التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ
٤٥
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

"الصبر" في اللُّغة منْع النفس محابَّها وكفّها عن هواها، ولا بدّ للصبر من قوّة في الإنسان بها يصبِر عن الملذّات، ويصبر على المعاصي؛ لأنّ لكلّ فعل وأثر مبدأ لا محالة، ومبدأ الأفعال والانفعالات يسمّى عند أهل الحِكمة "قوّة". ففي الإنسان قوّة تسمى بالصبر، تسميةً للشيء باسم سببه، كما أنّ له قوّة تسمّى بالشهوة، وهاتان متقابلتان تقابل التضادّ وسيأتي تحقيق التضادّ بينهما.
قال سهل بن عبد الله: الصبر انتظار الفرَج من الله، وهو أفضل الخدمة وأعلاها.
وقال بعضهم: الصبر أن تصبِر على الصبْر بأن لا تطالع فيه الفرَج.
ومن أقسامه الصبر على المعصية، بكفّ الصابر نفسَه عن الجزع، ويقال: "فلان قُتل صَبراً" وهو أن يُنصب للقتل ويُحبس عليه حتى يقتل.
وفي الحديث:
"أُقتلُوا القاتلَ، واصبروا الصابِرَ" وذلك فيمن أمسَكه حتّى قتلَه آخر، فأمِر بقتل القاتِل وحبس المُمسك.
والخشوع، والخضوع، والاخبات، نظائر. وضد الخُشوع: الاستكبار، و "خشَع الرجل" إذا رمى ببصره إلى الأرض. و "اختشَع" إذا طأطأ رأسه كالمتواضع وهو قريب المعنى بالخضوع إلاّ أنّ الخضوع في البدن والأعضاء، والخشوع في الصوت والبصر. قال سبحانه
{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } [القلم:43] و { { خَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ } [طه:108]. أي: سكنت.
واختُلف في مَن نزلت الآية؟ فقومٌ قالوا: المخاطبون هم المؤمنون، إذ لا صلاة لغيرهم ولا صبر يتصور لهم على أمور وعن أمور لم يعرفوا أحكامها عن دين محمد (صلى الله عليه وآله).
وهذا ضعيفٌ، لتعبّد غيرهم بصلاة وصبر في الجملة، وإن لم يتعبّدوا بهما على هذه الكيفيّة، لأنّ كلّ أحد يعلم بعقله الذي هو حجّة الله عليه أنَّ الصبر على ما يجب الصبرُ عليه حسَن، وأنّ الصلاة التي هو التواضع، والتذلّل للمعبود الأوّل، والاشتغال بذكره، وعرفانه، تُريح القلبَ عن محَن الدنيا وآفاتها.
وقوم قالوا: هم اليهود، وتتناول المسلمين على وجه التأديب.
والأولى أن تكون خطابات القرآن غير مختصّة بقوم دون قوم، لتكون قوانينه كلّية عقليّة - كما مر - .
فمَن خصّص الخطاب باليهود قال: إن حبّ الرياسة والترفّعات التي تكون لعلماء الدنيا، الراغبين في المناصب - كالقضاء، والحكومة، والإمامة، والشيخوخة، والوعظ، والحسبة، وغيرها - كانت تمنعهم عن اتّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّهم خافوا زوال الرئاسة إذا اتّبعوه، فأمَرهم الله تعالى بالاستعانة فقال: { وَٱسْتَعِينُواْ } على الوفاء بعهدي الذي عاهَدتكم في كتابكم عليه في طاعتي، واتّباع أمري، وترك ما نهيتكم عنه، والتسليم لأمري، واتّباع رسولي محمّد (صلى الله عليه وآله) { بِٱلصَّبْرِ } على ما أنتم فيه من ضيق المعاش، وفوت الجاه الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه.
والمروي عن أئمتنا (عليهم السلام) انّ المراد بالصوم الصبر. وجاء في الحديث:
"وهو شهرُ الصبْر" لشهر رمضان، لأنّ الصائم يصبِر نفسَه ويكفّها عمّا يُفسد الصيام، فيكون فائدة الاستعانة به أن يذهب بالشَّره وهَوى النفْس، فإنّ سدَّ آفة الشهوة بالجوع يوجِب سدّ سائر الآفات، كآفة الغضب، والتكبّر، وحبّ الجاه، وغيرها، إذ الجميع ممّا يتقوَّى بقوّة البدن من الطعام والشراب.
