { { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر:6]. فإنّ كونه عدوّاً للإنسان جملة ينافي صيرورته وليّاً ولو في بعض الأوقات.
والمراد بالطاغوت هاهنا إمّا الشياطين - وهو قول ابن عباس - وقيل: رؤساء الضلالة - عن مقاتل - وقيل: الأصنام. وقيل: المشتهيات النفسانية والأغراض الدنيوية. وقيل: النفس الأمَّارة بالسوء ولكلٍ وجه بل المرجع فيها واحد هو حبّ الدنيا لنقصان الجوهر وقصور الذات.
المطلع الثاني
قد استدلّت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ الكفر ليس بقضاء الله، لأنَّه أضافه إلى الطاغوت.
والجواب: إنَّ هذه الإضافة مجازية بالاتفاق، وخصوصاً على قول من يكون المراد به عنده "الصنم" كقوله تعالى:
{ { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم:36]. فإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق مجازية بين الفرق فقد خرجت عن أن تكون حجة لهم.
المطلع الثالث
كما أنَّ ولاء الله للعباد منوط بولائهم إيَّاه، فكذلك براءته تعالى عنهم منوطة بمحبتهم الباطل، فالمراد هاهنا على حسب الوزان: إن الذين كفروا أولياؤهم الطاعوت وبهذا الولاء للطاغوت صاروا مبعدين مطرودين عن الله، ملعونين، مستوجبين للنار خالدين فيها.
ودليل ما ذكرنا قوله تعالى:
{ { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ } [البقرة:165]. لأنَّه لو فسرنا الطاغوت بالأصنام فإنَّها بمعزل عن الولاء والمحبة، وإن حملناه على الشيطان أو النفس فإنَّهم الأعداء لا الأولياء، وإن حملناه على الرؤساء والمتقدمين فإنَّ لهم فراغة من ولائهم ومحبتهم، وإن كانوا يقطعون الطريق عليهم ويمنعونهم عن الإسلام، ويدعونهم إلى الكفر، فهذا من العداوة لا من الولاء، فثبت إنهم أولياء الطاغوت لا العكس.
ولهذا الفرق ذكر "الأولياء" بلفظ الجمع "والطاغوت" بلفظ المفرد كما مر.
ولمَّا كان في حق المؤمنين الولاء والمحبة من الله تعالى ابتداءً - لا منهم - قال سبحانه: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } دليله:
{ { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]. بدأ بمحبته إيّاهم.
وأمّا قوله: { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } فليس لكلّ طاغوت قدرة بالحقيقة على إخراج أحد من النور إلى الظلمات، كما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله):
"بعث الشيطان مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء" وإنما نفوس الإنسان تميل إلى ما يلائم هواها وشهوتها، فتسكن فيها ولاها ومحبتها، فيتمنى نيل مرادها، وحصول مرامها من شيء، أو شخص، أو شيطان، أو صنم يتشبث بذلك ويتعلّق به ويتولاّه، ويجعله طاغوتاً يشغلهم عن الله تعالى، وطلب القرب منه والارتقاء إلى عالم الروحانيين وجنّة المقرّبين.
فلهذا ينسب الله الإخراج إليهم بقوله: "يخرجونهم" لكونهم منشأ للخروج بوجه ما، فيكون نسبة الإخراج إليهم من باب نسبة المعلول إلى آلة الفعل، كقوله تعالى حكاية عن دعاء خليله عن نبينا وعليه السلام: { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ }. فالناس بواسطة محبتهم وعبادتهم ضلّوا عن سبيل الله لا بإضلالهن، وكذلك الكفار بتوليتهم الطاغوت أخرجوا من النور.
المطلع الرابع
في معنى "النور" هاهنا
إعلم أنَّ معنى "النور" في هذا الموضع غير معناه الذي قد مرّ، فإنّ معنى الآية: يخرجونهم من نور الروحانيّة والإيمان الفطريّ - المشار إليه بقوله (صلّى الله عليه وآله):
"كل مولود يولد على الفطرة" أي: فطرة الإسلام - إلى ظلمات الصفات النفسانية والبهيمية والسبعية، ظلمات بعضها فوق بعض ودركات بعضها تحت بعض، إلى أن تكدرت الأرواح، واظلمت بهذه الصفات، وتخلقت بأخلاق النفوس الأرضية واتّصفت بصفاتها.
فكما أنَّ النفوس إذا تنوّرت بنور الإيمان والمعارف والأخلاق الروحانية، وعلت إلى عالم الأرواح وأعلى عليّين القرب مع كونها سفلية فبإكسير طاعة الشرع والمجاهدات الدينية تصير بصفة العلويات، وتطير بأجنحة الروحانيين، وتدعى بنداء
{ { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر:28 - 29]. فكذلك الأرواح العلوية لمَّا اتّصفت بصفات النفس الأمَّارة، وانقلب جوهرها النوراني بإكسير الطبع الحيواني ظلمانية، أمرت بالهبوط إلى أسفل سافلين البعد والطرد، دليله قوله تعالى: { { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4]. بحسب روحه الذين هو من عالم النّور { { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [التين:5] بإفساد الاستعداد الروحاني، بالكفر ومتابعة الهوى والطاغوت { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [التين:6].
شك وتحقيق
ولك أن تقول: إنَّ الإنسان بحسب أصل فطرته، وأول خلقته لا يخلو إمَّا أن يكون نورانياً أو ظلمانياً، فإن كان الأول فما معنى قوله تعالى: { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }؟ حيث لم يكن في ظلمة أصلاً لا بحسب الواقع، ولا بحسب الفطرة الأصلية كالمؤمنين الذين ما كانوا كفاراً قطّ؟ وإن كان الثاني فما معنى قوله تعالى: { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ }؟
فنقول: إعلم أنَّ الإنسان لكونه مركّباً من عالمَي الأمر والخلق فله فطرتان:
إحداهما: روحانيّ نوراني علوي من عالم الأمر وهو الملكوت الأعلى.
وثانيتهما: نفس ظلمانيّة سفليّة من عالم الخلق، ولكل منهما نزاع وشوق إلى عالمه. فقصد الروح وميله ورغبته وشوقه أبداً إلى عالمه، وهو جوار ربّ العالمين ومصاحبة المقدسين، وميل النفس وقصدها إلى عالمها، وهو أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق.
وبين النفس والروح تجاذب وتنازع وتقالب وتقاوم، كل منهما يريد أن يسخر صاحبه ويستخدمه ويستعبده في تحصيل مآربه ومطالبه.
ولكلّ منهما أولياء وجنود: فوليّ الروح هو الله، وجنوده أحزاب الملائكة - وهي المعارف والأخلاق الحسنة والقوى الروحانية - وولي النفس الطاغوت، وجنوده الجهالات والصفات الذميمة والقوى النفسانية، والمحاربة والمطاردة قائمة بينهما في معركة القلب الإنساني إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيكون له الحكم والغلبة في الإنسان، فيتمكن ويستوطن في قلبه ويجعله عشّاً له.
فإن كانت الغلبة لحزب الله بعلامات يعرفها أرباب القلوب في أنّه حلَّق للجنّة لسابق التقدير وسابق القضاء، فيكون الله متولّي أمره ومخرجه من الظلمات - التي هي الدواعي النفسانية بحسب فطرة النفس - إلى نور العرفان بتوفيق الطاعات وفعل الخيرات.
وإن كانت الغلبة لحزب الشيطان لكونه خلق للنار فيسَّر له أسباب المعصية لحكمه إلهية، ومصلحة قدرية، يعرفها أهل الله، فيكون الشيطان وجنوده أولياءه وأحباؤه ومتولي أمره، ومخرجه من النور الذي كان له بحسب فطرة الروح، المشار إليه بقوله (صلّى الله عليه وآله):
"كل مولود يولد على الفطرة" إلى الظلمات الدنيوية من الشهوات واللّذات، ولا يرغبهم الطاغوت فيها، لقوله تعالى: { { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [النساء:120]. يعدهم بالتوبة، ويمنّيهم بالمغفرة إلى أن يهلكهم بهذه الحيل وما يجري مجراها.
كل ذلك غير خارج عن قضاء الله وقدره، كما قال:
{ { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [الأنعام:125]. وقوله: { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } [آل عمران:160].
فهو الهادي والمضلّ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وعرَّف الخلق - وخصوصاً أولياءه - علامة أهل النار وأهل الجنة، فقال:
{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم } [الانفطار:13 - 14].
ولمّا كان الغالب على أكثر الخلق جانب النفس والميل إلى الظلمات بعث برحمته الأنبياء صلوات الله عليهم لتزكية النفوس عن ظلمة أوصافها وسوء أخلاقها، وتحلّيها بحلية أنوار الأرواح، ليستحق بها جوار الحق وقربه في زمرة الأرواح المقدّسة، فتزكيتها في إخفاء ظلمة أوصافها بإبداء أنوار أخلاق الروح عليها في تحليتها بها، وهذا مقام الأولياء مع الله يخرجهم من الظلمات إلى النور.
وبعث الشيطان إلى أوليائه - وهم أعداء الله - ليخرج أرواحهم من الروح الروحاني إلى الظلمات النفسانية، بإخفاء أنوار أخلاقها في إبداء ظلمات أخلاق النفس عليها لتستحق بها دركة أسفل السافلين، وغاية البعد عن الحق، فيغفر لمن يشاء ويعذّب العاصي بعقوبة نفسه بنار دركات السعير، وروحه بنار الفرقة والبعد
{ { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:284] من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الخلق والأمر.
المطلع الخامس
في تحقيق العلاقة العقلية والملازمة الذاتية بين الكفر وطاعة الشيطان كما يستفاد من هذه الآية
إعلم أنَّ الشيطان - كما حققناه في كتاب المبدأ والمعاد - جوهر مجرّد الذات جسماني، خلقت ذاته من الله تعالى بتوسّط القعول الفعّالة لأجل جهة إمكانية ظلمانية، وذاته وإن كانت شرّاً محضاً، إلاَّ أنها وجدت بتقدير الله لحكمة قضائية ومصلحة قدريّة، فهو وإن كان من شأنه الغلط والتغليط، والضلال والإضلال، إلاَّ أنَّ نسبته إلى الملائكة المقرّبين نسبة الوهم إلى القوى العاقلة.
وكما أنَّ وجود الوهم في العالم الصغير الإنساني منشأ الغلط والكفر والتغليط - إلاَّ أنه ضروري الوجود في إدراك الجزئيات - ويُدفع ضرّه وشرّه بالحكمة والبرهان النير - فكذلك وجود الشيطان في العالم الدنيوي ضروري يوجب تعمير هذه النشأة الدنيوية، ويُدفع شرّه وضرّه بنور الإسلام وطاعة الشريعة الإلهية.
ومن هاهنا ينكشف لدى العاقل البصير أنَّ منشأ الكفر ليس إلاَّ محبّة الباطل، ومنشؤها ليس إلاَّ ترويج الباطل في صورة الحق، ولو نظر أحد بعين (بنور - ن) التحقيق إلى حال الإنسان عند محبة كل ما يستلذه، أو يعتقده، أو يطلبه من الأمور الباطلة الزائلة - كالزنا، وأكل مال اليتيم، وقتل النفس المحرّمة وعداوة أولياء الله، ومحبّة أعداء الله - فليس يجده في تلك الحال إلاَّ زاعماً - لغاية غروره - أنَّ في ذلك كمالاً وحقيقة، ووجوداً ودواماً، فما لم يعم، ولم يصم عن مشاهدة بطلان المحبوبات الباطلة، ودثور المرغوبات الزائلة لم يقدم على محبتها وطلبها ومباشرتها.
فمبدأ جميع القبائح يرجع إلى ترويج الباطل في صورة الحق، فالإنسان في هذا الترويج يتبع الشيطان، وصار عقله مقهوراً لوهمه عند ادعائه له في هذا الترويج والتدليس، وكل من كفر بالله وآياته صار من أتباع الشيطان، ومحبيه في هذا التغليط من الوهم للقوة العاقلة لصيرورة عقله مذعناً لوهمه.
والوهم من جنود الشيطان، لأنَّ فعله الإغواء وتزيين الباطل وترويجه في صورة الحق، وتابع التابع للشيء تابع لذلك الشيء، والتابع للشيء محب له، فثبت ما ادّعيناه من أن الكفر منشؤه ولاء الشيطان - بإضافة المصدر إلى المفعول - كما حققناه.
ومن هاهنا يعلم أنَّ إبليس وإن كان أصله من الملك، إلاَّ أنّه لم يكن إلاَّ منافقاً، مغالطاً جاهلاً، كافراً، وما زعمه بعض الجماهير أنَّ الشيطان كان من أعلم العلماء فكلامه مزيف سخيف، وكأنهم لم يفرقوا بين العلم والمغالطة، ولا بين الحكمة والسفسطة، وخصوصاً على مذهب من يمنع الإحباط كما ذهب إليه أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم -.
ومن الدلائل على سبق كفره قوله تعالى:
{ { كَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة:34]. مما يؤّيد ما ذكرناه من أن إبليس كان كافراً في أول الأمر ما حكاه محمد ابن عبد الكريم الشهرستاني في أول "الملل والنحل" عن شارح الأناجيل الأربعة شبه مناظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود:
قال إبليس لعنه الله: إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق، عالم قادر حكيم، إلاَّ أن لي على مساق حكمته أسئلة:
الأول: إنَّه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عنّي، فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيته، فَلِمَ كلَّفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: إذ خلقني وكلّفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة، فأطعت وعرفت فَلِمَ كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص؟ فإذا لم أسجد فَلِمَ لعنني وأخرجني من الجنة، وأوجب عقابي مع أنَّه لا فائدة له في ذلك، ولي فيه أعظم الضرر؟
الرابع: لمَّا فعل ذلك فَلِمَ مكّنني من الدخول إلى الجنة، ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم، وبقي خالداً في الجنة.
الخامس: إذ خلقني وكلّفني عموماً وخصوصاً ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فَلِمَ سلّطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثّر فيَّ حولهم وقوتهم، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم عنها، فيعيشوا طاهرين سامعين، طائعين، مطيعين، كان أحرى بالحكمة.
والسادس: سلمت هذا كلّه، فَلِمَ إذا استمهلته أمهلني؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني، وما بقي في العالم شرّ؟ اليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشرّ؟
فقال شارح الأناجيل: فأوحى الله إلى الملائكة قولوا له: "أما تسليمك الأول - أني إلهك وإله الخلق - فغير صادق ولا مخلص إذ لو صدقت أني إله العالمين، ما احتكمت عليَّ بـ "لِمَ"، فأنا الله الذي لا إله إلاَّ أنا، لا أُسأل عمَّا أفعل والخلق مسؤولون" هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل.
وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور، وليست تعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر، وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص، ولا جواب عليها بالحقيق إلاّ الذي ذكره الله تعالى.
فاللَّعين لمَّا حكَّم عقله الوهماني على من لا يتحكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق، فالأول: غلوّ كالحلولية وكالغلاة، والثاني: تقصير كالمشبهة - وصفوا الخالق بصفات الأجسام - وكالخوارج - نفوا تحكيم الرجال وقالوا " لا حاكم إلاّ الله" - كقوله: ءأسجد لبشر خلقته من صلصال لا أسجد إلاَّ لك.
فالشبهات كلّها ناشئة من اللَّعين، وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الأخيرة مظهرها، ولهذا قال تعالى:
{ { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة:168] وشبّه النبي (صلّى الله عليه وآله) كل فرقة ضالّة من هذه الأمة بأمّة ضالّة من الأمم السالفة، فقال: "القدرية مجوس هذه الأمة" و "المشبهة يهود هذه الأمة" و "الغلاة نصاراها" وقال (صلّى الله عليه وآله) جملة: "لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" .
وأمّا الزاعمون بأنّ إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك، فقد اختلفوا في توجيه ما ذكرناه من قوله تعالى: { { كَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة:34]. فمن قائل معناه: كان من الكافرين في علم الله - أي كان عالماً في الأزل بأنَّه سيكفر - فصيغة كان متعلّق بالعلم لا بالمعلوم.
ومن قائل: إنَّ "كان" بمعنى "صار".
وقيل: لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً، فبعد لحظة يصدق عليه أنَّه كان من الكافرين، وإنَّما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقّاً في ذلك التمرّد بدليل قوله:
{ { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف:12] وإلاَّ فمجرّد المعصية لا توجب الكفر عندنا، وإن كانت كبيرة، وكذا عند المعتزلة، وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر، نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة الكفر على الإطلاق.
المطلع السادس
في توضيح الفرق بين محبة الله ومحبة الشيطان
إعلم أنَّ المحبة نوعان بحسب المحبّ والمحبوب: محبة هي من صفات الإنسان بحسب طبيعته البشرية - وهي من هوى النفس الأمّارة بالسوء - ومحبة هي من صفات الحق - وهي من آثارها الإرادة القديمة الإلهية التي اقتضت خلق العالم بما فيه، كما قال تعالى:
"كنت كنزاً مخفياً فأجيب أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" .
وقال بعض الحكماء: "لولا عشق العالي لانطمس السافل" فمن وكل إلى محبة (محبته - ظ) النفسانية تعلّق بما يلائم هوى النفس من أصناف الأصنام التي ينحتها الشيطان، ليسخر بها النفوس ويجعلها من جنوده المعادية المنازعة (المتنازعة - ن) لجنود الرحمان، وجنوده أهل الدنيا المحبين لشهواتها وزهراتها، سواء كانوا متسمين (متسلمين - ن) بالإسلام أو بالكفر، إذ لا فرق عند أرباب الحقيقة بين عبدة الأصنام وعبدة الدنيا.
فكما أنَّ الكفار بعضهم يحبون اللاَّت ويعبدونها، وبعضهم يحبون العزَّى ويعبدونها، كذلك أهل الدنيا بعضهم يحبون الأموال ويعبدونها، وبعضهم الأولاد ويعبدونهم، وبعضهم يحب غير ذلك، كما قال سبحانه:
{ { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ } [البقرة:165].
ولهذا أعلم الله عباده عن فتنة هذه الأشياء وحذَّرهم عنها بقوله:
{ { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن:15]. وبقوله: { { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } [التغابن:14]. يعني: فاحذورهم عن محبتهم، لأنّ محبتهم، تمنعكم عن محبة الله، وهو الحبيب وإنهم العدو، لأنهم من توابع ما هو عدوّ بالأصالة - وهو الهوى والطاغوت -.
وقال تعالى في موضع آخر في حق الذين ستروا أنوار روحانيّتهم، ومحبة الله بظلمات صفات نفسانيّتهم، من هوى النفس، وجحود الحق، وإنكاره وحب الشهوات:
{ { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران:14].
يعني: ذلك متمتَّعات أهل الدنيا، والذين يأكلون الدنيا ويتمتّعون بها كما تأكل الأنعام، وتتمتّع بها فالنار مثوى لهم، ولخواص الله المقبولين عنده بقبول العناية، المجذوبين لديه عن شهوات نفوسهم، والطبائع الحيوانيّة بجذبات الهداية الربانيّة عنده حسن المآب، لدوام ابتهاجهم بنور الحق ومشاهدة صفات جماله وجلاله، ومن وكّل إلى محبّة الله وكان في الأزل أهلاً لها فما وكّل إلى محبة النفس وهواها، بل جذبته العناية الأزليّة، ونظمته في سلك الكناية المذكورة في بشارة "يحبّهم ويحبّونه" فإنما لا تتعلّق بغير الله، لأنّها من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة، كما قال الله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } [البقرة:165].
