التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
٢٧
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

أراد أن يذكر صفة الفاسقين كشفاً عن حالهم، وايضاحاً لسبب ضلالهم، وتقريراً لرسوخهم فيما هم عليه، ليدلّ على نكالهم في مآلهم من الخسران العظيم والعذاب الأليم.
و"النَقْضُ" في اللغة: فسْخ التركيب وفكّة. وإنما ساغ وشاع استعماله في إبطال العهد، تشبيهاً له بالحبْل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر؛ ثمّ إنّ ذكر المشبّه به - وهو الحبل - كان ترشيحاً للمجاز، وإن أطلق مع المشبّه - وهو العهد - كان رمزاً إلى ما هو من روادفه، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر المستعار، ويرمزوا بذكر شيء من روادفه، فينبّهوا على مكانه، كقولك: "شجاعٌ يفترسُ أقرانَه" تنبيهاً على أنه أسدٌ في شجاعته. و: "عالمٌ يُغْتَرَف منه" تنبيهاً على أنّه بحْرٌ في علمه وإفادته.
ومن قبيل الأول قول ابن التيهان في بيعة العقبة: "يا رسول الله، إنّ بيننا وبينَ القومِ حِبالاً ونحن قاطعوها، فنخشى إن اللهُ [عز وجل] أعزّك وأظهرك [على قومك] أنْ ترجع إلى قومك".
و "العَهْد": المَوْثق، وجاز استعماله في كلّ ما من شأنه أن يتعاهد ويتحفّظ به، كالوصايا والايمان والنذور والأوقاف؛ ويقال للدار من حيث إنها يراعى بالرجوع إليها، وللتأريخ لأنّه يحفظ.
[ما هو "عَهدُ الله"؟]
ثمّ اختلفوا في المقصود من هذا العهد على أقوال:
الأول: ما ركز في العقول من قوّة الإستعداد لإدراك الحجج القائمة الدالّة للعباد على صحّة توحيده وصدق رسوله. وهذا معنى قوله:
{ { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف:172]. وعليه يحمل قوله: { { أَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة:40]؟
الثاني: أن يُعنى به ميثاقاً أخذه من الناس وهم على صورة الذرّ، وأخرجهم من صلب آدم عليه السلام كذلك، وهو معنى قوله:
{ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الأعراف:172] الآية.
أقول: وهذا عند التحقيق راجع إلى الوجه الأول.
والثالث: أن يُعنى به ما دلّ عليه بقوله:
{ { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر:42]. فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه، ولم يهتدوا، فقد نقضوا عهدهم وميثاقهم.
وهذا مرجوحٌ، لاختصاصه بطائفة مخصوصة يرد عليهم الذم فيما التزموا باختيارهم من أنفسهم، بخلاف الأول، فإنّه عامٌّ في كل من ضلَّ وكفر، ويلزمهم الذمّ لأنّهم نقضوا عهداً أبرمه الله تعالى، وأحكمه بما أنزله من دلائل الآفاق والأنفس، وشواهد الكتب والرسل بالحجج البيِّنة، مع ما أودع في العقول.
قال المتكلِّمون في إنكار الوجه الثاني وإسقاطه: كيف يحتجّ الله تعالى على عباده بعهدٍ وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بما أذهب علمه عن قلوبهم بالسهو والنسيان، فكيف يجوز أن يعييهم بذلك ويذمّهم.
أقول: إنّ الكلام في تحقيق إخراج الذرّية من صلب آدم على صورة الذرّ، عميق خارج عن طور أهل البحث خروجاً شديداً؛ وبعُدت أذهانهم عن دركه بُعداً بعيداً، وقد وقعت الإشارة إليه، حيث ذكرنا أنّ للإنسان أنحاء من البعث والحشر.
واعلم أنّ طوائف العلماء ذكروا في توجيه الخطاب الإلهي والكلام الربّاني إلى المعدوم في حال عدمه وجوهاً:
أحدها: ما ذكره القائلون بثبوت المعدومات، وشيئيّة الماهيّات قبل وجوداتها، كالمعتزلة القائلين بثبوت المعدوم ثبوتاً خارجيّاً، وكبعض المتصوّفة القائلين بثبوته ثبوتاً علميّاً في الأزل، وهو أن الخطاب مع أفراد البشر حين ثبوتها في الخارج أو في علم الله، وقد أُقيمت البراهين على [بطلان] شيئيّة المعدوم في الكتب العقليّة، وزيّف القول بها بما لا مزيد عليه.
