التفاسير

< >
عرض

وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ
٤١
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

أمَرهم بالإيمان بعد ما أمَرهم بإيفاء عهد الله تنبيهاً على أنّه العمدة في ذلك، بل لأحد أن يقول: إنّ الإيمان بما أنزل الله على رسوله هو عين الإيفاء بعهد الله على التأويل الذي سبَق ذكره في معنى العهْد، وهو النور الذي تتنوَّر به القلوب، ويسلك به سبيل الآخرة، وينكشف به حقائق الأمور، ويطلع به الإنسان على الحضرة الإلهيّة، وأفعاله، وآثاره، ولطفه، وحكمته في الدنيا والاخرة، قال تعالى: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }.
فالنور هو جنس معاني القرآن، والكتاب آيات ألفاظه، وهو أي القرآن مُنزَل من الله إلى قلب النبي (صلى الله عليه وآله) إن اريد به المعاني. ومنزَل من السماء الدنيا على سمْعه الشريف إنْ أُريد به ألفاظه.
وكلاهما عند غيبته عن إدراك هذه الحواسّ الدنيوية، فإنّ السمع الذي كان به يسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلامَه، والبصَر الذي كان يبصر به شخص جبرائيل (عليه السلام) كانتا بوجه غير هاتين الحاسّتين العنصريّتين، وإن كانتا بوجه عينهما.
أمَرهم بالتصديق بهذا القرآن المنزَل، وأخبَرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقاً منهم للتوراة والإنجيل؛ لأنّ الذي في القرآن مصدِّق لهما، ومؤكّد للإيمان بهما من حيث إنّه مطابِق لهما في القصص، والمواعيد، والدعاء إلى التوحيد، والأمر بالعبادة، والعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي، والفواحش، وفيما يخالفها من جزئيّات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح، من حيث إنّ كلّ واحد منها حقٌّ بالإضافة إلى زمانه، مراعى فيها صلاح الأنام، ومَن خوطب بالكلام من الله، حتى لو نزَل المتقدّم من الأحكام في أيّام المتأخّر منها لكان على وفقه بأبلغ وجه ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
"لو كان موسى حيّاً لَما وسعه إلاّ اتّباعي" .
وقيل: معناه أنَّه تصديق بالتوراة والإنجيل، لأنّ فيهما الدلالة على أنّه حق، وأنّه من عند الله. وفيهما البشارة ببعثة محمّد (صلى الله عليه وآله)، وبيان نعوته، وصفاته، فكان الإيمان بمحمّد (صلى الله عليه وآله) وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيبه (صلى الله عليه وآله) تكذيباً لهما.
والتفسير الثاني أولى لأن يكون حجّة عليهم، إذ على التفسير الأوّل لقائل أن يقول: التوافق في بعض المعاني لا يوجب أن يكون القرآن من عند الله، فلا يلزم عليهم وجوب الإيمان به.
وأمّا على الثاني فيلزم عليهم الإيمان بحقّية القرآن، وتصديق الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا اشتمل الكتابان على كون محمد (صلى الله عليه وآله) صادقاً، فالإيمان بهما يوجب الإيمان بما يقوله (صلى الله عليه وآله). ومعلوم أنَّ الآية إنّما نزلت احتجاجاً عليهم، ودلالة لهم على وجوب الإيمان بمحمّد (صلى الله عليه وآله). وبالجملة فالدّال على إثبات نبوّته هاهنا وجهان:
أحدهما: شهادة كتب الأنبياء (عليهم السلام) عليه، وهي لا تكون إلاّ حقاً.
والثاني: إخباره عمّا في كتبهم، ولم يكن له معرفة بما فيها إلاّ من قبل الوحي.
وقوله: { مُصَدِّقاً } حال منتصب بـ { آمِنُوا } كأنه قال: "آمِنوا بالقرآن مصدّقاً" و { مَعَكُمْ } صلة { لِمَا } والعامل فيه الاستقرار، أي للذي استقرّ معكم والضمير في { بِهِ } عائِدٌ إلى الموصول في قوله: { بِمَا أَنْزَلْتُ } أو في قوله: { لِمَا مَعَكُمْ } على التفسير الثاني.
وقوله: { وَلاَ تَكَونَوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي: أول فريق، أو فوج كافر به، أو: ولا يكن كلّ واحد منكم أوّل كافر به كقولك: "كَسانَا حلّة" أي: كلّ واحد منا. والمعنى: "لا تكونوا أوّل كافر من أهل الكتاب بالقرآن" لأنّ قريشاً قد كانت كفَرت به بمكة قبل اليهود.
وعن أبي العالية: معناه "لا تكونوا السابقين إلى الكفر به، فيتبعكم الناس. أي: "لا تكونوا أئمة الكفر" وهذا متوجّه، فإنّ الناس في المذاهب، والملل يتّبعون أهل الكتاب والعلْم في أكثر الأزمنة. ومعلومٌ أنّ الخطاب في الآية مع أئمة أهل الضلال وعلمائهم، الذي شأنُهم كتمان الحق، الذي في الكتب، وتلبيسه بالباطل، وتحريف الكلِم عن مواضعه - كما هو عادةُ علماء السوء - .
