التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

قوله جل اسمه:
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ
في الكشّاف: الذين يؤمنون: إمّا موصولٌ بالمتّقين على أنّه صفة مجرورة، أو مدحٌ، منصوبٌ أو مرفوعٌ، بتقدير: أعني الذين يؤمنون، أو: هم الذين يؤمنون.
وإمّا منقطعٌ عن المتّقين، مرفوعٌ على الابتداء مخبَرٌ عنه بأولئك على هدى. فإذا كان موصولاً، كان الوقفُ على المتقين حسناً غير تامّ، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تامّا. انتهى.
واعلم أنّه على تقدير كون "الذين" مع ما يليه متّصلاً بالمتقين وصِفةً له، فإن كان المراد بالتقوى ترك ما لا ينبغي، فهو يكون صفةً مقيدةً له، مترتبة عليه ترتّب الفعل على القوّة، وتوقّف التحلية على التخلية، والتصوير على التطهير.
فإنّ النفس الإنسانيّة كاللوح القابل لنقوش العلوم الحقة؛ وهي الإيمان بالله واليومِ الآخر والأخلاقُ الفاضلة التي هي مبادئ الأفعال الحسنة، كالصلاة والزكاة.
فيجب تطهره أولاً بالتقوى عن النقوش الفاسدة حتّى يمكن إثبات النقوش الجيّدة فيه، ويستقرّ حصول الأوصاف الحسنة عليه، فلهذا السبب قدّم ذكر التقوى وهي ترك ما لا ينبغي، ثمّ ذكر بعده فعل ما ينبغي وهو الإيمان والطاعة.
وإن فسِّر التقوى بما يعمّ فعل الطاعات وترك المعاصي، فيكون صفة موضحة للمتّقين، وذلك لاشتماله على ما هو أصل الأعمال الصالحة، كالإيمان بالله وملكوته، فإنّه من امّهات الأعمال القلبيّة؛ وعلى أساس الحسنات كالصلاة والزكاة، فإنهما من أمّهات العبادات البدنية والمالية، المستتبعة لسائر الطاعات، والتجنّب عن المعاصي غالباً، ألا ترَى الى قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت:45].
وقوله عليه وآله السلام: الصلاةُ عمادُ الدين، والزكاةُ قنطَرةُ الإسلام.
تنبيه
[التقوى والمتقين]
غايةُ التقوى، الاتّصال بالحضرة الإلهيّة بترك الالتفات بغير الله، وقطْع النظَر سواه، وهذا هو غاية النشأة الآدميّة ونهاية الكمال الأخروي للروح الإنساني، ولا يمكن تحصيله إلاّ بتكميل القوّة العاقلة من النفس بالعلوم الحقّة، وبتعديل القوّة العاملة منها بالأعمال الحسَنة، ليتحلّى بالفضائل ويتخلّى عن الرذائل.
فالمتكفّل لتكميل الأولى، هو الإيمانِ بالغيبِ، وهو العِلْم بأحوال المبدإ وملائكته وكتبه ورُسله، وأحوال المعاد ومراتبه، وطبقات نفوس الإنسان بحسب درجات الجنان ودركات النيران.
والمتكفّل لتكميل الثانية، هو العملُ الصالح، وأصل الأعمال الصالحة الصلاةُ والزكاةُ، أمّا الأولى، فلاشتمالها على الأذكار والنيّات الحسنة، وهيئات الخضوع والخشوع.
وأمّا الثانية، فلاستلزامها تركَ التعلّق باللذّات النفسانيّة، والمحبوبات الدنيويّة، لأنّ المال وسيلةٌ لأكثرها. وقد قال سبحانه:
{ { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران:92].
فإذا تقرَّر هذا، فقوله: "الذين" مع ما يتلوه، بمنزلة تفسيرٍ كاشفٍ للمتّقين وَحَدٍّ مبيّن له.
[الأقوال في ماهية الإيمان]
ثمّ الإيمانِ بحسب اللغةِ - كما ذكَره صاحب الكشّاف - مأخوذٌ من الأمن؛ ثمّ يقال: آمَنه إذا صدَّقَه، كأن المصدِّق أمِنَ من التكذيب والمخالفة.
وتعديته بالباء، لتضمّنه معنى الاعتراف، وقد يُطلق بمعنى الوثوق كما حَكى أبو يزيد: ما آمنت أن أجد صحابة، أي ما وثقت فهو من حيث أنّ الواثقَ صار ذا أمنٍ، وكلا الوجهين حسَنٌ في: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }.
وأما بحسب الشرع فقد اختلف أهل القبلة في معنى الإيمان في عرف الشرع إلى اربعة مذاهب.
أحدها: إنّه إسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان. وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية واهل الحديث، فهو اسمٌ لمجموع أمور ثلاثة: اعتاقد الحقّ، والإقرار به، والعمل بمقتضاه، فمَن أخلَّ بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخلَّ بالإقرار فهو كافر على رأي. ومن أخلَّ بالعملِ ففاسقٌ وفاقاً، وكافرٌ عند الخوارج، خارجٌ عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.
وروى الخاصُّ والعامُّ عن مولانا عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام): "إنّ الإيمان هو التصديقُ بالقلبِ والإقرارُ باللسانِ والعمَلُ بالأركانِ" وقد روي ذلك عنه أيضاً على لفظ آخر: "الإيمانُ قولٌ مقولٌ، وعملٌ معمولٌ، وعرفانٌ بالعقول، واتّباعُ الرسول".
ثمّ إنّ الخوارجَ اتّفقت على أنّ الإيمان بالله متناولٌ للمعرفة به، وبكلّ ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً او نقلياً، ويتناول طاعته في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك، حتّى الصغائر، فالإخلالُ بشيء من هذه الأمور كفْرٌ.
وأمّا المعتزلة فقد اختلفوا فيه على وجوه:
أحدها: إنّ الإيمان عبارةٌ عن الإتيان بكلّ الطاعات، سواء كانت من الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وسواء كانت واجبةً أو مندبةً، وهو قول واصِل بن عَطاء وأبي هذيل والقاضي عبد الجبّار.
وثانيها: إنّه عبارةٌ عن فعل الواجبات فقط دون النوافل. وهو قولُ أبي هاشم وأبي علي.
وثالثها: إنّه عبارة عن اجتناب كلّ ما جاء به الوعيد.
وأما أهل الحديث: فذكروا وجهين:
الأول: إنّ المعرفة ايمانٌ كاملٌ، وهو الأصل، ثمّ بعد ذلك كل طاعة ايمان على حِدةٍ، وهذه الطاعات لا يكون شيءٌ منها ايماناً إلاّ إذا كانت مرتّبةً على الأصل الذي هو المعرفة، وكذا القياس في جانب مقابله: أعني الكفر، وهو قول عبد الله بن سعيد الكُلاّب.
الثاني: زعموا أنّ الإيمان اسم للطاعات كلّها، وهو إيمانٌ واحدٌ، وجعلوا الفرائضَ والنوافلَ كلَّها من جملة الإيمان، ومنهم من قال: الإيمانُ اسمٌ للفرائض دون النوافل.
وثانيها: إنّ الإيمان بالقلب واللسان معاً، وقد اختلف أهل هذا المذهب على أقوالٍ.
الأول: إنّه إقرارٌ باللسان ومعرفةٌ بالقلب، وهو قولُ أبي حنيفة وعامّة الفقهاء. ثمّ هؤلاء اختلفوا في موضعين.
أحدهما: في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً، أو علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون أنّ المقلّد مسلم، ومنهم من فسَّرها بالعلْم الصادر عن الاستدلال.
والثاني: في متعلّق هذا العلْم، فقال بعضُ المتكلمين: هو العلْم بالله وصفاتِه على سبل الكمال والتمام.
ثمّ لما كثُر الاختلافُ بينهم في الصفات، واقدمت كلُّ طائفةٍ على تكفير من عداها، قال أهل الإنصاف: المعتَبر هو العلْم بكل ما عُلِم بالضرورة من دين محمد (صلّى الله عليه وآله).
القول الثاني: إنّه التصديقُ بالقلبِ واللسان معاً، وهو قول أبي الحسن الأشعري، وبشر بن غياث المريسي، والمراد بالتصيدق بالقلب: الكلامُ القائم بالنفس.
القول الثالث: قولُ جماعةً من الصوفية: إنّه إقرارٌ باللسان وإخلاصٌ بالقلب.
وثالثها: إنّه عبارة عن عمَل القلب وأصحاب هذا المذهب اختلفوا على قولين:
أحدهما: إنّه معرفة الله بالقلب، حتّى انّ من عرف الله بقلبه ثمَّ جحَد بلسانه ومات قبل التوبة، فهو مؤمنٌ كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صفوان، أما معرفة الكتاب والرسل واليوم الآخر فقد زعَم إنّها غير داخلةٍ في حدّ الإيمان.
وحكى الكعبيُّ عنه: أنّ الإيمانَ معرفةُ الله مع معرفة كلّ ما عُلم بالضرورة إنّه من دين محمد (صلّى الله عليه وآله).
وثانيهما: إنّه مجرد التصديق بالقلب، وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.
ورابعها: إنّه إقرارٌ باللسان فقط، وأصحابُه فريقان:
الأولى: قالوا: إن الإقرارَ باللسان هو الإيمانُ فقط، لكن شرط كونه ايماناً حصول المعرفة، فالمعرفة شرطٌ لكون الإقرار باللسان ايماناً، لا انّها داخلة في مسمّى الايمان. وهو قول غَيْلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبيُّ قد أنكر كونه قولاً لغيلان.
الفرقة الثانية قالوا: إنّ الإيمانَ مجرّد الإقرار باللسان، وهو قول الكرّامية، وزعموا أنّ المنافقَ مؤمنٌ بالظاهر، كافرٌ بالسريرة، فثبت له حكمُ المؤمنين في الدنيا وحكْم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمّى الإيمان في الشرع حسبما وُجِد في كتب الكلام وغيره.
اشارة فيها انارة
[ماهية الإيمان وانه مجرد العلم والتصديق]
أعلم إنّ الإيمان وسائر مقامات الدين ومعالم شريعة سيد المرسلين (عليه وآله السلام)، إنّما ينتظم من ثلاثة أمور: معارفٌ وأحوالٌ وأعمالٌ. فالمعارفُ هي الأصول، وهي تورث الأحوالَ، والأحوالُ تورث الأعمالَ. أما المعارف، فهي العلم بالله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما الأحوال، فكالانقطاع عن الأغراض الطبيعيّة، والشوائب النفسانيّة، والوساوس العاديّة، كالشهوةِ والغضبِ والكِبْر والعُجب، ومحبّة الجاه والشهرة وغير ذلك. وأما الأعمال، فكالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والطوافِ والجهادِ وفعْلِ ما أمره الله به وتركِ ما نهى عنه.
فهذه الثلاثة إذا قيس بعضُها الى بعضٍ، لاحَ للناظرين الى الأشياء بالنظر الظاهر، المقتصرين على إدراك النشأة الحسيّة، أنّ العلوم تُراد للأحوالِ، والأحوالُ تراد للأعمال، فالأعمالُ هي الأصل عندهم، والأفضل في نظرهم.
وأما أرباب البصائر، المقتبسين أنوار المعرفة من مشكاة النبوّة لا من أفواه الرجال، المستفيضين أسرار الحكمة الحقّة من معدن الوحي والرسالة، لا من مقارعة الأسماع بالقيل والقال، فالأمر عندهم بالعكس من ذلك، فإنّ الأعمالَ تُراد للأحوال، والأحوالَ للعلوم، فالأفضلُ العلومُ، ثمّ الأحوالُ، ثم الأعمال. فإنّ لوح النفس كالمرآة، والأعمالُ تصقيلها وتطهيرها، والأحوالُ صقالتها وطهارتها، والعلومُ صوَرها المرتسمة فيها.
