التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
٤٨
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

قرأ أهل مكة والبصرة { لاَ تُقْبَلُ } بالتاء، والباقون بالياء.
لما بيّن سبحانه نعمَه العِظام عليهم أنذَرهم في كُفرانهم بيوم القيامة. واتّقاؤه عبارة عن اتّقاء ما يكون فيه من الشدائد والأهوال، وإلاّ فنفس اليوم لا يتّقى. كيف ولا بد أن يرده أهل الجنة والنار جميعاً، ولكن ليس انتصابُه انتصابَ الظروف، بل انتصاب المفعول به، لأنّ معناه "اتّقوا هذا اليوم واحذَروه" وليس معناه "اتّقوا في هذا اليوم" لأنّ يومَ القيامة لا يؤمَر فيه باتّقاء شيء، بل إنما يؤمَر في غيره باتقائه أو اتّقاء ما يقع فيه.
و "الجَزَاء" عند أهل اللغة المكافأة والمقابلة. يقال: "جزى يجزي جزاء" و "جازاه مجازاة" ومنه الحديث أنّه قال (صلى الله عليه وآله) لأبي بردة في الجَذعة التي أمره أن يُضحي بها:
"ولا تجزي عن أحد بعدك" وقال (عليه السلام): "البقَرة تجزي عن سبعةٍ" أي: تقضي وتكفي. فقوله: { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق فيكون مفعولاً به أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبه على المصدريّة.
وقرئ: "ولا تُجزئ" من "أجزَأ عنه" إذا أغنى عنه، فعلى هذا لا يكون إلاّ مصدراً بمعنى شيئاً من الإجزاء. وقرأ أبو السرار القنوي "لا تجزي نسْمةٌ عن نسْمة شيئاً".
وتنكير الجَزاء والجازي والمَجزي عنه للتعميم والاقناط الكلي عن غير الله. والجملة منصوبة المحل صفة لـ "يوماً" والعائد فيها محذوف، تقديره: "لا تجزي فيه نفس" ومنهم من لم يجوّز حذفَ الضمير المجرور، لأنّك لا تقول "هذا رجلٌ قصدتُ" أو "هذه واد سكنتُ" وأنت تريد "إليه" أو "فيها". فقال: اتُّسع فيه فأُجري مجرى المفعول به، فحذف عنه الجار، ثمّ حذف الضمير كما حُذف في قوله:

فما أدري أغيَّرهم ثناءٌ وطولُ العهد، أم مالٌ أصابوا؟

و "الشَّفَاعةُ" أن يستوهب أحد لأحد شيئاً أو يطلب له، وهي بمعنى الوسيلة والوصلة، والقربة. وأصلها من "الشَّفْع" الذي هو ضدّ "الوتْر" كأنّ المشفوع كان فرداً، فجعله الشفيع شفْعاً بضمّ نفسه إليه.
والضمير في { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا } راجعٌ إلى النفس الثانية العاصية أي: لو جاءت بشفاعة شفيع لا يُقبل منها. ويجوز عوده إلى الأولى أي: لو شفّعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا تجزي عنها شيئاً.
و "العَدْل" هاهنا: الفِدية. وقيل: البدل. والفرق بين العَدْل والعِدْل أنَّ العَدْل هو مِثل الشيء من جنسه، والعِدْل هو بدل الشيء. وقد يكون من غير جنسه. قال سبحانه:
{ { أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } [المائدة:95]. وأصله التسوية سُمِّيت به الفدية لأنّها سوّيت بالمفدى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر:47]. وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } [المائدة:36]. وقوله: { { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } [آل عمران:91]. وقوله تعالى: { { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [الأنعام:70].
و "النُّصْرَة" هي المَعونة، وقيل: النُّصرة أخصّ من المعونة لاختصاصها بدفع الضرّ. قال القفّال: والنَّصْر يراد به المَعونة، وفيه معنى الاغاثة. تقول العرب: "أرضٌ منصورةٌ" أي: ممطورة. والغَيث ينصر البلاد إذا أنبتها، فكأنّه أغاث أهلَها. ويسمّى الانتقام نُصرة وانتصاراً. قال تعالى:
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ } [الأنبياء:77]. قالوا معناه: فانتقمنا له.