ومما وقع في الفرس تفطّناً لهذا المعنى حيث قيل:

بلى سلطان معشوقان غيوراست زشركت ملك معشوقيش دوراست
نمى خواهد زانجام وز آغاز در اين منصب كسى را باخودانباز

وذلك لأنَّ أولياء الشيطان أحبّوا الأنداد بمحبّة فانية نفسانيّة، وأحبّاء الله أحبّوه بمحبّة باقية ربّانية، كما قيل شعراً:

قد طال إلى لقائكم أشواقي والهجر وما أراق من آماقي
لو قطّعني الفراق إرباً إرباً في المهجة حبّكم كما هو باق

بل أحبّوه بجميع أجزائهم الفانية والباقية كما قيل:

الشوق أكثر أن يختص جارحة كلي إليك على الحالات مشتاق

ولهذا احترزوا عن محبّة غير الله، إذ لم يبق فيهم موضع محبّة الغير، كيف ومحبّتهم تمنع عن محبّة الله، وهو الحبيب الأول، وإنّهم العدوّ، فمن أحب الله يرى ما سواه بنظر العداوة، كما كان حال الخليل (عليه السلام)، فقال: { { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء:77].
فكما أنّ لأرباب النفوس بغلبات الشهوات النفسانيّة حظوظ منبعثة من دركات الجحيم - من النساء، والبنين، والذهب، والفضّة، والخيل، والأنعام، والحرث - على عدد أبوابها السبعة، ودركاتها التي كلها محفوفة بالشهوات كما قال (صلّى الله عليه وآله):
"حفّت النار بالشهوات" لكل دركة شهوة، لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم، منهم يتلذذون بها عاجلاً ويصلونها يوم الدين آجلاً، كما قال: { { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار:14] - يعني الآن عاجلاً - { { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ } [الانفطار:15] - يعني غداً آجلاً - { { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [الانفطار:16]. فكذلك لأرباب القلوب بغلبات أوصافها الروحانيّة، وجذبات عناياتها الربانيّة، حظوظ من درجات الجنان ونعيمها، عاجلاً ثم يدخلونها آجلاً، كما قال سبحانه وتعالى: { { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الانفطار:13]. نعيم الآثار والأفعال، وأمّا نعيم الذات والصفات فأشار إليه بقوله: { { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران:14]. وبقوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [الشورى:13].
المقالة التاسعة عشرة:
في قوله سبحانه: { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }
وفيه بصائر:
البصيرة الأولى
في اللفظ
إسم الإشارة فيه يحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت جميعاً، فيكون زجراً للكل ووعيداً، لأنَّ لفظ "أولئك" إذا كان جمعاً وصحّ رجوعه إلى كلا المذكورين وجب رجوعه إليهما معاً، لكن الأرجح عندي أن يكون راجعاً إلى الكفار خاصة، ويكون المراد من أصحاب النار، أصحابها أصالة وجبلّة - وهم النفس والشيطان والطاغوت - فيكون معنى الآية: أرواح الكفّار مع أصحاب النار - بتقدير المضاف - هم فيها خالدون. أي: معهم فيها خالدون.
البصيرة الثانية
في المعنى
أيها الأرواح الساهية، الجاهلة، الكافرة، بأنعم الله، إنكم وإن لم تكونوا في أول الفطرة من جنس أصحاب النار المبعّد عن دار القرار، لكن لما تشبّهتم بهم "فمن تشبّه بقوم فهو منهم"من أحب قوماً فهو منهم" فكونوا معهم خالدين في النار
{ { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل:33].
وفي هذا المقام تحقيقات نفيسة ذهل عنها الأكثرون، إلاَّ من أيّده اله بنور منه، ولا يمكنني أن أجود بذكرها مفصّلاً للراغبين، وأسمح بالكشف عنها للطالبين، لابتنائها على علوم جمّة، ومقدمات كثيرة، بعضها برهانيّة وبعضها كشفيّة، يطول الكلام بذكرها، ويخرج به عن أسلوب التفسير على طور أهل الدقة من الجماهير، مع أن التعمّق في الكشف عن الأسرار، غير ملائم لطبائع أصحاب الأنظار، لكن مع ذلك لا ينبغي الإهمال عنها بالكليّة، بل لا بدَّ أن أذكر إجمالاً منه؛ لكونه مما يتوقف عليه معنى الآية على حسب ما اخترناه.
وأصل المسألة صيرورة أرواح الكفار ومن يحذو حذوها بكثرة الانكباب إلى اللذات من نوع ما يحبّونه ويتشبّهون به من الدواب والأنعام - بالحقيقة لا بالمجاز - بعدما كانوا من سنخ الإنسان في أول الأمر، فهم قد مُسخوا قردة وخنازير باطناً وسرّاً، وإن كانوا في صورة الإنسان ظاهراً، وتلخيص بيانه على الوجه العقلي محافظاً للقانون الحكمي حسب ما شرحناه وفصّلناه في مسفوراتنا، هو مما أذكره الآن،فاستمع لما يتلى عليكم من البيان.
البصيرة الثالثة
في تمهيد ما أصَّلناه وإجمال ما فصَّلناه
إعلم أنَّ صيرورة أرواح الكفار من أصحاب النار بعد ما لم يكونوا منها من جهة الفطرة الأصلية، يتوقف تحقيقها والعلم بها أولاً على معرفة حقيقة النار والجنة، ثم على حقيقة أصحابها وأربابها، ثم على كيفية انقلاب النشأة الإنسانية من أصل فطرتها إمَّا إلى فطرة الشياطين والسباع والبهائم، أو إلى فطرة الملائكة والحور والغلمان.
وهذه أصول لا تنكشف حقائقها لأحد إلاَّ لخواص العرفاء من الأولياء، فلنذكر نبذاً منها، وجملة من ماهيتها ومعرفتها على الكشف والتحقيق من علامات أولياء الله التي بها يمتازون عن غيرهم، فإنَّ معرفة الملائكة، وكيفية إلهامها ومعرفة الشياطين وجنودها، وكيفية وسواسها من لطائف علومهم، ودقائق معارفهم التي لا خبر عند غيرهم إلاّ بنور متابعتهم، كما قال الله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [الأعراف:201 - 202].
كمال أنَّ من علاماتهم ودقيق علومهم، ولطيف أسرارهم التي يمتازون بها عن غيرهم، معرفة البعث، والنشر، والقيامة، والحشر، والحساب، والميزان والصراط والجواز، وذلك لأنّ أكثر علماء المذاهب وفقهائها، ومتكلميها المتعبدين فيها، متحيرون في معنى الإبليسية، وحقيقة إبليس المخاطب، وأكثر المتفلسفة منكرون قصته مع آدم وعداوته، وخطابه مع ربّ العالمين، ومواجهته إياه بخشونة الخطاب مما ذكر في القرآن.
البصيرة الرابعة
في معرفة الجنة والنار
إعلم أنَّ لكل منهما صورة وحقيقة، فصورة النار كما وصفها الله تعالى بأوصاف متعددة من قوله:
{ { ٱلْحُطَمَةُ } [الهمزة:5]. { { ٱلْكُبْرَىٰ } [الأعلى:12] { { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } [المعارج:16 - 18]. وقوله: { { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } [المرسلات:30 - 32]. وبقوله: { { هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [القارعة:9 - 11]. وبقوله: { { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [الهمزة:6 - 7]. وصورة الجنة كما وصفها الله تعالى بقوله في عدة مواضع: { { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [البقرة:25] { { لَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } [محمد:15].
أمّا حقيقة النار: فلا يمكنني تحديدها والتنصيص عليها بما يساوقها إلاَّ على سبيل التقريب، فيشبه أن تكون حقيقتها هي البعد والنقصان، والقطيعة عن الرحمن، لا المعنى المصدري، بل الجوهر الذي هو مشنأ البعد والطرد عن الله، فإنَّ للوجود درجات متفاوتة، ودركات متسافلة، إحدى حاشيته في غاية الشرف والرفعة والجلالة - وهو الباري تعالى - والأخرى في غاية النزول، والخسة، والدنوّ، وبينهما درجات، ومنازل، ومصاعد، ومهاوي.
وحقيقة الجنة: هي القرب من الله ومجاورة الحق الأول، لا المعنى المصدري بل ما به يتقرّب منه ويتجاور - على قياس ما أشرنا في معنى البعد عن رحمة الله - فمن هاهنا يعمل معنى "جهنم" بالذات وهي الهاوية - لكونها في غاية الهبوط والنزول، والبعد عن الله العلي العظيم - والنار - لكونها قطاعة نزّاعة للشوى - والحطمة الكبرى- لكونها يحطم ويهلك ما يقع فيها؛ لوقوعها في حاشية العدم وليست بعدم محض؛ ليحصل بها الخلاص، وشأن ما يجاور العدم وليس بعدم ما أشار إليه تعالى بقوله:
{ { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم:17]. وقوله: { { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } [الأعلى:13].
فإذا علمت معنى "الجحيم بالذات" علمت معنى الجحيم بالإضافة، والقلب الإنساني كأنَّه واقع بين طرفين - يمين وشمال - أو بمنزلة خط هندسي مشترك بين الضوء والظلّ، وطبقات جهنم السبعة المتفاوتة في ملاك المعنى المشترك، وكذلك قياس معنى الجنة بالذات والجنان المضافة ودرجاتها.
البصيرة الخامسة
في معرفة أصحابها
وإذا علمت معنى "جهنم" و "الجنان" وتفاوت مراتب كل منهما، بحسب الذاتية والعرضية، يمكنك أن تعرف أصحاب كل من طبقات النيران من أتباع الشيطان، وتعرف سكان كل من درجات الجنان من عباد الرحمن، بحسب الجوهر والذات، وتعلم أيضاً أنَّ كل ما يقرّب الإنسان إلى الحق الأول، ويشبهه إلى الملائكة المقرّبين، فهو منشأ ثواب الله له، واستحقاقه رحمة الرحمن ودخول الجنان، وكل ما يقرّبه من عالم المواد السفلية، ويدخله إلى أبواب الدنيا الدنيَّة، وطلب مشتهايتها الخسيسة وترفّعاتها، ورياستها الباطلة الزائلة، فهو موجب مقت الله، وغضبه عليه، وسبب طرده، وبعده عن ملكوته الأعلى.
فأفضل خلق الله وأولاهم برحمته، ورضوانه، ومجاورته، وغفرانه، وأقربهم إليه مناسبة ومشابهة مَن لا حجاب بينه وبين الحق، وهم العقول القادسة المفارقة عن الأجسام بالكلية - ذاتاً وفعلاً والتفاتاً - سواء كانوا بهذه المثابة في القدس بحسب أصل الفطرة - كضرب من ملائكة الله المقرّبين - أو بحسب الاكتساب العلمي والعملي - كضرب من الأنبياء والأولياء المطهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، على تفاوت مراتبهم في قصر النظر إليه، وعدم الالتفات إلى غيره.
فأجلّهم مرتبة، وأحبهم لله عشقاً مَن لا التفات له إلى ذاته العارفة بالحق، المزينة بنور الله من حيث هي الذات، فضلاً عن التفاته إلى غيرها، فإنَّ الالتفات إلى غير الله - وإن كان هو من الذات العارفة - بَون وهجران، وإيثار العرفان من جهة كونه عرفاناً - وإن كان بالحق - بُعدٌ وحرمان، وقصر النظر والالتفات إلى المعروف به فقط دون غيره، وصال وجنة، ورضوان.
وبعد هذه المرتبة العشاق المشتاقين من أهل العرفان والإيمان، كملائكة الله العمَّالة المدبرة للأجسام، والنفوس الكاملة من الإنسان، أما العشق فلعرفانهم، وكمالهم، ومنزلتهم، وحالهم، وأما الشوق المستلزم لنار الحرمان وعذاب المفارقة، فلبقايا وجودهم، والتفاتهم إلى غير الله، وبقايا قصوراتهم الإمكانية المقتضية للتعلقات بالأجرام.
فهم لأجل عرفانهم وإيمانهم سكنوا درجات الجنان، واختلفوا في مراتب القرب من الرحمن بحسب مراتب عرفانهم قوة وضعفاً، ولأجل قصور ذواتهم عن تمام روح الوصال تأذوا أنواع أذى، إلاَّ أنَّهم حيث تنوّرت عقولهم بالمعرفة والإيمان، ولم تتكدر ذواتهم بالجهل والعصيان، ولم يحتجبوا بظلمة الظلم والطغيان، لم يكن لهم أذى أليم، بل أذاهم أذى لذيذ، لكونه من قبل معبودهم، وهم عارفون بأن الأذى من قبله، والعاشق إذا علم يقيناً أن ما يناله من الأذى مما حصل من جهة (قبل - ن) معشوقه يفرح به، ويكون عين الأذى لذيذاً عنده؛ لأنه يتصور وصول أثر المعشوق به إليه، و "وصول الأثر أثر الوصول" كما قيل.
وقد مثل بعض العرفاء هذا الأذى اللذيذ في العقليات بأذى الحكمة والدغدغة في الحسيات، والفرق بين القبيلين بعد كون أحدهما عقلياً والآخر حسياً، كما ذكره بعض المحققين، أنَّ الأذى واللَّذة في الدغدغة متباينان وجوداً - وإن كان الحسّ لا يميز بينهما لتعاقبهما - وهاهنا هما متحدان وجوداً.
فهاتان المرتبتان لأهل السعادة:
الأولى: منهما للمقربين الذين يقال لهم: "أهل الله".
والثانية: لأصحاب اليمين الذين يقال لهم "أهل الفضل والثواب"
{ { ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [البقرة:25]. للجنة راجين لها راضين بها { { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف:49]. من ثمرات أعمالهم ونياتهم على تفاوت درجاتهم { { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [الأنعام:132].
ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، وصفاء قلوبهم. بحسب الفطرة الأصلية من غير أن يفظظها مباشرة الأمور الأرضية الجاسية، المتبوؤن درجات الجنان لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم بل على حسب استعداداتهم من فضل ربّهم ورحمته، التي يكفي لها مجرد صفاء القابل، وعدم المنافي.
وبعدَ هاتين المرتبتين مرتبة نفوس مترددة بين جهتي الربوبية والسفلية، وهم الذين
{ { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [التوبة:102] وهم قسمان:
أمَّا المعفو عنهم رأساً: لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم - إمَّا لقلة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها -
{ { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان:70].
وأما المعذبون حيناً بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا فنجوا، ويقال لهم أهل العدل والعفات (العقاب - ن)
{ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } [الزمر:51]. لكن الرحمة تتداركهم وتنالهم بالأخرة.
فهذه المراتب الثلاثة الكلية على حسب تفاوت درجات النفوس الواقعة في كل مرتبة منها لأصحاب الجنان على تفاوت مراتبهم في القرب من الرحمن، والبعد من الطاغوت والشيطان.
وأما أصحاب النار فهم ذو النفوس المنحوسة المغموسة في عالم الطبيعة التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة، ولا نجاة لقلوبها المطموسة، لكونها إمَّا جرمانية الذات فطرة أو اكتساباً، أو جرمانية الصفات والمتعلقات بحسب مزاولة الأعمال الدنيويات.
البصيرة السادسة
في كيفية توزع الأرواح الإنسية إلى أصحاب الجحيم والدركات وأصحاب النعيم والدرجات بقول إجمالي
واعلم أنَّ الإنسان مركّب بحسب نشأة حدوثه، من عالمَي الأمر والخلق، فله روح نوراني علويّ من عالم الأمر - وهو الملكوت الأعلى - وله نفس ظلمانيّة سفليّة من عالم الخلق. ولكل منهما نزاع وميل وشوق إلى عالمه. فقصد الروح، وميله، ورغبته، وشوقه أبداً إلى عالمه وهو جوار ربّ العالمين، وميل النفس وقصدها إلى عالمها وهو أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق.
فبعث الله النبي (صلّى الله عليه وآله) بصفة الرحمة واللطف ليزكّي النفوس عن ظلمة أوصافها، وسوء أخلاقها، ويحلّيها بحلية أنوار الأرواح، لتستحق بها جوار الحق وملكوته، وقربه في زمرة الأرواح المطهّرة، فتزيكيتها وتقديسها بإخفاء ظلمات الأوصاف الحيوانيّة في إبداء أنوار أخلاق الروح في تحليتها بها، ليغلب نور الروح على ظملة النفس، ويقهرها، ويكتمها في كتم العدم والخفاء، فهذا مقام الأولياء مع الله { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }.
وبعث الشيطان بصفة العزة والكبرياء، والقهر إلى أوليائه - وهم أعداء الله - ليخرج أرواحهم من النور الروحاني إلى ظلمات الصفات النفسانيّة بإخفاء أنوار أخلاقها في إبداء ظلمات أخلاق النفس عليها، ليستحق بها دركة أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق.
فمنهم المطرودون الذين حقّ عليهم القول، وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي، المختوم على قلوبهم أزلاً كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [الأعراف:179]. إلى قوله: { { كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179] وقوله تعالى: { { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود:119].
وقد ورد في الحديث الرباني:
"خلقت هؤلاء للجنة ولا أُبالي، وهؤلاء للنار ولا أُبالي" .
ومنهم المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل، قابلين للنور بحسب الفطرة والنشأة، ولكن احتجبت قلوبهم بالرَّين، المستفاد من اكتساب الرذائل، وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيميّة، والسبعيّة، ومزاولة المكائد الشيطانيّة، حتى رسخت الهيآت الغاسقة، والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم، فبقوا شاكّين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم وانتكست رؤوسهم، فهم أشدّ عذاباً، وأسوأ حالاً من الفريق الأول، لِمنافاة مسكة استعدادهم، وقوّة نفوسهم، لحالهم كما تقدم ذكره.
والفريقان هم أهل الجحيم والمتعلّقون بالهيولى، أحدهما: أهل الحجاب والآخر: أهل العقاب.
وقد أشار سبحانه في أوائل القرآن إلى الفريق الأول بقوله:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة:6 - 7]. وإلى الفريق الثاني بقوله: { { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة:8 - 10].
فانطر كيف كشف الله عن حال هذين الفريقين من أصحاب النار، وبيّن وخامة عاقبة كل من الطائفتين في عاقبة الدار، وأثبت لكل منهما نوعاً يخصّه من الشرّ والوبال، وفساد ما يلزمه في الآخرة والمآل:
فالفريق الأول: لما كانوا من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي، لا ينجح فيهم النصح والإنذار، ولا سبيل إلى خلاصهم من النار
{ { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [يونس:33]. { { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [غافر:6].
سدّت عليهم الطرق، وأُغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محلّ الإلهام، فحجبوا عنه بختمه، والسمع والبصر هما المشعران للإنسان اللَّذان هما بابان للفهم والاعتبار، فحرموا عن جدواهما، لامتناع نفوذ المعنى فيها إلى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلوم الحقيقيّة الكشفيّة، والمعارف الربانية الذوقيّة، ولا في الظاهر إلى العلوم التعليميّة والآداب الكسبيّة، فحبسوا في سجون الظلمات، وبقوا حيارى في أيدي الشهوات المتراكمات، الموجبة للدثور والممات، فما أعظم عذابهم وأغلظ جحابهم!.
وأما الفريق الثاني: من الأشقياء الذين سلب عنهم الإيمان مع ادعائهم له بقوله:
{ { آمَنَّا بِٱللَّهِ } [البقرة:8]. وذلك لأنَّ محل الإيمان هو القلب المصفّى، والروح المجرّد بالرياضة والمجاهدة، مع القوى المدركة والمحركة، وصرفها في الأفكار القدسيّة، والأنظار الحكميّة، لا اللسان بفصاحة البيان، وعلوم العربيّة وغرائب النكت في محاسن الكلام، فإنَّ الإيمان متعلّق بعلم الحال لا بطلاقة اللسان في المقال { { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14].