فنفسُ الأعمال - لكونها من جنس الحركات والانفعالات - تتبعها المشقّةُ والتعبُ، فلا خير فيها إذا نُظر اليها لذواتها. ونفس الأحوال - لكونها من قبيل الأعدام والقُوى - فلا وجود لها، وما لا وجود له فلا فضيلة فيه، وإنّما الخيرُ والفضيلةُ لما له الوجودُ الأتمّ والشرف الأنور، وهي الموجودات المقدّسة والمعقولات الصوريّة المجرّدة عن التغيّر والزوال، والشرّ والوبال. كالباري وملائكته العلويّة، والأرواح المطهّرة الإنسيّة، والحضرة الإلٰهيّة، والحظيرة القدسيّة.
ففائدةُ إصلاح العملِ إصلاحِ القلب. وفائدةُ إصلاح القلب، أن ينكشفَ له جلالُ الله في ذاته وصفاته وأفعاله.
فأرفعُ علوم المكاشفة هي المعارف الإيمانيّة ومعظَمها معرفةُ الله ثمّ معرفة صفاتِه وأسمائِه، ثمّ معرفة أفعاله، فهي الغاية الأخيرةُ التي يُراد لأجلها تهذيبُ الظواهر بالأعمال، وتهذيبُ البواطن بالأحوال، فإنّ السعادة بها تنال، بل هي عين الخير والسعادة واللذة القصوى.
ومقابلها وهو الجهل بها، محضُ الشرّ والشقاوةِ والألم الشديد، ولكن قد لا يشعر القلبُ في الدنيا بأنّها عين السعادة، ولا قلب من اتّصف بالجهل بحقائق الإيمان بأنّه محض الشر والألم، وانّما يقع الشعورُ بتلك السعادة وهذه الشقاوة في الدار الآخرة، التي فيها أعلنت السرائر، وأبطنت الظواهر، ونُشرت الصحائف، وبُعثِر ما في القبور وحُصِّلَ ما في الصدور.
فالعلْم بالإلٰهيّات هو الأصل في الإيمان بالله ورسولِه، وهو المعرفة الحرّة التي لا قيد عليها ولا تعلّق له بغيرها، وكل ما عداه عبيدٌ وخدمٌ بالإضافة، فإنما يراد لأجلها، وهي أيضاً معطى أصولها، ومثبِت موضوعاتِ مسائلها ومحقّق مبادئ براهينها وغايات مطالبها.
ولمّا كانت سائر العلوم لأجلها، كان تفاوتها في الفضيلة بحسب تفاوت نفعها بالإضافة الى معرفة الله، فإنّ بعضَ المعارف يفضي الى بعضٍ إما بواسطة أو بوسائط، حتّى يتوسل بها الى معرفة الله، كما انّ الأعمال والأخلاق يفضي بعضُها إلى بعض حتّى ينجزّ الى تصفية الباطن بالكليّة.
فمن العلوم كلّما كانت الوسائطُ بينه وبين معرفة الله أقل، كان أفضل، كما انّ من الأعمال كلّما كانت الوسائط بينه وبين تصفية القلب أقل، كان أزكىٰ.
وأمّا الأحوالُ - أعني صفاءَ القلب وطهارته من شوائب الدنيا وشواغل الخلق - فيعني بها استحقاقه لحصول نور المعرفة، واستعداده لانكشاف حقيقة الحقّ وصورة الحضرة الإلٰهيّة، حتّى إذا تمّت طهارتُه، وصقلت صفحةُ وجهه، واجَهته أنوارُ الكبرياء، وحضرَت عندَه وانكشفت لديه حقائقُ الأشياء.
فقد ثبت انّ وجوب الأعمال الصالحة وترك القبائح، لأجل إصلاح القلب وجلْب الأحوال، وتفاوتها في الفضيلة إتياناً وتركاً، بقدر تأثيرها في تطهير القلب وتهذيبه وإعداده لأن تحصل له المعرفةُ الإلٰهيّة والعلوم الكشفيّة.
وكما انّ تصقيل المرآة يحتاج الى أعمال تتقدّم على تمام أحوال المرآة في صفائها وصقالتها، وتلك الأعمال بعضُها أقرب إلى الصقالة التامّة من بعض، فكذلك الأعمال المورثة لأحوال القلب، تترتّب في الفضيلة ترتّب الأحوال، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب، هي أفضل مما دونها لا محالة بحسب قربها من المقصود الأصلي.
فكلّ عملٍ، إما أن يجلب الى القلبِ حالةً مانعةً من المكاشفة، موجبةً لظلمة القلب، جاذبةً الى زخارف الدنيا. وإما أن يجلب إليه حالةً مهيّئة للمكاشفة، موجبةً لصفاء القلب وقطع علاقته عن الدنيا، واسم الأول في عرف الشرع: المعصية، سواء كان فعلاً أو تركاً، واسم الثاني: الطاعة، فعلاً كان أو تركاً.
والمعاصي، من حيث تأثيرها في ظلمة القلب وقساوته، متفاوتةٌ، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته، فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها. وذلك يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص. فربما كان قيام الليل لأحدٍ أفضل من إيتاء الصدقات المتبرّعة، وربما كان الأمر بالعكس من ذلك، وربما كان صوم ستّين يوماً أفضل في باب الكفّارة من عتق رقبة، كما للسلاطين والأمراء من أهل الدنيا.
فإذا تقرّرت هذه المقدّمات، فقد عُلم أنّ الأصل في الإيمان هو المعرفة بالجنان، وأما العملُ بالأركان، فإنّما يعتبر لتوقّف المعرفة على إصلاح القلب، وتهذيب الباطن، وتلطيف السرّ، وتوقّفها على فعل الحسنات وترك السيّئات.
ومما يدلّ على أنّ الإيمان مجرّد العلم والتصديق وحده أمور:
الأول: أنّه تعالى أضَاف الإيمان الى القلب فقال في حق المؤمنين:
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22]. وفي حقّ المنافقين: { { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [المائدة:41]. { { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14] وقوله: { { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [النحل:106].
وقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
"الإيمانُ سرٌّ - وأشار الى صدره - والإسلام علانية" .
الثاني: إنّه تعالى كثيراً ما ذكَر الإيمانَ وقرنَ به العملَ الصالحِ، ولو كان داخلاً فيه لكان ذكُره تكراراً.
الثالث: إنّ كثيراً ما ذكَر الإيمانَ وقرَنه بالمعاصي قال:
{ { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام:82]. وقوله: { { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } [الحجرات:9].
واحتجّ ابن عباس على هذا المطلب بقوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [البقرة:178] من ثلاثة أوجه:
أحدها: إنّما يجبُ القصاصُ على القاتلِ المتعمِّد، ثمّ إنّه خاطَبه بالإيمان، فدلّ على أنّه مؤمن.
وثانيها:
{ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } [البقرة:178]. وهذه الأخوّة ليست إلا أخوّةُ الإيمان لقوله تعالى: { { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات:10].
وثالثها: قوله:
{ { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة:178] وهذا لا يليق إلاّ بالمؤمن، ومن هذا القبيل قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } [الأنفال: 72] جعلهم مؤمنين مع عظيم الوعيد في ترك الهجرة بقوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ } [النساء:97]. إلى قوله: { { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } [الأنفال:72].
ومنه ايضاً قوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } [الأنفال:27] وقوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [التحريم:8]. إلى غير ذلك من الآيات التي تجري هذا المجرى.
الرابع: إنّه تعالى قال:
{ { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [البقرة:256] يدلّ على أنَّه من الأمور الإعتقاديّة التي لا يمكن تحصيلها بالجبر والإكراه.
وكذا قوله (صلّى الله عليه وآله):
"ليس الدين بالتمنّي" يعلم أنّه ليس أمر اختياريّاً، ولو كان من باب الأعمال البدنيّة كالصلاة والصيام، لأمكن تحصيلُه في شخصٍ آخر بالجبر، وفي الشخص نفسه بالتمنّي.
الخامس: إنّ العلم والتصديق اليقيني غير قابل للزوال والتغيير، فهو المتعيّن بأن يكون أصلاً في الإيمان.
السادس: إنّ الإيمان في أصل اللغة بمعنى التصديق والإذعان، فلو صار في عرْف الشرع لغير هذا المعنى، لزم أن لا يكون عربيّاً، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيّاً.
وأيضاً لو صار منقولاً عن معناه ومسمّاه الأصلي، لتوفّرت الدواعي على معرفة ذاك المسمّى، ولاشتهر وبلَغ الى حدّ التواتر، وليس كذلك فعُلِم أنّه باقٍ على أصل الوضع.
وأيضاً: لا خلاف لأحدٍ في أنّ لفظَ الإيمان اذا عدّي بحرف الباء، كان معناه التصديق، كما هو في اللغة، فوجَب أن يكون المعدّى كذلك، لا يقال: هذا إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز، كما ثبت في علم الاصول، لأنّا نقول: ليس كذلك، بل هذا استنباط المعنى الأصلي من موارد الاستعمال، إذ التعدية بالحرف لا تغيِّر أصل المعنى المصدري بل تزيده كمالاً وقوةً.
وأمّا المعتزلةُ، فقد اعترفوا أنّ الإيمان اذا عدّي بالباء. كان المراد به التصديق كما في أصل اللغة، ولذلك إذا قيل: "فلانٌ آمَن بالله وبرسوله" يكون المراد عندهم أيضاً مجرد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: "فلانٌ آمَن بكذا" إذا صام أو صلّى، وأما إذا ذُكر مطلقاً بلا تعدية، فقد زعموا أنّه منقول من المسمّى اللغوي الى معنى آخر، وهذا تحكّم محضٌ كما لا يخفى.
فصل
[درجات الإيمان ومراتبه]
فالمذهب المنصور المعتضَد بالبرهان، أنّ الإيمان في عرف الشرع هو التصديق بكل ما علُم بالضرورة من دين نبيّنا (صلّى الله عليه وآله). لكن قد يسمّى الإقرار ايماناً كما يسمّى تصديقاً، إلا انّه متى صدَر عن شك أو جهلٍ كان ايماناً لفظيّاً لا حقيقياً، ومن هذا القبيل تقسيم المنطقيّين القضية - وهي الحكم بثبوت أمرٍ لآخر - الى قضيّةٍ معقولة، والى قضيّة ملفوظة.
وقد تسمّى أعمال الجوارح ايماناً استعارة وتلويحاً، كما تسمّى تصديقاً لذلك، كما يقال: فلان يصدق أفعالُه مقالَه"، والفِعلُ ليس بتصديقٍ باتّفاق أهل اللغة، فالإيمان من الألفاظ المشكّكة التي يتفاوت معناها في الشدّة والضعف، والكمال والنقص، فهو منقسم الى حقيقيّ ومجازيّ، باطنيّ وظاهريّ، بل ينقسم كما أشار اليه بعض العرفاء، الى لُب ولبّ لب، وقِشرٍ وقشرِ قشرٍ وهذا بعينه كانقسام الإنسان الى هذه المراتب، فإن الإيمان من مقامات الإنسان في إنسانيّته.
وقد يمثّل هذا تقريباً للأفهام الضعيفة بالجَوْز، فإنّ له قشرين؛ الأعلى والأسفل، وله لبٌّ وللُّبِّ دُهن، وهو لب لبِّه.
فالمرتبة الأولى من الإيمان: أن يقول الإنسانُ كلمةَ الشهادة، ويعترف باللسان وقلبُه غافل عنه، أو جاحد له، كما للمنافقين.
والثانية: أن يصدّق بمعنى هذه الكلمة، وبكلّ ما هو معلومٌ بالضرورة من الدين، كتصديق عامّة المسلمين، وهذا اعتقاد ليس بيقين.
والثالثة: أن يعرف هذه المعارف الإيمانيّة، ويصدّق بها عرفاناً كشفياً، أو تصديقاً برهانيّاً وعلماً يقينيّاً بواسطة نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، وهو المشار اليه في قوله:
{ { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [الحديد:12]. وهذا هو الإيمان الحقيقي، الذي سأل رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) حارثة الأنصاري عن بيان حقيقته لمّا قال: إنّي أصبحتُ مؤمناً حقاً، فقال (صلّى الله عليه وآله): لِكلِّ حق حقيقة، فما حقيقةُ ايمانك؟
فأجاب بقوله: عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا بما فيها، فاستوى عندي حجَرها وذهِبها. فكأني أرى أهل الجنّة يتزاورون، وأهل النار في النار يتعاوَون. وكأنّي أرى عرش ربّي بارزاً.
فصدّقه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقال: أصبتَ فالزم.