ولذلك ورَد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
"الصومُ وِجاءٌ" وقال: "سدُّوا مجَاري الشيطان بالجوع" إذ الشيطان مركبُه الدم، كما ورد في قوله (صلى الله عليه وآله): "إن الشيطانَ يجري من ابنِ آدمَ مجرَى الدم" ولا شكّ في أنّ تقليل الغذاء يوجب تقليل الكيموس الصالح للدم، وبقلّة الدم يضعف جنودُ الشيطان، كالشهوة، والغضَب، والتكبر، والرياسة، وسائر المهلكات.
وفائدة الاستعانة بالصلاة، أنّ هذه الآفات كلّها، منشؤها الاحتجاب عن عالَم النور وما عند الله من الخَير والسعادة، بالانكباب إلى عالَم الظلمة والزور، وعند الاشتغال بالصلاة يتلى فيها ما يذكّر العهد القديم، ويرغّب إلى ما عند الله، ويزهّد في الدنيا، وحبّ الرياسة. قال سبحانه:
{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت:45].
ولأنّها تتضمّن التواضع والتذلّل لله بوضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على الأرض، فيدفع حبّ الجاه والرئاسة عن القلب، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا حزبه أمر من أمور الدنيا يستعين بالصوم والصلاة، ويقول:
"أرِحنا يا بِلال" .
ومَن قال: "إنّ الخطاب بها للمسلمين" قال: المراد به { ٱسْتَعِينُواْ } على تحصيل الآخرة، وما تنجّز وعدُه للمؤمنين من الدرجات العالية، والمقامات الرفيعة، أو على مشقّة التكاليف الدينية { بِٱلصَّبْرِ } أي بحبس النفس على الطاعات، وحبسها عن المعاصي والشهوات وبـ { ٱلصَّلاَةِ } لما فيهما من مجامع العبادات القلبيّة، والبدنيّة، من الطهارة البدنيّة عن الأخباث والأرواث، والطهارة النفسانيّة عن نجاسة العقائد الفاسدة، كالكفر وقصد الرياء، وستر البدن بالثوب الساتر للسوئتين، وكفّ النفس عن الأطيبين، وصرْف المال في الطَّهور والساتر، والتوجّه بالبدن إلى بيت الله، وبالقلب إلى وجه الله، والعُكوف للعبادة باخلاص النيّة، وخشوع الجوارح، واتعابها، وتسخير القوى واستعمالها في سبيل الطاعة، ومجاهدة جنود الشيطان، وأبناء الظلمات في التقرّب إلى نور الأنوار، ومناجاة الحقّ بخطابه وقراءة كتابه، والتدبّر في آياته، وذكر مصير الخلْق إليه ورُجوعهم إلى دار ثوابه أو دار عقابه، والاقرار بتوحيده، وحقيَّة رسوله بالشهادتين والصلاة عليه وآله. فليس في العبادات شيءٌ أفضل من الصلاة لكونها أجمع الحسَنات والقُربات.
وقال بعضهم: ليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر، ولا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة، فالأمر بالاستعانة بهما.
وروي عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمٌ من غموم الدنيا أن يتوضّأ، ثمّ يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيهما. أما سمعتم قوله تعالى: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } وقوله: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ }.
قيل في إعادة هذا الضمير وجوه:
أحدها - وهو قول الأكثرين -: إنّه عائد إلى الصلاة لأنّها الأقرب، ولعموم جدواها، وشمول فرضها واستجماعها ضُروباً من الصبر، وتأكيد حالها، وتفخيم شأنها.
وثانيها: إنّه عائدٌ إليها ظاهراً. والمراد به الاثنان وإن كان الضمير واحداً، ويشهد لذلك قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة:34]. وقوله: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة:11]. وقوله: { { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة:62]. وكقول القائل: "أنتَ بما عندك وأنا بما عندي راضٍ".
وثالثها: إنّه عائد إلى الاستعانة التي يدلّ عليها قوله { وَٱسْتَعِينُواْ }.
ورابعها: إنّه عائد إلى جميع الأمور التي سبَق ذكرُها ممّا أُمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله:
{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي } [البقرة:40] إلى قوله: { وَٱسْتَعِينُواْ }.