ومعنى قولهم "آمنّا بالله وباليوم الآخر" ادعاء علم التوحيد وعلم المعاد، اللذين هما أصلان عظيمان من أصول الدين، وأساسان كبيران من معارف الحق واليقين، أي: لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق، ولا من أهل الكتاب المحجوبين عن الدين والمعاد، لأنَّ اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقاً للحق.
وهؤلاء المنافقون قد غفلوا عن أنَّ حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر، ليس مما يتعلق بالأقوال، بل هي مما أنعمه الله من الحكمة على من سدّ على نفسه باب وسوسة الشيطان، وأزال عن ضميره الشكوك والأوهام، ففتح على قلبه باب المعرفة والرحمة والرضوان، وأفاض الله عليه أنواع كرامته عاجلاً وآجلاً، فمن ذلك يفتح الله تبارك وتعالى باباً من خزائن حكمته، وهي مختصة بمشيئته لا بمشيئة الخلق ودواعيهم، وجمعهم أسبابها - من الكتب والأسانيد العالية من الأسانيد - فإنَّه تبارك وتعالى يؤتي الحمكة من يشاء.
وظنّ قوم من الفلاسفة وأرباب البحوث والأنظار، أنّ الحكمة تحصل بمجرد التَكرار، أم هي من نتائج الأفكار، وما فرقوا بين المعقولات والحكميات الإلهيات، فالمعقولات مشتركة بين أهل الدين وأهل الكفر، وبين المقبول والمردود.
فالمعقول ما يحكمه العقل ببرهان عقلي، وهذا ميسَّر لكل عاقل بالدراية وبالقراءة والرواية، فمن صفى عقله من شوب الوهم والخيال يدرك المقعولات بالبرهان دراية، ومن لم يصف عقله عن هذه الآفات فهو يدرك المعقول قراءة بتفهم أستاذ مرشد.
فأما الحكمة الإلهية فليست من هذا القبيل، فإنَّ العقول عن دركها بذواتها محتجبة، والبراهين العقلية والنقلية عنها محتبسة، فإنها مواهب الحق ترد على قلوب الأنبياء والأولياء عند تجلّي صفات الأحديّة، وفناء أوصاف الخلقيّة، فتكاشف الأسرار بحقائق معاني أورثتها تلك الأنوار، كما قال (صلّى الله عليه وآله)
"أُوتيت جوامع الكلم" أي: الحكم، فأمارة صحتها معادلتها بحقائق القرآن، بل هي عينها كما قال (صلّى الله عليه وآله): "أُوتيت القرآن وما يعدله" أشار بهذا إلى الحكمة.
وقد فسّر سهل بن عبد الله التّستري "الحكمة" وقال في تأويلها: "هي السُنَّة، فحقيقة الحكمة نور من أنوار صفات يؤيّد الله به عقل من يشاء من عباده، فيكون له كما قال تعالى:
{ { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [النور:35]. فمن أكرم بهذا النور فقد أعطي كل حبور وسرور، وأُوتي جوامع الحكمة خيراً كثيراً، كما قال تعالى: { { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269].
فافهم واغتنم واجتهد أن تتيقظ به، لتكون من ذوي الألباب، لأنه قال:
{ { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [البقرة:269]. وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول باكتساب ظواهر المنقول، بل سعَوا في طلب لبّها بمتابعة الأنبياء (عليهم السلام). فأخرجوهم من ظلمات قشور العقول الإنسانية إلى نو لبِّ المواهب الربّانية، فيتحقق لهم أن { { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40]. فانتبه يا مغرور المفتون بدار الغرور من مرقد الجهالة الحاصلة من الشغف والسرور بما عندك من القشور، فلا يغرنَّك بالله الغرور.
ولنعد إلى ما قصدناه، ونرجع إلى ما فارقناه من شرح الفريق الثاني من أهل العقاب، الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، حسبما كشف الله فضائحهم في الآية الثانية المنقولة آنفاً من الكتاب.
فاعلم أنَّ الكفر هو الاحتجاب، والحجاب كما أشرنا إليه إمَّا عن الحق كما للمشركين، وإمَّا عن الدين كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق إليه ضرورة، وأمَّا المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الله، فهؤلاء المنافقون المخادعون لله وللمؤمنين ادّعوا رفع الحجابين، فكُذِّبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا كذلك.
ثمَّ إنَّ في الآية دقيقة وهي أنَّ "المخادعة" لكونها صيغة مفاعلة: "استعمال الخدع من الجانبين" وهو إظهار الخير واستبطان الشر، ومخادعة الله مخادعة رسوله لقوله:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء:80] وقوله: { { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال:17]. ولأنّه (صلّى الله عليه وآله) "حبيب الله" وقد ورد في الحديث "لا يزال العبد يتقرّب إلى الله" - إلى آخر الحديث -.
فخداع المنافقين لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبّة، واستبطان الكفر والعداوة، وخدع الله والمؤمنين إياهم، مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم، بحقن الدماء، وحصن الأموال، وغير ذلك، وادخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المعيشة لهم، وخزيهم في الدنيا لخسة حالهم وترددهم [إلى] أبواب السلاطين لطلب الاشتهار، وتحملهم المشاق في الأسفار، والتعب في الجمع والادّخار، كل ذلك لافتضاحهم بإخبار الله تعالى وبالوحي، وجحودهم العلوم الربانية، والأسرار المعَادية.
لكن الفرق بين الخداعين أن خداعهم لا ينجع إلاَّ في أنفسهم بإهلاكها بموت الجهل وإيراثها الوبال والنكال، بازدياد الظلمة والحمق بالعناد والنفاق، واجتماع أسباب الهلاك والبعد عن الرحمة؛ لطلب الرئاسة والإخلاد في الأرض والركون إلى الشهوات.
وأما في نفس المؤمنين بالحق، فتوجب خداعهم إيّاهم زيادة في تنوير قلوبهم، وتصفية ضمائرهم لتخليتهم في العبادات، وتجرّدهم إلى طلب الحق بالطاعات، واشتغالهم بذكر الله في الخلوات، ومواصلة الأوراد على الدوام في الساعات، وعدم التفاتهم إلى ما سوى الله تعالى للمحاجات اللازمة. الاشتغال (للحاجات اللازمة للاشتغال - ن).
وخدع الله إياهم يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشد إيباقاً لقوله تعالى:
{ { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54]. وهم من غاية تعمقهم في جهلهم وحمقهم، مائجون بذلك الأمر الظاهر؟ لمرض قلوبهم، وسكر نفوسهم، كما أشار إليه سبحانه في الآية المنقولة: { { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [البقرة:10]. أي: شك ونفاق { { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة:10] آخر أي حقداً، وحسداً، وغلاًّ، وعذاباً، بإعلاء كلمة الدين نصرة الله (لنصرة الله - ن) للمؤمنين، وإذلاله للمنافقين، والرذائل كلها أمراض القلوب، لأنها أسباب ضعفها وآفاتها في أفعالها الخاصة، إلاَّ أن الجهل أعظم الأمراض؛ لأنه مما يوجب الهلاك في العاقبة.
البصيرة السابعة
في توضيح القول بأنّ المنافقين أسوأ حالاً وأشدّ عذاباً من الكافرين، وإن كان هؤلاء أخس رتبة وأدون منزلة منهم
إعلم أنَّ الجهل المركب لكونه صفة وجودية يصحبها العدم له نوع رتبة، وأما الجهل البسيط لكونه صفة عدمية منزلته منزلة الأعدام، والعدم شرّ محض بالذات والوجود الذي يصحب العدم شرّ بالعرض مشوب بالخير، فبالنظر إلى الواقع لا شرّ ولا خسّة، أبلغ مما يكون الشيء عدماً أو معدوماً، وأما بالنسبة إلى من يتعذب ويتألّم بالأمر المؤلم الوجودي ففقده عنه أولى من ثبوته له.
فشرارة المطرودين في الأزل، وإن كان أعظم - لكونهم أبعد من منبع الخير والجود، وأوغل في الشر والمصيبة، وأدخل في العدم، والخسّة، والجهالة - إلاَّ أنهم لا يحسُّون بما يؤلمهم، ولا يجدون شرية ما يوبقهم ويعذّبهم، لعدم صفاء نفوسهم، وفعلية عقولهم كالعضو الميت، أو المفلوج والخدر بالنسبة إلى ما يجري إليه من القطع، والكيِّ، وغيرها من الآلام.
وأمّا المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل، وبقاء إداركهم واستدعائهم للكمال في هذه الدار، وتشوقهم إلى العلو والاستكبار، يجدون شدّة الألم باكتساب الأمر المؤذي المؤلم، فلا جرَم كان عذابهم مؤلماً سبباً عمَّا اكتسبت قلوبهم من المرض العارض، المزمن، المؤلم، الذي هو الكذب بآيات الله، والجهل بالمعارف الربوبية، ولوازم الإيمان، والكفر بحقائق القرآن مع دعوى الكمال، بادّعاء المعرفة بأسرار المبدإ المتعال، وتهييج الفتن، والعداوة، والبغضاء بين الناس، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، وانهماكهم في اللَّذات، وملازمة أبواب السلاطين والحكّام؛ لطلب الحطام والشهوات، واحتجابهم بالمنافع الجزئية، والمصالح البدنية، والملاذ الحسيّة عن المصالح الكلِّية واللَّذات العقلية، وحرمانهم عمّا يرد على قلوب السلاَّك، والواصلين من الحالات الكشفية الجِنانية (الخيالية - ن)، والواردات الذوقية الملكوتية.
إلى غير ذلك من الأفعال والأعمال، التي هي من عادات علماء السوء، الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب، واكتفوا بقشور من العلوم الجزئية، التي وصلت إليهم بالنقل والرواية من أهل التكلم والخطاب، وقنعوا بصورة الأعمال من غير تفقد القلوب، وإصلاح النفوس عن الوسواس، وتتبع آثار أئمة الكشف والطهارة من أهل بيوت النبوة والولاية - صلوات الله عليهم أجميعين - ومتابعة قلوبهم وضمائرهم في طلب مرضاة الله، والاجتناب عن محارمه، والزهد عن هذه الدار ومنزل الأشرار؛ لطلب المنزلة عند الله، ومقربيه، وملكوته، ومجاوريه، في دار القرار، ومعدن الأخيار والأبرار.
وأشار سبحانه في الآيتين المنقولتين إلى ما ذكر من كون الكافرين أعظم عذاباً، والمنافقين أشدّ ألماً بوجه لطيف، حيث وصف عذاب الفرقة الأولى بـ "العظمة" وعذاب الفرقة الثانية بـ "الإيلام".
وفي المقام إشارة أخرى وهي أنَّ الفرقة الأولى لكونهم أشدّ احتجاباً، وأعظم إبعاداً عن الحق، فهم أشبه بأن يكونوا من جنس أصحاب النار، وأهل جهنم بحسب الفطرة الأصلية، بخلاف الفرقة الثانية فإنَّ لهم جهة من القرب والمنزلة بحسب جوهر الاستعداد، ولكن ظلموا أنفسهم باكتساب الرذائل، والاعتياد بزخارف عالم الأضداد، فالنار للأولى كالمنزل والمأوى، وللثانية كالسجن والمحبس؛ للمحنة والبلوى.
وبالجملة فرق بين كون الشيء من أصحاب النار وكونه معذباً بها، وليس من ضرورة كون الشيء مصحوباً بالشيء المؤلم أن يكون متألماً به، أو لا ترى أنَّ الزبانية ليسوا معذّبين بالنار مع كونهم فيها، وهم تسعة عشر قبيلة، من ملائكة العذاب الذين إذا قيل لهم:
{ { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } [الحاقة:3]. ابتدروه سراعاً ولم ينظروه، ولكلّ منهم أعوان وخدم من سدنة جهنم من دون أن يتعذّبوا بها وفيها، بل فيها نعيم وبهجتهم، وبمباشرة ما أمرهم الله به حصلت سرورهم ولذّتهم، لكون ذلك غايتهم وفائدتهم من تعذيب المجرمين، وأخذهم، وتصليتهم الجحيم، وسقيهم ماء الحميم، وشرب الهِيم.
البصيرة الثامنة
في الشكف عن صيروة الروح الإنساني من أصحاب النار بعد أن لم يكن منها، بمزاولة أفعال الأشرار واكتساب ملكات الكفار والفجار، من الأعمال الشهوية والغضبية والشيطانية، التي هي من صفات البهائم والسباع والشياطين
قال الله تعالى:
{ { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة:60]. وأشار بقوله: { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } [المائدة:60] إلى أنّهم مسخوا عن الطفرة الأصلية، وانسخلوا وانقلبوا كل طائفة منهم إلى نوع ما غلبت فيها صفات ذلك النوع، حتّى صارت حقيقتها حقيقة واحدة (حقيقته - ن) وصورة ماهيتها صورته.
وهذا معنى اللعن والطرد والغضب عند العرفاء، أي: صيرورة النوع الشريف نوعاً خسيساً، ولهذا قال سبحانه:
{ { أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة:60] أي: عن طريق الحق، لأنَّ القردة والخنازير إنَّما كانت ضالّة عن طريق طلب الحق لعدم الاستعداد، وأمّا هؤلاء الذين انسخلوا عن الفطرة فإنّهم كانوا مستعدين (كأنهم - ن) لطلب الحق وسلوك سبيله، فهم شرّ مكاناً كما قال: { { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال:22]. وأضلّ سبيلاً لإبطال الاستعداد للوصول، كما قال: { { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179].
وتحقيق هذا المقام: إنَّ كل إنسان - بحسب الفطرة - روحه التي هي من عالم القدس، والخير، والرحمة قابل للسّعادة الأبديّة، وإنّما ينسلخ عن هذه الفطرة بحسب أعمال قوى تخصه: قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوّة الوهم المنازعة للقوة العاقلة للروح مع كونها خادمة لها، خلقها الله تعالى لأن تستعملها الروح في طريق سفرها إلى الله تعالى؛ لتحصيل المراد للمعاد باستخدامها.
ٍأما الشهوة فلجلب ما يتغذّى به وينفعه لحفظ البدن، الذي بمنزلة المركب لسفرها.
وأما الغضب فلدفع ما يضاده، ويمانعه، ويقطع طريقها.
وأمّا الوهم فتلحصيل العلوم الضرورية، والحدود الوسطية التي يتوقّف عليها كماله، وذلك الكمال معرفة نفسه التي هي أم الفضائل ومعرفة مبدئه الذي منه بدو وجوده، ومعرفة اليوم الآخر الذي غاية رجوعه، ومعرفة الملائكة والرسل صلوات الله عليهم، الذين هم وسائط جوده، ومعرفة كتب الله والأئمة الطاهرين المهديّين - سلام الله عليهم أجمعين - العارفين بحقائق التنزيل، وأسرار التأويل (والأسرار - ن) التي هي واسطة كمال وجوده.
وقد أشار النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى هذا المعنى بقوله:
"إنّي بتارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي" .
تحقيق كون معرفة الأئمة والقرآن داخلة في قوام الإيمان مقوّمة لحقيقة الإنسان مما حققناه في مقامه بوجه لا مرية فيه، ولا ريب يعتريه.
فالروح الإنساني متى كانت قواه الثلاث التي هي رؤساء جنوده الباطنية، وخدمه، وحشمه، مسخرة له منقادة، مقهورة، مطيعة. لأوامره ونواهيه، يكون حالته مستقيمة، وبصيرته سليمة من العمى، وسبيله مأمونة عن الغي والضلال، وعاقبته محفوظة عن الشرّ والوَبال.
ومتى كانت هي مستولية عليه، والشهوات غالبة فيه، والوسواس مضلّة إياه، والدنيا بزخارفها مزينة في نظره، مرغوبة لديه مؤثرة فيه مسترقَّة لرقبته، والأغلال في عقنه، والأوزار مثقلة بظهره، والسلاسل والتعلّقات في أيديه وأرجله، كان أسيراً بيدها محكوماً بحكمها، كل منها يجرّه في تيسير أسباب ما يستدعيه، والتبدير فيما يشتقاه ويشتهيه.
فالشهوة تجرّه في تحصيل الشهويات المستلذات، والغضب يستعمله في أفعال الانتقامات ودفع الخصومات، فصار الروح شيطاناً مريداً بالفعل بعدما كان ملكاً كريماً بالقوة، يستعمل فكره وتمييزه الذين أعطاهما الله لتدبير الآخرة والسعي لمرضاته في استنباط وجوه الشرّ، ويتوصل بها إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، وإظهار الحقيقة في معرض البطلان، وتزويج الشرّ في موضع الخير.
وكلّ إنسان ففيه شوب من هذه الأصول الأربعة أي: الملكيّة والشيطنة والسبعيّة والبهيمية من جهة روحه ونفسه وشهوته وغضبه وكان المجموع في عالم الإنسان خنزير، وكلب، وشيطان، وحكيم، فالخنزير هو صورة الشهوة في أي مادة، ومقدار، ووضع، وشكل كانت، والكلب هو صورة الغضب في أي مادة كانت.
ونحن قد حققنا في مباحث الماهيّة لواحقها، أنّ حقيقة كل شيء هي صورته التي بها هو هو، والمادة إنَّما تحمل ماهيته إذا كانت ضعيفة الوجود في هذا العالم الأسفل الذي فيه دثور الأشياء، وعجزها، وضعف صورها؛ لأجل علوق المواد والظلمات، وبينّا أيضاً بالوجوه الكشفية والبرهانيّة أنَّ للأشياء التي تكون في هذا العالم نشأة ثانية، ونحواً آخر من الوجود، وأنَّ للصور النوعية عالماً آخر تكون وجوداتها في ذلك العالم مستغنية القوام عن المواد العنصرية، بل قائمة بذواتها موجودة بوجود فاعلها ومنشئها ومبعثها لا بوجود قابلها وميلها ومغنيها (ومعينها - ن).
وذلك الوجود الأخروي على ضربين: لأنّ تلك الصور إمَّا عقليات صرفة ومفارقات محضة مجردة عن المقدار والشكل، وإمَّا صور مقداريات: فالأولى: لكونها نورانيّة محضة تدرك بالعقول الصافية وهي جنة المقرّبين. وأمّا الثانية: فلكونها تدرك بالحواس الأخروية الباطنية من السمع، والبصر، والشم،ّ والذوق، واللمس الأخرويات التي هي بواطن هذه الحواس الأوليات، لأنَّها باقية بعد الموت وهذه فانية، كما يدلّ عليه قوله تعالى:
{ { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق:22]. فبعضها نورانية - هي جنة السعداء من أصحاب اليمين - وبعضها ظلمانية - هي جهنم الأشيقاء من أصحاب الشمال -.
وجمهور الفلاسفة والمتكلمون وأكثر علماء المذاهب ذاهلون عن هذين العالمين، وفي الذهول عنهما ضرر عظيم بالإنسان، وفي الجهل بهما حجاب كثيف، وغطاء غليظ له عن كشف معارف الإيمان وحقائق القرآن.