وعن أبي جريح: معناه: ولا تكونوا أوّل جاحدين صفة النبي (صلى الله عليه وآله) في كتابكم فعلى هذا تعود "الهاء" في { بِهِ } إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله).
قيل: معناه ولا تكونوا مثل أول كافر به. يعني: مَن أشرَك من أهل مكة، أي: لا تكونوا وأنتم تعرفونه مكتوباً في التوراة والإنجيل مثْل من لم يعرفه وهو جاهلٌ، مشركٌ، لا كتاب له.
وقيل: ضمير { بِهِ } راجعٌ إلى الكتاب. أي: لا تكونوا أوّل كافر بكتابكم. أي لا تكونوا أوّل مَن كذّب كتابَكم مِن أُمّتكم، لأنّ تكذيبكم لمحمد (صلى الله عليه وآله) تكذيبكم لكتابكم.
وقيل: معناه، ولا تكونوا أوّل من جحَد مع المعرفة، لأنّ قريشاً لم تكن مع المعرفة.
وقيل: معناه لا تكونوا أوّل الكافرين به عند السماع، بل تثبّتوا، وراجِعوا عقولَكم، وتدبَّروا في معانيه حتّى يظهر لكم حقيّته وصدقه.
وقيل معناه: لا تكونوا أوّل كافر به من كفّار اليهود، لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قدم المدينة وكانت بها القريظة والنضير، فكفَروا به، ثمّ تتابَعت سائرُ اليهود على ذلك الكفر.
وقال المبرّد: هذا الخطاب لقوم خوطِبوا به قبلَ غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمّد (صلى الله عليه وآله)، فإنّه سيكون بعدكم الكفّار، فلا تكونوا أوّل الكفّار.
واعلم أنَّه إنّما عظم أوّل الكفر؛ لأنّهم إذا كانوا أئمّة لهم، وقدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم، وكُفرهم أشدّ، إذ كما أنّ السابقين إلى الإيمان كانوا أعظم قدْراً في الثواب، وأشدّ قُرباً إلى الله، لقوله:
{ { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة:10 - 11] كذلك السابقون إلى الكفْر، كانوا أعظم ذنباً ممن بعدهم، وأشدّ ضلالاً وأكثر بُعداً عن الحقّ.
ولِما رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله):
"مَن سنَّ سُنَّة حسنةً فله أجرُها وأجر من عَمل بها إلى يوم القيامة. ومَن سنَّ سُنَّة سيِّئة كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عمل بها إلى يوم القيامة" .
وقيل: إنّ الأوّلية موجبةٌ لمزيد القبح والإثْم، وذلك لأنّهم إذا سبقوا إلى الكفر، فإمّا أن يقتدي بهم غيرهم فيه أو لا، فالأول: يوجب أن يكون لهم وِزر ذلك الكفْر، ووِزر من كفَر إلى يوم القيامة. والثاني: يوجب أن يجتمع فيه أمران، السبق إلى الكفر، والتفرّد به، ولا شكّ في أنّه منقصة عظيمة.
فصل
ليس في نهيه تعالى: عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه يجوز أن يكونوا آخر كافر به، لأنّ المقصود النهي عن الكفْر على كلّ حال، وخصّ الأوّل بالذكْر لما ذكر من عظم موقعه، وكما أنَّ قوله تعالى:
{ رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [الرعد:2]. لا يدلّ على وجود عمَدٍ لا يَرونها. وقوله: { { وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [النساء:155]. لا يدلّ على جواز قتلهم بحق وقوله، عقيب هذه الآية: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } لا يدلّ على إباحة ذلك بالثمن الكثير. وكما قال الشاعر:

مِن أُناس ليس في أخلاقِهم عاجلَ الفحش ولا سوءَ الجزَع

وليس يُريد أنّ فيهم فحشاً آجلاً. فكذا هاهنا. بل الغرض من هذه السياقة التنبيه على استعظام كفْر مَن قرأ في الكتُب نعتَ محمّد (صلى الله عليه وآله)، ثمّ جحَد به. ولأن في قوله: { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } دلالة على أن كفرهم أوّلاً وآخراً محظور، لأنّ تحقّق وجود الشيء موقوف على ارتفاع جميع أنحاء عدمه أو ضدّه، وكذا تحقق الإيمان بما أنزل في كلّ وقت متوقّف على ارتفاع جميع أنحاء الكفر به في ذلك الوقت، ولأنّ الإيمان نوعٌ من نور اليقين، فإذا حصل في القلب لا يمكن رفعه، فكلّ من آمَن أوّلاً إيماناً بالحقيقة فهو مؤمن أخيراً لا يزال.