وثانيها: ما يبتني إمّا على قول بعض الحكماء القائلين بِقدَم الأرواح الإنسانيّة، أو على القول بتقدّمها على الأبدان بألفي عام، كما ورد في الحديث النبوي - على قائله وآله السلام - وفي رواية
"خلَق اللهُ الأرواحَ قبلَ الأجسامِ بأربعةِ آلاف سنة" وأنّ الخطاب والعهد وقعا على الأرواح الإنسانية قبل تعلّقها بالأبدان العنصريّة.
وهذا أيضاً مقدوح - لدلالة البراهين القائمة على بطلان تقدّم النفوس بأنحاء وجوداتها المختصّة على الأبدان -، فضلاً عن قِدمها.
وقد ذكر معلم الفلاسفة وجوهاً من البراهين على أنّ حدوثها بحدوث الأبدان، وذلك لأنّ المفارقات عن الأجسام وعلائقها لا تغيّر ولا تجدّد لها، ولا تسنح لها حالة غريبة الجأتها عن مفارقة عالم القدس والطهارة، واقليم الخير والسعادة الى هذا المهوى الذي هو منبع الشرور والآلام، ومعرض الأمراض والهموم والأعدام.
وحمل بعضهم الأرواح والأجسام المذكورتين في الحديث المذكور، على الأرواح الكليّة والأجرام الكليّة، ونحن قد علمنا في شرح هذا الحديث، وتعيين المذكور فيه على كلتا الروايتين رسالة على حدة.
وثالثها: قول المحقّقين من أهل التوحيد، وهو أنّ الخطاب بقوله تعالى:
{ { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف:172] في أخذ الميثاق، كان لحقيقة الإنسان الموجودة في العالم الإلهي والصقْع الربوبي، فإنّ لكل نوع طبيعيّ حقيقة عقليّة، وصورة مفارقة، ومثالاً نوريّاً في عالَم الحقائق العقليّة والمُثل الإلهيّة، هي صور ما في علم الله عند الحكماء الربّانييّن والعرفاء الأقدمين، وهم كانوا يسمّونها بأرباب الأنواع، زعماً منهم أنّ كلاً منها مَلَك موكّل بإذن الله، يحفظ باقي أشخاص ذلك النوع الذي هو صورتها عند الله في عالَم الصور المفارقة، والمُثل النوريّة العقليّة، ونسبته إليها نسبة الأصل إلى الفروع، ونسبة النور إلى الأظلال.
والفرق بين الحقيقة الإنسانيّة وسائر الحقائق، بأن كلاّ منها مربوب اسم واحد من الأسماء الإلهيّة، وهذه الحقيقة مظهر الاسم "الله"، المتضمّن لسائر الأسماء ومربوبه، وبأنْ ليس لأفراد غيرها التنزّل عن المرتبة التي هي عليها، ولا الترقّي من مقام إلى مقام، حتى تنتهي إلى الحضرة الإلهيّة، بخلاف هذه الحقيقة الإنسانيّة المستعدّة بصورتها الكونيّة للخلافة الربّانية، وبصورتها العقليّة للوفاء بالميثاق في النهاية، كما للقبول لأخذه وعقده في البداية.
وهذا مما هو محقّق عند القائلين بأنّ للإنسان صعوداً وهبوطاً بحسب تطوّره في الأطوار؛ ففي الهبوط نزل من عالَم القدس والجنّة بأمره تعالى، وقوله:
{ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [البقرة:36]. وفي الصعود يرتقي إلى جوار الله ومقام قاب قوسين ومقام المكالمة الحقيقية، وإلى حيث يقول: "منْ رآني فقَدر رَأى الحقَّ" . ويقول: "لي معَ الله وقتٌ لا يَسعني فيه ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ".
ثم لا يخفى على أولى النهى، أنّا لا نجد ولا ندري انّ الله تعالى ذكر أنّه كلّم أحداً وهو بعدُ لم يجئ إلى عالم الكون، إلاّ بني آدم، فإنّه كلّمهم وهم بعدُ غير موجودين في العالم، وأجابوه وهم لم يتولدوا ولم يحدثوا بعدُ، فجرىٰ لهم بالجود الربّاني ما جرىٰ - لا بالوجود الإنساني - وإلى ذلك المقام سينتهي المنتهى بأن يكون سمعه وبصره ولسانه، كما قال في الحديث القدسي:
"كنتُ له سمعاً وبصراً ولساناً، فبي يسمعُ وبي يبصرُ وبي ينطقُ" ، وإلى هذا أشار الجُنيد حين سئل: "ما النهاية؟" فقال: "الرجوعُ إلى البداية".