والرابعة: أن يستغرق الإنسان في نور الحضرة الأحديّة بحيث لا يرى في الوجود إلاّ الواحد القهّار، فيقول بلسان حاله وايمانه: لِمَن المُلكُ اليَوم؟ ثمّ يجيب عنه بلغة توحيده وعرفانه: لله الواحدِ القهّارِ. وهذا المقام لا يحصل لأحد ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا إلا للكمّل من العرفاء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة على بواطنهم.
فصاحب المقام الأوّل، مؤمنٌ بمجرّد اللسان في عالَم الأجسام ونشأة الحواس، وفائدة ايمانه ترجع اليه في هذه النشأة، إذ يحقن دمه من السيف والسنان، ويعصم ماله وذراريه من النهب والسَّبي.
وصاحب المقام الثاني، مؤمنٌ بمعنى أنّه معتقدٌ بقلبه مفهومَ هذا اللفظ، وقلبُه خالٍ عن التكذيب، وهو عقد على القلب وليس فيه انشراح القلب لنور المعرفة، ولا انفتاحُ رَوْزَنَته لعالَم الملكوت الغيبي المقابل لهذا العالم، عالم المُلك والشهادة.
وفائدته انّه يصير منشأ بعض الأعمال الصالحة، ومبدأ بعض الخيرات وأداء الأمانات وفعل الحسنات، التي ينجرّ تارة أخرى الى اصلاح القلب وتصفيته وليستعد لحصول المعرفة على وجه أكمل؛ حتى ينتهي الى الإيمان الحقيقي.
فعلى هذا صحّ القولُ بأنّ الإيمان هو المبدأ والغاية، فإنّ الإيمانَ والعمل الصالح كلٌّ منهما يدور على صاحبه، فكلّ إيمان موجبٌ لصالح من العمل، وكل صالحٍ من العَمل ينجرّ الى حصول ضَرْبٍ من الإيمان، فيدور كلٌّ منهما على نفسه دوراً غير مستحيل، لتغايره بالعدد.
لكن الإيمان أول الأوائل في الحدوث، وهو أيضاً آخرُ الأواخر في البقاء.
ثمّ لهذا العقد الإيماني الذي كلامنا فيه، شُبه وحِيلٌ يُقصَد بها تحليلُه وتوهينُه تسمّى "بدعة"، وله أيضاً حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتوهين، ويقصد بها إحكام هذه العقدة وشدّها على قلوب المسلمين، ويسمّى كلاماً والعالِم بها متكلّماً. وهو في مقابلة المتبدَع، ومقصدُه دفعُ المبتِدَع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوامّ.
وصاحب المقام الثالث مؤمنٌ، بمعنى أنه بصيرٌ بحقائق الأمور الإيمانيّة بصيرة قلبيّة ومشاهدة عقليّة. إذ قد انكشفت له أسرار الملكوت وخفايا عالَم الغيب والجبروت. لا انّه مكلَّف بعقد قلبه على مفهوم هذه الألفاظ، فإنّ ذلك رتبة العوام والمتكلّمين، إذ لا يفارق المتكلّمُ العاميّ في أصل الاعتقاد، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي يدفع به حيَل المبتدِعة في تحليل هذه العقدة.
وصاحب المقام الرابع مؤمن، بمعنى أنّه لم يحضر في شهوده غير الواحد القهّار مبدأ الأشياء وغايتها، وأولها وآخرها، وظاهرها وباطنها، الذي إليه ترجع عواقبُ الأمور، وبه ينقطع سير السائرين وسفَر المسافرين، وهذه المرتبة في الإيمان هي الغايةُ القصوى التي لا حدّ لها ولا منتهى.
والتمثيل لمراتب الإيمان والتوحيد بقِشْرَي الجوز ولُبيه على هذا الوجه، ذكره صاحب كتاب إحياء العلوم بأدنى تغيير ثمّ قال:
فالأول كالقِشرة من العُليا الجوز، والثاني كالقشِرة السُّفلى، والثالث كاللبّ، والرابع كالدُهن المستخرَج من اللبّ.
وكما أنّ القشرة العليا لا خير فيها، بل إن أُكِل فهو مُرّ المذاق، وإن نُظِر الى باطنه فهو كريه المنظَر، وإن اتخّذ حطباً أطفأ النار وأكثَرَ الدخان، وإن تُرك في البيت ضيَّق المكان، فلا يصلح إلاّ أن يترك مدّة على الجوز للصَّوْن ثمّ يرمى؛ فكذلك التوحيد بمجرّد اللسان عديمُ الجدوىٰ، كثيرُ الضررِ، مذمومُ الظاهرِ والباطن، لكنّه ينفع مدّةً في حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت، والقشرة السفلى هي القالب والبدن وتوحيد المنافق يصون بدنَه عن سيف الغُزاة، فإنّهم لم يؤمَروا بشَقِّ القلوب، والسيفُ انام يسلب الجسم وهو القِشر، وإنّما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لإيمانه فائدةٌ بعده.
وكما انّ القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة الى القشرة العليا، فإنها تصون اللبّ وتحرسه عن الفساد، وعند الادّخار فإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها ناقصة القدْر بالإضافة الى اللبّ، فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كاشف، كثير النفع بالإضافة الى مجرّد نطق اللسان، ناقص القدْر بالإضافة الى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه، وإشراق نور القلب فيه، إذ ذلك الشرح هو المراد بقوله تعالى:
{ { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [الأنعام:125]، وبقوله تعالى: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر:22].
وكما انّ اللُّبّ نفيسٌ في نفسه بالإضافة الى القشر، فكأنّه المقصود، لكنّه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة الى الدُّهن المستخرج منه. فكذلك ايمان الثالث مقصد عال للسالكين، ولكنّه لا يخلو عن شوب ملاحظة غير الله، والالتفات الى ما سواه بالإضافة الى حال من لا يشاهد سوى الواحد الحقّ.
تكميل فيه دفع
إذا تحققت ماهية الإيمان على هذا الوجه، من كونه ذا مراتب متفاوتة متدرّجة في الشرف والخسّة، فقد علم فائدة قوله تعالى:
{ { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [النساء:136]. فإن الأول ايمانٌ صوريٌّ دنيويٌّ، والآخر معنويٌّ أخرويٌّ.
ولما ثبَت ممّا قرّرناه انّ مراتب الإيمان متعلّقة بمراتب العلم، ومتعاكسة كلّ منهما على الأخرى، فإن استشكل أحد على ما هو المختار عندنا، من أنّ الإيمان هو عبارةٌ عن نفس التصديق والعرفان، وأنّ الأعمال خارجة عنه؛ بأنّا لو فرضنا أنّ أحداً عرف الله بالدليل والبرهان، ولمّا تمّ له العرفانُ ماتَ ولم يجد من الوقت ما يتلفّظ فيه بكلمة الشهادة، أو وجد من الوقت شيئاً لكنه لم يتلفّظ فيه بها، ففي هاتين الصورتين إن حكمتُم بأنّه مؤمنٌ، فقد حكمتم بأنّ الإقرار اللساني غير معتبرٍ في تحقّق الإيمان، وهو خرْقُ الإجماع.
وإن حكمتم بأنّه غير مؤمن، فهو باطلٌ لما بُيِّن، ولقوله (صلّى الله عليه وآله):
"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان" وهذا قلبه طافحٌ بالإيمان فكيف لا يكون مؤمناً؟
فالجواب: بمنع ثبوت هذا الإجماع، والحُكم بايمانه كما فعَله حجة الاسلام الغزالي، فإنّه منَع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكَم بكونه مؤمناً، وأنّ الامتناع عن النُّطق يجري مجرى الأعمال التي يؤتى بها مع الإيمان.
أقول: لا يخفى عليك - بعدما تقدّم من الكلام - أنّ الإيمان القلبيّ - لكونه كمالاً عقليّاً وصورة باطنيّة - لا يحصل إلا عقيب الأعمال الشرعيّة، والأفعال الدينيّة، والرياضات السمعيّة، من القيام والصيام والعبادات والقربات، وهذه الأمور منوطة بالتسليم والانقياد لمن عنده الحجج والبيّنات، والإذعان والاعتراف بما أتى به القادة والرؤساء، من أولي الشرائع والآيات.
فالصورة المفروضة ممّا لا يمكن وقوعُها عقلاً وعادةً، فلا تقدح في الإجماع. بل نقول: الإجماع إنّما انعقد على كُفر من كُلِّف بالإيمان وإظهاره فلم يقبَل، ولم يظهر الكلمة، وهذا ممّا لا شبهة فيه، فإنّه إمّا بصدد الجحود والفتنة في الدين، وإفساد قاعدة المسلمين، وإما بصدد الإباحة والتعطيل، والخروج عن التكاليف الدينيّة، فعلى أي الوجهين يكون كافراً ظاهراً و باطناً.
تنوير عقلي
إعلم أن الحقيقي من الإيمان، هو الذي به يصير الإنسانُ إنساناً حقيقيّاً عقليّاً بعدما كان إنساناً حيوانيّاً، وبه يخرج من القوّة الى الفعل في الوجود البقائي الأخروي، ويتخلّص عن ألم الجحيمِ والتعذّب بالنار، ويتجرّد عن الرقّ والحدثان، وتبدّل الجلود والذوبان، كما قال تعالى في صفة أهل النار:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [النساء:56].
وهذه الحقيقة الإيمانية يعبّر عنها بعبارات مختلفةٍ تسمّى بأسامي متعدّدة في لسان الشرع والعقل.
فتارة يعبر عنه بالنور:
{ { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40] وقوله: { { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [الحديد:12].
وتارةً بالحكمة:
{ { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269]. فكلّ إنسان حكيمٌ مؤمنٌ، وكل مؤمنٍ حقيقيّ فهو حكيم. إذ الحكمة بالحقيقة هي معرفة الأشياء الموجودة كما هي بحسب الطاقة البشريّة، وأصل الموجودات هو الباري وملائكته ورسله وكتبه.
وتارةً بالفقه، قال تعالى:
{ { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } [التوبة:122].
وليس المراد منه معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى الأحكاميّة، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ الأقوال المتعلّقة بها، كما هو عُرف أهل هذه الأزمنة والأعصار اللاحقة بزمان النبي (صلّى الله عليه وآله)، وزمان الأئمة (عليهم السلام).
قال صاحب الإحياء: اسم الفقْه كان في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة، ودقائق آفات النفس، ومفسدات الأعمال، وقوّة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلّع على السعادة الأخرويّة، واستيلاء الخوف على الشقاوة التي بازائها. والذي يوجب التشوّقَ الى الدار الآخرة وسعادتها، ويقتضي الخوفَ والخشَية في القلب عن الحرمان الأخروي والشقاوة الأبديّة، ويوجب إنذار القوم وتخويفهم - كما أشير اليه في الآية المذكورة - هو هذا العلم وهذا الفقْه، دون تفريعات الطلاق، واللعان، والسَّلَم والإجارة.
فذلك لا يحصل به شيء من الرغْبة والرهْبة الأخرويتين، ولا الإنذارُ والتخويفُ، بل التجرّد فيه على الدوام مما يقسّي القلب، وينزع الخشية منه، كما يشاهَد من المتجرّدين له.
وقال تعالى:
{ { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [الأعراف:179] وأراد به معاني الآيات، دون الفتاوى والأقضية.
وقال (صلّى الله عليه وآله):
"لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتّى يمقت الناس في ذات الله، وحتّى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة" .
وروي أيضاً مرفوعاً عن أبي الدرداء مع قوله: ثمّ يُقْبل على نفسه، فيكون لها أشدَّ مقتاً.
وسأل فرقد السبخي الحسنَ البصري عن شيء فأجاب، فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمّك، وهل رأيتَ فقيهاً بعينك؟ إنّما الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربّه، الورع الكافّ عن أعراض الناس، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعته، ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى.
وتارة يسمى الإيمان بعلم الكتاب والسنّة قال تعالى:
{ { يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [الجمعة:2].
ولفظ "العلْم" أيضاً مما وقع التصريف فيه على ما كان بإزائه، فإنّه كان مطلقاً على معنى العلم بالله وبآياته وبأفعاله في عباده وخلْقه، فكان مرادفاً للإيمان والحكمة.