هذا ولنرجع إلى ما كنّا فيه من أنَّ الإنسان قد اصطحبت في عالمه ونظام خلقته أربعة شوائب، ولذلك اجتمعت عليه أربعة أصناف من الأوصاف: السبعية، والبهيمية، والشيطانيّة، والملكية. فهو من حيث تسلّط كل منها عليه يفعل أفعال نوع تكون تلك الصفة لازمة لذاته ناشئة عن حقيقته، إلى أن تغلب عليه إحدى هذه الصفات بأن يصير خلقاً له، وملكه راسخة في نفسه صعبة الزوال، فيكون الإنسان في آخر الأمر ومنتهى العمر حكمه حكم ذلك النوع بل تنقلب حقيقته يوم الآخر إلى حقيقة ذلك، يكون صورته عند الحشر بعينها صورته كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
ونريد أن نبيّن ذلك، وندلّ على تحقيقه بطرق ثلاث من الحكمة البرهانية، والخطابية الظنية، وصنعة المجادلة الإلزامية، كما قال تعالى سبحانه:
{ { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل:125]. ولنستدرج في البيان من الأدنى إلى الأعلى:
فالأول: ما تستحسنه الجماهير، وتقبله الأسماع من النقول الواردة في باب انقلاب صور الأشقياء وهيآتهم يوم الآخرة إلى ما يناسب أفعالهم ونيّاتهم من القرآن والحديث والأخبار:
أما القرآن: فكقوله تعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179]. وليس المراد أنَّهم كذلك بحسب هذه النشأة، بل في النشأة الآخرة التي هي دار ظهور الأشياء على ما هي عليها { { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق:9]. وقوله: { { نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ } [السجدة:12]. وقوله: { { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [يس:8]. وقوله: { { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الملك:22].
ولا شك عند ذوي البصائر أنَّ مجعولات الحق في الدار الآخرة من الأشكال والهيآت إنَّما هي أمور طبيعية لازمة ليست كصناعيات (بصناعيات - ن) يمكن زوالها وانفصالها، فيكون كالأعضاء في كونها طبيعية - لا كالألبسة القابلة للانخلاع والانفصال - وإذا كان كذلك فاختلاف الأبدان في هيأة وأعضاء وخلقة الأشكال دليل اختلاف النفوس في الحقائق.
وكقوله تعالى:
{ { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } [المدثر:50 - 51] وقوله تعالى: { { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65] يعني بحسب النفس - مع بقاء البدن على صورته الظاهرة، وإلاَّ يلزم التناسخ المستحيل - فهم صاروا لانحطاطهم عن العالم العلوي الإنساني إلى الأفق السفليّ الحيوانيّ قردة مشابهين للناس في الصورة، وليسوا بهم في النفس والعقل، خاسئين: أي بعيدين طريدين.
والمسخ في الحقيقة حقّ غير منكر في الدينا والآخرة، كما وردت به الآيات والأحاديث، وقد روي عنه (صلّى الله عليه وآله) المسوخ، ثم عدَّهم، وبيّن أعمالهم، ومعاصيهم، وموجبات مسخهم، حاصلة: إنَّ من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث أزال استعداده الأصلي ويمكن (تمكن - ظ) في طباعه، وصار صورة ذاتية له - كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلاً - صارت طباعه طباع ذلك الحيوان، ونفسه نفسه، فاتصلت عند المفارقة ببدن يناسب صفته، فصارت صفته صورته كما سيتضح.
وقوله:
{ { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [الإسراء:97] أي على صورة الحيوانات المنتكسة الرؤوس. وقوله تعالى: { { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } [فصلت:21] وقوله تعالى: { { تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور:24]. يعني أنَّ صورة الكلب مثلاً ولسانه - أي صورته الذي فعل لسانه - تشهد بعمله الذي هو الشرّ، وكذا غيره من الحيوانات الهالكة تشهد عليها أعضاؤها بأخلاقها الذميمة، وأفعالها السيئة.
وكقوله:
{ { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الجاثية:21]. ولفظ "الجعل" في كلام الله أكثر ما يستعمل في الذاتيات دون العوارض، مثل قوله: { { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام:1] { { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } [المائدة:60] وكقوله: { { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } [القمر:48]. وقوله: { { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } [الرحمن:41].
وفي هذه الآيات دلائل واضحات على أن المجرمين انقلبوا في صورهم إلى صور الحيوانات العجم المنتكسة الرؤوس، التي فيها علامات الاحتجاب بالجحيم، والانحباس في الظلمات عن لقاء الله ومعرفته، حيث لم يتحقق فيها علامات الانفتاح، وطلاقة الوجه، وانكشاف الجسد كما في المسجونين والمحبوسين بخلاف الإنسان، إذ فيه علامة أهل الجنّة الذين هم جرد مرد مكلحون.
ثمّ إنَّ من علامات أهل الجحيم التي توجد في أعجام الحيوانات عقد ثلاثة أيضاً، دالة على احتجابها، وتقييدها بالقيود والأغلال:
إحداها: عقدة العمى في الأعين عن مشاهدة آيات الله في الآفاق والأنفس، وعن رؤية كتاب الله وقراءته.
وثانيتها: عقدة الصمم في الآذان عن استماع البيان والبرهان لكلامه.
وثالثتها: عقدة الانتكاس لنفوسها، والانقلاب لأبدانها المعلقة إلى أسفل.
ولهذه العقد الثلاث عقد ثلاث أخرى شاهدة عليها:
إحداها: عقدة اللِّسان بشهادة صمم الأذن، فإنَّ الأصمّ الفطري أبكم لا محالة.
والثانية: عقدة اليدين، غلّت أيديهم بما لعنوا، بشهادة عمى العين، فإنّ الأعمى الفطري لا يمكن أن يكتب.
والثالثة: عقدة الاستلقاء في البدن بشهادة الانتكاس في النفس.
فهذه الأمور الثلاثة شواهد على تلك، إذ من المقرّر عند الجمهور أنَّ اللسان خليفة الأذن، واليد الكاتبة خليفة العين، والبدن خليفة النفس، فانقلابه دليل انتكاسها وانسخلاها عن الفطرة، كما أنَّ انحناء الغلاف دليل لانحناء السيف.
وأمّا الحديث:
فقد وري عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنَّه قال:
"يحشر الناس على وجوه مختلفة" . أي على صورة مناسبة لأخلاقهم، ونيّاتهم المختلفة.
وكقوله (صلّى الله عليه وآله):
"كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون" . ولا خفاء في أنَّ بعض الناس لا يعيشون إلاَّ كالبهائم، وبعضهم كالسباع، وبعضهم كالشياطين، فيكونون يوم المحشر على صور أعمالهم ومعاصيهم.
وروي أيضاً عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ما معناه:
"إنّه يحشر من خالف الإمام في أفعال الصلاة ورأسه رأس حمار" فإنَّه إذا عاش في المخالفة مع الإمام - وهي عين البلاهة والحمارية - تمكّنت ورسخت فيه هذه الصفة، ولتمكن البلادة والحماقة فيه يحشر على صورة الحمار.
وروي الشّيخ الجليل عماد الإسلام محمد بن يعقوب الكلينيرحمه الله في كتاب الكافي. بسنده المتصل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنَّه قال - في حدث طويل -:
"فإن كان [الله] وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحبهم منظراً وأحسنهم رياشاً فقال: أبشر بروح وريحان وجنّة ونعيم، ومقدمك خير مقدم. فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح" .
ثم قال (عليه السلام): "وإذا كان لربه عدوّاً فإنه يأتيه أقبح من خلق الله زيّاً وأنتنه ريحاً، فيقول: أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم" .
وروي أيضاً في الكافي في حديث آخر عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) "فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله" .
وهذان الحديثان عن أهل البيت (عليهم السلام) صريحان في تجسّم (تجسيم - ن) العقائد والأعمال في النشأة الآخرة، والاعتقاد هو الأصل، ومنه يتمثّل ويتصور ذات الشخص، والعمل هو الفرع ومنه يحصل القرناء (القرباء - ن) والأصحاب والحواشي (والحوامي - ن) والتوابع { إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرّاً فَشَرٌّ }.
ومما يدلّ على ما ذكرناه ما وري أيضاً في الكافي في باب إدخال السرور على المؤمن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال - في حديث طويل -: "إذا بعث الله المؤمن عن قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه، كلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وابشر بالسرور والكرامة من الله تعالى. حتى يقف بين يدي الله فيحاسبه حساباً يسيراً ويأمر به إلى الجنة - والمثال أمامه - فيقول له المؤمن: يرحمك الله، نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك. فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله منك لأبشرك".
وممّا ورد في روايات أصحابنا الإماميين رضوان الله عليهم أجمعين ما روي عن قيس بن عاصم، قال: وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي (صلّى الله عليه وآله) فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدّلهمس، فقلت: "يا نبي الله عظنا موعظة نتنفّع بها فإنّا قوم نسير في البرية".
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"يا قيس إنَّ مع العزِّ ذلاًّ، وإنَّ مع الحياة موتاً وإنَّ مع الدنيا آخرة، وإنَّ لكل شيء رقيباً، وعلى كل شيء حسيباً، وإنَّ لكل أجل كتاباً، وإنَّه لا بدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلاَّ معك ولا تحشر إلاَّ معه، ولا تسأل إلاَّ عنه، فلا تجعله إلاَّ صالحاً، فإنَّه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلاَّ منه وهو فعلك" .
فقال: يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفتخر به على من بيننا من العرب وندّخره. فأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) من يأتيه بحسّان، فاستبان لي القول قبل مجيء حسّان، فقلت: "يا رسول الله قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد" فقلت:

تخيّر خليطاً من فعالك إنّما قرين الفتى في القبر ما كان يفعل
فإن تك مشغولاً بشيء فلا تكن بغير الذي يرضى به الله تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته ومن قبله إلاَّ الذي كان يعمل

وفي هذا الحديث فوائد شريفة فوق ما نحن بصدده، من انقلاب الإنسان إلى ما يوافق اعتقاده، ويناسب أعماله أسرار علمية لطيفة، ومعارف إلهيّة، ورموز نوبيّة، لا يفي بكشفها وتوضحيها التعليم والبيان، بل لا يلوح تحقيقها إلاَّ لأهل الله من جهة الكشف والعيان لا بطريق الحجّة والبرهان.
ثمّ ممّا يدلّ على هذا المطلب من الأخبار المشهورة ما روي: "إن الناس تشحر على نيّاتهم"وإن بعض الناس يحشر على صورة تحسن عندها القردة والخنازير" فعليك بالقتوى ثم بالتقوى.
وأما الطريقة الثانية:
فكما ذكره صاحب إحياء العلوم حيث قال: "إنَّ خاصيّة الإنسان العلم والحكمة، وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله، فبه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الكمال والجلال، فالبدن مركّب للنفس والنفس محلّ للعلم، والعلم هو المقصود من الإنسان وخاصيّته التي لأجلها خلق [...] فإنَّ الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور يوافقها، ويفارقها في أُمور هي خاصيّته، وتلك الخاصيّة من صفات الملاكئة المقرّبين.
والإنسان أولاً على رتبة بين البهائم والملائكة [...] فمن يستعمل قواه في العلم والعمل فقد شبّه بالملائكة فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمّى ملكاً وربانيّاً، كما قال تعالى:
{ { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف:31]. ومن صرف همته إلى اتباع اللَّذات البدنيّة يأكل كما تأكل الأنعام، فقد انحطّ إلى حضيض أفق البهائم، فيصير إمّا أكولاً كثور، إمّا شرهاً كخنزير، وإمّا ضريّاً (جزعاً - ن) ككلب، أو حقوداً كجمل، أو متكبّراً كنمر، أو ذا روغان كثعلب، أو يجمع ذلك كلّه كشيطان.
وقال: "فهو من حيث أنّ الله سلّط عليه الغضب يتعاطى أفعال السّباع، من العداوة، والبغضاء، والتهجم على الناس بالضرب والشتم، ومن حيث سلّط عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، من الشره، والحرص، والشبق وغيره ومن حيث سلّط عليه الروح وهو أمر ربّاني كما قال الله تعالى:
{ { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85]. فإنه يدّعي الاستعلاء على الأشياء بالحكمة، والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ومن حيث يختصّ من البهائم بالتمييز، والرويّة، واستعمال الحيل والتدابير الجزئية، حصلت فيه شيطانيّة يستعمل الجربزة في استنباط الشرور الحيوانيّة ويتوصّل بها إلى الأغراض النفسانيّة فيتعاطى أفعال الشيطان.
ففي باطن الإنسان أمور أربعة: خنزير، وكلب، وشيطان، وحكيم. فالخنزير هو الشهوة، فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وهيأته، بل لجشعه وكلَبه وحرصه. والكلب هو الغضب، فإنّ السبع الضاري، والكلب العقور ليسا سبعاً وكلباً باعتبار الهيئة واللون والشكل، بل باعتبار روح معنى السبعية والضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع [وغضبه]، وحرص الخنزير وشبقه.
فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر، والسبع بالغضب إلى البغي والظلم والإيذاء، والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير، وغيظ السبع يغري أحدهما بالآخر، ويحسِّن لهما ما هما مجبولان عليه.
والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان، ويقطع وسوسته ومغلطته بالبرهان، حتى ينكشف تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق، وبأن يكسر شَرَه هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه - إذ بالغضب يكسر سَورة الشهوة - ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه، ويجعل الكل مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر، وظهر العدل في مملكة البدن، وجرى الكل على صراط مستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، لا يزال في استنباط الحيل، وتدقيق الفكر، ليشبع الخنزير ويرضي الكلب، فيكون دائماً في عادة كلب أو خنزير.
وهذا حال أكثر الناس، وهم الذين كان أكثر همهم إما الفرج والبطن، أو مناقشة الأعداء، والعجب، والتكبّر، ثم العجب منه أنَّه ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة، ولو كشف الغطاء [عنه وكوشف] بحقيقة حاله، ومثّل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين، لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير، ساجداً له مرة وراكعاً له أخرى، ومنتظراً لإشارته وأمره، ومهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهوته انبعث على الفور في خدمته بإحضار شهوته، أو رأى نفسه ماثلاً بين يدي كلب عقور، عابداً له، مطيعاً لما يقتضيه ويلتمسه، مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته، وهو بذلك ساع في خدمة شيطانه، فإنه الذي يهيج الخنزير، ويثير الكلب، ويبعثهما على استخدامه، فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعابدتهما.
فليراقب كل عبد حركاته وسكناته، ونطقه، وقيامه وقعوده، ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلاَّ ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء، وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً، والربّ مربوباً، والسيد عبداً، إذ العقل هو المستحق للسيادة، والقهر، والاستيلاء على هذه الأشياء، وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة، فلا جرَم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طبعاً (طابعاً - ن) وريناً مهلكاً للقلب ومميتاً له [...] ولا يزال تتراكم عليه الصفات السبعية، والبهيمية، والشيطانية مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم، ويصير بالكلية محجوباً عن الله، وهو الطبع والرين المذكور في قوله تعالى:
{ { بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14]. وقوله: { { وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [الأعراف:100]. انتهى.
ويظهر من هذا الكلام - الصحيح المقدمات - أنَّ الإنسان إذا غلبت على ذاته الصفات السبعية، والبهيمية والشيطانية - بعضها أو كلها - ويصير بحيث لم تبق فيها آثار الملكية (الملائكة - ن) من العلم الإلهي، والزهد عن الدنيا، والورع عن محارم الله، أو يوجد فيه بعض آثارها، ولكن تكون مقهورة مغلوبة لغاية العلة والضعف مع عدم المعرفة - كبعض الأفعال الحسنة الصادرة عن بعض الأشقياء اتفاقاً أو رياء لا من جهة ملكة الإيمان والعرفان - فهذا الشخص الإنساني لا محالة لا يكون بحسب الحقيقة في القيامة إلاَّ بهيمة، أو سبعاً، أو حيواناً مركباً منهما، أو شيطاناً محضاً، إذ الآثار وجوه (عنوان - ن) المؤثرات، والأفعال عنوانات الفواعل.
وقد ثبت في العلوم الحقيقة أنَّ القوى تعرف بأفاعيلها، أوَ لا ترى أنَّ المنطقيين جعلوا لوازم الفصول، والأجناس، بمنزلة الفصول والأجناس في حدود الأشياء وجعلوا "الحساس" فصل "الحيوان" و "الناطق" فصل "الإنسان" في تحديدهما، مع أنَّ حقيقة الفصل في الحيوانات ليس إلاَّ جوهر نفسه - كما صرّح به صاحب الشفاء -.
فإذا صار الإنسان بحيث استحكمت في نفسه صافت الهبائم والسباع، وصارت هذه الذمائم خلقاً له وملكة لها، وبطل الاستعداد الذي كان أولاً في نفسه؟ لتحصيل الكمالات العلمية والعملية قبل استحكام الدواعي البهيمية والسبعية، وطبعت على قلبه الهيآت المظلمات، والملكات المسودات، فمن أين وأنّى يبقى له أثر من آثار الروح المجرد الذي شأنه العرفان بالله، وملكوته، والتقدّس عن البدن وناسوته؟ إذ الإنسان إنسان بروحه المقدّسة، وبحصة ملَكيته التي فيه بالقوة، لا ببدنه الظلماني ونفسه الحيوانية، وإنه بتقوية جانب الروح وإمدادها بالعلم والعمل يكون مرتفعاً عن أُفق الحيوانات الهالكة، ويصير من جملة الملائكة المكرمة بالفعل بعدما كان بحسب الفطرة ملكاً بالقوة، وبإهمال جانب الروح وتقوية القوى الحيوانية، يبطل استعداده الملَكي (الملكية - ن) الذي به قوام الإنسان من حيث هو إنسان.
فإذا بطل هذا الاستعداد فقد هلكت إنسانيته، ولكن لا ينعدم بالمرة، فيخلص من العذاب الهون، لقيام البراهين الشرعية والعقلية على بقاء سنخ الإنسان في النشأة الثانية، بل يبقى بقاء لا موت فيه ولا حياة ولا خلاص معه، ولا نجاة، إذ ليست حياته المعرفة والقدرة، بل حياته الانفعال والغصة، والعذاب والنَّكال فيبقى أسيراً في كرب السعير، محترقاً بنار الشهوات، ملسوعاً بلسع الحيّات
{ { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [النساء:65].
وفي هذه الآية أيضاً دلالة على أن نفوس الفجّار انقلبت إلى الحيوانات في تلك الدار، إذ لو بقيت معهم الروح الإنسانية التي هي محل معرفة الله لم يتطرّق إليهم الفساد والاضمحلال مرة بعد مرة، لنهوض. القواطع على أنّ محل المعرفة جوهر قائم بذاته، ووجوده العقلاني (العقل - ن) يكون بالفعل أبداً مخلداً، من غير تغير وزوال، وتجدد وانتقال فافهم.
وأما المنهج الحكمي البرهاني الكاشف عن الرموز النبوية، والحقائق القرآنية، ومسلك العقل الفوقاني الشارح لأسرار العقل القرآني:
فاعلم (يعلم - ن) أنَّ النوع البشري في أول نشأته يكون جوهراً نفسانياً سمّاه الحكماء بـ "العقل الهيولاني" وهو الجوهر الذي به تمام الماهية الإنسانية بحسب أول درجاتها في الإنسانية - وهو أول منزل من منازل سفره إلى الحق - وهذا الجوهر من شأنه أن يقبل كل صورة، وحال، وحلية، وكمال، فإن عسر عليه شيء فإمّا لأنَّ ذلك الشيء في نفسه ضعيف الوجود شبيه بالعدم - كالخلاء، واللاَّنهاية، واليهولى، والزمان، والحركة - وإمَّا لأنَّه شديد الوجود، وقوي الظهور فيغلب عليه ويقهره.
وهذا الجوهر صورة تمامية لمواد هذا العالم، بمعنى أنَّ الطبيعة بقوتها القابلة الجسمانية، وصلت إلى هذه الصورة الإنسانية بعد طي مراتب الصور الطبيعية، التي كانت دونها في هذا العالم، من صور العناصر، والمعادن، والنباتات، والحيوانات.