وخامسها: أن يكون عائداً إلى محذوف، وهو الاجابة للنبي (صلى الله عليه وآله) - عن الأصم - أو مؤاخذة النفس بهما، أو تأدية ما تقدّم، أو تأدية الصلاة، أو ضروب الصبر عن المعاصي. وهذه الوجوه الأخيرة ضعيفة، لأنّه لم يسبق لها ذكْر.
وربما قيل: إن العربيّ قد يضمر الشيء اختصاراً، ويقتصر فيه على الايماء إذا وثق بعلم المخاطب به، كما في قوله تعالى:
{ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر:45]. ولا ذِكْر للأرض. وكقول القائل: "ما عليها أفضَل من فلان" يعني الأرض. أو كقوله: "ما بين ساكنيها أعلم من فلان" يعني المدينة.
فصل
في الكشف عن ماهيّة الصبر محاذياً لما ذكَره بعض المحقّقين
اعلم أنّ الصبر منزل من منازل السالكين، ومقام من مقامات الدين، وجميع مقامات الصالحين إنّما ينتظم من ثلاثة أمور: معارفٌ، وأحوالٌ، وأعمالٌ. فإنّ القلب الإنساني بمنزلة مرآة بالقوّة. فالأعمال بمنزلة تصقيلها وتنقيتها عن الريون، والأخباث، والطبائع، والكدورات، والأحوال بمنزلة صفائها ونقائها ومواجهتها للمطلوب، والمعارف عبارةٌ عن حضور صوَر الحقّ المطلوب فيها. فالأعمال تراد للأحوال، والأحوال تراد للمعارف - هذا نظر المحقّقين - .
وأمّا المحجوبين: فزَعموا عكسَ ما ذكرناه، وهو أن تحصيل العلوم للأحوال، وثمرةُ الأحوال الأعمالُ: لِما سمعوا أنَّ العلم بدون العمل وبالٌ، وما ورَد في الخبر:
"نعوذُ بالله مِن علم لا ينفع" وأمثال ذلك. ولم يعلموا أنّ المراد منه علومُ الأعمال - لا علوم المكاشفات الحاصلة من الأحوال - ولم يتدبّروا في قوله تعالى: { { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر:99]. وقوله (صلى الله عليه وآله): "ربّ زِدني علماً" وقوله: "نعوذُ بكَ من أن أقولَ في العلْم بغير علْمٍ، وأن أعمَل في الدين بغير يقين" وقوله (عليه السلام): "قصَمَ ظَهري رَجلان: عالِمٌ متهتّكٌ، وجاهلٌ متنسّكٌ" .
نعم المعارف هي الأصول، وهي تورث الأحوال. والأحوالُ توجب الأعمال. فالمعارف كالأشجار بقواها الأصلية، كالغاذية، والمنمية. والأحوال كالأغصان والألوان. والأعمال كالنتائج والأثمار.
وهكذا النظر في جميع مقامات الدين، ومنازل السالكين، واسم الإيمان تارةً يخص بالمعارف، وتارةً يُطلق على الكلّ لاستلزامها الأحوال والأعمال.
فكذلك الصبْر. فإنّه لا يتم إلاّ بمعرفة سابقة، وبحالة قائمة، وبعمل لاحق. والصبر على التحقيق عبارة عن الأوليين، والعمل كالنتيجة الحاصلة لهما، بل الانتظام من الأمور الثلاثة حاصل في كلّ مقام من المقامات الحيوانيّة أيضاً - كالشهوة، والغضب والتكبّر، والرياسة، والعُجب - وغيرها.
فإنّ في الشهوة - مثلاً - علمٌ بالمشتهى كالتخيّل ونحوه - هذا بمنزلة المعارف - وفيها رغبة وميلٌ إليه - وهذا من باب الأحوال - وفيها أيضاً حركة كالأكل والجماع - وهي من جملة الأعمال - واللائق باسم الشهوة هما الأوّلان، والحركة من النتائج لهما.
وقد مرّت الاشارة إلى مثل هذا في الشكر، من أنّ العلم بالمنعم وانعامه هو أصل الشكر. وأنّ من عَلم أنَّه يعجز عن الاتيان بشكر نعِم الله فقد أدّى غاية الشكر لله. فأصل الصبر معرفة ما لأجله الصبر على الشدائد، ثمّ توطين النفس على ذلك، ثمّ حبسها على الآلام وعن الشهوات. قال تعالى مخاطِباً لنبيّه:
{ { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [النحل:127].
وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أمرَ الله تبارك وتعالى أنبياءه (عليهم السلام) بالصبر، وجعلَ الحظَّ الأعلى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث جعل صبرَه بالله - لا بنفسه - فقال: { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ }.
وما ذكرنا من الترتيب في باب معاني الصبر - أي: علمه وحاله وعمله - لا يعرفه إلاّ مَن عرف الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم، فانّ الصبر من خاصيّة الإنس، ولا يتصوّر ذلك في البهائم والملائكة. أمّا في البهائم فلنقصانها. وأمّا في الملائكة فلكمالها.
فالملائكة مخلوقة من عقل بلا شهوة. والبهائم مخلوقة من شهوة بلا عقل. والإنسان بين شهوة وعقل. وقد خلَقه الله ذا أطوار، كما قال تعالى:
{ { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [نوح:14]. ولم يقل: "ذوي أطوار" ليدلّ على أنّ انتقال الإنسان في أطواره الذاتيّة انتقال جوهريّ، وحركة ذاتيّة معنويّة بنفسه في نفسه. وبيانه يفتقر إلى كلام طويل وخوض عميق في التحقيق لا يناسب هذا المقام.
وبالجملة فقد أعطاه الله قوّة له أن ينتقل بها من حدّ البهيمة إلى حدّ الملَك ويسمّى باعثاً دينيّاً.
وبيانه: إنّ البهائم سلّطت عليها الشهوات - كما ذكر - وصارت مسخّرة لها، فلا باعث لها على الحركة والسكون، إلا الشهوة الداعية لها إلى المشتهيات، وليس لها قوّة أخرى تصادم قوّة الشهوة وتسخّرها وتردّها عن مقتضاها، حتّى يسمّى ثبات تلك القوّة في مقابلة مقتضى تلك الشهوة "صبراً".
وأمّا الملائكة، فإنّهم جرّدوا للمعرفة والشوق إلى الحضرة الربوبيّة، والابتهاج بدرجة القرب منها، ولم يسلّط عليها شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة مّا يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.
وأما الإنسان فإنّه خلِق في ابتداء الحداثة والصبا ناقصاً مثل البهيمة، لم يخلق فيها إلاّ شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليها في حيوانيّته وحياته الدنيا، ثمّ تحدث فيه شهوة اللعب والزينة، ثمّ شهوة النكاح على الترتيب؛ ثمّ شهوة التفاخر والتكاثر. قال تعالى:
{ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ } [الحديد:20].
وليس له في الابتداء قوّة الصبر البتّة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر، قام القتال بينهما لتصادم مقتضياتهما ومطالبهما، وليس في الصبيّ إلاّ جند الهوى كما في البهائم، ولكن الله بفضله، وسعة جوده كرّم ابن آدم، وفضّله على كثير ممّن خلقه، ورفَع درجته عن درجة البهائم.
فوكّل عند تمام شخصه لمقارنة البلوغ ملكين: أحدهما يهديه، والآخر يقوّيه، فتميّز بمعونة الملَكين عن البهائم. واختصّ بصفتين.
إحداهما معرفةُ الله ومعرفة رسوله، ومعرفة اليوم الآخر، ومعرفة المصالح المتعلّقة بالعواقب، والنجاة عن العذاب في الدار الآخرة - وكلّ ذلك حاصل من المَلَك الذي إليه الهداية والتعريف - والبهيمة لا معرفة لها ولا هداية لها إلى معرفة العواقب، بل إلى مقتضى شهوتها في الحال فقط، فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ، وأمّا الدواء النافع مع كونه كريهاً مضرّاً في الحال، فلا تعرفه ولا تطلبه، فصار الإنسان يعرف بنور الهداية أن اتّباع الشهوات لها معقّبات مكروهة في العاقبة.
ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضرّ، وحبس الشهوة عنها. فكم من مضرّ يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً، ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرة وقوّة يدفع بها في نَحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوّة حتى يقطع عداوتها عن نفسه، فوكّل الله به ملَكاً آخر يسدّده ويقوّيه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جنود الشهوة، فتارة يضعف هذا الجُند، وتارة يقوى ذلك بحسب امداد الله عبده. كما أنَّ نور الهداية أيضاً يختلف في الخلْق اختلافاً لا يحصر.