فصل
قوله: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }
أي: ولا تستبدلوا الإيمان بالرسول، وتعلّم الحِكمة، والاطّلاع على آيات الله بثمن قليل من مال الدنيا وجاهِكم الحقير عند أبنائها.
وفي الكشّاف: "الثمن القليل هو الرئاسة التي كانت لهم في قومهم، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاستبدَلوها - وهي بدلٌ قليل ومتاعٌ يسيرٌ - بآيات الله، وبالحقّ الذي كلّ كثير إليه قليل، وكلّ كبير إليه حقيرٌ. فما بال القليل الحقير! وقيل: كانت عامتهم يعطون أحْبارهم من زُروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلِم وتسهيلهم لهم ما صعُب عليهم من الشرائع، وكان ملوكُهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرّفوا".
واعلم أنَّ العادة جاريةٌ في كلّ زمان بأنّه إذا ظهر واحد من أهل الحقّ وأولياء الله، فأوّل من يسعى في ابطال حقّه ويريد إطفاءَ نوره في أكثر الأمْر هم علماء السوء ورؤساءُ حمَلة الكتاب، أو المغترّون بالشريعة التي كانوا عليها، وذلك لأنّ ظهور حاله يوجب كشف نقائصهم وجهالاتهم على الناس، وفي ذلك انحطاط منزلتهم عند الخلْق، ونقصان جاههم، وسقوطهم عن أعين السلاطين، وجميع ذلك هو مَطمح أنظارهم في اكتساب العلوم والديانة.
فالله سبحانه أشار إلى أن محافظتهم على هذه الأمور الدنيوية في ترك متابعتهم الرسول (صلى الله عليه وآله) وإن كان ثابتاً إلا أنَّ لهم في ذلك تفويتٌ للسعادة الأخروية بتحصيل مقامات العلم واليقين.
فإنّ كمال النفس الإنسانية بتحصيل ما عليه الواجب من صيرورتها جوهراً عقليّاً مضاهياً للجواهر القدسيّة والملائكة العقليّة، فإذا ترك ذلك التحصيل واشتغل بتحصيل اللذّات الدنيوية وحفظ الرياسات الحيوانية، فكأنّه باعَ الملَك، واشترى الحَيوان، وباعَ البَهجة القصوى، والسعادة الأبدية باللَّذة الحيوانية الفانية ولا شك أنَّه باعَ أمراً جليلاً بثمن قليل، لأنّ لذّة الدنيا بحذافيرها بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلة جدّاً، بل كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي.
والثَمَن والعوَض والبَدَل نظائرُ وبينها فروقٌ:
و"الثَّمَن" هو البدل في البيع، وكذا "القيمة". والبدَل أعمّ في ذلك. والفرق بين الثمن والقيمة أنَّ الثمن قد يكون وِفْقاً، وقد يكون بَخْساً، وقد يكون زائداً، والقيمة لا تكون إلاّ مساوية من غير زيادة ولا نقصان.
قال الفرّاء: إنّما أُدخل الباء في "الآيات" دون "الثَّمن" وفي سورة يوسف أدخلَه في الثَّمَن في قوله:
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف:20] لأنّ العُروض كلّها أنت مخيّر فيها، إن شئتَ قلتَ: "اشتريتُ الثوبَ بكساء" وإن شئتَ قلت: "اشتريت بالثوبِ كساءً" أيّهما جعلتَ ثمناً لصاحبه جاز. فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت "الباء" في الثمن كقوله: { { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف:20] لأنّ الدراهم ثمنٌ أبداً.
قيل: المعنى { لا تَسْتَبْدِلُوا بِآيَاتِي } أي: بما في التوراة والإنجيل من بيان صفة محمّد (صلى الله عليه وآله) ونَعته { ثَمَناً قَلِيلاً } أي: عرضاً يسيراً من الدنيا.
ورُوي عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية أنَّه قال: "كان حيي ابن أخطَب، وكعبُ بن أشرف، وآخرون من اليهود لهم مأكلة من اليهود في كلّ سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) فحرّفوا لذلك آيات في التوراة فيها صفتُه وذكره، فذلك الثمَن الذي أُريد في الآية".
ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنَّ رؤساء اليهود مِثل كعْب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا، وانّهم لو اتّبعوا محمّداً لانقطعَتْ عنهم تلك الهدايا، فأصرّوا على الكفْر لئلاّ ينقطع عنهم ذلك القدر المحقّر.
واعلم أنَّ خطاب الله في القرآن ينبغي أن يحمل على العامّ الشامل لكلّ أحد، وإن كان منشأ النزول مخصوصاً، حتى تكون علوماً كلّية باقية أبد الدهر فقوله: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي } أي بمعرفتها { ثَمَناً قَلِيلاً } يجب أن يكون حُكْماً عامّاً يكون به النهي عن صنْع كل مَن ترَك تعلّم آيات الحكمة واليقين بواسطة محافظته على دنياه، وخوفه عن زوال جاهه عند الخلْق، وسقوط منزلته لديهم.