وقد تصرّفوا فيه أيضاً بالتخصيص، حتّى اشتهَر في الأكثر بصنعة المناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهيّة والكلاميّة، فيقال: هو العالِم على الحقيقة، وهو الفحْل: لمن مارَس هذا الفنّ، ومن لا يشتغل به يعدّونه من ضعفاء العقول، ولا يعدّونه في زمرة العلماء. ولم يعلموا أنّ ما ورَد في فضائل العلْم والعالِم أكثرُه في العلماء بالله وصفاته، وبأحكامه في أفعاله.
فأطلقوا "العالِمَ" على من لا يحيط من علوم الدين بشيء سوى رسوم جدليّة ومسائل خلافيّة، فيعدّ من فحول العلماء، مع جهله بحقائق التفسير وغيرها، وصار ذلك فتنة عظيمة في الدين، مهلكاً لخلْقٍ عظيم من الطلَبة والمستعدين.
ومن أسمائه: التوحيد، وهو في اصطلاح الصوفية إسم لحقيقة الإيمان، وفي المشهور وعند الجمهور عبارة عن صنعة الكلام، ومعرفة المجادلة، والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقُدرة على تكثير الأسئلة وتقرير الإلزامات، وايراد الشبهات، وتأليف المناقضات والمدافعات.
ومن هذا المعنى لقّبت طائفة من المتكلمين: أصحاب العدل والتوحيد: وسُمّي المتكلمون: العلماء بالتوحيد، ولعبت بهم الشكوك، وطعن كلّ لاحقٍ منهم لسابقه مع انّه أيضاً لم يأت بشيء يزيد به على السابق.
على أنّ جميع ما هو خاصية هذه الصناعة، لم يكن يعرف شيء منها في العصر الأول. بل كان يشتد النكير من السلفِ على من يفتح أبواب الجدل والمماراة، كما يستفاد من أحاديث أئمتنا سلام الله عليهم أجمعين، حيث وقَع منهم المنعُ من علم الكلام وصنعة المناظرة، إلا على سبيل الضرورة عند مكافحة المتبدِعين.
وأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلّة الظاهرة التي تسبق الأذهان الى قبولها في أول السماع، فلقَد كان ذلك معلوماً للكلّ، وكان علم التوحيد عندهم عبارةً عن أمرٍ آخر يستفاد من القرآن بنحو آخر لا يفهمه أكثر المتكلّمين.
وهذا مقام شريف إحدى ثمراته هي أن يرى الأمور كلّها من الله رؤية يقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، ويترتّب عليه التوكّل والرضا والتسليم لحكم الله وترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم.
ومن أسمائه: العقل المستفاد، وهذا اصطلاح الفلاسفة الموحّدين، والحكماء الإلٰهييّن دون الطبيعيّين والرياضيّين والأطباء والمنجّمين، فإنّهم بمعزل عن هذا المقام ومعرفته.
واسم العقل، من الأسماء المشتركة التي تطلق على معان أخرى، إلاّ انّ الذي استعملته الحكماء في علم النفس، ويعدّ من أسامي مراتب النفس في استكمالاتها من حدّ القوّة الاولى الى حدّ الكمال الأخيرة، هو العقل بالمعنى المرادف فيه معه لفظ "الإيمان" في عرف شريعتنا، وذلك حيث ذكروا انّ للنفس درجات في القوّة والكمال:
إحداها: درجة استعدادها الأول عند خلوّها عن العلوم كلّها، كما للطفل بالنسبة الى الكتابة، وهي المسمى بالعقل الهيولاني، تشبيهاً لها بالهيولى الأولى، الخالية عن الصوَر كلّها بحسب ذاتها.
والثانية: درجة استعدادها الثاني من جهة اطّلاعها على البديهيّات، واوائل العقليّات، فيتهيّأ لإدراك الثواني إمّا بالفكر، أو الحدس، ويسمّى عندهم بالعقل بالمَلَكة.
ثمّ يحصل للنفس بعدها قوّةٌ وكمالٌ، أما القوّة فهي أن يكون بحيث أن يطالع المعقولات المفروغ عنها متى شاءتْ من غير تعمّل وطلب، وهذه هي القوّة القريبة من الفعل، ويسمّى عقلاً بالفعل، وأمّا الكمال، فهو أن تكون المعقولات حاصلة بالفعل مشاهدة، ويسمى العقل المستفاد، وهذان العقلان متعاكِسان في التقدّم والتأخّر من جهة الحدوث والاستمرار، وبقاء الأخير لا يكون إلا في الدار الآخرة، اللهم إلاّ لبعض الكاملين من إخوان التجريد.
وأما أنّه كم ينبغي أن يحصل للنفس الإنسانيّة من تصوّر المعقولات حتّى يقعَ عليه هذا الإسم، اي العقل بالفعل المساوق للعقل المستفاد من جهة الاستمرار الأخروي، ويرجو السعادة العقلية، ويتخلّص من الشقاوة التي بإزائها لمن يتّصف بالجهل المضادّ للعلم اليقيني الإيماني، فقد قال صاحبُ الشفاء: إنّه ليس يمكنني أن انصّ عليه نصّاً إلاّ بالتقريب، وأظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادي المفارقة تصوّراً حقيقياً، وتصدّق بها تصديقاً يقينياً لوجودها عندها بالبرهان، وتعرف العللَ الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكليّة دون الجزئيّة، التي لا تتناهى، وتتقرر عندها هيئة الكلّ ونسب أجزائه بعضها الى بعض، والنظام الآخذ من المبدإ الأول الى أقصى الوجودات في ترتيبه، وتتصوّر العناية وكيفيتها، وتتحقّق انّ الذات المفيدة للكلّ أيّ وجود يخصّها وأيّة وحدة تخصّها، وأنّها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثّر وتغيّر بوجه من الوجوه، وكيف تترتّب نسبة الموجوات اليها.
ثمّ كلما ازداد الناظر استبصاراً، ازداد للسعادة استعداداً، وكأنّه ليس يتبرّأ الإنسان عن هذا العالَم وعلائقه، إلا أن يكون أكّد العلاقة مع ذلك العالَم، فصار له شوقٌ الى ما هناك وعشقٌ لما هناك، فصدّه عن الالتفات الى ما خلفه جملةً، ونقول أيضاً: إنّ هذه السعادة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العلمي من النفس. انتهى كلامه.
وهذه التي ذكرها من المعارف التي لا بدّ للانسان الكامل الإيمان أن يعرَفها، هي بعينها من المقاصد التي يستفاد وجوبُ معرفتها عقلاً من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، على تغايرٍ في الاصطلاح، لا في أصول المقاصد.
وكذا قوله: إنّ هذه السعادة لا تتمّ إلا بإصلاح الجزء العملي، يدلّ على أنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بأن يكون مشفوعاً بالأعمال الصالحة، من الطاعات والعبادات. كالقيام والإمساك عن الطعام، وبذل المال للفقراء، والمجاهدة مع أعداء الدين، وزيارة بيت الله وحضور مناسِك المسلمين، وغير ذلك ممّا ورد في الشريعة الحقّة، فإنّ اصلاح الجزء العملي الذي غايته قطع علائق الدنيا والأغراض النفسانيّة، لا يمكن إلاّ بالعمل الصالح.
فالعمل الصالح وإن لم يكن داخلاً في ما هو المقصود من الإيمان كما توهّم، إلاّ انّه لا بدّ منه في حصول حقيقة الإيمان، أي النور القلبي الذي إذا حصل للإنسان يصير بصيراً بالأمور الغيبيّة والحقائق الملكوتيّة الغائبة عن مشاهدة الحواسّ.
فصل
[الأقوال في المراد من الغيب]
فقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }، إشارة الى ما ذكر، أي أنّهم يصدّقون تصديقاً بالأشياء المرتفعة عن هذا العالَم، والخارجة عن مدركات الحسّ الظاهر، كوجود الباري، والملائكة، واللوح، والقلم، والأمور الأخرويّة من الجنّة والنار، والصراط والحساب والميزان، وتطاير الكتب ونشر الصحف، وأحوال القبر والبعث، وأهوال المحشر وغير ذلك مما لا تستقلّ باثباته عقول الخلائق بأنظارهم الفكريّة، ودلائلهم النظريّة، وإنّما تتكشف بنور متابعة الشريعة، والاقتباس من مشكاة الوحي والنبوّة.
والغيب في اللغة: مصدرٌ أقيم مقامَ اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والمفسّرون ذكروا في قوله: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وجهين:
الأول:- وهو اختيار أبي مسلم الإصفهاني - أن يكون صفة للمؤمنين، معناه انّهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون حال الحضور، لا كالمنافقين الذين
{ { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة:14].
ونظيره قوله:
{ { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [يوسف:52] ويقول الرجل لغيره: نِعمَ الصديق لك فلان بظهْر الغيب، فكلّ ذلك مدح للمؤمنين بأنّ ظواهرهم تُوافِق بواطنَهم، ومباينتهم لحال المنافقين الذين { { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [آل عمران:167].
أقول: هذا القول لا يخلو من ضَعف ورَكاكة، فإنّ سَوق الكلام في هذا المقام من التأكيد في بيان عظمة القرآن بكونه كتاباً من عند الله، وعِلماً إلهياً لا يحويه الشكّ، وحقاً لا يأتيه الباطلُ، ونوراً يهتدي به المتّقون في طريق الآخرة وسبيل النجاة، ممّا يدلُّ دلالةً واضحة على أنّ الخطْب فيه أعظم من أن يوصف أهلُه، والحاملون لأسراره والمستبصرون بأنواره في عالّم الملكوت، بأنّهم ليسوا عند الاهتداء به والإيمان بحقائقه منافقين ولا مستهزئين، بل هم أجلّ قدراً وأعظم شأناً من أن يقال في مدحهم: إنّهم ليسوا من حزب المنافقين والشياطين.
والقول الثاني: وعليه جمهور المفسّرين: إنّ الغيب هو أن يكون غائباً عن الحاسّة. والحقّ هو القول الثاني كما لا يخفى. لكن أصحاب هذا القول ذكروا انّ الغيب ينقسم الى ما عليه دليل والى ما ليس عليه دليل، فالمراد من هذه الآية هو الثاني.
ويدخل فيه العِلم بالله وبصفاته، والعِلم بالآخرة، وبالنبوّة، وبالشرائع والأحكام. وسبب كون العِلم به مدحاً للمؤمنين، أنّ في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة، فيصلح أن يكون سبباً للثناء والتعظيم.
أقول: وفيه ما لا يخفى من التعسّف، لما علمت من أنّ اصل الإيمان الحقيقي نور من أنوار الله الفائضة على باطن الإنسان، وهو كمال حقيقي وسعادة حقيقية يوجب الثناء، لا لأنّ في تحصيل العلوم المتعلّقة بها مشقّة، بل لأنّه الغاية التي لأجلها خُلِق الإنسان بل بني العالَم والأكوان، وما يترتّب عليه من الأجر والثواب مما لا يسع في الميزان ولا يحويه الحساب، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، بخلاف ثواب الأعمال وميراث الأفعال، فإنّ لها حدّاً معدوداً، وثواباً معلوماً، وقدراً موزوناً يشاهِده كلُّ أحدٍ في ذلك اليوم.
ظلمات وهمية تزاح بأنوار عقلية
إنّ القائلين بالقول الأول احتجّوا بوجوه:
الأول: إنّ قوله:
{ { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة:4] فيه ايمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }، هو الإيمان بالأشياء الغائبة، لكان المعطوف عين المعطوف عليه، وأنّه غير جائز.
الثاني: إنّه لو حملناه على الإيمان بالغيب، يلزم القول بأنّ الإنسان يعلم الغيب وهو خلاف قوله:
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام:59]. وكذا الآيات النافية لكون الإنسان عالِماً بالغيب، أما لو فسّرناه بما قلنا، فلا يلزم هذا المحذور.
الثالث: إنّ إطلاق الغيب إنّما يجوز على ما يجوز عليه الحضور، فعلىٰ هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله وصفاته، فلو كان المراد من الآية الإيمان بالغيب بهذا المعنى، لمَا دخل فيه الإيمان بالله وبصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان باليوم الآخرِ، وذلك باطلٌ، لأنّ الركن العظيم في الإيمان، هو الإيمان بذات الله وصفاته. فحمْل اللفظ على هذا المعنى فاسدٌ.