فقوله: { لاَ يُنصَرُونَ } يحتمل هذه الوجوه. فإنّهم يوم القيامة لا يُغاثون، وإذا عُذّبوا لم يجدوا مَن ينتقم لهم مِن الله. وبالجملة النصْر يتضمّن دفع الشدائد، فأخبرَ تعالى أنَّه لا دافع هناك عن عذابه.
والضمير في { لاَ يُنصَرُونَ } لما دلّت عليه النفس الثانية، لكونها نكرة واقعة في سياق النفي، يعني النفوس الكثيرة. وتذكيره لأنّها بمعنى العباد والأناسي.
فصل
حثّ الآية على العمل
اعلم أنَّه تعالى وصَف يوم القيامة بأشدّ الشدائد، وأعظم الأهوال، وذلك لأنّه إذا وقعت على أحد واقعةٌ، أو دفع إلى كريهة، وحاولت أعوانُه، وأصدقاؤه دفاعَ ذلك عنه، بدأت بما في نفوسها الأبيّة من مقتضى الحميّة، وذبَّت عنه كما يذبّ الوالد عن ولده بغاية قوّته. فإن رأى مَن لا طاقة له بممانعته، عادَ بوجوه الضراعة، وصنوف الشفاعة فحاوَل بالملاينة ما قصُر عنه بالمخاشَنة، فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والمعونة لم يبق بعده إلاّ فداء الشيء بمثله، من جنسه، أو ببَدله من غير جنسه. فإن لم تغن هذه الثلاثة، تعلّل بما يرجوه من نصْر الناصرين، أو انتقام المنتقمين، فأخبر تعالى أنه لا يغني في الآخرة شيء من هذه الأمور عن المجرمين.
ففي هذه الآية أعظم تحذير للإنسان عن المعاصي، وأقوى ترغيب له في التوبة والتلافي، لأنّه إذا تصوّر أنّه ليس بعد الموت استدراك، ولا شفاعة، ولا نصرة ولا فدية علِم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة.
والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي بحسب المعنى تعمّ المكلّفين كلّهم، لأنّ الأوصاف المذكورة فيها هي التي يوصف بها اليوم، فيعمّ كلّ من يحضر في ذلك اليوم.
فصل مشرقيٌّ
واعلم أن البيان الكشفي للسبب اللمّي، والسرّ العقلي في إثبات هذه الأوصاف، والأحكام ليوم الآخرة، أنّ المؤثّر على قسمين:
الأوّل: أن يكون تأثيره بمشاركة الوضع، ومصادفة المادّة بعضها بعضاً.
والثاني: أن لا يكون تأثيره كذلك، بل بمجرّد الذات، والّذي يؤثّر في الشيء بالذات - لا بمشاركة الموادّ والأوضاع - إمّا السبب الفاعلي، أو الغائي، أو الصوري، لأنه لا تأثير للسبب الماديّ بالاقتضاء والإيجاب، إذ ليس شأنها إلاّ القبول والانفعال.
إذا تقرّر هذا فجميع هذه الأمور المعدودة في الآية - من المكافأة، والشفاعة، والفدية، والنصرة - هي من التأثيرات التي وقعت بين الأشخاص المتشاركين في الأوضاع والأمكنة، فتؤثر فيهم هذه الأسباب المعدّة، ولهم أيضاً جهة القبول والانفعال من جهة المادّة المنفعلة التي يؤثّر فيها كلّ شيء.
وأمّا الآخرة ففيها هذه الأسباب والأنساب منقطعة، والذي يكون هناك معه المهمّات ويطلب منه الاقتراحات - أعني الباري جلّ ذكره - لا يؤثّر فيه شيء، ولا ينفعل عن شيء، لأنّه القاهر على كلّ شيء. فالمؤثّر هناك في شيء منحصر في سبب صوريّ للشيء، أو فاعليّ له، أو غائيّ له.
فالصورة كالإيمان، والكفْر، والخُلْق الحسَن والخُلْق الردي. وأمّا الفاعل فهو الله بلا واسطة، أو بواسطة بعض عباده المقرّبين، الذين هم بأمره يفعلون، لأنّهم من عالَم الأمْر، ويفعلون ما يؤمَرون. وأمّا الغاية فهو الله بالحقيقة، أو ما ينعكس من نور جماله لمن يعجز عن إدراكه، والعلّة الصورية معلولة للفاعل والغاية، لأنّها العلّة المباشرة، وهما علّتان مفارقتان.