فمِن هاهنا يُعلم أنَّ كل من جحد حقّاً من حقوق الله، وأنكَر عِلْماً من المعارف اليقينيّة، والعلوم الربّانية حذراً من أن يلزم عليه اتّضاعٌ من أمر دنياه بظهور علم هو فوق علمه - كالعلْم الأعلى بالقياس إلى العلوم الجزئيّة - أو خمول في شهرته وصِيتِه، أو كساد في مجمع وَعظه ومدرسة علمه الناقص، فهو داخلٌ في جنس أولئك المخاطَبين بهذه الآية.
فصل
قوله: { وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ }
أي بالإيمان واتّباع الحقّ، والاعراض عن الدنيا، ويقرب معناه ممّا تقدّم من قوله { وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ }.
والفرق بين الرهبة والتقوى بالتأكّد والضعف، وكان الوجه أنَّ الأولى مقدّمة للثانية ولهذا أوردت الرهبة في الآية السابقة، والتقوى في اللاَّحقة. وأيضاً لما عمّ الخطاب في الآية الأولى العالِم والمقلّد جميعاً وقع الأمر فيها بالرهبة التي هي مبدأ السلوك، وحيث خصّ أهلَ العلْم أمَرَهم بالتقوى التي هي منتهاه.
علماء السوء وما ورد فيهم
واعلم أنَّه قد وردت في علماء السوء تشديدات عظيمة دلّت على أنّهم أشدّ الناس عذاباً يومَ القيامة. والمراد بعلماء السوء الذين قصدُهم من العلْم التنعّم بالدنيا، والتوصّل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها، والأحاديث الدالّة على أنّ هؤلاء أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأنّ لزوم الحجّة عليهم أشدّ كثيرة:
فمِن طريق أهل البيت عليهم السلام ما رواه محمّد بن يعقوب الكلينيرحمه الله بسنده المتّصل عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدّث عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنَّه قال في كلام له: "العلماء رجُلان: رجلٌ عالِم آخذ بعلمه، فهذا ناج. وعالِم تارك لعلمه فهذا هالك. وإنّ أهلَ النارِ ليتأذّون عن ريح العالِم التارك لعلمه.
وإنّ أشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجلٌ دعا عبداً إلى الله، فاستجاب له وقَبِل منه فأطاع الله، فأدخله الله الجنّة. وأدخل الداعي إلى النار بتركِه علمه، واتِّباعه الهوى، وطول الأمل. أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ. وطولُ الأمل ينسي الآخرة".
وروى أيضاً عن عدّة من أصحابه، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطَب به على المنبر: "أيّها الناس إذا علِمتم فاعملوا بما علِمتم لعلّكم تهتدون. إنّ العالِم العامل بغيره وفي نسخة: "بغير بصيرة" بدل: "بغيره" - كالجاهِل الحائر الذي لا يستفيق عن جَهله، بل قد رأيت أنّ الحجة عليه أعظم، والحسرة أدوم على هذا العالِم، المنسلخ عن علمه، منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله، وكلاهما حائرٌ بائرٌ".
روى أيضاً بسنده المتصل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "من طلَب العلْم ليباهي به العلماءَ، أو يُماري به السفهاءَ، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعدَه من النار".
وروى أيضاً مسنداً عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال يا حفص يُغفر للجاهِل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر للعالِم ذنبٌ واحد".
وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)، قال: قال عيسى ابن مريم: "ويلٌ لعلماء السوء، كيف تلظّى عليهم النار".
وروى أيضاً مسنداً عن جميل بن درّاج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالِم توبة" ثمّ قرأ:
{ { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ } [النساء:17].
وروى أيضاً عن عليّ بن إبراهيم، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "طلَبة العلْم ثلاثة، فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم: صنفٌ يطلبه للجهل والمِراءِ، وصنْف يطلبه للاستطالة والخَتَل، وصِنف يطلبه للفِقه والعقل.
فصاحبُ الجهل والمِراء موذٍ، ممارٍ، متعرضٌ للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلْم، وصفة الحلْم، قد تسر بَل بالخشوع، وتخلّى من الورع، فدقّ الله من هذا خيشومَه، وقطَع منه حيزومه.
وصاحب الاستطالة والخَتَل ذو خِبٍّ ومَلَقٍ، يستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوائهم هاضِمٌ، ولدينه حاطِمٌ، فأعمى الله على هذا خبره، وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة، وحزن، وسهَر، قد تَحنَّك في بُرنُسه وقام الليل في جِندِسه، يعمل ويخشى وجلاً، داعياً، مشفقاً، مقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه، مستوحشاً من أوثق إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه".
وأمّا من طريق غيرهم فوقع في الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال:
"إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالِمٌ لم ينفعه الله بعلمه" .
وقال أيضاً: "العلمُ علمان: علمٌ على اللسان، فذلك حجةُ الله على ابن آدم. وعلمٌ في القلب، فذلك العلمُ النافع" .