والجواب أما عن الأول: فبأنّ قوله: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }، يتناول الإيمان بالغائبات إجمالاً، وقوله: والّذين، مع ما يتلوه، يتناول تفصيل بعضها؛ وهذا من باب عطف التفصيل على الجملة، كما في قوله:
{ { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة:98].
وأما عن الثاني: فبأنّه لا نزاع في أنّا نؤمن بالأشياء الغائبة عنّا، وكان ذلك التخصيص لازماً في الآيات الدالّة على نفي العلم بالغيب عن الإنسان على أيّ وجه كان، فنقول: الغيبُ على ضربين: فمنه ما يتطرق إليه الدليل والبرهان، ومنه ما لا يكون كذلك، فللإنسان أن يعلم من الغيوب ما عليه برهانٌ، بأن يهديه الله إليه بإقامة البراهين، أو يلهمه عليه بنور الحدس الشديد، كيف وقد شاع عند العلماء، أنّ الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلّة.
وأما عن الثالث: فبمنع أنّ لفظ "الغيب" لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، أو لاَ ترى انّ المتكلمين يقولون: هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد، ويريدون بالغائب ذات الله وصفاته؟
وعنه جواب آخر لا نسمح به، لأنّه مما تشمئزّ عنه قلوب جماعة كاشمئزاز المزكوم من رائحة الوَرد، فإن لاستشمام روائح رياحين العالَم القدسي، لا بدّ من أدمغةٍ صافية عن مضارّ الأهوية الرديّة، خاليةٍ عن عفونات أخلاط أهل الدنيا الدنيّة.
توجيهات نقلية
[المراد من الغيب]
قال بعض المفسرين: معنى { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يصدّقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندَب إليه أو أباحه. وقال الحسن؛ معناه: يصدّقون بالقيامة والجنّة والنار، وعن ابن عبّاس: بما جاء من عند الله، وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة: ما غاب عن العباد علمه، وهذا اولى لعمومه. ويدخل ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي (عليه السلام) ووقت خروجه، وأكّد كونه منتظراً بالقرآن والخبر:
أما القرآن
{ { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [النور:55]: الآية. وأما الخبر فقوله لَو لَمْ يَبْق مِن الدّنيا إلا يَومٌ واحد لطوّل الله ذلك اليومَ حتّى يخرجَ رجل من أهل بيتي يوافق اسمه اسمي وكنيته كنيتي، به يملأ الله الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً.
وقيل: الغيب: هو القرآن وهو قول زيد بن حبيش، وكأنه أراد به أسرار القرآن وتأويلات الآيات.
وقيل: المراد بالغيب، هو القلْب، والمعنى: يؤمنونَ بقلوبِهم، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويمكن حمل ما روي عن ابن مسعود من أنه قال: والذي لا الٰه غيره ما آمن أحد أفضل من ايمانٍ بغيب - ثمّ قرأ هذه الآية -، على هذا المعنى. كما أمكن حملُه على كلّ من الوجهين السابقين. أعني قول من جعل قوله: "بالغيب"، صفة للمؤمنين، وحالاً عن ضمير: يؤمنون، كما مرّ، أو عن: المؤمن به، وقول من جعلَه صلةً للإيمان وأوقعه موقع المفعول به، فالباء إمّا للتعدية، أو للمصاحبة، أو للآلية.
قوله جل اسمه: وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ
أما معنى الإقامة للصلاة، فذكروا له وجوهاً:
أحدها: تعديل أركانها، وحفظها من أن يقعَ في فرائضها خلل وفي آدابها زَيغٌ، من أقام العودَ: إذا قوّمه.
وثانيها: إدامتها والمواظبة عليها، كما قال تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [المعارج:23]. مِن: قامت السوق: إذا نفقت، وأقمتها: إذا جعلتها نافقة قال الشاعر:

أقامت غزالةُ سوقَ الضراب لأهل العراقين حَولاً قميطا

لأنّها إذا اديمت وحوفظ عليها، كانت كالشيء النافق الذي يُرغب فيه، وإذا أضيعت، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يُرغب فيه.
وثالثها: التجلّد لأدائها من غَير تهاونٍ ولا فُتور، من قولهم: قام الأمرُ وقامت الحربُ على ساقها، بل من قولهم: قام بالأمر وأقامة إذا جدّ فيه وتشمّر له، وفي ضدّه: قعدَ عن الأمر وتقاعَد عنه.
ورابعها: إقامتها؛ عبارةٌ عن أدائها عبِّر عن أدائها بالإقامة لاشتمالها على القيام، وهو بعض أركانها، عبِّر عنها به، كما عبِّر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح، قالوا: سبّح إذا صلّى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى:
{ { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } } [ص:143].
وإذا نظرت في هذه المعاني، وجدتَها مشتركة في معنى الوجود والايجاد، مع تفاوت في مراتب الكمال والضّعف.
فالأول إكماله، والثاني إدامته، والثالث تأكيده، والرابع تحصيل شيء منه، فالأوْلى حمل الكلام على ما هو أكمل في الثناء، وأشهر وأقرب الى الحقيقة، وأفيد لما هو المقصود بالذات، وهو الحمل على إدامتها من غير خلل في أركانها وشرائطها، ولهذا يوصف الباري، بأنّه قائم وقيّومٌ، لأنه يجب دوام وجوده للأشياء وإدامته للأرزاق.
فمن أدام فعلَها، وراعىٰ حدودَها الظاهرة، - من الفرائض والسنن - وحقوقَها الباطنة - من التوجّه الى الله والعروج بقلبه الى حضرة القدس والخشوع بين يديه، لا كَحالِ
{ { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون:5] - فهو حريٌّ بالمدح والثناء العظيم، والأجر الجسيم، ولذلك ذكر الله تعالى في سياق المدح: { { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [النساء:162]. وفي معرض الذمّ: { { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } [الماعون:4].
وأما معنى الصلاة في أصل اللغة فقيل: إنها الدعاء ومنه الحديث:
"إذا دُعي أحدُكم الى طعامٍ فليُجبْ، فإن كان صائماً فليُصَلِّ. أي: فليَدْعُ له بالبركة والخير" .
وقيل: مشتقّ من الصَّلَى، وهي النار من قولهم: صَلَيْتُ العصا، إذا قوّمتها بالصَّلَى، فالمصلّي يسعى في تعديل ظاهره وباطنه، مثل من يحاول تقويم الخشبَة وإصلاحها بعَرْضها على النار.
أقول: وها هنا سرٌّ لطيف لا يمكنني ضبط عنان القلم عن كشْفه، وهو أنّ الإنسان في بداية الأمر في غاية الجمود والقساوة كالحجارة أو أشدّ قسوة منها، لعدم المناسبة له الى حضرة نور القدس، وإنّما يلين جِلدُه وقلبُه لذكْر الله على التدريج، بواسطة تلطّف سرّه بالرياضات والتلطفيات، وذوبان لحْمه وشحْمه بإذابة التكاليف الدينيّة والعقليّة، حتى يبلغ الى مقام يتسخّن كبدُه بحرارة الشوق والمحبّة، ثم يشتعل زيت قلبه بنار التوبة والندامة، ثمّ يتنوّر مصباحُ روحه بنور الإيمان والمعرفة.
وأصل الكلام وبناؤه؛ على أنّ الموجودات متفاوتة في الوجود وكماليّته، وللإنسان أن يسلك في سبيل الله، ويتدرّج في الدرجات، ويسير من أدنى منازل الوجود الى اعلاها، فيترقّى من أول منازل الموجودات الأرضيّة والمائيّة الى آخر منازل الموجودات الهوائيّة والناريّة كالجنّ والشياطين، ومنها يأخذ في سيره الى منازل الموجودات النوريّة، وهي مراتب الملكوت الأعلى، فلا بدّ من وروده في سيره الباطني أولاً الى نشأة من نشئآت النيران، سواء كان في الدنيا أو في العقبى، كما قال تعالى:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [مريم:71].
فإن ورد عليها في الدنيا، فيقع الخلاص منها، وإلاّ فسوف يعذّب بها في العقبىٰ، ووروده على النار في الدنيا، عبارةٌ عن احتراق قلبِه أولاً بنار التوبة والندم، ثمّ ذوبان جسمه بنار الرياضات والتكاليف الشاقّة، ثمّ اشتعال ذهنه بنار الحركات الفكريّة والانتقالات النفسانيّة، وهكذا حتّى يتجاوزَ من هذه المقامات بقوّة البرهان ونور الإيمان، الى عالَم الأنوار الملكوتيّة، ويتخلّص عن عذاب النيران، ويحل في منازل الجنان ومجاورة الرحمٰن، كما قال تعالى:
{ { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم:72].
فإذا تقرّر هذا، فَلَعَمْري إنّ الصلاة أشدُّ العبادات تأثيراً في تسخين الباطن، وتليين الجُلود والقلوبَ لذكْرِ الله، وتذويب ذهَب الخلاص في كورة الامتحان، لاشتمالها على نارِ الإيمان والمعرفة ونارِ الخوف والخشية للقرب، ونارِ التوبة والندامة، ونارِ الفكر والرياضة النفسيّة والبدنيّة.
وفي الحديث:
"كان يصلّي رسولُ الله وفي صدره ازيز، كأزيز المرجل" .
وقيل: إنّ الصلاة عبارةٌ عن الملازمة من قوله تعالى: { { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } [الغاشية:4]. { { سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [المسد:3] وسمّي الفرسُ الثاني من أفراس المسابقة مصلّيا.
وقال صاحب الكشّاف: الصلاة فعَلَةٌ من صلّى، كالزكاة من زكّى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخّم، وحقيقة "صلّى" حرك الصَّلَوين، لأنّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل للداعي: مصلٍّ، تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد.
واعترض عليه صاحب التفسير الكبير: بأن هذا يفضي الى طعنٍ عظيمٍ في كون القرآن حجّة، لأنّ لفظ الصلاة من أشدّ الألفاظ شهرة، وأكثرها دَوراناً على ألسِنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصَّلَوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، ولو جوّزنا انّها في الأصل ما ذُكر، ثمّ خفي واندرس حتّى صار بحيث لا يعرفه الآن إلاّ الآحاد، لكان مثلُه جائزاً في سائر الألفاظ، ولو جوَّزنا ذلك لما قطعنا بأنّ مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر إلى أفهامنا، لاحتمال أنّه كانت موضوعة لمعانٍ أخر في زمان الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان مرادُ الله تلك المعاني، لكنها خفيت واندرست هي في زماننا كما وقع مثلُه في هذه اللفظة. ولما كان هذا باطلاً بالاجماع، علِمنا أنّ هذا الاشتقاق الذي ذكره مردودٌ باطلٌ انتهى كلامُه.
وفيه ما لا يخفى من التعسّف، فإنّ اشتهار اللفظ في المعنى الاصطلاحي المنقول إليه دون اللغوي المنقول منه، لا يقدحُ في الحكْم بكونه منقولاً بحسب الرواية والضبط من أهل اللغة ولا يوجِب ذلك عدم الاطلاع على معاني الألفاظ القرآنيّة في سابق الزمان، كزمان نزول القرآن، إذ بواسطة ضمّ القرآئن المعلومة لمن تتبّع موارد الاستعمالات اللغويّة، وتتبع معاني ألفاظ المفسّرين وغيرهم الذين كانت أزمنتهم قريبة من زمان الوحي، يحصل اطّلاع تام على معاني هذه اللغات في ذلك الزمان بلا شك.
والصلاة في الشرع عبارة عن أفعالٍ مخصوصة، على وجوه وشرائط مخصوصة. وهذا يدلُّ على أن هذا اللفظ منقولٌ من اللغة الى الشرع.
وقيل: إنّ هذا ليس بنقلٍ، بل تخصيص. لأنه يطلق على الذكْر والدعاء في مواضع مخصوصةٍ.