فلنسمّ هذه الصفة التي بها فارَق الإنسانُ البهائمَ باعثاً دينياً. ولنُسمّ مطالبةَ الشهوات بمقتضاها باعث الهوى وليفهم أنَّ القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى، والحرب بينهما سجال، ومعركة هذا القتال قلبُ العبد، ومدد باعث الدين من الملائكة، الناصرين لحزب الله تعالى. ومدد باعث الهوى من الشياطين الناصرين لأعداء الله.
فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة، فإن ثبتَ حتّى قهرَه واستمرّ على مخالفة الشهوة، فقد نصر حزب الله والتحق بالملائكة. وإن تخاذل وضعف حتّى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها التحق بأتباع الشياطين، فإنّ ترْكَ الأعمال المشتهاة عملٌ يثمرها حال يسمّى الصبر. وهو ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى، وذلك الثبات حال يثمرها المعرفة بالله واليوم الآخر بعداوة الشهوات ومضادّتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة.
فإذا قوي يقينه - أعني المعرفة التي تسمّى إيماناً - وعلم بكون الشهوة عدوّاً قاطعاً لطريق الله قوي ثبات باعث الدين. وإذا قوي ثباته تمّت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة فلا يتمّ ترك الشهوة إلاّ بقوة باعث الدين، المضادّ لباعث الشهوة وقوّة المعرفة، والإيمان بقبح تبعة الشهوات وسوء عاقبتها.
وهذان الملَكان هما المتكفّلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره إيّاهما، وهما من الكرام الكاتبين، وبهما الاستعانة في العِلم والعَمل، والصوم والصلاة. أحدهما ملَك الصوم، لأنّ بقوّته تكفّ النفس عن الشهوات المفطرات، والآخر ملَك الصلاة، لأنّ بهدايته تعرف كيفيّة الصلاة.
ولذا قال تعالى: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } وقال: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } تنبيهاً على أنّ الأصل في الصبرر والصلاة خشوع القلب، ويقينه بالآخرة، وبالخشوع لله، والرغبة إليه، وإلى دار كرامته وجنّته، والخوف منه ومن عذابه في دار نقمته وسجنه، يصبر الإنسان عن الشهوات، ويقهر عليها، وبنور معرفته، وعلمه بلقاء ربّه ورجوع الكلّ إليه يهتدي إلى محاربة الأعداء، وقهر الشياطين لينخرط في سلك المقرّبين.
وإذا عرفت أنّ رتبة الملَك الهادي أعلى من رتبة الملَك المقوّي، وانّ الصلاة أشرف من الصوم، ولهذا ورَد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلاة:
"إنّها معراجُ المؤمن" وفي الصوم: "إنّه جُنَّة من النار" . وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): "قُرّة عيني في الصلاة" . وقال: "الصوم وِجَاء" لم يخف عليك أنَّ جانب اليمين الذي هو أشرف الجانبين من جنبتي الدَّست ينبغي أن يكون مسلماً له، فهو إذن صاحب اليمين، والآخر صاحب الشمال. وعند القيامة يتلاقيان كما في قوله تعالى: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق:17].
ثمّ للعبد طوران في الغفلة والفكر، وفي الاسترسال والمجاهدة. فهو بالغفلة معرِضٌ عن صاحب اليمين ومسيء إليه، فيكتب عليه اعراضه سيّئة، وبالفكْر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية، فهو به محسِن، فيكتب له حسَنة. وكذا بالاسترسال معرِض عن صاحب اليسار، تارك للاستمداد منه، فهو به مسيء إليه، فيكتب عليه سيئة، وبالمجاهدة مستمدّ من جنوده فيكتب له به حسَنة.
وإنّما تثبت هذه الحسنات والسيّئات باثباتهما، ولهذا سمّيا "كرام الكاتبين". أمّا الكرام فلكرامتهما وانتفاع العبد بكرمهما وبرّهما - والملائكة كلّهم كِرام بررَة - وأمّا الكاتبين فلإثباتهما الحسَنات والسيّئات.
وإنّما يكتبان في صحائف مطويّة في سرّ القلب، ومطويّة أيضاً عن سرّ القلب، حتّى لا يطلع عليه في هذا العالَم، لانغماره في البدن انغمار صحيفة مكتوبة في تراب الأرض، واستتارها تحته عن الأبصار ما لم يبرز عنه، وكذلك صحيفة القلب ينشر يوم القيامة من غبار البدن على البصائر يوم كشف السرائر.