وقال أيضاً: "لأنا من غير الدجّال أخوفُ عليكم من الدجّال فقيل: وما ذاك؟ فقال: أئمةٌ مضلُّون" .
وقال أيضاً: "مَن ازداد علماً ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلاّ بُعداً" .
وقال عيسى (عليه السلام): "إلى متى تصِفون الطريق للمدلِجين وأنتم مقيمون مع المتحيّرين؟ !".
فهذا وغيره من الأخبار يدل على عظيم العلْم، وأنّ العالِم إمّأ متعرّض لهلاك الأبد أو لسعادة الأبد، وأنّه بالخوض في العلم قد حرم السلامة إن لم تدركه السلامة.
وأما الآثار: فقال الحسن: "لا تكن ممّن يجمع علْم العلماء، وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء".
وقال أيضاً: "عقوبة العلماءِ موتُ القلب" وأنشد:

عجيبٌ لمبتاع الضلالة بالهُدى ومن يَشتري دُنياه بالدين أعجبُ

وقال أسامة بن زيد: "سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يؤتى بالعالِم، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيَدورُ بها كما يَدورُ الحمارُ في الرحا. فيطوف به أهلُ النار فيقولون مالكَ؟ فيقول: كنتُ آمُر بالخير ولا آتيه، وأَنهى عن الشرّ وآتيه" .
وإنّما يضاعف عذاب العالِم في معصيته لأنّه عصى عن علْمٍ، ولذلك قال تعالى: { { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [النساء:145]. لأنّهم تعدّوا بعد العِلم، وجعَل اليهودَ شراً من النصارى، مع أنّهم ما جعلوا لله ولداً، ولا قالوا: { إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [المائدة:73] ولكن كفروا وأنكروا بعد المعرفة، وقال تعالى: { { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة:89]. وقال تعالى في قصّة بَلعم ابن باعورا: { { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } [الأعراف:175] حتّى قال { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } [الأعراف:176]. فكذلك حُكم العالِم الفاجِر، فإنّ بلعَم أُوتيَ كتابَ الله، فأخلَد إلى الشهوات، فشبّهه بالكلب. أي: سواء أُوتي الحكمة أو لم يؤت، فهو مخلّد إلى الشهوات.
وقال عيسى (عليه السلام): "مَثَل علماء السوء كَمثَل صخرةٍ وقعت على فَمِ النهر لا هي تَشربُ ولا تترك الماء تخلص إلى الزرع. ومثَل علماء السوء مثَلُ قناة الحشّ ظاهرها خضر وباطنها نتِن، ومثَل القبور ظاهرها عامرة وباطنها عظام الموتى".
وفي المثنوي للمولى الرومي -رحمه الله - أبياتٌ جيّدة في بيان حالهم، وكشف عوارهم، فهذه الأخبار والآثار تدلّ على أنّ العالِم الذي هو من أبناء الدنيا أخسّ حالاً، وأسوأ عاقبة، ومآلا، وأشدّ عذاباً من الجاهل السليم القلب. وأنّ الفائزين المقرّبين هم علماء الآخرة.
فصل
علامات علماء الآخرة
فإن قلت: كيف يمكن لأحد أن يعرف علماء الآخرة حتّى يقتدي بهم، والعلم الحقيقي حالة باطنيّة؟ وبماذا يمتازون عن علماء الدنيا؟
قلتُ: إنّ لهم علاماتٍ ذكرها بعض المحققين:
منها: أن لا يطلب الدنيا بعلْمه. فإنّ أقلّ درجات العالِم أن يدرك حقارة الدنيا وخسّتها، وكدورتها، وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها، وصفاء نعيمها، وجلالة ملكها، ويعلَمَ أنَّهما متضادان، كالضرّتين، مهما أرضيتَ إحداهما أسخطتَ الأُخرى،... وأنَّهما كالمشرق والمغرب، متى قَرُبتَ من أحدهما بَعُدتَ عن الآخر إذ الآخرة عالَم النور والقصور، والدنيا عالَم الظُّلمة والقبور، وأنَّهما ككفّتي الميزان متى رَجُحت إحداهما خفّت الأُخرى، كما قال أبو نصر الفارابي في نظم له:

عابوا عليَّ خصاصَتي فأجبتُهم حظٌّ وعلْمٌ كيف يجتمعان
رجحان ذا خسران ذا وكلاهما يتخالفان ككفّتي ميزان
حازَ الجهول الرزقَ بالسبب الذي وقع اللبيب به على حرمان

فمَن لم يعلَم حقارةَ الدنيا وكدورتها، وامتزاج لذّتها بألمها، ثمّ انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإنّ المشاهدة والتجربة تُرشد إلى ذلك، فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟! ومن لا يعلم عِظَم أمر الآخرة ودوام نعيمها وجحيمها فهو كافر مسلوب الإيمان، فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له؟! ومن لا يعلم مضادّة الدنيا للآخرة، وأنَّ الجمع بينهما طمعٌ في غير مطمعٍ، فهو جاهلٌ بشريعة الأنبياء كلّهم - صلوات الله عليهم - بل هو كافر بالقرآن من أوله إلى آخره، فكيف يُعدّ من زُمرة العلماء؟! ومن علِم هذا كلّه ثمّ يؤثر الدنيا وجاهَها ورياستَها على الآخرة، فهو أسير الشيطان مغلول بغلّه، مقيّد بحبله، قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته، فكيف يُعدّ من أحزاب العلْم من هذه درجته؟!