إشارة
[الصلاة]
إنّ الصلاة المعهودة، من أعظم العبادات الدينيّة والأوضاع الشرعيّة جلالة وقدراً، وأشدّها قرباناً الى الباري، وأوفرها تشبّهاً بفعل المبادي المطيعة لله على الدوام، لاشتمالها على الأعمال العقليّة والبدنيّة، واحتوائها على هيئات الخضوع والتذلّل لله؛ ولهذا كانت واجبة في جميع الشرايع المعظّمة والملل القديمة.
قال أفلاطون الربّاني في المقالة الثانية من كتابه في النواميس: إنّ الصلاة تجمع الإقرار بالربوبيّة، وطاعة العقل في توجه النفس اليه، وتركها استعمال الحواسّ، ونهيها بذلك عن مقتضاها طلباً للروحانيات، وترك الاشتغال بطاعة الجسَد والتخلّي عن المعاصي، والإقرار بالذنب، والمسألة في الصفح.
ألاَ ترى الى الرجل كيف يرفع يديه بالتكبير، وإنّما ذلك استعاذة من شيء خاف ايقاعه به عليه فطلَب الاستقالة منه.
وكان ملك اليونانيّين إذا دخل الأسرى الى بلدانهم، تقدّموا اليهم أن يبسطوا أيديهم بسط التضرّع، لترى العامّة أنّهم على الخوف والذُّعْر من مسيرهم في المدينة.
فأمّا الركوع، فكتمكين الرجلِ من نفسه من حاولَ ضربَ عنقه، فإنّك لا تجد له حالةً أمكَن من الركوع.
وأمّا السجود ووضع الوجوه في مراتب الأقدام، فمن تعمّد ذلك يمحق غضبه، فلهذا كانت فصول الصلاة أغضّ الأشياء من الغضب المؤذي، كما انّ الصوم من أغضّ الأشياء لدفع آفة الشهوة. انتهى كلامه.
مكاشفات عقلية متعلقة بأسرار الصلاة
الأولى: في حكمة وجوب الطاعات وسرّ التكليف بها:
إعلم أنّه لما اقتضت الأسماء الحسنى الإلٰهيّة ظهور آثارها جميعاً في المظاهر الكونيّة، لئلا يتعطّل طرف من الألوهيّة، ظهرت في نوع الإنسان الذي هو أشرف الأكوان، وقد أوجده الله للعبادة كما قال:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]. وطبايع أكثر الناس مجبولة على العدول عن منهج الحقّ، والانحراف عن سَنَن العدل، كما أشار اليه بقوله: { { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ:13]. وقوله: { { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف:103]. وقوله: { { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [المؤمنون:70].
وقد تقرّر بنيان هذا البيان في كثير من الأحاديث القدسيّة والنبويّة، مثل قوله تعالى: كلّكم ضالٌّ الاّ من هَديته فاسألوني الهُدى اهدِكُم، وكلّكم فقير الاّ من أغنيته فاسألوني أرزقكم، وكلّكم مذنب الا من غفرتُه فمَن علِم منكم منّي انّي ذو قُدرةٍ على المغفرةِ فاستغفر غفرتُ ولا ابالي.
فلو أنّ الناسَ أُهمِلوا وطبائعَهم وتُركوا سُدىً، وخُلّيَ بينهم وبين طبائعهم، لتوغّلوا في الدنيا، وانهمكوا في اللّذات الجسمانيّة، وطلبوا دواعي القوى الظلمانيّة لِضراوتهم واعتيادهم بها من الطفوليّة والصِّبىٰ، حتّى زالت استعداداتهم، وانسلخوا عن رتبة الإنسانيّة فمُسخوا ومُثّلوا بالبهائم والسباع، كما قال تعالى:
{ { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة:60] وإن حوفظوا ودُعوا بالسياسات الشرعيّة والعقليّة، والحِكم والآداب النبويّة، ترقّوا وتنوّرت بواطنُهم بنور الملَكية كما قال الشاعر:

هي النفسُ ان تهمل تلازم خساسةً وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج

فلهذا وُضعت العبادات، وفُرض عليهم تكرارُها في الأوقات المعيّنة، ليزول بها دَرَن الطبائع المتراكمة في أوقات الغفَلات، وظُلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتّخاذ اللذات، وارتكاب الشهوات، وتتنوّر بواطنُهم بنور الحضور، وتنبعث قلوبُهم بالتوجّه الى الحقّ عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتنشرح صدورُهم وتستريح بروح الرَّوح، وحبّ الوحدة عن وحشة الهوىٰ وتفرّق الكثرة، كما قال (صلّى الله عليه وآله): "الصلاة الى الصلاة كفّارةُ ما بينهما من الصغائِر ما اجتُنِبَت الكبائر" .
ألاَ ترى كيف أمرهم عند الحدَث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير البدن بالغُسل، وعند الحدَث الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيويّة في ساعات الليل والنهار بالصلَوات الخمس المزيلة لكدورات مدرَكات الحواسّ الخمس الحاصلة للنفس منها كلٌّ بما يناسبه.
وكذلك وضَعوا بإزاء تفرقة الأسبوع، وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب والملابِس البدنيّة والملاذّ الجمسانية، اجتماع قومٍ على العبادة والتوجّه، لتزولَ وحشةُ التفرقة بأنس الاجتماع والحضور، ويحصلَ بدلَ ظلمةِ النفرة نورُ المحبّة الايمانية، ويرفعَ عنهم ظُلمةَ الاشتغال بالأمور الجزئية، والإعراض عن الحقّ من جهة الأغراض المختصّة الشخصيّة.
وهكذا الحال في أكثر التكاليف، إذ مرجع الغرض في أكثرها الى تصفية القلب عن ظلمة الدنيا، وتجريد الباطن عن كدورة الطبيعة ودَرَن اللذات الجسمانيّة، وتخليص العقل عن طاعة الهوى والشيطان بنور طاعة الحقّ بالايمان.
مكاشفة اخرى
في لميّة وجوب الصلاة مطلقاً من بين العبادات على عامّة الناس بوجهٍ عقلي
لمّا علِم الشارعُ انّ جميع أفراد الإنسان لا يرتفعون عن حضيض البشريّة، ولا يرتقون في مدارج العقل الى درجة الملَكيّة بحسب المعرفة والإخلاص، فلا جرَم سوّىٰ لهم رياضة بدنيّةً، وساسَهم سياسةً تكليفية، تخالف أهواءَهم الطبيعيّة، وحفظ لهم الصورةَ الإنسانية، وراعىٰ فيهم حكاية النُّسْك العقليّة، وهيكل العبادات الملَكيّة.
فمهَّد لهم قاعدةً في الأذكار والأوراد، وألزمهم تركَ النسيان بتكرير الأعداد، وهي في الوجوب أعمّ وفي الحسّ أعظم، لترتبط بظواهر أشخاص الإنسان، وتمنعهم عن التشبّه بسائر أفراد الحيوان، وأقرّ بهذا الهيكل الظاهر على كلّ بالغٍ عاقل، فقال (صلّى الله عليه وآله):
"صلّوا كما رأيتُموني" ، ولو قال: صلّوا كصلاتي، فمَن الذي صلّى مثل صلاته؟ لأنّه كان يصلّي وبصدره ازيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان في صلاته يَرى من خَلفه.
فقد ظهر أنّ في صلاة القالب مصلحةً كثيرة لا تخفى على اللبيب العاقل، ولا يقر به لسان الجاهل العاذل. وهذا المعنى من الصلاة قد كانت واجبة على الأمم السابقة على أعداد اكثر من اعداد صلواتنا لعموم جدْواها، وكانوا مكلّفين بأعمالٍ جسمانيّة كثيرة المشقّة لغلبة القسوة والجسمانيّة عليهم، وقلّة ظهور آثار الملكوتيّين منهم.
وشريعتنا المحمديّة - على الصادع بها وآله خير الصلاة والتحيّة - أقلّ تكليفاً وأكثر منفعة، لصفاء القوابل، ولطافة القلوب، ورقّة الحجاب في أمّته بحمد الله، ولذلك قال: بعثتُ بالشريعة السهْلةِ السمْحاء.
مكاشفة اخرى
في لميّة وجوب الصلاتين القلبيّة والقالبيّة.
إن الله قد بعث النبيّين معلّمين بالكتاب والحكمة، واضعين من قِبل الله للشريعة والملّة، مقيمين للعدل والقسط لقوله:
{ { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [الحديد:25].
فوضعوا للناس النواميس الإلٰهيّة ليُخرجوهم عن حضيض البرزخ الظلماني، ويبلّغوهم الى أوج العالَم النوارني، لينخرطوا في سلك الملائكة المقرّبين، وينغمسوا في جوار القدس مع الأنبياء والصدّيقين، رحمةً من الله وفضلاً ونعمة منه.
فشرع كلّ منهم بإذن الله لأمّته حسب ما أعطته العنايةُ الإلٰهيّة، واقتضته الرحمة الأزليّة في ذلك الوقت والزمان، من الأعمال القلبيّة والبدنيّة، ما تكمل به قوّتاهم العلميّة والعمليّة بحسب طاقتهم.
ولمّا كانت الحكمة المحمديّة - على مقيمها وآله أفضل المحامد العليّة -، حكمة فردة، لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، بل هو أكمل الممكنات علويّها وسفليّها، روحانيّها وجسمانيّها، وكان تأثير قوّة نبوّته في تكميل أرواح أمّته، أبلغ وأتمّ كمالاً وأقوم، وحكمته أحكم، وكتابه وشريعته أبلغ وأعمّ، كانت أمّته خير الأمم وأعدلها، وأشرف الفِرق وأكملها، كما قال تعالى:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110].
وإليه أشار صلّى الله عليه وآله:
"بعثتُ لاتمّم مكارمَ الأخلاق" وبقوله: "علماءُ امّتي كأنبياء بني إسرائيل" .
فخصّ المحمّديون بوجوب حقيقة الصلاة والذكْر القلبي، والمعرفة الإلٰهيّة التي هي روح الصلاة، كما وجَبت عليهم صورةُ الصلوات الخمس المكتوبة، وأمروا بالمواظبة عليها، والمحافظة لها، وتكريرها في كل يوم بهيئة مشتملة على سرّ إلٰهي في أوقات معيّنة له؛ وهي ذكرٌ له تعالى، وقربة الى جناب الحقّ، ومناجاةٌ معه، كما قال (صلّى الله عليه وآله): "المصلّي مناجٍ ربَّه" .
وروح الصلاة، وهي معرفة الحقّ وتعظيمه وتنزيهه عن نقائص الإمكان، أشدّ وجوباً على بواطن العقلاء الكاملين من صورتها، وهي القيام والقعود والقراءة والركوع وسائر الهيئات والأوضاع على ظوهر سائر الناس، وقال سبحانه: { { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه:124].
مكاشفة اخرى
في تحقيق القول من سبيل آخر
قد بانَ لك انّ في الإنسان شيئاً من العالَم الأسفل، وشيئاً من العالَم الأعلى، وأعني بالعالَم الأسفل: الدنيا وما فيها، وبالعالَم الأعلى: الآخرة وما فيها.
وكذلك في كلّ عمل من الأعمال الدينية قشرٌ ظاهرٌ ولبٌّ باطنٌ، فالقشر متعلّق بالدنيا، واللُّبٌّ متعلّق بالآخرة، وكما انّ مقصود الشارع من طهارة الثوب - وهو القشر الخارج - ومن طهارة البدن - وهو القشر القريب - إنّما هو طهارةُ القلب - وهو اللبّ الباطن - وطهارة عن نجاسات الأخلاق كالكفر والحسد والنفاق والبخل والإسراف وغيرها.
فكذلك مقصود الشارع من صورة كلّ عبادة، هو الأثر الحاصل منه في القلب. ولا يبعد أن يكون لأعمال الجوارح آثارٌ في تنوير القلب وإصلاحه، كما لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب، فإنّك إذا أسبغت الوضوء، واستشعرت نظافة ظاهرك، صادفتَ في القلب انشراحاً وصفاءً لا تصادفه قبله، كيف وإدراك النظافة يوجب حصول صورتها في القلب، وهذا ضرب من الوجود، وفعلُ الطهارة أوجب حصولها في القلب ولو بوجهٍ ضعيف.