فالملَكان، وكتبهما، وخطّهما، وصحائفهما، وجملة ما يتعلّق بهما من عالَم الغيب والملَكوت - لا من عالَم الشهادة - وشيء من الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالَم، ثمّ تنشر الصحائف عن القلب مرّتين: مرّة في القيامة الصغرى، ومرة في القيامة الكُبرى.
وأعني بالقيامة الصغرى حال الموت، إذ قال (صلى الله عليه وآله):
"مَن مَات فقَد قامَت قيامته" . وفي هذه القيامة يكون العبد وحده. وعندها يقال: { { لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام:94]. وفيها يقال: { ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:14].
أمّا في القيامة الكبرى - الجامعة لكافّة الخلق - لا يكون وحده، بل ربما يحاسب على ملإ من الخلْق ورؤوس من الأشهاد. وفيها يُساق المتّقون إلى الجنّة، والمجرمون إلى النار زُمراً - لا آحاداً - وأهوالها أعظم. وسيأتيك بيانها إن شاء الله تعالى.
فصل
في تتمَّة القول في الصبر وأقسامه
اعلم أنَّ الصبر دواءٌ مُرّ، وشَربة كريهة، يجلب إليك كلّ منفعة، ويدفع عنك كلّ مضرّة. فإذا كان هذا الدواء بهذه الصفة، فالإنسان العاقل يكره النفس على شُربه وتجرّعه، ويصبر على مرارته وحِدّته، وهو يقول: "مرارةُ ساعة، وراحةُ سَنة".
وقيل: "لكلّ شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر".
والصبر جار في الصابر مجرى الأنفاس، لأنّه يحتاج إلى الصبر عن كل منهيّ، ومكروه، ومذموم ظاهراً وباطناً. ولا يتمّ ذلك إلاّ بالعلم.
وقيل: "أشدّ مراتب الصبر وأقسامه كفّ الباطن عن حديث النفْس" وإنّما يشتدّ ذلك على من يفرغ له، بأن يقمع الشهوات الظاهرة، وآثَر العزلة، وجلَس للمراقبة، والذكر، والفكر. فإنّ الوسواس لا يزال يُجاذبه من جانب إلى جانب. وهذا لا علاج له إلاّ قطع العلائق بالكلّية بالفرار عن الأهل، والأولاد، والرفقاء، والأصدقاء.
ولا يكفي ذلك أيضاً ما لم يجعل الهموم همّا واحداً - وهو الله - ثمّ إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ما لم يكن له مجال في الفكر، وسير بالباطن في ملكوت السماوات، والأرض، وعجائب صُنع الله، وسائر أبواب معرفة الله، حتّى إذا استولى ذلك على قلبه دفَع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه.
وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، والصلوات، والأذكار الظاهرة المترتبة في كلّ لحظة، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضورَ، فإنّ التفكّر الباطني، ومناجاة السرّ مع الله هو الذي يستغرق القلب في الشهود، دون الأوراد الظاهرة.
ولذلك قال: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } أي: استعينوا في طلب السعادة الحقيقية بالانقطاع عن الخَلْق، وعن الدواعي الدنيوية والعلائق كلّها، وبالمناجاة بالسرّ مع الله، وهي روح الصلاة، كما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال:
"المصلّي مناج ربّه" .
فبالانقطاع عن العلائق كلّها يسلم له الوقت، ويقع له الفرصة فيصفو القلب وينتشر الفكْر، وتحصل له المناجاة بالمكالمة الحقيقيّة مع الله، وحينئذ ينكشف له من أسرار الله، وخفايا نوره. وحكمته في ملَكوت السماوات والأرض ما لا يقدر على شيء منه في زمان طويل، لو كان مشغول القلب بالعلائق، والانتهاء إلى هذا المقام غاية ما يمكن تحصيله بالاكتساب، وأن ينال بالجهد.
فأمّا مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله في الأحوال والأعمال، فذلك يجري مجرى الصيد. وهو بحسب الرزق، والمعوّل فيه على جذبة من جذَبات الحقّ - فإنّها توازي عمل الثقلين - ولا مدخل للعمل والاختيار.
نعم للاختيار مدخل في أن يتعرَّض العبد لتلك الجذْبة، بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا، فإنّ المجذوب إلى أسفل السافلين، لا ينجذب إلى أعلى عليّين. وكلُّ منهوم بالدنيا فهو منجذب إليها. فقطع العلائق الجاذبة عن القلب هو المراد بقوله (صلى الله عليه وآله):
"إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها" .