وفي أخبار داود: "إنّ أدنى ما أصنعُ بالعالِم إذا آثَر شهوتَه على محبّتي أن أَحرِمَه لذيذ مناجاتي".
وقال مالك بن دينار: "قرأتُ في بعض الكتب، إنّ الله عز وجل يقول:
"إنّ أهونَ ما أصنعُ بالعالِم إذا أحبَّ الدنيا أن أخرجَ حلاوة مناجاتي من قلبه" .
وقال عيسى (عليه السلام): "كيف يكون من أهل العلم مَن مسيرُه إلى الآخرة وهو مقبلٌ على دنياه؟ وكيف يكون من أهل العلم من يطلبُ الكلام ليخبر به - لا ليعمل به -؟".
وقال صالح بن حميان: "أدركتُ الشيوخ وهم يتعوّذون بالله من الفاجِر العالِم بالسّنة".
وروى أبو الدرداء، أنّه (صلى الله عليه وآله) قال:
"أوحى الله إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقّهون لغير الدين، ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمَل الآخرةِ، ويلبسون مشوك الكباش، وقلوبُهم كقلوب الذئاب، ألسِنتُهم أحلى من العسل، وقلوبُهم أمَرَّ من الصبْر: ايّايَ يخادعون، وبي يستهزئون! لأفتحن لهم فتنةً تذر الحكيم حيراناً" .
وروى الضحّاك، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: "علماءُ هذه الأمّة رجُلان: رجل آتاه الله علماً فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعاً، ولم يشترِ به ثمَناً، فذلك يصلي عليه طيرُ السماء، وحيتان الماء، ودوابُّ الأرض، والكرامُ الكاتبون. يَقدِمُ على الله سيّداً شريفاً حتّى يُرافق النبيّين. ورجُلٌ آتاه الله تعالى عِلماً في الدنيا فضنَّ به على عباد الله عزّ وجلّ وأخذ عليه، واشترى به ثمَناً، يأتي يوم القيامة ملجّماً بلجام من نار، ينادي مناد على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان آتاه الله تعالى في الدنيا علماً فضنَّ به على عباد الله تعالى وأخذ عليه طمعاً، واشترى به ثمناً قليلاً. يعذّب حتى يفرغ الله من حساب الخلائق" .
وأشدّ من هذا ما روي: إنّ رجلاً كان يخدم موسى (عليه السلام)، فجعل يقول: "حدّثني موسى صفي الله حدّثني موسى نجي الله، حدّثني موسى كليم الله" حتّى أثرى وكثُر مالُه، ففقَده موسى، فجعل يسأل عنه فلا يحسّ له أثراً، حتّى جاءه رجُل في يده خنزيرٌ وفي عُنقه حبل أسود. فقال له موسى: "أتعرف فلاناً"؟ قال: "نعمْ هو هذا الخنزير". فقال موسى: يا ربّ: أسألك أن تردّه إلى حاله حتّى أسألَه فيما أصابه هذا. فأوحى الله إليه: "لو دعوتني بالذي دعا به آدم فمَن دونه، ما أجبتُك. ولكن أخبرك لِم صنعتُ به هذا. لأنّه يطلب الدنيا بالدين".
وأغلظ من هذا ما ورَدَ عن معاذ بن جبَل: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فِتنة العالِم أن يكون الكلامُ أحبّ إليه من الاستماع. وفي الكلام تنميق وزيادة، ولا يؤمن على صاحبه الخطأ، وفي الصّمت سلامةٌ وعلم.
ومن العلماء من يخزن علمَه فلا يحبّ أن يوجد في غيره، فذلك في الدرك الأول من النار. ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان، فإن يُردّ عليه شيء من علْمه، أو تهوّن بشيء من علْمه غضبَ، فذلك في الدرك الثاني من النار. ومن العلماء من يجعل علمَه وغرائب حديثه لأهل الشرف، ولا يرى أهلَ الحاجة أهلاً له، فذلك في الدرك الثالث من النار. ومن العلماء من ينصب نفسه للفُتيا، ويُفتي بالخطأ والله يُبغض المتكلّفين، فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتكلّم بكلام اليهود والنصارى ليغزر علمَه، فذلك في الدرك الخامس من النار. ومن العلماء من يتّخذ علمَه مروّة ونبلاً وذكْراً في الناس، فذلك في الدرك السادس من النار. ومن العلماء من يستفزّه الزهو والعُجب، فإن وُعِظ عَنف، وإن وَعَظ أنِف، فذلك في الدرك السابع من النار. فعليك بالصمت، فيه تَغلبُ الشيطان، وإيّاك أن تضحكَ من غير عجَب، أو تمشي في غير أرب.