وأما معنى قطع هذا الميثاق ونقض العهد الواقع في البداية، فهو أنّ تلك الحقيقة الإنسانيّة الموجودة قبل هذه الأكوان الترابيّة في عالَم الحضرة الربوبيّة، كانت ذات جهات وحيثيّات عقليّة، تضاعفَت عليها من تضاعيف الإشراقات النورية الواجبيّة، وتضاعيف النقائص الإمكانيّة، وكثرة الإزدواجات الحاصلة بين جهات النور والظلْمة، والوجوب والإمكان والكمال والنقصان.
فهذه الجهات العقليّة، هي أسباب كثرة الأكوان لأفراد الإنسان، وهي المعبَّر عنها بالذرّات المستخرجة بحسب الفطْرة، فإنّه استخرج الله من ظهْر آدم ذرّات بَنيه، واستخرج أيضاً من ظهورهم ذريّات ذريّاتهم المودعة فيها إلى يوم القيامة.
إذا تصورت هذا، فاعلم أنّ المستمعين منهم للخطاب، كانوا على ثلاث طبقات: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال؛ وجعل الله لكلّ منهم سمْعاً وبصَراً وفؤاداً - على حسب حاله ومقامه -.
ثمّ نظر إلى السابقين بنظر المحبة، وجعلهم قابلين لنور المحبّة، كما في قوله:
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]. ونوّر سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بأنوار اللطف والكرامة". فلما قال لهم: { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف:172] فسمعوا الخطاب بالسمع المنوَّر، وشاهَدوا الجمال بالأبصار المنَّورة، وأحبّوا لقائه بالقلوب المنوّرة، فأجابوه بلسان المحبّة يقيناً حقّاً، وايماناً وتسليماً، وتعبّداً ورقّاً.
وأمّا أصحاب اليمين، فسمعوا الخطاب بسمع القابليّة، وأبصروا الشواهد بالأبصار الخالية عن الغشاوة، وفهموا تعريف الوحدانيّة بالقلوب الصافية، فأجابوه بلسان الايمان تعبّداً ورِقّاً، وقالوا: { بَلَىٰ } أنتَ ربُّنا ومعبودنا.
وأما أصحاب الشمال، فامتحنوا بإظهار العزّة والعلى، واحتجبوا برداء الغيرة والكبرياء، فسمعوا الخطاب من وراء الحجاب، وعلى السمْع وقْر البُعْد، وعلى الأبصار غشاوة الحجُب الظلمانيّة، وفي القلوب ختم الظُلمة لأنها في أكنّة العزّة، فلم يسمعوه بسمع القبول والطاعة، فأجابوا بلسان الإقرار جبراً واضطراراً، ودهشة وافتقاراً.
فقد انكشف لك أنّ لأفراد البشر قبل ورودهم إلى الدنيا هويّات عقليّة مستخرجة من ظهر أبيهم العقلي، فتجلّى الله عليهم قبل وجودهم، وربَّاهم، وشاهدوه بَلاهم، وسمعوا خطابه، وأجابوه اقراراً بوحدانيّته وربوبيّته في نشأة سابقة على هذه النشأة لهم.
فصل
واعلم أن لله تعالى عهداً عامّاً أخذه على جميع الموجودات، وهو أن يطيعوه ويعبدوه ويسبّحوه ويعظّموه، لأنّ الكلّ حيٌّ قائم ناطقٌ بحياة سارية في الأشياء من الحيّ القيّوم، ونور يفيض عليها من نور الله الفائض على السموات والأرض. وعهوداً مخصوصة وهي ثلاثة أجناس:
عهد أخذه على جميع ذرية آدم، بأن يقرّوا بربوبيّته لساناً واعترافاً، كما أقرّوا به فطرة وحقيقة وشهوداً عقليّاً، كما أخبر عنه تعالى بقوله:
{ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا } [الأعراف:172].
وعهد خصَّ به النبيّين أن يقيموا الدين، ولا يتفرّقوا، ويبلّغوا الرسالة إلى الخلْق أجمعين، كما في قوله:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ } [الأحزاب:7].
وعهد خصّ به العلماء بأن ينصّوا الحق ولا يكتموه، وهو قوله:
{ وَإِذَ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران:187].
فصل [تأويل قوله تعالى: { مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ }]
الضمير في قوله: { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } راجعٌ إلى العهد.
و"الميثاق" صيغة مصدر أُريد بها ما تقع به الوثاقة، أي الإحكام، والمراد به: أمّا من قِبل الله فبما وثّق الله به عهده من إنزال الآيات والكتب، وأما من قِبلهم فبما وثّقوه من القبول والالتزام والاستعداد، ويحتمل أن يراد بها المعنى المصدري.