وهو التهيئة لها، وتنقية أرض القلب عن حشايش التعلّقات، وبثّ بذر المعرفة والإيمان فيها، انتظاراً لرحمة الله، وتعرّضاً لمهابّ رياح الجود والكرَم في الأوقات الشريفة، ومظانّ الاجابة، واستدراراً لأمطار المكاشفات، ولطائف مياه المعارف من خزائن الملكوت عند اجتماع الهمم، وتساعد القلوب كما في يوم عرفة، ويوم الجمعة، وأيّام رمضان.
كما ينتظر الزارع الذي يصلح الأرض وينقّيها من الحشيش، ويبثّ البذر فيها. إذ كلّ ذلك لا ينفعه إلاّ بمطر، ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر، إلاّ أنّه يَثق بفضْل الله وتحريكه أسباب السماوات للرزق بأمره على مَن يشاء، إذ قال:
{ { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات:22].
فهذا هو علاج الصبر على الوساوس والشواغل، وهو آخر درجات الصبر، وإنّ الصبر عن العلائق كلّها مقدّم على الصبر عن الخواطر، وأشدّ العلائق على النفْس عُلقة رياسة الخلْق وحبّ الجاه فإنّ لذّة الرياسة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذّات في الدنيا على نفوس العقلاء.
قال الغزالي: "وكيف لا يكون أعلى اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبيّة والربوبيّة مطلوبة ومحبوبة بالطبع للقلب، لما فيه من المناسبة للأمور الربوبيّة، وعنه العبارة بقوله تعالى:
{ { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85]. وليس القلب مذموماً على حبّه ذلك، وإنّما هو مذموم على غلَط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالَم الأمر، إذ حسده على كونه من عالَم الأمر، فأضلّه وأغواه.
وكيف يكون مذموماً عليه، وهو يطلب سعادة الآخرة، وليس يطلب إلاّ بقاء لا فناء فيه، وعزّاً لا ذُلّ فيه، وأمْناً لا خوف فيه، وغناء لا فقر فيه، وكمالاً لا نقصان فيه. وهذا كلّها من أوصاف الربوبيّة.
وليس العبد مذموماً على طلب ذلك... ولكنّه آجل، وقد خلَق الإنسان عجولاً راغباً في العاجلة. فجاء الشيطان وتوسّل إليه بواسطة العجلة التي في طبْعه، فاستغواه بالعاجلة، وزيّن له الحاضرة، وتوسّل إليه بواسطة الحُمق، فوعَده بالغُرور في الآخرة، ومناه مع مُلك الدنيا ملك الآخرة، كما قال (صلى الله عليه وآله):
"والأحمق مَن أتْبع نفسه هواها وتمنّى على الله" فانخدع المخذول بهذا الغرور، واشتغل بطلب عزّ الدنيا، كما قال تعالى: { { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ } [القيامة:20 - 21]. فالمؤمن باليوم الآخر يصبر عن اللذّة العاجلة.
قال الجنيد: "المسير من الدنيا إلى الآخرة سَهل على المؤمن، وهجران الخلْق في جَنب الحقّ شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد. والصبر مع الله أشدّ".
فذكَر شدّة الصبر عن شواغل القلب، ثمّ شدّة هجران الخلْق، لأنّ المراد به ترْك خاطر الجاه والرياسة على الخلْق. فأشار إلى أنّ الصبر عنه أشدّ من الصبر من شواغل الدنيا، ثمّ شدّة الصبر مع الله، لأنّ غلبة نوره يُدهش الروح، ويذيب القلب، كما تفعل نور الشمس بالأبصار الضعيفة وحرارتها بالجَمد.
قيل: وقَف رجُلٌ على الشِّبلي، فقال: أي الصبر أشدّ على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله تعالى. فقال: لا. فقال: الصبر لله. فقال: لا. فقال: الصبر مع الله. فقال: لا. فغضب الشبلي، فقال: ويحك أي شيء هو؟ فقال الرجل: الصبر عن الله. فصرَخ الشبلي صرخَة كاد أن يتلف روحه.
