التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ
٤٧
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

إن الله تعالى قد كرّر الخطاب معهم، وأعاد هذا الكلام عليهم مرّة أُخرى توكيداً للحجّة، وتفصيلاً بعد الاجمال، لأنّه أوقع في النفوس، وتذكيراً لنعمة التفضيل الذي هو أجلّ النعم على الخصوص، وتحذيراً من ترك اتّباع محمّد (صلى الله عليه وآله).
قال القفّال: النّعْمَة - بكسر النون - صفةُ المنعِم. أي ما ينعم به الرجُل على صاحبه. قال تعالى:
{ { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا } [الشعراء:22]. - وأمّا النَّعْمَة - بفتح - النون - فهو بمعنى ما يتنعم به في العيش. قال تعالى: { { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [الدخان:27].
وقوله: { أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } منصوبُ المحل عطفاً على { نِعْمَتِي } أي اذكروا نعمتي وتفضيلي إيّاكم على العالَمين.
ولا يلزم أن يكونوا أفضل من محمّد (صلى الله عليه وآله) لوجوه:
أحدها: ما ذكر في الكشّاف: "إنّ المراد به التفضل على الجمّ الغفير من الناس، كقوله تعالى:
{ بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:71] وكما تقول: "رأيتُ عالماً من الناس" والمراد منه الكثرة لا الكلّ.
واعترض عليه في التفسير الكبير بأنّ هذا ضعيف، لأن لفظ "العالَم" مشتقّ من العلم. وهو الدليل.فكلّ ما كان دليلا على الله أو كان عالماً فكان من العالَم. وهذا تحقيق قول المتكلمين: "إنّ العالَم كلّ موجود سوى الله" وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالَم ببعض المحدَثات.
أقول: وهذا غير وارد، إذ ليس مراد الزمخشري أنّ مدلول لفظ "العالَم" حقيقةٌ مختصٌّ ببعض المحدَثات، بل إنّه اريد به كثير من العالَم مجازاً، أو بحسب العرف الطارئ.
وثانيها: ما قاله ابن عباس: إنّه أراد به عالمي زمانهم، لأنّ امّتنا أفضل الأمم بالاجماع، كما انّ نبيّنا أفضل الأنبياء. وبدليل قوله تعالى:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110].
وثالثها: أنّ المراد تفضيلهم في أشياء مخصوصة، وهو إنزال المنّ والسلوى وما أرسل الله فيهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب - إلى غير ذلك من النِّعَم العظيمة - كإغراق فرعون، والآيات الكثيرة التي يسهل معها الاستدلال، ويهون بها المشاقّ. وتفضيل الله إيّاهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق.
وهاهنا وجه آخر لا يبعد القول به: وهو أنّ هذا التفضيل من جملة النّعم العامّة عليهم وعلى غيرهم من أفراد نوعهم والتي جاءت من بعد النِّعم الخاصّة لهم، فيكون إشارة على فضيلة البشريّة كما في قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء:70]. غاية الأمر، أن كان المراد من العالَمين غير الملائكة والأشخاص الكريمة العلويّة ليكون على وفاق قوله: { كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا }.
واعلم أنَّه قال في التفسير الكبير: إنّ قوله: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } يدلّ على أنّ رعاية الأصلح لا تجب على الله تعالى - لا في الدنيا، ولا في الدين - لأن قوله: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } يتناول جميع نِعم الدنيا والدين، فذلك التفضيل إن كان واجباً لم يجز جعله مِنَّة عليهم، لأنّ من أدّى واجباً فلا منَّة له على أحد. وإن لم يكن واجباً مع أنّه قد خصّص البعض بذلك دون البعض فهذا يدلّ على أنّ رعاية الأصلح غير واجبة لا في الدنيا، ولا في الدين.
أقول: فيه نظر لأنّ الوجوب من وجه لا ينافي عدمه من وجه آخر.
ثمّ إنّا لا نسلم أنّ المؤدي للواجب إلى أحد لا يجوز له المنّة على المؤدّى إليه. فإنّ الأب يجب عليه تأديب الولد، ونفقته، وكسوته، ورعاية أحواله، ومع ذلك لو مَنَّ عليه بها لم يكن هذا قبيحاً منه. وكذا المعلّم لأحد في المعارف الإلهيّة لو منَّ على من خرج بهدايته من ظلمة الضلالة، وعمَه الحيرة، وجهنّم الجهالة، إلى نور الهدى، وبصيرة اليقين، وجنّة العرفان، لكانت المنَّة له عليه عظيمة.
على أنّ الحق في هذه المسألة ما ذهب إليه المحقّقون، من أنّ الأشياء إنّما تجب بإيجاب الله تعالى، لأنّ الأشياء وجبت عليه، أو أوجبت شيئاً آخر عليه.