فجميع اللَّذات الروحانيّة - كلقاء الله، ومجاورة مقرّبيه - والجسمانيّة - كالجنّة، والحور، والقصور، والأنهار، والأشجار، وغيرها - متسبّبة عن الله تعالى بواسطة صورة الإيمان والإحسان. وجميع الآلام الروحانيّة، والجسمانيّة - كالاحتجاب عن الربّ تعالى وملَكوته، والتعذّب بالجحيم، والزقّوم، والعقارب، والحيّات، وغيرها - متسبّبة عنها بواسطة صورة الكفر والإساءة.
فلا سبب ولا نسب هناك إلاّ ما ذكرناه، ولا وسيلة هناك لأحد عنده، ولا شفيع، ولا ظهير، ولا معاون، ولا نصير، لعدم انفعاله وتأثّره عن الغير. ولا مكافئ له، ولا مُمانع، ولا مُدافع، ولا مُنتقم منه، إذ لا مساوي له في القوّة، إذ لا واجب الوجود غيره، والوجود يفيض منه، ويترشّح على غيره، فكيف يساويه في القوّة، أو يزيد عليه حتّى يدافعه، أو ينتقم منه، بل هو الغالب على أمره، والقاهر فوق عباده.
وبالجملة لا وسيلة لأحد من أحد في أمره، ولا رابطة بين أحد وأحد إلاّ بالروابط الذاتية. قال تعالى:
{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار:19]. وقال: { { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [لقمان:33]. ثمّ هاهنا سؤالان:
أحدهما: إنّ الباري - جل شأنه - كما أنّه موجِد الآخرة وما فيها كذلك موجِد الدنيا وما فيها، فما وجْه أنَّ الوسائط والأسباب هاهنا موجودة مؤثّرة، والإنسان ينتفع بها في جلب الملاذّ، ودفع المضارّ، وفي الآخرة لا تأثير لها، ولا وجود للوسائط؟
وثانيهما: إنّ النصوص دالّة على أنّ الشفاعة ثابتة للملائكة، والأنبياء، والكاملين من أهل الإيمان، وقال تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر:7].
وبالجملة - الأمّة مجتمعة على أنّ لمحمّد (صلى الله عليه وآله) شفاعةٌ مقبولةٌ في الآخرة، وإن اختلفوا في كيفيّتها. فعند المحقّقين هي مختصّة بدفع المضارّ، واسقاط العقاب عن مستحقّيه من مذنبي المؤمنين. وقال المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين. وهي ثابتة عندنا للنبي (صلى الله عليه وآله)، ولأصحابه المنتجبين، وللأئمة من أهل بيته الطاهرين، ولصالحي المؤمنين, والملائكة، وينجّي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين.
ويؤيّده الخبرُ الذي تلقته الأمّة بالقبول، وهو قوله (صلى الله عليه وآله):
"ادّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي" وما جاء في روايات أصحابنا - رضي الله عنهم - مرفوعاً، إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: "أشفَعُ يومَ القيامة فأُشفَّع، ويشفَع عليٌّ فيشفَّع ويشفَع أهل بيتي فيشفَّعون. وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجب النار" .
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: "يدخل الجنةَ بشفاعةِ رجُلٍ من امّتي أكثر من بني تميم" .
وقال (صلى الله عليه وآله): "إنّ من امّتي من يشفَع للفئة، ومنهم من يشفَع للقبيلة، ومنهم من يشفَع للعُصبة، ومنهم من يشفع للرجُل، حتّى يدخلوا الجنّة" .
وعن أبي جعفر (عليه السلام) - في باب فضيلة النكاح - : "إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "تزوَّجوا، فإنّي مكاثِرٌ بكم الأمم غداً في القيامة، حتّى أنّ السقط يجيء محبَنطِياً على باب الجنّة، فيقال له: ادخُل الجنَّة. فيقول: لا حتّى يدخلَ أبَواي" .
فهذه النصوص تنافي الآيات الدالّة على نفي الشفاعة، والنُّصرة، وما يجري مجراهما، كما في مثل قوله: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } فإنّه نكرة في سياق النفي، فيعمّ جميع أقسام الشفاعة. وقوله: { ولاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يدلّ على نفي النصرة. وكقوله تعالى { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة:254]. تقتضي نفي الشفاعة بالكلّية.