قال صاحب العوارف: "وعندي في معنى الصبر عن الله وجه، ولكونه من أشدّ الصبر على الصابرين وجهٌ: وذلك أنَّ الصبر عن الله يكون في أخصّ مقامات القُرب والمشاهدة، يرجع العبد عن مولاه استحياء واجلالا، وتنطبق بصيرته خجلا وذوباناً، ويتغيّب في مفاوز استكانته، وتخفِّيه لاحساسه بعظيم أمر التجلي.
وهذا من أشدّ الصبر، لأنّه يودّ استدامة هذا الحال تأدية لحقّ الجلال، والروح تودُّ استدامة هذا الحال باستلماع نور الجمال، وكما أنَّ النفس منازعة في عموم حال الصبر، فالروح في هذا الصبر منازعة، فاشتدّ الصبر عن الله تعالى لذلك.
وقال أبو الحسن بن سالم: "هم ثلاثةٌ: متصبِّر، وصابرٌ، وصبّارٌ. فالمتصبِّر مَن صبر في الله. فمرّة يصبِر، ومرّة يجزَع. والصابر من صبَر في الله لله ولا يجزَع، ولكن يتوقّع منه الشكوى، وقد يمكن من الجزع. وأمّا الصبّار فذلك الذي صبره في الله، وبالله. فهذا لو وقَع عليه جميع البلايا لا يَعجز ولا يتغيّر من جهة الوجود والحقيقة لا من جهة الرسم والخِلقة" واشارته في هذا إلى ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة.
فصل
قوله تعالى: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ }
الفناء في الله بالصبر عن النفس وهواها وجاهها ومآلها. والبقاء بالله بالصلاة والمناجاة معه صعب شديد إلاّ مع خشوع القلب، وانكساره، وافتقاره، وعبوديته لتصحيح نسبة الامكان، وهو قُصارى مجهود العابدين، فإنّ كلّ سالك طبيعي أو ارادي لو نظرت إليه لوَجدت أنّ بناء انتقاله من حالة إلى حالة أُخرى، وانقلابه من صورة إلى صورة أشرف وأقوى هو ضعف نشأته الأولى، وزوال رسوخه، وشدة فعليّته، وحصول حالة امكانية استعداديّة شبيهة بالعدم.
فالعناصر مثلاً ما لم تنكسر منها شدّة كيفيّاتها، وتأكّد صورها النوعيّة، حتّى صار كلّ منها كأنّه متوسّطة بين أن تكون، وبين أن لا تكون، فلم تقبل صورة أُخرى أشرف من صورها - وهي صورة الجماديّة - .
ثمّ من الجماديّات ما هو أقوى صورة، فأبعد من أن ينقلب نباتاً، كاليواقيت والفلزّات، وما ينقلب منها نباتاً فهو كالبذور وغيرها، التي يستولي عليها الوهْن والقصور في صورتها الجماديّة، ويكاد أن يضمحلّ ويستحيل في مكانها عائدة إلى الفساد لولا عناية الله لها بالامداد، ونقلها إلى صورة النبات من حدود الجماد.
وكذا الحال في النطَف الصائرة حيواناً وإنساناً، كلّ ذلك لأجل امكاناتها التي هي كصورة الخشوع والخضوع لما فوقها، ولما يقهرها ويسخرها، فحركاتها إلى الله، وتوجّهها نحوه تعالى بالاضطرار، والافتقار إلى الواحد القهار.
فكذلك الحكم في أفراد الإنسان، فكلّ من خشَع قلبُه وخضَع لله بالمحبة والانقياد، وجاوز عن حدّ نفسه وهواه طلباً لمولاه، انفتح عليه أبوابُ الرحمة، وفاضَ عليه أنوار الإلهية، ووصل إليه خلع الكرامة، وكلّ من وقف في مقام نفسه وأنانيّته وطلب هواه، فهو مطرود عن باب الله، محجوب عن لقائه بيد سدَنة النيران وحجاب القهرمان.
فمن خشَع قلبه لله سهل عليه ترك هوى النفس، والصبر عن الدنيا وما فيها بالصوم عنها. كما قيل: "صُمْ عن الدنيا واجْعل فطرَك الموت" وبالقدوم على الله بالصلاة التي روحها عرفان الحق، والتعبّد له ظاهراً وباطناً.
وملاك الأمر كلّه معرفة الله، ومعرفة النفس، وحشرها إليه تعالى، والتصديق بلقاء الله، ولذلك وصَف الخاشعين بقوله عزّ اسمه: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.