وفي الخبر:
"إنّ العبدَ ليُنشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب، وما يزن عند الله جناحَ بعوضة" .
وقال (صلى الله عليه وآله): "العلماء أُمناء الرسل على عباد الله ما لم يُخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسلَ. فاحذروهم واعتزلوهم" .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "شرار العلماء الذين يأتون الأُمراءَ، وخيارُ الأُمراءِ الذين يأتون العلماء" .
وقال أبو ذر لسلمة: "يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين، فإنّك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلاّ وأصابوا من دينك أفضل منه".
وهذه فتنة عظيمة للعلماء، وذريعة صعْبة للشيطان عليهم، لا سيّما من له لهجةٌ مقبولة وكلامٌ حلوٌ، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أنّ في وعظك لهم، ودخولك عليهم ما يَزجرهم عن الظلم ويُقيم شعائرَ الشرع إلى أن يخيّل إليه أنّ الدخول عليهم من الدين.
ومن علامات علماء الآخرة أن لا يكون أحدُهم متسرّعاً إلى الفتوى، بل يكون متوقّفاً محترزاً ما وَجَد إلى الخلاص سبيلاً، فإنْ سُئل عمّا يعلمه تحقيقاً بنصّ كتاب، أو بنصّ حديث، أو إجماع، أو دليل قاطع، أجاب. وإن سئل عمّا شكّ فيه، قال: "لا أدري". وإن سئل عما يظنّه باجتهاد وتخمين احتاط، ودفَع عن نفسه، وأحالَ على غيره - إن كان في غيره غُنية - هذا هو الحزْم، لأنّ تقلّد خطر الاجتهاد عظيم. وفي الخبر:
"العلْم ثلاثة: كتاب ناطق، وسُنّة قائمة، ولا أدري" .
وقال الشعبي: "لا أدري نصف العلْم. ومن سكَت حين لا يدري لله تعالى فليس أقلّ أجراً ممن نطق، لأن الاعتراف بالجهل اشدّ على النفس".
وهكذا كانت الصحابة. قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: "أدركتُ في هذا المسجد مأة وعشرين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ما منهم من أحد يسأل إلاّ ودَّ أنّ أخاه كفاه ذلك". وفي لفظ آخر: "كانت المسألة تُعرض على أحدهم، فيردّها إلى الآخر حتى يعود إلى الأوّل".
كان ابن عمر إذا سُئل عن الفتوى قال: "اذهب إلى الأمير الذي تقلّد أُمور الناس" وكان يقول: "تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون علينا إلى جهنّم".
وقال ابن مسعود: "ليس شيءٌ أشدّ على الشيطان من عالِم يتكلَّم بعلْم ويسكت بعلم، يقول: أنظروا إلى هذا، سكوتُه أشدّ علي من كلامه".
ووصَف بعضهم "الأبدال" فقال: أكلهم فاقةٌ، وكلامهم ضرورةٌ".
ومرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبد الله بن مسعود برَجلٍ يتكلّم على الناس، فقال: "هذا يقول: اعرفوني".
وقال بعضهم: "إذا كثُر العلم قلّ الكلام".
ومن علاماتهم أن يكون أكثر اهتمامهم بعلْم الباطن، ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه، والرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة، والجلوس مع الله في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكْرة، والانقطاع إلى الله عمّا سواه. فذلك مفتاح الإلهام، ومنبع الكشف، فكم من متعلّم طال بعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهمّ في التعلّم، ومتوفّر على العمل، ومراقبة القلب فتح الله عليه من لطائف الحكم ما يحار فيه عقول ذوي الألباب.
ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"مَن عمل بما علِم ورَّثه الله علْم ما لم يعلَم" .
وفي بعض الكتب: "يا بني إسرائيل لا تقولوا: العلْم في السماء مَن ينزل به؟ ولا في تخوم الأرض، من يصعد به؟ ولا من وراء البحار، من يعبر فيأتي به؟ العلْم مجبولٌ في قلوبكم، تأدّبوا بين يديَّ بأدب الروحانيين، وتخلَّقوا إليَّ بأخلاق الصدّيقين. أظهر العلم من قلوبكم حتى يغطّيكم".
فكم من معانٍ دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجرّد للذكْر والفكْر تخلو عنها كتب التفاسير، ولا يطلع عليها أذكياء المفسرين. وإذا انكشف ذلك للمراقب، ويعرض على المفسّرين استحسنوه وعلموا أنّ ذلك من تنبيهات القلوب الزكيّة، وألطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجّهة إليه. وكذلك في علوم المكاشفة، وأسرار علوم المعاملة، ودقائق علم النفس، وخواطرها، وهواجسها، فإنّ كلّ علم من هذه العلوم بحرٌ لا يدرك غورُه، وإنّما يخوضه كلّ طالب بقدر ما رزق، وبقدر ما وفّق بحسن العمل.