والجواب عن الأوّل: إنّ الدار الدنيا واقعةٌ في آخر منازِل الوجود، فإنّ الوجود نزل إلى جوهر ماديّ ينفعل عن كلّ مؤثّر يصادفه؛ لكونه محض القوّة والاستعداد، ومنه تنشأ الحركات والاستحالات، وهي حالةٌ بين صرافة القوّة ومُحوضة الفعل.
فمبدأ الحوادث في هذا العالَم هي الهيولى والحركة، فإنّ الهيولى بأوضاعها المستفادة من الحركة تحدث فيها من المبدإ الجواد، والوسائط الوجوديّة، موجودات حادثة في أزمنة معيّنة، وتحصل منها سلسلة عرضيّة من المتجدّدات الزمانيّة، والمكانيّة، وأمّا الدار الآخرة فهي أقرب إلى الله من هذه الدار، وما فيها من الموجودات - وإن كانت جسمانيّة الحقيقة - لكنّها أشبه بالصورة بحسب وجودها منها بالمادّة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [مريم:95]. وقوله: { { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً } [مريم:80]. لأنّ ملائكة الموت قد توفّتها، ونزعت أرواحَها وصورها عن هذه القوالب الماديّة.
ولهذه الأرواح في النشأة الثانية قوالب مناسبة لأرواحها في الدوام والتجدّد، ولا يؤثّر فيها تأثيرٌ غريب. بل أرواح ذلك العالَم يؤثّر في أشباحها بالايلام والتنعيم، بحسب ما كسبَت وحصَلت في الدنيا لنفوسها من صوَر الأخلاق، وهيآت الملكات الحسَنة النورانية، أو القبيحة الظلمانيّة.
فكل ما يصل من اللذّات والآلام إلى كلّ أحد، فهو إنّما يَصِلُ إليه من نفسه بوسيلة ذاته من جهة العلل الذاتيّة، لا من جهة الأسباب العرضيّة، والعلل الاتّفاقيّة الكونيّة، لكونها منقطعة مسلوبة يوم القيامة. قال تعالى:
{ { أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [البقرة:165 - 166] وقوله: { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون:101].
وقد تكرّر وتكثّر في القرآن ذكر هذا المعنى، والتنبيه عليه، كقوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس:34 - 37]. وقوله: { { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل:90]. وقوله: { { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الصافات:38 - 39]. وقوله: { { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور:16]. وقوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [النجم:39 - 40]. وقوله: { { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [يس:54]. وقوله: { { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:43]. إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله):
"إنما هي أعمالكم تُردّ عليكم" .
كلّ ذلك اعلام واشعار بأنّ الثواب والعقاب في القيامة بنفس الأخلاق، والصفات، التي ترسّختْ أصولُها في القلب بواسطة تكرّر الأعمال، والأفعال الواقعة في الدنيا من أفراد الناس، وسينكشف كيفيّة تجسّم الأعمال في الآخرة عند تفسير بعض الآيات المشيرة على أحوال البعث.
وأمّا الجواب عن الثاني: إنّ جميع ما ورد في باب الشفاعة يوم القيامة يرجع إلى أسباب ذاتيّة وأمور داخليّة.
فإنّ معنى كون الرسول (صلى الله عليه وآله) شفيعاً أنَّ الإيمان بحقيته، والاعتراف برسالته، يوجب هيئة في النفس، بها يستحقّ لنور الرحمة، والنجاة من عذاب النار، والمؤثّر في الشفاعة صورة النبي، الحاصلة في النفس العارفة به صلوات الله عليه وآله، وليست أمراً منفصلاً عن ذات المؤمن، وكذا الحال في سائر الشفعاء والأخلاء يوم الدين.
والمنفيّ في هذه الآية وفي غيرها كقوله تعالى:
{ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة:254]. وقوله: { { ولا شفيع ولا حميم } [غافر:18] وقوله: { لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:88 - 89]. وقوله: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67]. عن الدار الآخرة من الشفاعة وما يشبهها، غير الثابت منها في الآيات، والأخبار، بالمعنى والحقيقة، لأنّ المنفيّ منها أمورٌ خارجية، والثابت منها أمورٌ داخلية من باب الصوَر المشهودة للإنسان في عالَم الباطن.