وكلمة "مِنْ" ابتدائية، لأنّ إبتداء النقض كان بعد الميثاق، إذ لو كان قبله لم يستحقّوا الذمّ هذا المبلغ، وفيه إشارة إلى أنّ أولئك الضالّين، بعد أن حصّلوا مقدمات علم التوحيد، ووصلوا إلى مرتبة يستعدّوا بها لإدراك المعرفة واليقين، رجعوا إلى مقام الجحود والإنكار طلباً للرياسة والجاه، وترفُّعاً عن قبول التعلّم، وإعراضاً عن سماع الآيات، وانهماكاً في طلب اللذات، حتى صاروا قواطع طريق الحقّ.
فقوله: { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } معناه: إنّهم كانوا يقطعون على من هو بصدد السلوك على طريق الحقّ، والمشي على صراط التوحيد سبيلَهم، بإفساد عقائدهم بالشُبه المضلّة، وانكار المعجزات النبويّة، والقدح في حقّية العلوم الإلهية والآيات، والحال أنّهم أمروا أن يوصلوا طريق الحق والتوحيد، ويصلوا رحم القرابة الإيمانية والرابطة الإلهيّة، فإن للوجود الحقيقي رباطاً وحدانيّاً، وللقرابة المعنويّة الإيمانيّة صلة منشأوها الرحمة الرحمانية، كما أن للوجود الصوري اتّصالاً، وللقرابة الصوريّة صلة منشأوها الرحم الرحمن الانعطافي.
بيان ذلك: أن الإنسان حيث هبَط بأمر الله عن عالَم الوحدة الإلهيّة إلى جنّة أبيه آدم عليه السلام، ثم نزَل بأمر
{ { ٱهْبِطُواْ } [الأعراف:24] إلى أرض البشرية، وانقطَع عن عالَمه الأصلي إلى دار الفرقة والتشتّت. ثمّ هو مأمور بحسب الأمر التكويني والأمر التشريعي، بأن يرتقي عن هذا العالم، ويتجرّد عن قشور الخلقية، ويتخلّص عن علائق الطبيعة، ويستبق الخيرات، ويسابق إلى الجنّة، إلى أن يصل إلى عالَم الرحمة والمعرفة، وهو قوله: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [البقرة:148]. وقوله: { { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الحديد:21]. وقوله: { { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ } [الزمر:54]. وقوله: { ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ } [يوسف:81]. فعند وصول الروح الإنساني إلى درجة أبيه المقدّس، يتّصل آخر دائرة الوجود بأوّلها، ويزول عنه الفرقة الكونيّة باللحمة المعنويّة الوجوديّة.
وكما أن في البداية كان عقلاً، ثمّ نفساً، ثمّ صورة، ثمّ جسما؛ ففي العَوْد إلى النهاية صار بدَناً، ثمّ صورة بشريّة، ثم قلباً معنوياً، ثمّ روحاً منفوخاً إسرافيلياً قائماً بذاته، ناظراً إلى ملكوت الأشياء لقوله:
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر:68]. ثم روحاً إلهياً أمريّاً لقوله: { { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر:29]، وقوله: { { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85].
فهذا تأويل قوله: { مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ }، فما أمرَ الله بوصله، هو عين الروح الأمري الذي أمرنا الله في ايجاده ايّانا أمراً تكوينياً، بأن يصل إلى مقام الروح بالعلم والتقوى، والمعرفة والهدى.
وقيل: يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطيعة الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين والعلماء، والتفرقة بين الأنبياء والكتب في التصديق، وترك الجماعات المفروضة، وسائر ما فيه ترك خير أو تعاطي شرّ، فإنّه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد، المقصودة بالذات من كلّ وصل وفصل.
وهذا عند التحقيق راجع إلى ما ذكر أولاً.
و "الأمر": هو القول الطالب للفعل. وقيل: "مع العلوّ والاستعلاء". واطلاقه على الأمر الذي هو واحد الأمور، تسمية للمفعول به بالمصدر، فإنّه ممّا يؤمر به، كما قيل له: "شأن" وهو الطلب والقصد، يقال: "شأنت شأنه" أي: قصدت قصده.