وقد ثبت في العلوم البرهانية أنَّ الطبيعة في المركبات وفي سلسلة العائدات، التي هي من الهيولى التي (المادة - ن) للعنصريات إلى أشرف ما يتصور من الصور التي في أنواع الأجسام ما لم تتخط (لم تنحط - لم تحفظ - ن) النوع الأخس بشرائطه ولوازمه لم تدخل في النوع الأشرف، فما لم تستوف درجات الجماد والنبات والحيوان، لم تنته نوبة الوجود إلى نوع الإنسان بحسب أول درجته.
فالنفس الإنسانية هي كمال هذا العالم وزينته وتمامه وغايته، ولها وجهان يكونان باعتبارها قوتان:
إحداها: وجهها إلى هذا العالم، به تدبر البدن وتحركه وتباشر الأفاعيل الحيوانية المختصة بهذه الدنيا، يقال لها "القوة العملية"العقل العملي".
وثانيها: وجهها إلى العالم الأعلى، به تنفعل عن المبادئ، وتعقل العلوم والمعارف، وتترقى إلى الكمالات الأخروية، من المحبة الإلهية، والاشتياق إلى لقاء الله وابتغاء مرضاته.
فهي بحسب القوة العملية أمر بالفعل، وصورة في البدن العنصري، وغاية لانقلابات العنصريات والاستحالات الطبيعية، فكانت أولاً قوة هيولانية، ثم تراباً، ثم ماء مهيناً، ثم علقة، ثم مضغة، ثم بدناً ذا عظام ولحوم وأمشاج، ثم حيواناً سميعاً بصيراً، إلى أن تبلغ جوهراً من شأنه قبول معرفة (القبول لمعرفة - ن) الله تعالى وطاعته، إما شاكراً وإما كفوراً، كما قال تعالى:
{ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان:1]. الآية.
وبحسب القوة العلمية النظرية أمر بالقوة، ومادة ساذجة صرفة عن الصورة، ولوح غير منقوش، ومرآة مجلوة ليس فيها شيء من الصور والكمالات التي لا تشاهد بهذه الحواس، ولا ترى بهذا العين من العلوم والأخلاق، سواء كانت علوماً حقّة وأخلاقاً حسنة أو كنت ملكات باطلة زائلة (رذيلة - ن).
فإن قلت: كيف يتصور وجود مادة لا صورة لها، وقوة محضة لا فعلية، ولا قوام لها؟ إذ كل موجود له صورة مقومة؟ وثبت أيضاً في التعاليم "إن تجرّد الهيولى من الصورة مستحيل"؟
قلنا: قد أشرنا إلى أن الجوهر بحسب هذه النشأة صورة محضة، وبحسب النشأة الأخروية مادة محضة، والمستحيل إنما هو وجود الهيولى المحضة التي ليست لها صبورة بوجه من الوجوه وبحسب نشأة من النشآت.
فإن قلت: إنَّ الحكماء أقاموا البراهين على أن البسيط الخارجي لا يمكن أن يكون فعلاً وقوة معاً لعدم اختلاف الجهتين الخارجيتين، وبه أثبتوا التركيب في الجسم - بما هو جسم - من مادة وصورة، فأثبتوا مادة سوى الجسم، هي أبسط منه، ويتقوَّم منها ومن الجزء الصوري والجسم المطلق.
قلنا: ذلك مسلَّم في وجود واحد ونشأة واحدة، وأما كون شيء واحد صورة في عالم أدنى ومادة في عالم أعلى فهو غير مستنكر، وخصوصاً إذا كان لتلك الصورة شوب قوّة مّا لأجل تعلقها بالمادة البدنيّة، بل نفس كونها صورة جسمانية يسلتزم، نقصاً، وقصوراً، وضعفاً، وإمكاناً يستدعي غاية وتمامية وصورة وتحت ذلك سر.
فإذا تحقق ما ذكرنا نقول: كل مادة - سواء كانت جمسانية أو روحانية - فإنما تصير محصلة موجودة بالفعل بصورة تحصلها وتقوِّمها.
فإن كانت مادة جسمانية من مواد هذا العالم قابلة للصورة الحسيّة، فهي إنَّما تتقوم بصور محسوسة هي كمالها الأول وما يتبعها هو الكمال الثاني كالصور العنصرية وما يتبعها من الكيفيات، وكالنفس الحيوانية وما يتبعها من الشهوة، والغضب، والرجاء، والخوف، واللَّذة، والألم، وغيرها.
وإن كانت مادة روحانية فهي إنّما تتقوّم وتستكمل بالصورة الروحانية والأخلاق (الاخلاقات - ن) والملكات، وهي إمَّا صورة عقلية، لمعلومات مفارقة الذوات عن الأجسام وجوداً وتأثيراً كالإله وضرب من الملائكة المقرّبين - وأخلاق مناسبة لها - كالعبودية التامة، والزهد الحقيقي، والفناء، والهيمان، والعشق الروحاني، والمحبة الإلهية وإمَّا هي صورة خيالية، وهي إمَّا حكاية عن العقليات المحضة، أو مأخوذة عن الأمور الجسمانية متعلقة بالمعلومات الجزئية، والصور الحسية فالأولى كما للعرفاء، والثانية كما للصلحاء، والثالثة كما للعوام.
فإذا كانت النفس الإنسانية في أول تكونها هيولانية الذات بالقياس إلى الصورة الغير المحسوسة، التي لا تشاهد بالحواس فما لم تصر مصورة بقوّة مقوِّمة إياها لم تتحصل نوعاً يمكن بقاؤه في عالم آخر غير هذا العالم المحسوس بإحدى الحواس الظاهرة، لكونه من عالم الشهادة وعالم الغيب لا يطالع بهذه المشاعر بل بمشاعر أخروية غير دائرة.
ثم إنَّ تلبس المادة بقوتها الاستعدادية لكل صورة ناقصة يمنعها عن التلبس بالصورة الكاملة كما نشاهد في مواد هذا العالم كالقوى الهيولانية الإنسانية: كانت أولاً مصورة بالصورة المنوية، ثمّ انقلبت عنها إلى النباتية، ثمّ إلى الحيوانية، ثم إلى الصورة الإنسانية التي هي مرتبة العقل (مرتبة العقل الهيولاني - ظ) وهي نهاية الجمسانيات في الشرف والكمال وبداية الروحانيات، القابلة للعقل الفعال، فهو مجمع البحرين، وطراز العالمين، وحدٌّ جامع، وبرزخ حاضر بين بحري الجسمانيات والروحانيات، ويسمى بـ "القلب" لهذا، لكونه ذو وجهين، وتقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن.
فإن نظرت إلى ذات النفس وفعليّتها في هذا العالم وجدتها مبدأ القوى الجسمانيّة، ومستخدِم الآلات الإحساسيّة والتحريكيّة، وتكون سائر الصور الطبيعية الحيوانية، والنباتية، والجمادية، من آثارها ولوازمها، فهي صورة الصور وغاية الغايات، وثمرة شجرة عالم العنصريّات، بل الجسمانيات في عالم الشهادة.
وإذا نظرت إليها بحسب نسبتها إلى الوجود الروحاني وجدتها قوة محضة وفاقة صرفة، لا رتبة لها عند سكان عالم الغيب، وعالم الآخرة، نسبتها إلى الصورة الأخروية نسبة البذر إلى الثمار، والنطفة إلى الحيوان، فإنَّ البذر بذر بالفعل ثمرة بالقوّة، والنطفة نطفة بالفعل، حيوان بالقوّة، والبذر ليس ثمرة، والنطفة ليست حيواناً إلاَّ بضرب من المجاز، فالعقل الهيولاني لا وجود له في عالم الآخرة ما لم يحصل له جهة فعلية روحانيّة، ولهذا ذهب بعض الحكماء إلى بطلان النفوس الخيالية عن العلوم بعد بوار البدن وخراب الدنيا.
فحال البصيرة بالإنسانية كحال البصر، ومنزلتها بالقياس إلى ما يفيد وجودها بالفعل وإلى ما به يحصل (يحصل العالم - ن) بالفعل - بعد أن كانت بالقوّة - منزلة الباصرة بالقياس إلى جوهر الشمس، والنّور الذي يفيده وتصير مبصرة بالفعل، ومدركاتها من الألوان مرئية بالفعل بعد أن كانت هي رائية بالقوة.
إذ كما أنَّ البصر ليس في ذاته كفاية في أن يصير مبصراً بالفعل، ولا في ذوات الألوان (الأنوار - ن) كفاية في أن تصير مرئية بالفعل، بل الشمس تعطي البصر ضوءاً، وتعطي الألوان ضوءاً بذلك الضوء صارت هي مبصِرة بالفعل، والألوان مبصَرة بالفعل، فكذلك إشراق الروح القدسي المسمى عند الحكماء بـ "العقل الفعال" وعند أئمة الفرس بـ "روان بخش" تفيد العقل الهيولاني، والصورة الهيولانيّة المخزونة في الخيال نوراً روحانيّاً، منزلته من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر، وبه يعقل الأشياء التي كانت معقولة بالقوة.
واعلم أنَّ القوة في باب العاقلية والمعقولية - كسائر الأشياء التي تكون بالقوّة - قد تكون بعيدة وقد تكون قريبة، فالبعيدة في العاقليّة كما في العقل الهيولاني الذي هو جوهر متعلق بالمادة المحسوسة، وفي المعقولية كما في الصور النوعية المادية التي من شأنها أن تصير معقولة للإنسان، وأمّا القريبة فعندما يحدث فيه عن رسوم المحسوسات التي حفظتها في القوّة المتخيّلة مقعولات أول، اشترك في نيلها جميع الناس لحصول بعضها بلا تجربة، وقياس، واستقراء، أو بتجربة (وتجربة - ن) سهلة الحصول - كقولنا كل أرض ثقيلة - فحصول هذه المدركات الأولية له يجلعه عقلاً بالملكية يوجب لها استعداداً قريباً؛ لصيرورته عقلاً بالفعل، ولصيرورة الصور المادية معقولة له بالفعل.
فحصول الأوليات كمال أول لما بالقوة، تؤدي إلى كمال ثان هو نور من أنوار الله يقذف في قلب المؤمن المجاهد في سبيل الله مع أعداء الله من القوى الجسمية والدواعي الظلمانية، وخصوصاً القوّة الوهمية التي تمانع الإنسان في كثير من أركان الإيمان، فلا بدّ له من مدافعتها بالقوّة البرهانيّة، لتصير مسلمة بيده العاقلة بتأييد الرحمن.
فهذا النور هو الخير الحقيقي والسعادة الحقيقة، وبه يصير الإنسان حيّاً بالفعل بحياة ذاتية غير محتاج في قوامه إلى المادة (مادة - ن) وذلك لصيرورته في جملة الأشياء البريئة عن المواد والاستعدادات باقياً أبد الآبدين.
وهذا النور العقلي إنما يحصل للنفس الإنسانية بوسيلة أفعال وأعمال يقرّبها إلى عالم القدس، بعضها من باب الحركات الفكريّة والأعمال الذهنيّة من الأنظار الدقيقة، والنيّات الخالصة تقرّباً إلى الله، وبعضها من باب الطاعات والأذكار مع هيأة خضوع وخشوع، وبعضها من باب التروك كالصيام والصمت وترك الدنيا، والعزلة عن الناس، وجميع هذه الأمور يناسب الأمر القدسي، المنبعث بسبب تكرر الإدراكات العقلية؛ الموجب لحصول العقل بالفعل، الذي يقال له "العقل البسيط" وهو أمر جوهري نسبته إلى المعقولات المفصلة نسبة الكيمياء إلى الدنانير.
وكذا الحال في تحصيل مبدإ طباعي بالقياس إلى الآثار الصادرة منه، أما ترى الحديد الحامي كيف تحصل له من تكرر التسخنات بالنفاخات صورة نارية، وقوة مسخنة تفعل التسخين لذاتها ويشابه فعلها فعل الصورة النارية، فلا تتعجب من نفس حصل فيها لكثرة التشبهات بالمبادئ الإلهية، وتكرر صدور الأفاعيل الرواحنية منها نور قدسي، وصورة عقلية تعقل المعقولات، كما يحصل في الحديد المذاب قوة نارية تفعل فعل النّار، لكثرة مجاورته وعكوفة على باب النار.
وهكذا حال النفوس المتألّهة في عكوفهم على باب الله ومواظبتهم على أفعال تشبه أفعال الله من الشفقة، والعطوفة، والرحمة على خلق الله، ودعاء الخير على كل ذي روح، والترفع عن (على - ن) الجسمانيات، والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، كل ذلك تشبّهاً به وتخلقاً بأخلاقه، كما ورد في الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله):
"تخلقوا بأخلاق الله" حتى يحصل لهم بكثرة (التعلقات - ن) وتكرر المشاهدات مبدأ صوري في نفوسهم، وقوة عقلية مشرقة بنور الله هي مبدأ أنوار المعقولات، وفعَّال صور المعلومات.
وبالجملة كلّ جوهر له قوّة واستعداد لحصول أشياء مختلفة، فبحسب كثرة الانفعالات حصلت له من نوع صفة يحصل فيه صورة جوهرية هي مبدأ تلك الصفة، أوَ لا ترى أنَّ كثرة مجاورة النار وتكرر التسخينات توجب للحطب وغيره صورة نارية تفعل فعلها، وكذا كثرة مجاورة الأرض يجعل الشيء تراباً صرفاً يفعل فعل التراب، وهذا مما لا شبهة فيه وخصوصاً إذا كان الأمر المجاور "المشبه" ذا قوة استعدادية سهل القبول والأمر المجاور له "المشبه به" ذا صورة قوية التأثير كالحطب اليابس في مجاورة النار.
فإذا كان كذلك فلا شبهة في أن النفس الإنسانية في أول الفطرة قوّة قابلة استعدادية بالقياس إلى كل صورة وصفة - وهذا أمر بيّن - ولهذا تتصور كل شيء - ولو بوجه ما - وتنفعل عن كل شيء، وذلك للطافتها وصفاء جوهرها وصقالة ذاتها ومن هاهنا يكتسب الإنسان الصنائع ويتخذ الملكات الصناعية كالكتابة والفلاحة والتُجر وغيرها.
فإن كان ما يزاوله ويباشره من باب الأمور العقلية كالتعقلات والتصورات الروحانيّة، والأفعال القدسية، ويكون كثير المراجعة إلى الله تعالى بالتسبيحات، والتقديسات، والأوراد، والأذكار وسائر الأمور المقرّبة إليه، وكثير التفكر في أمر آخرته، وقيامه عند الحقّ، ومثوله بين يدي الله، وكثير التذكر للموت والساعة، وهكذا حاله مدة مديدة إلى أن تشتد فيه هذه الصفة - فيحصل في نفسه الجوهر الصوري والنور الإلهي، الذي ذكرنا أنَّه فعَّال للمعقولات النورية والصور الأخروية، الأفلاطونية، التي ذهب إلى وجودها أفلاطون ومن تقدمه من أشياخه الكرام، وأنكرها من تأخر من الحكماء الباحثين إلى يومنا هذا وقد منّ الله علينا بفضله وإحسانه بمكاشفة هذه المثل النورية وأثبتناها في أسفارنا الإلهية.
وإن لم يكن كذلك، ولم تبلغ نفسه إلى هذه المرتبة، فلا يخلو إمَّا أن تكون كثيرة التأثير والانفعالات من اللذات الدنيوية، شديدة الاشتغال بالأفعال الشهوية والغضبية، من محبة المال والجاه، ومحبة الترفع على الناس، والتكبر والاستطالة على الخلق، والشهرة عند الناس، والركون إلى الدنيا، والإخلاد إلى الأرض وغير ذلك من الأفعال الحيوانية التي بعضها شهوية وبعضها غضبية.
فإن (فمن - ن) كان الغالب عليه مباشرة الأفعال الشهوية، توجَّب أن تحصل للقوة القابلة النفسانية صورة بهيمية مشتاقة إلى فعل الشهوات دائماً، سواء كانت آلات الشهوات موجودة معها أو مفقودة بالموت.
وإن كان الغالب عليه مباشرة الأفعال الغضبية - من الانتقام والترفعات - تحصل للنفس صورة غضبية ظلاَّمة نازعة إلى فعل الجفاء، والظلم، والجور، والعنف - سواء كانت قادرة على ذلك أم لا - وعلى كلا التقديرين لا يخلو إما أن يكون في نفسه شوق إلى العقليات، واستعداد نحو الكمال والخير - مع جحوده للحق وإنكاره للحكمة - أم لا.
فإن كان الأول فهو أشد عذاباً وأعظم مصيبة وأدوم إيلاماً، لوجود الهيآت المضادة للحق في نفسه، والفريقان جميعاً من أهل النار وأصحاب الجحيم - كما مرّ ذكره غيره مرة - وذلك لاحتجابهم عن العالم الأعلى بمباشرة أهل النار، ومزاولة أفعال أصحاب الجحيم، واكتساب هيآتها السوأى آناً فآناً، فانقلبت نفوسهم، وانتكست رؤوسهم إلى أقفيتهم، وصارت نفوسهم صوراً حيوانية بل أضلّ سبيلاً من الأنعام، باكتساب الصفات (الصور - ن) الشيطانية، فصارت شياطين مردودين مطرودين عن أُفق الملائكة المقدّسين، فبقيت في غصة وعذاب، مغلولة مقيدة بسلاسل التعلقات، تلدغها عقارب الهيآت مادامت السماوات.
وكانت قد ناداها الحق فتغافلت، وأسمعها الرسول فتصاممت، وناصحها الأئمة (عليهم السلام) فعاندت وعزّت من أمر ربّها، فأطفأت نورها، فحلَّ عليها غضب الحق، فهوت إلى درك الشقاء مهوى الأشقياء، فصاروا في ظلم الجحيم صم بكم عمي، وقيل فيها:
{ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [طه:124 - 126] ومن أعظم الألم { { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين:15]. وقد { { رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14]. وأحاطت بهم خطيئاتهم { { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [العنكبوت:54]. فهم { { فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [النساء:145]. متقاعدون { { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ:54].
وإن لم يكن شديد الانكباب على اللَّذات، كثير التعلّق إلى الدنيا والتمنّي في حياتها الفانية إمَّا لضعف القوى الأمّارة الحيوانيّة، أو لسلامة النفس وقبول النصيحة، واستماع الآيات، وفهم الأخبار، والعمل بمقتضاها على حسب وسعه وحوصلة ذاته؛ لإدراك الأمثلة الإيمانيّة والخيرات المظنونة، فهؤلاء هم أهل الرحمة الباقون على فطرتهم، المتبوّئون منازل الجنان، المستبشرون بالنعيم من الحور العين والكأس من ماء معين، والقصور المرتفعة، والغرف المستعلية، والفواكه والأطعمة اللذيذة، والأشربة الهنئية المريئة، وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً، يلبسون فيها من سندس واستبرق وحلّوا أساور من فضّة، متكئين فهيا على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، على حسب ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّ أعينهم، جزاء بما كانوا يعملون، ووفاء بما كانوا يسمعون، وقيل لهم في الدنيا فينتظرون.
فهذا أنموذج في بيان صيرورة الأرواح الإنسيّة إمّا من الملائكة المقرّبين والعباد الصالحين، وإمّا من البهائم والسباع والشياطين - بمزاولة أعمال كل من هذه الموجودات - أو من أهل السلامة القابلة للمغفرة والرحمة لبقائهم على الفطرة.
وجملة القول إنّ مراتب الموجودات الجوهريّة بعد المبدإ الأول إمّا ملائكة مهيّمة، أو ملائكة عقليّة فعّالة، أو جواهر روحانيّة، او نفوس ناطقة مدبّرة، أو نفوس حيوانيّة بهيميّة أو غضبيّة، أو نفوس شيطانيّة وهمانيّة، حصلت منها قبائل من الجنّة الغيلان وغيرها، أو طبيعيّة جسمانيّة فلكيّة، أو عنصريّة، أو مادة هيولانيّة، والقلب الإنساني المسمّى بـ "الناطقة" متوسطة بين الطرفين، الروح وما فوقها، والنفس الأمّارة وما تحتها.
فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، فينجذب إلى أحد الطرفين بحسب شدّة المناسبة إليه، وغلبة المحبّة إيّاه، فإن كان الغالب عليه محبّة الله، وأنبيائه، وأوليائه، وملكوته، والشوق إلى دار الآخرة "من كان لله كان الله له" فينجذب إلى عالم الملكوت انجذاب إبرة ضعيفة إلى مغناطيس غير متناهي القوّة { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }.
وإن كان الغالب عليه محبّة الباطل فنيجذب إلى الأسفل ويصير من أصحاب النار { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
{ { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت:40]. ذلك بما كسبت قلوبهم.
فالقلب الإنساني بمنزلة صراط ممدودة على متن جهنّم
{ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الشورى:52- 53]. وهوأدقّ من الشعر وأحدّ من السيف.
أمّا الدقّة فلأنّ الانحراف والتوجّه منه إلى أحد الطرفين - أعني في العرض - يوجب الهلاك، لأنَّ أطرافه - غير جهة العلوّ - أشخاص الجحيم، من الأفاعي اللَّساعة، والعقارب اللدَّاغة، والسباع الضواري، والكلاب العواقر، كلها تهيّأت لابتلاع الإنسان، ولدغة، ولسعه،
{ { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ } [هود:113].
وأمَّا الحدّة فلأنَّ الوقوف عليه أيضاً مما يقتضي الهلاك، ومن وقف عليه شقّه، فأهل الجحيم لأجل انحرافهم عن الصراط المستقيم، وضلالهم عن الطريق القويم، يقعون في الحميم، وذلك لعدم التفاتهم إلى علم النفس وما فوقها، وتركهم تهذيب الباطن عن رذائل النفس وما تحبّها، وبإهمالهم وتقويتهم معرفة النفس فاتت عنهم معرفة الرب، لأنَّ "من عرف نفسه عرف ربّه"
{ { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } [المؤمنون:74].
توضيح وتأكيد
قد ظهر أنَّ كل صفة وملكة تغلب على باطن الإنسان لأجل تكرار الأفاعيل الموجبة لحدوث الأخلاق والملكات تتصوّر في الآخرة بصورة تناسبها، ولا شكّ أنَّ أفاعيل الأشقياء المردودين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة عن الارتقاء إلى عالم الملكوت، ومحبّتهم المتعلّقة بمراتب البرازخ الحيوانيّة، المقتضية للأعمال الشهويّة، والغضبيّة، البهيميّة، والسبعيّة، فلا جرَم هممهم وتصوّراتهم أغراض حيوانيّة تغلب على نفوسهم، فتحشر على صورة تلك الحيوانات، كما يدلّ عليه قوله تعالى:
{ { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير:5]. وربّما تحشر بعض النفوس (الناس - ن) على صورة جامعة لفنون الرذائل الحيوانيّة، كما ورد أنه: "يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير".
وممّا يؤكد هذا الحكم أنَّ أصحاب الكشف والشهود للطاقة قلوبهم، وذكاء باطنهم، وصفاء ذهنهم يتصوّر عندهم الأشقياء بصورهم الحقيقيّة الأخروية، ويعاينون لهم في صقع باطنهم على أشكال وهيئات تقتضيها صفات النفوس وهيئات الأرواح، وذلك لغلبة سلطان الآخرة، وظهورها على قلوب أهل الحق
{ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النمل:12].
حتى قال بعض المكاشفين إنِّي أرى فلاناً إذا تكلّم مازالت تفور من فيه فوّارة من الناس إلى أن يسكت، وذلك عند من كان مغتاظاً يكون أكثر وأوفر.
وقال بعضهم في قوله تعالى:
{ { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة:36]. إني أراهم يأكلونه عياناً.
وقال العلاّمة الدواني: سمعت من أستاذي العالم العامل محيي الملّة والدين محمد الأنصاري - نقلاً عن بعض من لاقاه من الثقات -: أنَّه كان في بعض نواحي فارس بعض من الأولياء، فدخل عليه ذات يوم واحد من أهل الدنيا، وكان ذلك الوالي مستغرقاً في حالته، فلمّا نظر عليه قال لخادمه: "أخرج هذا الحمار" ولم يكن يرى منه إلاَّ صورة الحمار التي هي صورته في المواطن الأخروية، ثم بعد أن زال عن (عنه - ظ) هذا الحال أخبره الخادم بما جرى، فقال: "ما قلت إلاَّ ما رأيت، ولم أكن واقفاً على ما تقول" ومثل هذه الحكاية منقول عن كثير من المكاشفين.
المقالة العشرون:
في قوله تعالى: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وفيه مناظر:
المنظر الأول
في فائدة لفظ "الخلود" هاهنا
إعلم أنَّ بعض الممكورين بالعقل - من ضلاَّل الملاحدة، وجهّال الفلاسفة، والطباعيّة وغيرهم - لفظ غفلتهم وغلبة مغاليط ظنونهم قد ظنّوا أن قبائح أعمالهم، وفضائح أفعالهم. وأقوالهم، لا تؤثر في صفاء أرواحهم، وتغيّر أحوالهم، فإذا فارقت الأرواح الأجساد يرجع كل شيء إلى أصله، فالأجساد ترجع إلى العناصر، والأرواح ترجع إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من نتائج الأعمال إلاَّ أياماً معدودة، كما حكى الله عنهم في قوله:
{ { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة:80]. الآية وذلك بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتّعات الحيوانيّة.
وهذا ظن فاسد، وكفر صريح من وساوس الشيطان، وهواجس النفس وليس بمعقول، لأنّ العاقل يشاهد حسّاً، وعقلاً أنَّ تتبّع الشهوات الحيوانيّة واستيفاء اللَّذات النفسانيّة، يورث الأخلاق الذميمة، من الحرص، والحقد، والحسد، والبغض، والغضب، والبخل، والكبر، والكذب، وغير ذلك، وأنَّ الذي ترتاض نفسه بالمجاهدات، وترك الشهوات، ونهي الهوى عن المألوفات، والمستلذّات، ويمنعها من الأخلاق المذمومات، تورثه هذه المعاملات (الماقبلات - ن) مكارم الأخلاق، وصفاء القلب، ودقّة النظر، وصدق الفراسة، وإصابة الرأي، ونور العقل، وعلوّ الهمّة، وخلوّ السرّ عن محبّة الباطل، وشوق الروح إلى درك الحق، وتحنّنه إلى وطنه الأصلي، وغير ذلك من المقامات العلية والأحوال السنيّة.
فالعاقل لا يشك في أن الروح المتّبِع للنفس الأمّارة - كما يكون للعوام - لا يكون مساوياً بعد المفارقة مع الروح المتّبِع لإلهامات الحق - كما يكون للخواص - كقوله تعالى:
{ { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الملك:22].
وبعضهم قالوا: وإن تكدّرت الأرواح بقبائح أعمال الأشباح (الاشياع - الاتباع - ن) وتدنست (ونزلت - ن) بقدر تعلّقها بمحبوات طباعها فبعد المفارقة بقيت في العذاب أياماً معدودات على قدر انقطاع التعلّقات عنها وزوال الكدورات، ثمّ تتخلّص من العذاب وترجع إلى حسن المآب.
وهذا أيضاً وهم فاسد، وخيال كاسد، فكذبهم بقوله:
{ { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:81]. يعني من كسب سيئّة يظهر بقدرها على مرآة قلبه ريناً، فإن تاب محي عنه، وإن لم يتب ويصرّ على السيئات حتى أحاطت بمرآة قلبه رين سيئاته بحيث لا يبقى فيه صفاؤه الفطري، وخرج منه نور الإيمان، وضياء الطاعات، فأحبط أعماله الصالحات، وأحاطت به الخطيئات، فهو خالد في النار مؤبداً، يدلّ على هذا قوله: { { بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14].
المنظر الثاني
في بيان أنَّ منشأ الخلود في النار هو الكفر لا غير خلافاً للمعتزلة القائلين بأن صاحب الكبيرة يخلد في النار
والتحقيق في هذا أنَّ رؤساء أتباع الشيطان في خلقة الإنسان كما مرّ ثلاثة: القوة الوهميّة: التي هي رئيس المدارك الجزئيّة الحسيّة، ينبعث منها الشوق إلى اللَّذات النفسانيّة، والقوة الشهويّة: التي هي رئيس سائر القوى الخيالية للمقاصد الحيوانيّة، الصارفة للنفس عن طريق الآخرة والمطالب الأخرويّة، والقوة الغضبيّة: التي هي منشأ المؤذيات الضارّة، ومبدأ الجناية، والجور، والقهر، والغلبة، على بني النوع والجنس.
وكل منها يدعو الإنسان بحسب طبعها وناريّتها المكمونة فيها، فإذن هي كأنّها نيرانات كائنة في أحجار كبريتيّة، وقودها المشتهيات من ملاذّ الدنيا ونعيهما، واستعمال تلك النيران عند الوقود كأنّها حريق لا يطفأ، ولهب لا يخمد، كأمواج بحر متلاطمة، أو كرياح عاصفة تدمر كل شيء.
أوَ لا ترى أنَّ حرارة شهوة المأكولات عند الجوع كأنّها لهيب نيران لا يطفأ، وحرارة شهوة المنكوحات عند هيجان الحركة كأنّها حريق نار ترمي بشرر كالقصر، وحرارة نار الكبر والغضب كأنّها تدعي الربوبيّة، وحرارة نار الافتخار والمباهاة كأنّها أعلى موجود وأفضل معبود، والناس عبيد وخدم لها.
إلاَّ أن منبع جميع هذه النيرانات، وكبريت هذه الشعلات هي "القوّة الوهمية" التي هي مبدأ الغواية، والضلالة، والمغالطة، وسوء الظن، والداعي إلى الشر بكفره، وغلطه، وتغليطه، ووسوسته، فإنَّ "الوهم" ما لم يروِّج الباطل في صورة الحق لم ينبض عرق الجاهليّة والقباحة في شيء من القوى، فهو أول من قرع باب الكفر، والإنكار، والجحود، والعناد، والاستكبار، ثم عملت بوفقه القوى العمّالة التي هي من توابعها، كما قال الله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } [إبراهيم:28 - 29].
وإنَّما عظَّم الله تعالى أمر الأفعال القبيحة المنسوبة إلى المبدإ الإدراكي الوهمي ما لم يعظّم في قبائح أفاعيل القوى الغضبيّة كالقتل، والشهويّة كالزنا وأمثالهما، أوَ لا ترى أنَّه قد عظّم أمر الإفك في الوعيد ما لم يغلظ في غيره، حيث قال:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ } [النور:11]. الآية فبالغ عليه بما لم يبالغ في باب الزنا (الريا - ن) وقتل النفس المحرّمة، لأنَّ عظم الرذيلة، وكره المعصية، إنَّما يكون على حسب القوّة التي هي مصدرها، فيتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهيّة، والأنوار القدسية، وتوريطه في المهالك الهيولانيّة، والمهاوي الظلمانيّة، على حسب تفاوت مبادئها، فكلّما كانت القوّة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ أو بالعكس، لأنَّ الرذيلة مما يقابل الفضيلة، فكلّما كانت الفضيلة أشرف كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ، والإفك رذيلة القوّة الناطقة الوهمانيّة، والزنا رذيلة القوّة الشهويّة، والقتل رذيلة القوة الغضبيّة، فبحسب فضل الأولى على الباقين تزداد رداءة رذيلتها ودوام عقابها.
وذلك أنَّ الإنسان إنَّما يكون إنساناً بالأولى وبها يكون ترقبه إلى العالم العلوي، وتوجهه إلى الجناب الإلهي، وتحصيله للمعارف والكمالات، واكتسابه للخيرات والسعادات، وإذا فسدت بغلبة الشيطان عليها واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة، ونزلت عن رتبة الأرواح إلى درجة الشيطان، حصلت الشقاوة ووجبت العقوبة بالنار الكبرى، وهو الرَّين والحجاب الكلي
{ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين:14 - 15].
ولهذا حكم على الكفّار بالخلود في النار في قوله: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فبان دوام العذاب وخلود العقاب بفساد الاعتقاد، دون فساد الأعمال، فإنَّ الصفات الناشئة من الأعمال وإن كانت نفسانية إلاَّ أنها كالعوارض، والفساد في العارض للشيء يرجى زواله، بخلاف سوء الاعتقاد في الله، وحقائق الملكوت، وإنكار المعاد، وإنكار الأنبياء والأولياء، والجهل بأحوالهم وطريقهم إلى الحق، فإنه داخل في قوام الروح كما قررناه، والفساد في ذات الشيء وقوامه يوجب الهلاك، وموت الروح بالجهل لا ينافي بقاء النفس المنكوسة لأجل خلود العقاب كما هو التحقيق عند أرباب الحكمة الإيمانية.
فرذيلة الناطقة النفسانية الإنسانية توجب خلود العقاب، بخلاف رذيلة القوتين الباقيتين، كما قال الله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:48].
وذلك لأنَّ رذيلة كل منهما إنَّما تصدر بظهورها على القوة النطقية، ثم ربما محيت بانقهارها وتسخرها لك عند سكون هيجانها، وفتور سلطانها، باستيلاء غلبة النور، وتسلّطها عليها بالطبع، كحال النفس اللَّوامة عند التوبة والندامة.
وإن فرض أنَّها بقيت في الإصرار وترك الاستغفار، ولكن لا تبلغ رذيلتها مقام رذيلة الرواح الذي هو محلّ معرفة الله ومناجاة الرب، ولا تتجاوز حدّ الصدر، ولاتصير الفطرة بها محجوبة، والحقيقة منكوسة، بخلاف رذيلة الناطقة، ألا ترى أنَّ الشيطنة المعنوية للأولى أبعد عن الحضرة الإلهية من السبعية والبهيمية بما لا يقدر قدره. فالإنسان برسوخ الرذيلة النطقية يصير شيطاناً مريداً - والشيطان الذي هو إبليس إنَّما كان أبعد الخلق عن الله تعالى، وموضع اللعن هو إبليس ومظهر إسم "المضل" لأنَّه كان جبرائيل الأصل، فبالجهل المركب انقلب عن كونه ملكاً كريماً إلى كونه شيطاناً لعيناً - وبرسوخ الرذيلتين الأخريين يصير حيواناً كالبهيمة أو السبع، وكل حيوان أرجى صلاحاً وأقرب فلاحاً من الشيطان، ولهذا قال تعالى
{ { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء:221 - 222]. وذلك لكونه أبعد عن قبول التغيرات والاستحالات، بخلاف الحيوان لكونه أقرب إلى أفق ما يتغير ويستحيل فينجوا عن العذاب.
فثبت مما ذكرنا أنَّ ذنوب القوة النطقية ومعاصيها أعظم عند الله من ذنوب القوة الجسمانية، وأما عند جمهور الناس حيث يكون نظرهم مقصوراً على الأمور المحسوسة فالأمر بعكس ذلك، ولهذا المعنى قال سبحانه في باب الإفك:
{ { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ } [النور:15].
فعلم مما ذكرنا فاسد مذهب المعتزلة والزيدية القائلين بخلود صاحب الكبيرة مطلقاً في النار، وقد أشرنا سابقاً أنَّ ضرباً من الكبائر التي توجب للنفس رذيلة نطقية راسخة، وتكون نفس تلك المعصية كاشفة عن ذلك - كصدور بعض المعاصي من بعض الناس في بعض الأمكنة والأزمنة، مثل شيخ كبير السن في زمرة المنتسبين إلى العلم يباشر الملاهي والغناء عند جوار الروضات المقدسات - فمثل هذه المعصية وإن كانت من ذنوب القوى الحيوانية إلاَّ أنها دالّة على فساد الاعتقاد بحرمة الرسول وأولاده الأمجاد - عليهم عظائم التسليمات من الملِك الجواد - فمنشأ الخلود في العقاب بالحقيقة ليس إلاَّ رذيلة الناطقة كالكفر وما يوجبه.
المنظر الثالث
في تقرير الجواب عن حجة من يعتقد اشتراك أصحاب الكبائر مع الكفار في الخلود في النار كالمعتزلة وغيرهم
إعلم أن في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر - غير الكفر بالله، وآياته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر - إذا ماتوا قبل التوبة خلافاً لأهل القبلة وبين علماء الإسلام:
فمنهم من قطع لوعيدهم إمَّا مخلداً - وهو قول جمهور المعتزلة، والخوارج - وإما منقطعاً - وهو قول البشر المريسي، والخالدي - ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.
والذي عليه أكثر المحققين، والصحابة، والتابعين، وأصحابنا الإمامية وأهل السنّة القطع، لجواز العفو عنه تعالى، وبأنَّه سبحانه يعفو عن بعض العصاة، وأنَّه إذا عذّب أحداً منهم فلا يعذّبه أبداً، ولكنّا نتوقف في حق البعض المعفو عنه، والبعض المعذّب على التعيين.
أما المعتزلة كصاحب الكشاف وغيره فاستدلوا بأدلة سمعية كالعمومات الواردة في وعيد الفساق كقوله تعالى:
{ { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:81]. وقوله: { { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا } [النساء:14]. وقوله: { { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [المطففين:7]. وقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [النساء:10].
ومن الحديث:
"من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة" .
و "من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة" .
"الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنَّما يجرجر في بطنه نار جهنم" .
وعن أبي سعيد الخدري: قال (صلّى الله عليه وآله): "والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلاَّ دخل النار" وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا بقتلهم أولى.
وأجيب بالمنع من أن هذه صيغ العموم، بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها، نحو "كل من دخل داري فله كذا، وبعض من دخل" ولا يلزم تكريره ولا تناقض، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ "الكل" ولاحتمال المخصصات.
والقاطعون بنفي العذاب من الكبائر، احتجوا بقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [النحل:27]. { { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر:53]. { { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد:6]. { { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [الليل:15 -16]
وبالعمومات الواردة في الوعد مثل:
{ { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } [البقرة:4] - الآية - حكم بالفلاح على كل من آمن.
وعورض بالعمومات.
وأما المحققون الذين قطعوا بالعقو في حقّ البعض، فقد تمسكوا بنحو قوله عزّ من قائل:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:48]. وبأنّ عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بدَّ من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل، لأنّ العفو عن الوعيد مستحسن عند العقل، والمعتزلة أيضاً معترفون بأنّ العفو مستحسن عقلاً إلاَّ أن النقل لم يساعده - على زعمهم - فإهمال الوعد يكون بالضد فترجيح الوعيد يوجب ترجيح الجانب المرجوح.
وأيضاً القرآن مملوء من نحو قوله: "غفوراً، رحيماً، كريماً" وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حدّ التواتر.
وأيضاً إنَّ صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات - وهو الإيمان - ولم يأت بما هو أقبح القبائح - وهو الكفر - فلا يهدمه ما سوى الكفر عن المعاصي، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: "إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة، فتوحيد خمسين نسة كيف لا يهدم معصية سنة، إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات، كان مقتضى العدل أنّ الإيمان لا يضرّ معه شيء من المعاصي".
فإذا دلّت الآيات على الوعد والوعيد فلا بدّ من التوفيق بينهما، فإمّا أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب - وهو باطل بالإجماع - أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب.
المنظر الرابع
في تقرير الإشكال في خلود العذاب بالنار لأهل النكال من الكفار والجواب عن هذا السؤال حسب ما يتأتى لأحد من المقال
إعلم أنَّ في تعذيب الله بعض عباده عذاباً أبدياً إشكالاً عظيماً، خصوصاً عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، فإنّ الله خالق العباد وموجدهم ومبدئهم ومعيدهم، وشأن العلّة الفاعلة الإفاضة والإيجاد على معلولها، إذ ليس المعلول إلاَّ رشحة من رشحات جوده، ولمعة من لمعات وجوده، والتعذيب الأبدي منافي الإيجاد والعلية.