وذلك لسرّ العلاقة الواقعة بين عالَم الشهادة وعالَم الغيب، فإنّ ظاهر البدن من عالَم الشهادة والملك، والقلب من عالَم الغيب والملكوت بأصل فطرته، وإنّما يكون هبوطه الى هذا القالب، كالغريب عن موطنه الأصلي، ونزوله الى ارض عالم الشهادة عن الجنة التي هي موطنه وموطن أبيه المقدس، لجناية صدرَت أولاً عن أبيه.
وكما تنحدرُ من معارف القلب آثارٌ الى البدن، فكلذلك ترتفع من أحوال الجوارح أنوار الى القلب، ولذلك أمر بالصلاة مع انّها حركات للجوارح، وهي من عالَم الشهادة.
وبهذا الوجه، جعلَها رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) من الدنيا فقال:
"أحببتُ من دنياكُم ثلاثاً الحديث. وعدّ الصلاة من جملتها" .
ومن ها هنا قد شممت شيئاً يسيراً من أسرار الطهارة والصلاة وسائر العبادات، وإذا تقرّر هذا عندك، وعلمت بمثل هذا التقسيم في جميع العبادات، واتّضح لك وتأكّد عندك حسبما قدمنا اليك أنّ الصلاة منقسمةٌ الى رياضيّ جسمانيّ والى حقيقيّ روحانيّ، فاعلم أنّ نفوس الإنسان متفاوتة بحسب آثار القُوى والأرواح والدواعي المتركّبة فيها، فمن غلب عليه الروح الطبيعي والحيواني، فإنّه عاشق البدن يحبّ نظامَه وتزيينَه وتعظيمه وأكلَه وشُربَه ولبسه وطالَب جذب منفعته ودفعَ مضرّته، فهذا الطالِب من عِداد الحيوانات وزمرة البهائم. فأيّامه مستغرقة باهتمام بدنه، وأوقات عمره مصروفة الى مصالح جثّته وشخصيّته.
فهو غافلٌ عن الحقّ جاهلٌ بأمره، فلا يجوز له التهاون بهذا الأمر الشرعي اللازم الواجب، وإن قعد عنه فبالسياسات والزواجر يُكْرَهُ عليه ويجبر، حتى لا يفوت عنه حقّ التضرّع والاشتياق الى الله تعالى، ليفيض عليه بجوده، وينجيه من عذاب وجوده، ويخلّصه من آمال بدنه، ويوصله الى منتهى أمله.
فإنّه لو انقطع عنه قليلُ خير، لتسارع اليه كثير شرّ، ولكان أدنى درجة من البهائم، وأضلُّ سبيلاً من الأنعام.
ومن غلبت عليه قواه الروحانية، وتسلطت على هواه قوّته الناطقة، وتجرّد عن محبّة الدنيا وعلائق العالَم الأدنى، فهذا الأمر الحقيقي والتعبّد الروحاني، وذكْر الله بالقلب ومناجاته وقرباته، واجبٌ عليه أشدّ وجوباً وأقوى إلزاماً، كما قيل: الحكمة أشد تحكّماً على باطِن العاقل من السيفِ على ظاهر الأحمق. لأنّه استعدّ بطهارة نفسه وشرافة عقله ليفيض عليه ربُّه، فهو أقبل بمشقّته، واجتهد في تعبّده لتسارع إليه جميع الخيرات العلوية والسعادات الأخرويّة، حتى إذا انفصل عن جسمه وفارَق الدنيا، يدخل عليه الملائكة من كلّ، باب ويشاهد مفيضَه وموجِدَه ومكمِّله ربَّ الأرباب، ويجاور حضرتَه ويلتذّ بمنادميه حينئذ ومجاوريه، وهم سكان ملك الملكوت وقطّان عالَم الجبروت.
مكاشفة اخرى
في سرّ الصلاة وروحها
من جهة اشتمالها على ظاهر جسماني وباطن نوراني
إعلم أنّ الصلاة عبارة عن تشبّه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الكريمة الإلٰهية في تحريكها للأجرام الفلكيّة، فما أشدّ شباهة الإنسان حين التشغّل بالصلاة الكاملة بتلك الأشخاص الكريمة بأرواحها الملكيّة، في تعبّدها الدائم، وركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها طلباً للثواب السرمدي، وتقرّباً الى المعبود الأحدي.
ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله):
"الصلاةُ معراجُ المؤمن. وقال: الصلاةُ عِماد الدين" .
وأصل الدين، تصفية الروح عن الكدورات الشيطانيّة والهواجس النفسانيّة، والصلاة الحقيقية هي التعبّد للمبدإ الأعلى والمعبود الأعظم، والخير الأشراف، والتعبّد في الحقيقة، عرفان الحقّ جلّ مجده، والعلم بآياته بالسرّ الصافي والقلب النقيّ والنفس الفارغة.
فسرّ الصلاة التي هي عماد الدين؛ هو العلم بوحدانيّة الله، ووجوب وجوده وتنزه ذاته، وتقدُّس صفاته، وإِحكام أفعاله، ونفاذ أمره في خَلْقه، وجريان قضائه في قدَره، وقلمه في لوحه، وتعلّق عنايته ورحمته بعباده، وإنزال كتبه على رسُله، ورجوع العباد في معادهم اليه، يوم مثول الأرواح والنفوس بين يديه، وقيام صفوف الملائكة والروح لديه. مع الإخلاص له بالعبوديّة. وأعني بالإخلاص؛ أن يعبد الله بلا مشاركة أحدٍ، وأن يعلمَ ذاتَه وصفاته وأفعاله بحيث لا يبقى للكثرة فيه مَشْرَعاً، ولا للاضافة اليه مترعاً.
ومن فَعل هذا فقد أخلص وصلّى، وما ضلّ وما غوى، ومن لم يفعل هكذا فقد افترى وعَصى، والله أجلّ من ذلك وأعلى وأغنى.
مكاشفة اخرى
في مبدأ وجوب هذا التعبد الروحاني
إن هذه الصلاة قد وجبَت على سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) في ليلة مباركة، قد صعَد الى العالَم العلوي، وتجرّد عن بدنه، وتنزّه عن أهله، ولم يبق معه من آثار الحيوانيّة شهوة، ولا من لوازم الطبيعة قوّة، ولا من الدواهي النفسانيّة بقيّة.
فناجىٰ ربَّه بقلبه وروحه عند طرح قالبه وبدنه في آخر منازل الجسميّة، فقال - كما رُوي عنه (صلّى الله عليه وآله):-
"إنّي وجدتُ لذّة غريبة في ليلتي هذه، فأعطني يا ربّ هُدىً، ويسِّر عليَّ طريقاً يوصِلني كلّ وقت الى لذّتي، فأمره الله بالصلاة فقال: يا محمد، المصلّي مناج ربه" .
ولا يخفى على العاقل المتأمّل، انّ مناجاة الله لا تكون بالأعضاء البدنيّة، ولا بالألسُن الجمسانيّة، لأن هذه المكالمة إنما تصلح لمن يحويه مكان وتقترن به حركة وزمان، أما الواحد المقدّس الخارج عن عالَم المحسوس والحسّ الذي لا يحيط به مكان ولا يحويه زمان، ولا يعتريه تجدّد وتغيّر، ولا يشار اليه بجهة من الجهات، ولا يختلف حكمه في صفة من الصفات، فكيف يعاينه الإنسانُ المشكَّل المجسّم المحدود بجسمه، المقيّد المحصور بحسب قوله وفعله وشعوره وحسّه؟
وكيف يناجي في هذا العالَم المركّب الخروب، من لا يعرف حدود جهاته ولا يرى جناب صفاته.
فإنّ الوجود المطلق عن عالَم المثل والمحسوسات، بل المرتفع عن إمكان الأرواح والعقليّات، غائب عن الحواسّ، غير مشار إليه بالأخماس، ولا يدرك بالإلماس، ومن عادة الجسم والجسمي، أن لا يناجي ولا يجالس الا من يراه بالبصَر، ويحسّه بالحس، ويدركه بإحدى الخمس. وإذا لم ينظر إليه ولم يشاهده يعده غائباً، ويكون بفقده عن المشاعر خائباً.
فمن كان خارجاً عن هذا الباب، مقدّساً عن طرفي هذا النفي والإثبات جميعاً، وعن المداخلة والمزايلة رفيعاً، فمناجاته بإحدى الظواهر والآلات أمحل المحالات، وأفحش الخرافات الموهومات.
فاذن قوله
"المصلّي مناجٍ ربه" محمولٌ على عرفان النفوس العرّافة العلاّمة المجرّدة عن جهات الجسم والمكان، وحوادث الحركة والزمان.
فهم يشاهدون الحقّ مشاهدةً عقلية، ويبصرون الإلٰه ويبصرونَه بصيرة نوريّة، ويسمعون كلامَه سماعاً قلبيّاً روحانياً.
تفريع
فعلىٰ هذا ظهر انّ الصلاة الحقيقيّة هي التي تليق أن يمدح الله بها المؤمنين المتّقين المهتدين بأنوار معارف هذا القرآن، وهي التي تنهى عن فحشاءِ القوّة الشهويّة، ومنكَر القوّة الغضبية، وبغي القوّة الوهمية، ويدفع آفات هذه الثلاث التي أولاها كالبهائم، ووسطاها كالسباع، وأُخراها كالشياطين.
وذلك لأنها كما علمت، مكالمةٌ عقليّة مع الله عند مشاهدة قلبيّة له، أو هي التضرّع بالنفس الناطقة نحو الله الحقّ والموجود المطلق، وجعلها بمنزلة يدٍ باسطةٍ إليه تعالى.
ولأصحاب العلوم الظاهرة من هذا حظٌّ ناقصٌ، وإن ارتفعوا عن منزل الأنعام قليلاً، وارتفعوا عن درجة العوام يسيراً، وللمحقّقين قِسمٌ وافرٌ ونصيب كامل من هذا البحر الزاخر، ولهم قرّة أعين في الصلاة أخفيت عن أعين الناس، ومن كان حظّه أكمل، فثوابه أجزل.
فالعاقل الحكيم، يتأمّل سلوك طريق التعبّد والمداومة على الصلاة، ويلتذّ بمناجاة ربّه لا بشخصه، وينطقه لا بنُطِقه، ويبصره لا ببَصرِه، ويحسّه لا بحسِّه.
وأما الجاهل اللئيم، المغرور الممكور، المشعوف بما عنده من القشور، الطالب في مناجاته للذّات عالم الزور، المتوجّه الى تحصيل المنزلة والجاه عند أصحاب القبور، ومن آثر الهوى واتّبع الشيطان، وانحرف عن الحقّ والهدى، حرّم الله عليه لذّة مناجاته، كما ورَد في أخبار داود على نبيّنا وعليه السلام: يا داود إنّ أدنى ما أصنع بالعالَم إذا آثرَ شهوتَه على محبّتي، أن احرم عليه لذيذ مناجاتي.
ومثل هذا الخبر ما ذكره مالك بن دينار من قوله: قرأت في بعض الكتب انّ الله عز وجل يقول: إنّ أهون ما أصنع بالعالَم اذا أحبّ الدنيا أن اخرج مناجاتي من قلبه.
{ { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور } [النور:40].
قوله جل اسمه:
وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الرِزْق في كلام العرب، الحظّ مطلقاً قال تعالى:
{ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة:82]. أي حظكم ونصيبَكم.
والعرْف خصّصه بما ينتفع به الحيوان، يؤكل أو يستعمل، وقيل: هو ما يُملك، وهو باطلٌ. لأن الإنسان قد يقول: اللّهم ارزقني ولداً صالحاً، وزوجةً صالحةٍ. وهما مما ليسا بمملوكين له. وكذا يقول: اللّهم ارزقني عقلاً أعيشُ به. والعقل ليس بمملوك. وأيضاً البهيمةُ لها رزق ولا يكون لها ملك.
وقيل: هو عبارة عن تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، وهذا مذهب أبي الحسين البصري وسائر المعتزلة، ولهذا ذهبوا الى أن الحرامَ لا يكون رزقاً، وذلك لأنّهم استحالوا من الله أن يمكّن من الحرام، بدليل أنّه منع من الانتفاع بالحرام، وأمر بالزجْر عنه، وبما ذكره صاحب الكشّاف في هذه الآية من قوله: "إسناد الرزق الى نفسه للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال الطلْق الذي يستأهل أن يضاف الى الله ويسمّى رزقاً منه".