وروي في الإسرائيليات إنّ حكيماً من الحكماءِ صنَّف ثلاثمأة وستّين مصحَفاً في الحكمة، حتى وُصف بالحكيم، فأوحى الله إلى نبيِّهم: "قُل لفلان قد ملأتَ الأرض نفاقاً، ولم تردني شيئاً من ذلك. وإنّي لا أقبل من نفاقِك شيئاً" فنَدم الرجل وترك ذلك وخالط العامة في الأسواق، وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه، فأوحى الله إليه: "قل له: الآن وافقت رضائي".
ومنها: أن يكون أكثر بحثه في علْم الأعمال عمّا يفسدها، ويشوّش القلب، ويهيّج الوسواس، ويثير الشرّ. فإنّ أصل الدين التوقّي من الشر. ولذلك قيل:

عرفت الشرَّ لا لِشْــ ـشَرِّ لكن لتوقّيه
ومن لا يعرف الشرَّ من الناس يقع فيه

ولأنّ الأعمال البدنيّة لا تتمّ إلاّ بالقصود والنيّات، وإنّما الشأن في معرفة ما يفسدها ويشوّشها، وهذا مما تكثر شعبه ويطول تعريفه، وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه، وتعمّ البلوى به في طريق سلوك الآخرة.
وأمّا علماء الدنيا فإنّهم يتّبعون غرائب التفريع في الأقضية والحكومات، ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع، وإن وقَع ذلك فإنّما يقع لغيرهم - لا لهم - فإذا وقَع كان في العالِمين به كثرة، ويتركون ما يلازمهم ويتكرّر عليهم آناء الليل وأطراف النهار من خواطِرهم، ووساوِسهم، وأعمالهم.
وما أبعد عن السعادة من باعَ مهمّ نفسه اللازم بمهمّ غيره النادر ايثاراً للقبول والقرب من الخلْق على القرب من الله، وحرصاً على أن يسمّيه البطّالون من أبناء الدنيا فاضلاً، عالماً بالدقائق. وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق، بل يتكدّر عليه صفوه بنوائب الزمان، ثمّ يرد القيامة مفلساً متحسّراً على ما يشاهده من ربح العاملين، ونور المقرّبين. وهذا هو الخسران المبين.
فهذه عدّة علامات جليّة يمكن تعريفها لكلّ من أراد، ذكَرها صاحب كتاب الإحياء. ولهم علاماتٌ أُخرى باطنيّة لا يعرفها إلا ذو بصيرة كشفيّة.
ومن علاماتهم أيضاً ما ذكر صاحب كتاب إخوان الصفا بقوله:
فمِن إحدى علامات أولياء الله المنبعثين من موت الجهالة ورقدة الغفلة، المستبصرين بعين اليقين ونور الهداية، العارفين بحقائق الدنيا: أنَّهم قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان، وتغاير الأُمور وتصاريف الأكوان. فقد صارت الأيّام كلّها عندهم عيداً واحداً، وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلّها لهم مسجداً واحداً، والجهات كلّها قبلة ومحراباً واحداً، وصارت حركاتهم كلّهم عبادة لله، وسكَناتهم كلّهم طاعة، واستوى عندهم مدحُ المادحين وذمُّ الذامّين، لا يأخذهم في الله لومة لائم، قياماً لله بالقسط شهداء وهم على صلاتهم دائمون، وتحقّقوا بقوله تعالى:
{ { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة:115].
وإنّما استوتْ عندهم الأماكن كلّها وصارت محراباً ومسجداً وقبلةً واحدةً لتصديقهم قولَ الله تعالى:
{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة:115] وصاروا شهداء لمشاهدتهم له وتصديقهم لقوله: { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المجادلة:7].
وإنّما استَوت عندهم الأيام كلّها فصارت كلّها جمعة وعيداً لمشاهدتهم يومَ القيامة الذي هو أوّل البعث لمحمّد (صلى الله عليه وآله) إلى تمام ألف سَنَة، كما قال (صلى الله عليه وآله):
"بُعِثْتُ أنا والساعَة كهاتين" .
وإنّما استوتْ عندهم تصاريفُ الأحوال وتغاير الأُمور لتصديقهم قولَ الله تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [الحديد:22 - 23]. وصار دعاؤهم مستجاباً لأنّهم لا يسألون إلاّ ما يكون، ولا يكون إلاّ ما قدِّر في سابق العلْم. فقلوبهم في راحة من التعلّق بالأسباب، وأبدانهم فارغة من التكلّف فيما لا يعني، ونفوسُهم ساكنة عن الوسواس، وهم في راحة من أنفسهم، والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوء، ولا يضمرون لأحد شرّاً - عدوّاً كان أو صديقاً - كما قال علي (عليه السلام): "والله ما دنياكم عندي إلاّ كعفطَة عنز".