وأيضاً فإنَّ ذاته محض الرحمة والخير والنور، وكل ما يصدر عنه يجب أن يكون من باب، الجود، واللطف، والكرم، ووجود العاهات والشرور إنما يكون عنه بالعرض، وعلى سبيل الشذوذ والندور، ولأنه "سبقت رحمته غضبه" فإنَّ الرحمة ذاتية، والغضب أمر عارض، والعرض الاتفاقي لا يكون دائمياً كما حقق في مقامه.
قال العلامة القيصري في شرح الفصوص: "واعلم أن من اكتحلت عينه بنور الحق يعلم أنَّ العالم بأسره عباد الله، ولي لهم وجود وصفة وفعل إلاَّ بالله وحوله وقوته، وكلهم محتاجون إلى رحمته، وهو الرحمن الرحيم، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذب أحداً عذاباً أبدياً".
فهذا تقرير الإشكال، ولصعوبته أنكر الشيخ محيي الدين بن عربي الخلود في العذاب من الله تعالى لأحد من العباد زاعماً أنَّه ليس في شيء من الآيات نصّاً لا يقبل التأويل في خلود التعذيب بالنار، بل في خلود الكون فيها للكفار.
قال في الفص اليونسي من فصوص الحكم: "وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدة العذاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها، وهذا نعيمهم، فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله (عليه السلام) حين ألقي في النار، فإنه (عليه السلام) تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان، وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه، فبعد وجود هذه الآلام وجد برداً وسلاماً مع شهود الصورة النارية في حقه، وهي نار في عيون الناس، فالشيء الواحد قد يتنوع في عيون الناظرين".
وغاية ما يتأتى لأحد أن يقول في التفصي عن هذا الأشكال: إنَّ مراتب العذاب مختلفة بالإضافة إلى الآحاد، فربّ عذاب يكون شديداً لأحد ضعيفاً لغيره، ومراتب الشدّة والضعف مختلفة باختلاف المشاعر والمدارك، كما تجد هذه التفرقة في الأشخاص المعذّبين في هذه الدنيا، بل ربّ عذاب لأحد يكون راحة ولذّة لآخر، كما ترى من اشتغال بعض الناس بأُمور دنيّة، ومناصب خسيسة، يكون فيها غاية الأم والعذاب للنفوس الشريفة، ومع ذلك يفتخرون بها ويباهون على غيرهم.
كيف لا وجميع الشهوات واللذات الدنيوية عن أرباب المعارف الإلهية، تكون من قبيل الآلام والغموم، ويكون مباشرتها والتلذّذ بها كمباشرة الكناسي والأتوني بالروث والسرقين وتلذذهم عن رائحتها، كما أنَّ تنفّر أكثر الناس عن العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية كنفر الجُعل من روائح الورد.
ثم إنَّ "العذاب" كما قد يراد منه المعنى المصدري - أي: التعذب - كذا يراد منه اسم ما يتعذّب به كالنار مثلاً، وهذا غير مستلزم لذاك، فالنصوص الواردة في الخلود في العذاب أيضاً لو كانت مثل قوله تعالى:
{ { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } [البقرة:162]. يمكن أن يأوّل فيها "العذاب" بالمعنى الاسمي لا المصدري، وإن كان الثاني أظهر بحسب اللفظ.
ثم لا يذهب على أحد أن الكون في الجحيم غير مستلزم للعذاب الأليم، فإنَّ الزبانية والسدنة من سكانها ليسوا معذّبين بها كما مرّ ذكره آنفاً، والقول بانتهاء مدة التعذيب للكفار، وإن كان باطلاً عند جمهور الفقهاء والمتكلمين، وبدعة وضلالة - لادعائهم تحقق النصوص الجلية في خلود العذاب، ووقوع الإجماع من الأُمة في هذا الباب - إلاَّ أنَّ كلاًّ منها غير قطعي الدلالة بحيث تعارض الكشف الصريح، أو البرهان النيّر الصحيح.
أمّا النص: فما من لفظ إلاَّ ويمكن حمله على معنى آخر غير ما هو الموضوع له بأحد الدلالات، وإن كان الأصل والمعتبر هو المعنى المطابقي، لكن الكلام هنا ليس في الأصل والترجيح، كما في الفروعات الظنية التي يكفي للعمل بها مجرد الأصل والرجحان، بل في اليقينيات التي لا ينجح فيها إلاَّ العلم بالبرهان، والشهود بالعيان.
وأمّا الإجماع - وخصوصاً بالمعنى الذي ذهب إليه أصحابنا رضوان الله عليهم أجمعين -: فليعلم أنَّ إجماع علماء الظاهر في أمر يخالف مقتضى الكشف الصحيح، الموافق للكشف الصريح النبوي، والفتح الصحيح المصطفوي، - على الصادع به وآله أفضل الصلوات والتسليمات - لا يكون حجة عليهم، فلو خالف من له هذه المشاهدة والكشف إجماع من ليس له (له على - ن) ذلك لا يكون ملاماً في المخالفة، ولا خارجاً عن قانون الشريعة، لأخذه ذلك عن باطن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
فيجب على الطالب الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، وأوليائه، واليوم الآخر، والجنة، والنار، والحساب، والثواب، والعقاب، وعلى أنَّ كل ما أخبروا به فهو حق، وصدق لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه، والعمل بمقتضى ما أمروا به، والانتهاء عمّا نهوا عنه على سبيل التقليد، لتنكشف له حقيقة الأمر، ويظهر له السرّ المصون في كل من المأمورات والمنهيات عن علم ويقين، بل عن الشهود والعيان لا بمجرد التقليد والإيمان، فيتفطن إلى أمور أعلى منها فيزيد في العبادة، كما كان يعبد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنه قام الليل حتى تورّمت قدماه، فقيل له في ذلك: "إنّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر" فقال عليه وآله الصلاة والسلام:
"أفلا أكون عبداً شكوراً" .
إعلم أنَّ الفقهاء وإن كانوا عالمين بأحكام الله إلاَّ أنهم في معرفة الذات، والصفات، والأفعال الإلهية كباقي المقلدين من المؤمنين، بخلاف أهل التوحيد الشهودي، لشهودهم بالنور الإلهي الحق، وصفاته، وأفعاله، وكيفية تصرفاته في الوجود لا تتطرق عليهم الشبهة، ولا تدخل في قلوبهم الريبة، ولا تحكم عليهم الأوهام، ولا يطرأ على مرايا قلوبهم الرين والظلام، فهم الموحدون حقّاً، والعارفون بربهم صدقاً ويقيناً - لا ظنّاً وتخميناً -.
فلا يظن أحد أنَّ ورعهم في أُمور الدين واحتياطهم في عدم القول في مسألة شريعة بمجرّد الظن والتخمين، يكون أقلّ من ورع غيرهم واحتياطه - هيهات هذا من بعض الظن - إنّما بلوغهم إلى هذه المرتبة التي كانوا عليها بطاعة الشريعة، وخدمة الدين، واتّباع سيد المرسلين عليه وآله أفضل صلوات المصلين، بالذهن الصافي، والقلب النقي الخاشع عن الله، والضمير الخالص عن كل شوب وغرض.
وأنَّى يوجد لغيرهم ما كان لهم، وهم في الحقيقة أولياء الله، وقوام الدين، وفقهاء شريعة سيد المرسلين، والحكماء في معارف الحق واليقين، وهم في الحقيقة ما وصفهم الله تعالى في آية:
{ { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]. وهم الذين أمر الله رسوله (صلّى الله عليه وآله) بمجالستهم والصبر معهم في السراء والضراء في قوله: { { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } [الكهف:28]. الآية وهم الذين رفع الله قدرهم عن سائر الأمة لقوله تعالى: { { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنعام:52].
وهم الذين قال خاتم النبيين في حقهم تفخيماً وتعظيماً، وإجلالاً وتكريماً لشأنهم: "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن" وهم الذين وصفهم أمير المؤمنين وسيد الأوصياء الموحّدين في حديث كميل بن زياد بما وصفهم.
فإذا كان حالهم على هذا المنوال من العلم، والمعرفة، والورع، والتقوى، فالقدح من أحد فيهم في مسألة اعتقادية دينية يدلّ على قصور رتبة القادح، وسوء فهمه، وقلة إنصافه، بل الأولى له السكوت عمّا لا يصل إليه عقله من درك مقالهم، وفهم حالهم - والله أعلم بسرائر عباده وبواطن أقوالهم -.
قال القيصيري: "إعلم أنَّ المقامات الكلية الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاث - وإن كان كل منها مشتملاً على مراتب كثيرة لا تحصى - وهي: الجنة، والنار، والأعراف الذي بينهما - على ما نطق به الكلام الإلهي - ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام، لأنَّه رعاياه وعمارة ذلك الملك بهم.
والوعد شامل للكل إذ وعده في الحقيقة عبارة عن إيصال كل واحد منها إلى كماله المعين له أزلا، فكما أن الجنة موعود بها كذلك النّار والأعراف موعود بهما.
والإيعاد أيضاً شامل للكل، فإنَّ أهل الجنة يدخلون الجنة بالجاذب والسائق، قال الله تعالى:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21]. والجاذب: المناسبة الجامعة بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء، والسّائق: هو الرحمان بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحسن، كما أنَّ الجاذب إلى النار: المناسبة الجامعة بينها وبين أهلها، والسائق: الشيطان، فعين الجحيم موعود لهم لا متوعد بها.
والوعيد: هو العذاب الذي يتعلّق بالاسم "المنتقم" وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير، لأنّ أهل النار إما مشرك، أو كافر، أو منافق، أو عاص من المؤمنين، وهو ينقسم إلى المواحد، العرف الغير العامل، والمحجوب، وعند تسلّط سلطان "المنتقم" عليهم يتعذّبون بنيران الجحيم، كما قال تعالى:
{ { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف:29]. { { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف:77]. { { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } [البقرة:162]. وقال: { { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [الزخرف:77]. { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون:108].
فلما مرَّت عليهم السنون والأحقاب، واعتادوا بالنيران، ونسوا نعيم الرضوان قالوا:
{ { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [إبراهيم:21]. فعند ذلك تعلّقت الرحمة بهم، ورفع عنهم العذاب، مع أن العذاب بالنسبة إلى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها عَذْب من وجه، وإن كان عذاباً من وجه آخر، كما قيل:

وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى وقطعكم وصل وجوركم عدل

لأنَّه يشاهد المعذّب في تعذيبه، فيصير التعذيب سبباً لشهود الحق، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذٍ في حقه.
وبالنسبة إلى المحجوبين الغافلين عن اللَّذات الحقيقيّة أيضاً عَذْب من وجه. كما جاء في الحديث:
"إنَّ بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار" و "الملاعبة" لا تنفك عن التلذذ - وإن كان معذّباً - لعدم وجدانه ما أمن به من جنة الأعمال التي هي الحور والقصور.
وبالنسبة إلى قوم يطلب استعدادهم البعد من الحق والقرب من النار، وهو المعني بجهنّم أيضاً عَذْب، وإن كان في نفس الأمر عذاباً كما يشاهد هاهنا ممّن يقطع سواعده ويرمي نفسه من القلاع - مثل بعض الملاحدة، ولقد شاهدت رجلاً سمّر في أصول أصابع إحدى يديه خمسة مسامير غلظ، كلّ مسمار مثل غلظ القلم، واجتهد المسمِّر ليخرجه من يده فما رضي بذلك، وكان يفتخر به، وبقي على حاله إلى أن أدركه الأجل.
وبالنسبة إلى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال، واستعداد النقص، وإن كان أليماً؛ لإدراكهم الكمال، وعدم إمكان وصولهم إليه، لكن لمَّا كان استعداد نقصهم أغلب رضوا بنقصانهم، وزال عنهم تألمهم بعد انتقام "المنتقم" منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عَذْباً، كما نشاهد ممّن لا يرضى بأمر خسيس أولا، ثمّ إذا وقع فيه وابتلى به، وتكرر صدوره منه تألف به واعتاد، فصار يفتخر به بعد أن كان يستقبحه.
وبالنسبة إلى المشركين الذي يعبدون غير الله من الموجودات فينتقم منهم "المنتقم" لكونهم حصروا الحق فيما عبدوه، وجعلوا الإله المطلق مقيداً، وأما من حيث أنَّ مبعودهم عين الوجود الحق الظاهر في تلك الصورة فما يعبدون إلاَّ الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فينقلب عذابهم عذباً في حقهم.
وبالنسبة إلى الكافرين أيضاً وإن كان العذاب عظيماً لكنهم لم يتعذبوا به لرضاهم بما هم فيه، فإن استعدادهم بطلب ذلك، كالأتوني الذي يفتخر بما هو فيه، وعظم عذابه بالنّسبة إلى من يعرف أن وراء مرتبتهم مرتبة، وأنّ ما هم فيه عذاب بالنسبة إليها.
وأنواع العذاب غير مخلّد على أهله من حيث أنّه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين "وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين" كما جاء في الحديث الصحيح، لذلك ينبت الجرجير في قعر جهنم لانطفاء النار وانقطاع العذاب، وبمقتضى "سبقت رحمتي غضبي" فظاهر الآية التي جاء في حقّهم بالتعذيب كلّها حق، وكلام الشيخ - رضي الله عنه - لا ينافي ذلك، لأنّ كون الشيء من وجه عذاباً لا ينافي كونه من وجه آخر عذباً.
المنظر الخامس
في ذكر جملة من خواص أولياء الله وعلاماتهم وخواص أولياء الطاغوت وعلاماتهم. ليعرف الإنسان أحوال المؤمن الحقيقي من أحوال المنافق، لنيكشف لمِّية كون أحدهما من أهل الله وأهل النور، وكون الثاني من أهل الطاغوت وأهل النار
أما أحوال أولياء الله - وهم المؤمنون حقّاً -:
فمنها: ما ذكره الله تعالى بقوله:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2]. معناه أنّ المؤمن الحقيقي والعارف اليقيني، الذي كتب الله بقلم العناية في قلبه الإيمان، وأيّده بروح منه فهو على نور من ربّه، فإذا ذكر الله وجل قلبه فإنَّ وجَل القلب عند سماع ذكر الله من خصوصية المعرفة والحكمة بالله وصفاته وأفعاله، إذ الحكمة هي النور المنبسط الإيماني الذي قذف الله في قلوبهم، ومن شأن نور الإيمان أن يرق القلب، ويصفيه عن كدورات صفات النفس وظلمتها، ويلين قسوته فتلين إلى ذكر الله ويحن شوقاً إلى الله.
وهذا حال أهل البدايات، أمّا حال أهل النهايات فهي الطمأنينة والسكون بالذكر، لقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28].
وقال (صلّى الله عليه وآله) - فيما روي عنه -
"إنّ أحبّ القلوب إلى الله أصلبها في دين الله وأصفاها عن الذنوب، وأرقّها على الإخوان، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً" فجعل من شروط الإيمان الحاصل في القلوب ازيداده عن سماع القرآن وتلاوته، لاشتماله على ذكر الله والمعارف الإلهيّة.
وذلك لأنّ الإيمان الحقيقي هو النور الواقع في القلوب، بقدر انفتاح روزنة القلوب من أنوار تجلّي شموس صفاته، وحقائق أفعاله، للقلوب المشتاقة، فيكون وجوه قلوبهم الخالية (الناظرة - ن) من دنس حب الدنيا بسبب ذلك النور إلى ربّها وحبيبها ناظرة، فإنَّ "الإيمان يجرّ بعضه إلى بعض" و "بالمعرفة تكتسب المعرفة" فكلّما تليت على أصحابها الآيات، أو تلوها، أو ذكر الله، أو ذكروه، زاد انفتاح (انفساخ - ن) روزنتها بقدر صدقها، وشوقها، ومناسبتها، فيزيد فيها نور الإيمان فيزدادوا إيماناً مع إيمانهم.
وعلى ربّهم يتوكّلون: يعني فحينئذٍ على ربّهم يتوكّلون، لا على الدنيا وأهلها، فإنَّ من شاهد جمال الحق وجلاله بنور الإيمان، فقد استغرق في بحر سطوات جلاله، فيكون توكّلهم عليه لا على غيره ومنهم (منها - ظ) ما وصفهم الله بقوله
{ { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } [هود:29]. يعني: أنَّ المؤمن من يكون درجته درجة الملائكة المقرّبين، الذين يلاقون ربّهم من فوقهم، لا واسطة بينهم وبين ربّهم، وذلك لارتقائهم عن عالم الطبيعة بجناحي العلم والعمل إلى جوار الله.
ومن العاملات المختصّة بهم ما ذكره تعالى مخاطباً لإبليس اللعين:
{ { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر:42]. وحكى أيضاً قول إبليس محارباً لله جلّت عظمته: { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر:40].
ومنها: ما وصفهم بقوله تعالى:
{ { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان:63]. إلى آخر السورة.
ومنها: ما أشار إليه بقوله:
{ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:89].
وهذه عمدة صفاتهم، لأنّ الأصل في جميع الخيرات سلامة الصدر من الغلّ، والغشّ، والدغل، والحسد، والبغض، والكبر، والحرص، والطمع، والمكر، والزنا، والخديعة، والنفاق، وما أشبهها من الخصال المذمومة، التي أكثرها ينشأ من التشبه بأهل العلم في الزي والمنطق من غير عرفان، وطلب الترفّع من غير استئهال وهو بذر النفاق والعناد ومادة السيئات.
ومنها: الخوف والخشية كما في قوله تعالى:
{ { وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:28]. وقوله: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر:28].
فهذه وما أشببها خصال أولياء الله بحسب الملكات والأخلاق العملية.
وأمّا الأعمال، والأفعال الواجبة، أو المندوبة فجمعيها ترجع إلى تصفية القلب، وهي أمر عدمي عبارة عن رفع المانع، وإزالة الحجاب عن الوصول إلى الحق والحقيقة من الطبع والرين، الحاصل في مرآة القلب بحسب غبار الهيئات المرتفعة إليه من عالم الحواس ومعدن الوسواس.
وأما علاماتهم وخصالهم العلمية التي هي غاية قصودهم، وثمرة وجودهم - لأنَّ الإيمان والعرفان بالله، وصفاته، وملائكته، وأفعاله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، هي الغاية القصوى، والثمرة العليا من وجود الإنسان وبقائه -.
فمنها: طريق تحصيلهم للمعارف، وسبيل سيرهم إلى الله، وهو الصراط الذي وصفه الله بالمستقيم، وقال تعليماً لعباده استدعاء ذلك من الله بقوله:
{ { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6].
وهو الصراط الذي سلكه جميع أنبيائه، وأوليائه، كما أشير إليه بقوله تعالى:
{ { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [الأنعام:126]. وقوله: { { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } [الشورى:13] الآية. وقوله: { { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الشورى:3]. وقوله: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء:25]. وقوله: { { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى:18 - 19].
وهو الطريق الذي لا يتطرق إليه نسخ وتغيّر، ولا فيه تخالف وتناقض، لكونه من عند الله وبتوفيقه وإلهامه، لا من جهة التقليد والتعصّب، واتّباع الآباء، وملازمة الأهواء، لقوله:
{ { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء:82].
وهو مسلك التوحيد الذي سلكه أفضل الأنبياء عليه وعليهم السلام، ومتابعوه وشيعتهم لقوله تعالى:
{ { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف:108].