فإنّ القيامة حضورها في داخل حُجب السماوات والأرض وباطنها، لا في ظهرها وخارجِها، ورُؤية الأشياء هناك كرؤية الصوَر والألوان في باطن المرآة من جهة صقالة وجهها، ورؤية الأشياء هاهنا كرؤية الصوَر والألوان على ظَهْر المرآة.
وبالجملة الأسباب العرضيّة والاتّفاقية مسلوبة في القيامة، والأسباب الذاتيّة الداخليّة ثابتة. فالآيات والأخبار الدالّة على نفي الشفاعة، والوسيلة، والقرابة، وغيرها، إنّما تحمل على نفي ما هو منها من قبيل القسم الأوّل. والتي تدلّ على إثباتها تُحمل على إثبات ما هو منها من قبيل القسم الثاني.
فمِن قبيل الأوّل ما في قوله تعالى:
{ { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر:18]. وقوله: { { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [البقرة:270]. وقوله: { { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر:48]. ومن قبيل الثاني المستثنى الواقع في قوله تعالى: { { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس:3].
فالنفي متعلق بما هو من قبيل الأوّل. والاستثناء بما هو من قبيل الثاني. وكذا قوله:
{ { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء:28]. وقوله: { { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة:255]. فإنّ لفظ "الإذن" أينما وقع في القرآن كان إشارة إلى السبب الفاعلي الذاتي - دون العرضي الجسماني - فافهم واستقم.
فصل
الخُلود في النار، والخلاصُ منها
استدلّت المعتزلة القائلون بخلود مرتكب الكبيرة - ولو مرَّة واحدة - في النار بهذه الآية وعلى إنكار الشفاعة بوجوه ثلاثة:
أحدها: بقوله: { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفسٌ عن نفس شيئاً.
والثاني: بقوله: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } لكونها نكرة في سياق النفي، فيعمّ كما مرّ.
والثالث: { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } إذ الشفاعة ضربٌ من النصرة، ونفي الأعمّ يستلزم نفيَ الأخصّ.
وأجيب بوجهين:
أحدهما: إنّ اليهود كانوا يزعمون أنّ آباءهم يشفعون لهم فالآية نزلت فيهم. لا يقال: العِبرة بعموم الحكم، لا بخصوص السبب. لأنّا نقول: خصوص السبب ممّا له مدخل في احتمال التخصيص، وذلك كاف في سند المنع.
والثاني: إنّ الآية وإن كان ظاهرُها العموم إلاّ أنّها قابلة للتخصيص.
واعلم أنَّ مسألة إثبات الوعيد لأهل الكبائر إذا لم يتوبوا موضعُ خلافٍ لأهل القبلة. فالمعتزلة، والخوارج، قاطعون بوعيدهم مؤبّداً. وطائفةٌ قاطعون بوعيدهم منقطعاً - لا مؤبّداً - وهو قول البشر المُريسي، والخالدي.
وذهب بعضهم بأنّه لا وَعيد لهم. وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسِّر، وإليه ذهب بعض المرجئة.
والذي عليه أصحابنا الإماميّة، والمنقول عن أئمّتنا (عليهم السلام)، وعليه رأي أكثر الصحابة، والتابعين، والصوفية، ووافَقهم الأشاعرة في إثبات العفو عن بعض العُصاة. للقطع بأنّ الله يعفو عن بعض السيّئات، وإنْ لم يتب عنها، وأنّه إذا عذّب أحداً من أصحاب الكبائر، فلا يعذّبه أبداً. لكنّا نتوقّف في حقّ البعض المعفوّ عنه، والبعض المعذّب على التعيين.
وقال بعض ضلاّل المتفلسفة: إنّ الأرواح وإن تكدّرت بقبائح أعمال الأشباح إلا أنّها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من نتائج الأعمال إلاّ أياماً معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتّعات الحيوانيّة. ثمّ يتخلّص من العذاب ويرجع إلى حسن المآب.
ومنهم من زعَم أنَّ استيفاء اللذَّات الحسيّة يقلّل التعلّقات الدنيويّة، ويسهّل عروج الروح إلى عالمه العلوي.
وطائفة من المتصوّفة زعَموا أنَّ السالك إذا بلَغ حدَّ المعرفة التامّة لم تضرَّه المعاصي.