وبقوله تعالى:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } [يونس:59]. إذ قد بينّ انّ من حرّم رزق الله فهو مفترٍ عليه، فثبت انّ الحرام لا يكون رزقاً.
وبما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن رجلاً قال له:
"إنّ الله كتَب عليَّ الشقوة أفلا أراني أرزق إلا من دَفّي بكفّي، فأذَنْ لي في الغناء من غير فاحشةٍ؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبتَ يا عدوّ الله، لقد رزَقك الله طيّباً، فاخترتَ ما حرّم الله عليكَ من رزقِه مكان ما أحلّ الله لك من حلالِه، أم إنّك لو قلتَ بعد هذه النوبةِ، ضربتُك ضرباً وجيعاً" .
والجواب: أمّا عن الأول، فبأنّ المنع الشرعي للكل عن الحرام، لا يناقض السياق القدَري لبعض الأشخاص إليه، وتحقيق هذا المقام يحتاج الى مسلك آخر غير علم الكلام.
وأما عن الثاني: فبأنّ إسناد الرزق الى الله على سبيل التشريف والتحريض على الإنفاق، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً، كما يقال: يا خالق العرشِ والكرسي، [ولا يقال] يا خالق الكلاب والخنازير، وكقوله:
{ { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [الإنسان:6]. فخصّ العباد بالمتّقين وإن الكفّار من العباد.
وأما عن الثالث: فبأنّ الذمّ للمشركين لأجل انّهم حرّموا ما أحلّ الله من الرزق.
وأما عن الرابع: فبأنّ الخبر حجّة عليكم لا لكم، لأنّ قوله (صلّى الله عليه وآله):
"فاخترتَ ما حرّم الله عليكَ من رزقه" ، صريحٌ في أنّ الرزقَ قد يكون حراماً.
واستدلّ بعض الأشاعرة: بأنّ الحرام لو لم يكن رزقاً، لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقاً، وليس كذلك لقوله تعالى:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6].
وأقول: هذا الاستلال ضعيف، لمنع تحقّق مادة النقض، إذ ما من حيوان إلاّ وله رزقٌ من الحلال ولو في بعض الأوقات، كما عند كونه في بطن أمّه.
والحقّ أنّ النزاع في هذه المسألة يرجع الى محض اللغة وهو: أن الحرام هل يسمّى رزقاً أمْ لا؟ ولا مجال للدليل العقلي في الألفاظ.
وأصل الإنفاق، إخراج المال من اليد، ومنه نفقَ المبيع نفاقاً إذا كثُر المشتَرون له، ونفقتِ الدابّة إذا خرجت روحُها، ومنه نافق الفأرة لأنها تخرج منها، ومنه النفق في قوله تعالى:
{ { أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام:35].
وفي الكشّاف: انّ "أنفقه وأنفده" أخَوان، و"نفق ونفد" واحد، وكلّما جاء مما فاؤه نون وعينُه فاء، فدالٌّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمّلت.
تنبيه
في قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فوائد لطيفة: إدخال "من" التبعيضيّة صيانة لهم عن الإسراف، وكفّاً عن التبذير المنهيّ عنه، وتقديم المفعول للاهتمام به كأنّه قال: ويخصّون بعض المال للتصدّق به، والمحافظة على رؤوس الآي، وإطلاق الانفاق حتّى يشمل الزكاة وغيرها.
ومن فسّر الإنفاق بالزكاة، فقد ذكر أفضل أنواعه وما هو الأصل فيه، وإنّما وقَع التخصيص بها لاقترانه بما هو شقيقها.
ولا يخفى انّ الإنفاق منه واجب ومنه مندوب. والإنفاق الواجب أقسام:
أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى في آية الكنز:
{ { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة:34].
وثانيها: الإنفاق على النفس والأهل ومَن تجِب عليه نفقته.
وثالثها: الإنفاق في الجهاد.
وأما الإنفاق المندوب، فهو ما سوى ما ذكَرناه لقوله تعالى:
{ { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [المنافقون:10] وأراد به الصدقة، بدليل قوله تعالى: { { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون:10]، فجميع هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية، لأن كل ذلك سببٌ لاستحقاق المدح، فالأوْلىٰ أن يراد به الإنفاق من جميع المعارف التي منحهم الله بها من النعَم الظاهرة والباطنة، والماليّة والعلميّة، يؤيّده قوله (صلّى الله عليه وآله): "إنّ علْماً لا يقال به، ككنزٍ لا ينفق منه" . ولهذا المعنى ذكر بعض المحقّقين في تفسيره: وممّا خصصناهم به من أنوار المعارف يفيضون.
واعلم أنّ الرزق كلّه من قِبَل الله لا من قِبَل غيره، لأنه من ضروريّات بقاء الإنسان والحيوان. فهو مقدر بتقدير الله، مضمونٌ بضمانه، والبرهان عليه من طريق العقل: أنّه تعالى يعلمُ ذاتَه، وما توجبه ذاتُه على الترتيب الأقدم فالأقدم. وهكذا الى أدنى المراتب، فهو قد عقل جميع الموجودات من جهة عقله لذاته، لأنّ عقله لذاته علّة لعقل ما يقتضيه ذاتُه وإن كان بالقصد الثاني، وكل ما يعقله لا بدّ وأن يوجده، لأنّ علمَّه علمٌ فِعْلي لأجل كون علمه عين ذاته، فقد ترتب وجود جميع الموجودات عن علمه بذاته، وبما توجبه ذاته من المبدَعات والكائنات، لأن الله تعالى علم وجود الكلّ من ذاته، فكما انّ تعقله لذاته لا يجوز أن يتغيّر، فكذلك تعقّله لكل ما يترتّب عن ذاته.
فكل ما يعقل وجوده عن ذاته وعن عقله لذاته، لا يجوز أن يتغيّر، بل يجب وجود كلّ ذلك على الوجه الذي عقله، ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقَّل له تعالى بلا شكّ فيه ولا خلاف من أحد من العقلاء، وخصوصاً وجود النوع الإنساني وبقاؤه، فيجب وجود هذا النوع وبقاؤه، وكذا سائر الأنواع الحيوانيّة المتوالدة.
ولمّا كان وجودُ النوع إنّما يبقى مستحفظاً، إذا لم يمكن لواحد من أعداده الديمومة الشخصيّة بتعاقب أشخاصه، وبلوغ كلّ شخص منها الى كماله الذي يمكن به أن يَلِدَ شخصاً آخر مثله، وبلوغه الى ذلك الكمال لا يمكن إلاّ ببقائه مدّة يصل فيها اليه، وبقاؤه تلك المدّة لا يمكن إلاّ بما به قوام حياة البدن من الرطوبات الغريزيّة التي هي أبداً في التحلّل والذوبان والنقصان، بواسطة استيلاء الحرارات الداخليّة والخارجيّة عليها، فيحتاج في تحلّلها وذوبانها ونقصانها كلّ لحظة الى البدل، وهو الرزق الصوري، فقوام الحياة البدنيّة بالرزق.
ولمّا تقرّر أنّه تعالى يعقل وجودَ الكلّ من ذاته، وينال أسبابها وعللها من ذاته، ووجود ما يعقله من ذاته واجب، ويعقل بقاء النوع الإنساني ببقاء الأشخاص وتناسلهم، ويعقل تناسلَهم ببقاء كلّ شخص مدّة، ويعقل بقاء كلّ شخص مدّة بما به قوام حياته وهو الرزق، والرزق إنّما يكون من النبات والحيوان كالخبز واللحم والفواكه والحلوىٰ، فوجب أن يكون الرزق مضموناً بتقدير الرؤوف الرحيم، ولذلك قال:
{ { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات:22 - 23].
فقد علم أنّ الرزق، سواء كان حلالاً بحسب الشرع، أو حراماً، أو غيرهما، كرزق سائر الدوابّ، واجب من قِبَل الله وجوباً عقليّاً كما قال:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6].
حكاية في هذا الباب
ذكر في كتاب إخوان الصفا، أنّ بعض الخلفاء العباسيين رأى شيخاً سقّاء في داره فقال له: كم تعدّ من الخلفاء؟ قال: كثير، فقال له شبه المتعجّب: ما بالكم طوال الأعمار ونحن قصارها؟ قال له السقّاء: لأنّ أرزاقَكم تجيء مثل أفواه القِرب، وأرزاقنا تجيء مثل قطر الأجفان، فاستحسن الخليفةُ وأمر له بجائزة أغناه بها عن صنعه.
ثمّ سأل عنه بعد حينٍ، فقيل: ماتَ فقال: صدقَ لما جاءه الرزقُ مثل أفواه القِرب قصُر عمرُه، وهكذا الحكم والقياس، وقد جعل الله لكلّ إنسان نصيباً من السعادة وقسطاً من النعيم، وجعلَ له قِسطا في الدنيا وقسطاً في الآخرة، كما قال تعالى:
{ { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد:8]. وقال: { { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحِجر:21].
فمقدار ما يأخذ الإنسان نصيباً وحظاً من النعيم والتلذّذ في الدنيا، فبذلك المقدار ينقص حظّه ونصيبه من نعيم الآخرة.
وهذا وإن كان إقناعيّاً، فهو ممّا يحكُم به صاحبُ الحدسِ الصحيح بضربٍ من الشواهد والآثار، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [الأحقاف:20] و: { { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى:20].
قال النبي (صلّى الله عليه وآله)
"نَفَثَ روحُ القدسِ في روعي إنّ نفْساً لن تَموتَ حتّى تستكملَ رزقها ألا فاتّقوا الله واجْمِلوا في الطلب" . وقال امير المؤمنين (عليه السلام): اعلموا علماً يقيناً أنّ الله لم يجعل للعبد وإن عظُمتْ حيلتُه وقويَت مكيدتُه واشتدّت طلبته، أكثر مما سمّى له في الذكر الحكيم.
تذكرة فيها تبصرة
[الرزق وأقسامه]
إعلم أنّ الرزق عند أهل الحقّ، هو ما يتقوّى به الشخص وينمو ويزيد في تجوهره، سواء كان من الجواهر الجسمانية، أو الروحانية، فللأرواح أيضاً أغذية كما للأبدان.
وغذاء كلّ موجود من جنسه ومما يشابهه، فكما انّ غذاءَ الأبدان من جنسها وهو نيل المطعومات المحسوسة، فغذاء العقول الإنسانيّة إدراك العلوم العقليّة، إذ بها حياة تلك العقول، وبها تكمل وتزيد، وبفَقدها تموت وتهلك، وبحسب نقصانها تذبل وتضعف، والى الرزق المعنوي العلمي وقعت الإشارة في قوله تعالى:
{ { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه:13].
ولهذا المعنى أوّلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللبن بالعلم، قال الفتح الموصلي: أليس الرجل إذا منع عنه الطعام والشراب يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلوب إذا منع عنها الحكمة والعلم ثلاثة أيّام تموت، وغذاء الملائكة التسبيح والتقديس، وغذاء الفلكيّات بما يرد عليها من الواردات والأنوار العلويّة المتجدّدة على الاتّصال بواسطة حركاتها المتّصلة المستمرّة.
وكذا غذاء كلّ قوة من القوى الباطنة والظاهرة، بنيل ما يُشببها وإدراك ما يناسبها، فغذاءُ الوهم الموهومات، وغذاء الخيال المتخيّلات، وغذاء قوّة الباصرة إدراك الأنوار الحسّية، وغذاء الجنّ بالنسيم والأرواح العَبِقة وسماع الأصوات، وعلى هذا القياس، فما من قوّة إلاّ ولها رزق صوريٌّ أو معنويٌّ من جنسها، وبه تحصل لذّتُها وبما يضادّه ألمُها.
وتحقيق هذا المقام من شمول رازقيّته تعالى لجميع الموجودات العلويّة والسفليّة والروحيّة والجسميّة والأخرويّة والدنيويّة، مما يتوقّف على الأصول التي وقع الاثبات لها في كتبنا الحكميّة: كالشواهد الربوبيّة وغيرها فليرَاجع إليها من أراد الإطلاع على هذا المطلب.