وهو الطريق المستقيم الذي أمر الله نبيّه أن يعلّم الناس سلوكهم ويهديهم إليه ويأمرهم باتباعه ونهاهم عن سلوك طريق غيره، وهو في قوله تعالى:
{ { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153].
وذلك لأنّ استقامة الطريق يفضي سالكه إلى المقصد في أقرب زمان، ولا بدّ للسالك أن يتحرى أقرب الطرقات، فإنَّه أسهلها مسلكاً، وأقربها وصولاً، وهو الذي لا عوائق فيه، ولا عوج له، فلذلك ينبغي للقاصدين إلى الله بعد تصفية نفوسهم عن درن الشهوات، والراغبين في نعيم الآخرة في دار السلام، الذين يريدون الصعود إلى ملكوت السموات، والدخول في زمرة الملائكة بالولادة الثانية، أن يتحرَّوا أقرب الطرق إليه، وأسهلها مسلكاً، وأوثقها اعتماداً، كما في قوله تعالى:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } [الجن:14].
ونحن نريد أن نبيّن الطريق المستقيم الذي أوصانا الله به، وأمرنا باتّباعه على ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم ما هو؟ وكيف ينبغي أن نسلكه حتى نصل إلى ما وعدنا به ربّنا؟ كما قال تعالى:
{ { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ } [الأعراف:44]. ولكن لا يمكننا بيان ذلك إلاَّ بكلام موزون، وحكمة بالغة، وبرهان نيّر، ودلائل واضحة:
أما البرهان النّير: فبالنظر إلى حقيقة الوجود، وما يلزمه، وما يبدأ منه، كما قال سبحانه:
{ { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت:53].
وأما الدلائل الواضحة: فعلى مثل بيان الله وسنّة أنبيائه وأوليائه (عليهم السلام) بالوصف البليغ بسائر (لسائر - ن) آيات الله في الآفاق، وفي أنفسنا حتّى يتبيّن أنه الحق، كما قال تعالى:
{ { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ... لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة:164]. وقوله: { { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات:20] وفي قوله: { { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات:21] فإذا فعلوا ذلك فتحت أبواب العلوم المخزونة، والأسرار المكنونة التي لا يمسّها إلاَّ المطهّرون.
ومما يجب أن يعلم أن كل من أراد أن يتّبع سبيل أولياء الله لا ينبغي أن يتكلّم في ذات الباري، ولا في صفاته، ولا في أفعاله - من حيث هي أفعاله - بالحزر والتخمين، ولا قبل تصفية النفس، فإنَّ ذلك يؤدي إلى الشكوك، والحيرة، والضلال، كما قال تعالى:
{ { ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [الحج:8].
ومن لطائف خواصهم العلميّة أنهم في الكمالات العلميّة إمّا في مرتبة التام بذاته - وهي بحسب أرواحهم التي مرتبتها مرتبة العقول الفعّالة - وإمَّا في مرتبة المكتفي بذاته - وهي بحسب نفوسهم التي في درجة نفوس الأفلاك - بخلاف غيرهم من أولي العلوم، إذ لا يمكنهم الاكتفاء في علومهم بالأسباب الداخلة (الداخليّة - ن) والمقومات الداخلة، فإنّ علومهم ليست من إفاضة الله فقط بتوسط الملائكة النوريّة، التي هي خزائن علم الله، بل يحتاجون في انحفاظ علومهم إلى أسباب خارجيّة، وأوضاع حسيّة، وأسانيد متقدمة، حتى إن فرض ارتفاع الأسانيد والأوضاع الخارجيّة الحسيّة، التي كانت جملتها من الأمور المتغيّرة المتصرّمة، لبطلت علومهم، وزالت كمالاتهم.
فجميع المنتسبين إلى العلوم التي هي دون علوم الأولياء والعرفاء، ناقصون في كمالاتهم العلمية، إذ ليسوا في مرتبة التمام كالعقول القادسة، والملائكة العلميّة الذين كمالاتهم بالفعل من كل الوجوه، ولا كمال منتظر لهم، وليسوا أيضاً في مرتبة المكتفين بذواتهم وذوات عللهم المقوّمة الداخليّة كالملاكئة العمّالة بإذن الله في تحريك الأجرام العالية، واستخراج الكمالات النفسيّة، من القوّة إلى الفعل، بل هؤلاء يكونون أبداً محتاجين إلى المشايخ والأسانيد، كالأعمى الذي يحتاج أبداً إلى قائد خارجي، وإلى ما يسند إليه في سلوكه ومشيه.
ومعنى الوارثة في "كون العلماء ورثة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين" هو أنَّ علوم الأنيباء مستفادة من الله بلا مفيد بشري، والمعلّم الإنساني يعني أنَّ علومهم المختصّة بهم وبورّاثهم (بوراثتهم - ن) ما كانت فائضة على قلوبهم من الله تعالى، حتى لو قطع النظر عن أسباب التعاليم الخارجيّة، والأسانيد المنفصلة، لكانت علومهم بحالها كما كانت، بل لا مدخليّة لخصوصيّة هذه النشأة الدنيوية وغيرها من النشآت في بقاء علومهم وثباتها، حيث ثبّتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
ومن علاماتهم العلمية كونهم موحّدين للباري جلّ اسمه توحيداً لا يعرف كنهه غيرهم، إذ ليست وحدته تعالى من قبيل الوحدة العددية التي تنشأ منها الأعداد، ولا من النوعيّة والجنسية التي توجب الاشتراك، ولا من الشخصية التي توجب الانفصال عن الأمور الواقعة مع الشخص تحت كلّي، ولا هو واحد بالوضع، ولا بالكيف، ولا بالكم، ولا بالإضافة - كما مرّ - فوحدته تعالى خارجة عن جميع أقسام الوحدة التي عرفها الخلائق، فهم الذين عرفوا نحو وحدته تعالى.
ومن دقائق علومهم معرفتهم للأسباب القصوى للموجودات، والغاية التي تنحو نحوها الممكنات.
ومنها: معرفتهم الملائكة الروحانيين والجن والشياطين كما مرّ ذكره.
ومنها: معرفتهم لأصناف الناس - الشقي منهم والسعيد - ومعرفتهم غاية كل فعل، وقول، وعمل، بحسب الدار الآخرة.
ومن خصائص علومهم التي يدركونها بصفاء قلوبهم كيفية نشوء الآخرة، والجنة، والنار الجسمانيتين، والروحانيتين، وكيفية توزع النفوس إلى سكان كل منها.
ومن خصائص مشاهدتهم: يوم الحساب والميزان - كأن القيامة قد قامت في حقهم، وكأنهم بعرش ربهم بارزون ومشاهدون لأهل الجنة منعمين، وأهل النار معذبين - كما جاء في حديث حارثة لما سأله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن حقيقة إيمانه فأجاب بما أجاب.
وإليه أشار جلّ ذكره:
{ { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [الأعراف:47]. وهم { { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [النور:37]. وهم الذين { { لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [الزمر:61]. وهم أولياء الله وعباده المخلصون، الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، كما في قوله: { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص:83].
واعلم أن الإخلاص في العمل، بلا شوب غرض، أو رياء لا يتصور لأحد، إلاَّ منهم ومن أتباعهم، لأنه يتفرّع على المعرفة، وليس لغير العلماء الربانيّين معرفة يقينية بأحوال المبدإ وصفاته وأفعاله، وإن كان قد أحكم سائر العلوم الغير الحقيقيّة، بل معارفهم بالله على الظن والتخمين، أو مجرّد التقليد، فإخلاصهم أيضاً إخلاص تخميني أو تقليدي.
فهذه جملة من خصال أولياء الله وخواصّهم وعلاماتهم، ويعرف منها صفات أضدادهم بأضداد صفاتهم، إذ الأشياء قد تعرف بأضادادها.
قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): "صف العالِم؟" فوصفه، فقيل: "صف الجاهل؟" فقال: "فعلت".
فالمنافقون، وأعداء الله، وأولياء الشياطين، صفاتهم بعكس هذه الصفات المذكورة رأساً برأس، يعرفها من يعرف هذه بالقياس، إلاّ أنّا نذكر بعضاً منها صريحاً لأنّها من جملة ما عرّف الله بها الجاحدين والمنافقين، وكشف بها فضائحهم، وجهلهم لعباده الصالحين، وبيّن وخامة عاقبتهم، وسوء حالهم يوم الدين، ولما فيها من التنفر والتحذير عن الباطل للسالكين، والتثبت والتقرير على الحق للمطيعين إن شاء الله.
فمن علاماتهم ما وصفهم الله بأزاء العلامة الأولى التي للأولياء في قوله:
{ { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر:45]. وقوله تعالى: { { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } [الحج:72]. فإنَّ الإعراض عن ذكر الحبيب الأول أول شاهد على كون المعرض عدواً لله وليّاً لعدوّه اللعين.
وهذا حال أكثر المغرورين المتجرّدين بعلم الأقضية والفتاوى، المعرضين عن علم التوحيد، المكبين على غيره من العلوم التي يكون منشأ الشهرة والجاه عند الخلق، كما في قوله تعالى:
{ { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [المؤمنون:70]. وقد ورد في الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله): "إنَّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلاّ العلماء بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلاَّ أهل الغرة بالله" .
ومنها: ما وصفهم الله في قوله: { { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } [البقرة:206] - الآية - وهذا أيضاً حال أكثر الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب من غير وجهه، كما يدل عليه قوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } [آل عمران:23]. استنكف عن النصيحة ومنعته الأنفة، وأخذته العزّة، التي زعمتها ثابتة لنفسه، لأجل كونه مغروراً بالله تعالى، معتقداً أنّه من العلماء، وأنَّه اللائق بالاقتداء، والحري بأن ينصب في مقام النصح والإرشاد لغيره، لا أن غيره يرشده، فيغتاظ من هذا.
ولم يعلم أنَّ ما يعلمه من غير الجهة التي وليها (ولى - ظ) أهل الحق وجوههم شطرها والطريق المستقيم الذي سلكه العلماء بالله، والأتقياء ليس له طائل، ولا يؤدي إلى حاصل، بل يكون بذر النفاق واللَّدار، ومنبت الكبر والعناد، وستلعب به الشكوك حيراناً، وفات منه الكمال واستعداد تحصيله جميعاً، وخسر دنياه وأخراه رأساً، ويصير من
{ { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:104] { { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [آل عمران:24].
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [آل عمران:25] من مزرعة الدنيا - أما من الدرجات العلى أو الدركات السفلى { { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [آل عمران:25] بوضعهم في غير موضعهم، بأن ينزل الجاهل الشرير في موضع العالم النحرير ويسكن أهل الدركات في الدرجات، وأهل الدرجات في الدركات، كما في هذه الدار، لأنّها دار اشتباه بخلاف اليوم الآخر { { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [غافر:17] لأنه يوم الفصل باعتبار وإن كان يوم الجمع باعتبار آخر.
ومنها: ما وصفهم الله تعالى بقوله:
{ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [لقمان:21]. الآية الإشارة فيه أنَّه لا عبرة في أمر الدين بتقليد المشايخ السابقين، والآباء الماضين، واتّباع مذهبهم، بل الواجب على العبد اتباع ما أنزل الله إليه، بصدق النيّة في السعي والطلب، وخلوص الطويَّة في الاجتهاد والعمل وقطع النظر عن تقليد الأسلاف، واتباع الأخلاف، فإنَّ الإيمان نور من الله يقذف في قلب المؤمن بواسطة المجاهدة والرياضة، ويخرجه من ظلمات التقليد.
وفي قوله:
{ { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } [البقرة:17] إشارة إلى أن آباءهم من أهل الأهواء والبدع، الذين لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون سبيلاً، وإنَّهم ميتون لا يعقلون شيئاً، والميّت لا يصلح للاقتداء به والاهتداء، بل المتبع في المعارف الإلهية هو الواردات الكشفية عقيب الأعمال الفرعية، والمجاهدات الدينية الحاصلة بنور المتابعة لروح الإنسان الكامل، المتحد نوره بنور العالم العقلي، المصون عن الفناء والموت، كما قيل: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
وفي فحوى الآية الإشارة إلى أن من يكون على جادة الحق، وقدمه ثابتة على جادة الشريعة، ومعرفة الطريقة، وسلوك مقامات الحقيقة، فيجوز الاقتداء به، إذ هو من أهل الاهتداء إلى عالم الحقيقة دون من يدّعي الشّيخوخية بطريق الإرث من الآباء والمشايخ، ولا حظَّ لهم عن طريق الاهتداء به، فإنهم لا يصلحون للاقتداء.
وهذا كما نجد عند التعمّق حال أكثر المدّعين للشيخوخة في هذا الزمان أصلح الله بالهم، وسدد أقوالهم، ثم إذا صادق بعضهم من عنده علم من الكتاب استنكفوا عن التعلّم منه لما رأوا ما عنده مخالفاً لما أخذوه من معلّميهم تقليداً أو تعصّباً، ولما لحقهم بذلك من ذلّ التعلّم واتّضاع القدر عند العامّة والمريدين.
كما أشار إليه تعالى بقوله:
{ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة:104] وقال سبحانه: { { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [الزخرف:23 - 25].
فما أسخف عقلهم حيث تركوا ذكر الله ومعارف الحقائق خوفاً من اتضاع قدرهم عند الجهلة، فرجح عندهم ارتفاع الشأن عند الناقصين من العباد على علوّ المنزلة عند الله، ومجاورة الملائكة المقرّبين، فتبّاً لجاههم الحقير، وسحقاً لحظهم اليسير، أما تلوا قوله سبحانه:
{ { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الزخرف:35 - 37].
ومنها: ما ضرب الله لهم مثلاً بقوله:
{ { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [البقرة:171]. هذه الحالة لهم أيضاً قريبة المأخذ من الحالة السابقة، والغرض أنهم لا يزالون يتبعون، ويحدثون ظواهر الألفاظ، ولا يرون بواطن المعاني والحقائق، ولم يعلموا بعد - ما أنهم سمعوا مراراً - أن امتياز الإنسان عن سائر الحيوانات باستنباط الحقائق والمعارف، لا تتبُّع الألفاظ، وتصحيح العبارات من غير ارتقاء عن مضيق المحسوسات، ومحبس الحيوانات، واصطبل الدّواب، إلى فسحة الأنوار الإلهية، وعالم المعارف العقلية الإلهامية، ومستوكر الطيور السماوية.
فهم أبداً واقفون في عالم الألفاظ والصور، ولن يقصدوا إلى معرفة النفس وما فوقها، ولا إلى إصلاح القلب، الذي هو محل النطق الباطني، الذي يخص به الإنسان من سائر الحيوانات، وهو منبع المكاشفات والمكالمات مع الحق وقد ذم الله تعالى الناقصين، الذين ليس لهم درجة المكالمة الباطنية مع الحق لكونهم في مرتبة الحيوان الأعجمي بقوله:
{ { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [آل عمران:77]. ومدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خواصّ أمّته وأولياءهم وحكماءهم بأنّهم محدثون مكلمون.
وليس المراد من هذا التكلّم والتحدّث ما يكون بالحديث الظاهري والكلام الحسّي - الذي آلته جرم أحمر لحمي مركب من الأخلاط، فإنه من الدّنيا، ولا يكون شيء من الدنيا ممدوحاً، ولا محبوباً إلاَّ بقدر ما يعبّر به ويجعل الزاد للآخرة فإنّها طريق الآخرة، بل الدنيا وما فيها مبغوضة ممقوتة ملعونة عند الله وعند أوليائه كما قال (صلّى الله عليه وآله):
"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها" وقوله (صلّى الله عليه وآله): "حبّ الدنيا رأس كل خطيئة" .
إنَّما المراد من المكالمة في قول الله { { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران:77] وفي قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "إنهم محدثون مكلَّمون" المكالمة الحقيقية بين الله وبين خواصّ عباده، وهي الإفاضات العلميّة المتواردة من الحقّ في المقاصد الربوبية، عقيب التأمّلات القدسية الاستعدادية من العبد في المطالب الحكميّة الإيمانيّة، بتّوسط بعض ملائكة الله العقليّة، إمّا صريحاً مشاهداً في عالم المشاهدة البصرية والسمعية كما للأنبياء، أو لا كما لغيرهم.
أوَ لا ترى أنَّ معنى "التكلم" في حقه تعالى - عند أصحابنا الإماميين (رضوان الله عليهم) هو إيجاد القرآن أولاً في قلب جبرائيل عند نزوله في السماء الدنيا ثمّ منه على قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومنه إلى قلوب حكماء أمّته. فالإشارة في هذه الآية أنَّ مثل الذين كفروا الآن كان في الحقيقة، وفي عالم الأرواح عند عهد الميثاق إذ خاطبهم الحق بقوله: "ألست بربّكم" كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً، لأنّهم كانوا في الصّف الأخير، إذ الأراح جنود مجنّدة في أربعة صفوف:
فكان في الصف الأول: أرواح الأنبياء (عليهم السلام)، وفي الثّاني: أرواح الأولياء والشهداء، وفي الثالث: أرواح المؤمنين، وفي الرابع: أرواح الكافرين، فأحضرت الذرّات التي استخرجت من ظهر آدم من ذرّياته، وأقيمت كل ذرّة بأزاء روحها، فخاطبهم الحق: "ألست بربكم؟".
فالأنبياء: سمعوا كلام الحق كفاحاً بلا واسطة، وشاهدوا أنوار جماله بلا حجاب، ولهذا استحقّوا هاهنا النبوّة، والرسالة، والمكالمة، والوحي - الله أعلم حيث يجعل رسالته -.
والأولياء: سمعوا كلام الحق، وشاهدوا أنوار جماله من وراء حجاب أرواح الأنبياء، ولهذا احتاجوا هاهنا بمتابعة الأنيباء، فصاروا عند القيام بأداء حق متابعتهم مستحقين للإلهام، والكلام من وراء الحجاب.
والمؤمنون: سمعوا خطاب الحق وراء حجاب أرواح الأنبياء، وحجاب أرواح الأولياء، ولهذا هاهنا آمنوا بالغيب، وقبلوا دعوة الأنبياء، وأن يبلغهم من وراء حجاب رسالة جبرائيل، وحجاب رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، فقالوا: "سمعنا وأطعنا". ومما يدلّ على هذه المراتب قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } [الشورى:51] يعني: الأنبياء { { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [الشورى:51] يعني: الأولياء { { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } [الشورى:51]. يعني المؤمنين.
وأما الكفار: فلمَّا سمعوا من ذرّات المؤمينن من وراء الحجاب لمَّا قالوا: "بلى" فقالوا بالتقليد والرياء: "بلى" ولهذا هاهنا قلّدوا ما ألفوا عليه آباءهم لقوله:
{ { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف:23].
فلمّا تعلّقت أرواحهم بالأجساد وتكدّرت بكدورات الحواس والقوى النفسانيّة، وأظلمت بظلمات الصفات الحيوانيّة، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون - من التمتعات البهيمية، والحركات السبعية، والأخلاق الشيطانية، واللَّذات الجسمانية - فأصمّهم الله وأعمى أبصارهم، فهم الآن "صمّ" عن استماع دعوة الأنبياء بسمع القبول، "بُكْمٌ" عن قول الحق والإقرار بالتوحيد والمعارف اليقينية، "عُمْيٌ" عن رؤية الآيات والمعجزات الباطنية، فهم لا يعقلون، ولا يعقلون أنّهم صمّ بكم لا يعقلون، إذ لم يتصوروا من "الصمم" إلاَّ ما يعرض القوة السمعية الحيوانية، ولا عن "العمي" إلاَّ ما يعرض للقوة العينية الحيوانية، ولا من "العقل" إلاَّ ما للعوام من تدبير المعاش بالحيل الشيطانية.