ثمّ الأمور كلّها في هذا العالَم - عالَم الخلْق - حاصلة بأمره تعالى وقوله، وهو عالم الأمر كلّه، لأن أمره وقوله وكلمته ليس من جنس الأصوات والحروف والحركات؛ بل أمره التكويني جوهر الروح، كما قال:
{ { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85]. { { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء:171]. وما يحصل منه بواسطة أمره التكويني، هو عالم الخلق، وإذا قطع النظر عن ترتيب الوسائط والأسباب، ونسب الكلّ إليه ابتداء، كان كل شيء أمره الايجادي، لعدم المغايرة بين أمره تعالى والمأمور بأمره تعالى في الأمر الايجادي، بخلاف الأمر التشريعي منه، أو الأمر الصادر من غيره، فإنّ الآمر والمأمور به فيهما متغايران، كما وقعت إليه الإشارة سابقاً.
فصل
{ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ }
فسادهم إمّا متعدّ أو لازم:
فالأول: كمنعهم عن طاعة الرسول، واتّباع شريعته (صلى الله عليه وآله)، لأنّ تمام صلاح أهل الأرض بطاعة الله والتزام شرائعه، إذ بهذا الإلتزام يندفع الجور والظلْم، ويبقى الحرْث والنسل، وتُحفّظ الأنواع فيها، ويظهر العدل الذي به قامت السموات.
والثاني: هو عزل القوى عما خلِقت لأجله، وعدم استعمالها فيه، فيجب تمكين الدواعي النفسانيّة، واستيلاء الشهوة والغضب، وغلبة الوهم على العقل، فيفسد في أرض البدن التي خلقت هي وقواها لأن يعبدوا الله فيها وأنابوا إليه.
وقوله: { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }:
يعني: مَن فعَل ذلك فهو الخاسر، وذلك إمّا لأنهم باعوا اللّذات العُلىٰ والسعادات القصوى الباقية بهذه اللّذات الخسيسة البدنية الفانية، أو لأنّ لكل أحد في الجنّة أهلاً ومنزلاً، فإن أطاع الله وجدَه، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله:
{ { إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر:15].
أو لأنّهم خسروا حسناتهم التي عملوها، والآية في اليهود - وكانت لهم أعمال بحسب شريعتهم -، وفي المنافقين - ولهم أعمال ظاهرة عملوها رياء واتّقاء للناس، فحبط ما صنَعوا وباطلٌ ما كانوا يعملون -.
قال القفّال: الخاسر: إسم عامٌّ يقع على من عَمِل عمَلاً لا يجزى عليه، كالرجل إذا عنّى نفسه، وصرف وقته في أمر فلم يأت بنفع قيل: "خائبٌ خاسرٌ"، لأنّه كمن أعطى شيئاً ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه، فسمّي الكفار الذين يسعون في الحياة الدنيا بالمعاصي خاسرين، قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر:2 - 3]. وقال: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [الكهف:103 - 104].
أقول: اعلم أنّ أعظم الخسران خسران النفس، لأنّ وجدان كلّ شيء بعد وجدان الذات وبسببه، فإذا هلكت هلك عنها كل شيء، كما في قوله:
{ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة:29].
وتحقيق ذلك: أنّ الأفراد الإنسانيّة مشتركة في أنّ لكلّ منها نفس مدركة للجزئيات بالوهم والخيال، وهذه النفوس نفوس بالفعل، عقولٌ بالقوة، فإذا خرجت من القوّة إلى الفعل، صارت عقولاً بالفعل بالروح الإضافي المنفوخ فيها من الله، وإنّما تخرج من القوة النفسانية إلى الفعل الروحي الأمري، بمزاولة أعمال دينيّة، وتحصيل علوم حقيقيّة، وللإنسان بإزاء هاتين المنزلتين حياتان أُخرويّتان:
إحداهما: حياة الذين يرزقون عند الله من الأرزاق المعنويّة العلميّة، فرِحين بما آتاهم الله من فضله من الأنوار العقليّة الأبديّة.
وثانيتهما: حياة حيوانية، يدرك بها إمّا نعيم السعداء ممّا تشتهيه الأنفس، أو جحيم الأشقياء مما تتعذّب به النفوس الشقيّة، كما في قوله:
{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ } [هود:105 - 106] الآية.
إذا ثبت هذا فنقول: إنّ الإنسان إذا صرَف قواه في هذه الحياة الدنيا - التي هي حركة مّا جبليّة إلى النشأة الآخرة - إلى غير ما خُلقت لأجله وهو تحصيل الروح الأمري الذي هو باقٍ عند الله -، ثم ضاعت عنه القوة الاستعدادية التي كانت له بمنزلة رأس المال، وانقلبت صورة ذاته إلى أن صار الإنسان أضلّ من الأنعام، وأنزل درجة من الحشرات والديدان، فقد خسر ذاتَه ونفسَه، فهذا هو الخسران المبين.