وكلّ هذه الثلاثة خيالٌ فاسد ومتاعٌ كاسد، وإنّها قول مَن لم يجرِّب نفسَه، ولم يعرف مكر الله فأمن منه، ولم يجد من نفسه أنّها كيف تتدنَّس بالأخلاق الذميمة، البهيميّة، والسبعيّة، وكيف تتطهّر، وتتصفّى، بالأخلاق الحميدة الروحانيّة الملَكية، فقد تصدأ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري
{ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14] فلا يجلوها إلاّ مرور الدهور، وكرور الأعصار، وقد ينضمّ الكفر إلى تلك الأخلاق بأن يتأدّى رسوخ الصفات الظلمانيّة إلى حيث يزول عن القلب قابليّة نور الإيمان والمعرفة، فيبقى خالِداً مخلّداً في النار في ويل طويل وزفير وعويل نعوذ بالله من الحَور بعد الكور.
واعلم أنّه يمكن أن يُتحمّل للقول الأوّل من هذه الثلاثة وجهٌ يندفع به فساده، وهو أنَّ المراد بالأرواح مرتبةٌ غير النفوس التي هي مورد المَقت والعذاب، وموضع الآلام والأسقام. فإنّ الروح إذا أريد به جوهرٌ قدسيٌّ من عالَم الأمر له تعلّق بالنفوس البشريّة فهو سعيد في الدنيا والآخرة.
وقد وقعت الإشارة إلى هذا المعنى فيما سَبق من أنّ نسبة الروح الحيواني إلى الروح النطقي كنسبة الدابّة إلى راكبها، وأنّ التي قامت الحدود بها وتحسّ بألم القتل، والضرب، هي النفس الحسّاسة، وأن النفس الناطقة على شرفها مع عالَمها في سعادتها دائمة.
وقد سبقت أيضاً الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)
"أنَّه قام لجنازة يهوديّ فقيل له: إنّها جنازة يهوديّ فقال (صلى الله عليه وآله): أليستْ نفساً؟" أراد (صلى الله عليه وآله) بها نفسَه الناطقة، فقامَ تعظيماً لشرفها، ومكانتها لأنّها منفوخَة من روح الله، فهيَ من عالَم القدس والطهارة لا يكدّرها شيءٌ من الأرجاس. بل إنّ من النفس الحيوانيّة محلّ الشقاء في الدنيا، والآخرة، وهي في الإنسان باقيةٌ بعد البدن، محشورة في الآخرة كما أُقيم عليه البرهان، وهو من العرشيّات المختصّة بهذا العبد عناية من الله.
وأمّا ما ذهَب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المُرجئة "من أنّ عصاة المؤمنين لا يعذَّبون، وإنّما النار للكفار" تمسُّكاً بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل قوله تعالى:
{ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [طه:48]. وقوله: { إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [النحل:27]. فجوابُه: إنّ المراد من العذاب ما هو على وجْه الخلود. وكذا المراد من الخزي والسوء.
وأمّا تمسّكهم بمثل قوله (صلى الله عليه وآله):
"مَن قالَ لا إله إلاّ الله دخَل الجنّة" . وفي رواية: "وجبَ عليه الجنّة" فهو ضعيف، لأنّه إنّما ينفي خلودَ النار لا الدخول فيها.
واعلم أنَّ الإيمان إذا كان حقيقيّاً بالغاً إلى حد علم اليقين، يمكن القول بعدم دخول صاحبه في النار، ولكن قلّ ما يحصل هذا المقام لأحد إلاّ مع اجتنابه عن الكبيرة، وذلك لكونه متوقّفاً على صفاء كامل في القلب، وتجرّد بالغ عن أغراض النفس ولذّاتها الحيوانيّة.
والذي يدلّ على أنّ الإيمان القويّ يمنع صاحبه عن دخول النار، ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه يقال يوم القيامة:
"اخرجوا مِن النار مَن في قلبه مثقال من الإيمان، ونصف مثقال، وربع مثقال، وشعيرة، وذرّة" كلّ ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان، وأنّ هذه المقادير لا يمنع دخول النار.
وفي مفهومه أنّ مَن كان إيمانه يزيد على مثقال فإنّه لا يدخل النار. وأن من في قلبه ذرّة من الإيمان لا يستحقّ الخلود في النار - وإن دخلَها -.
ولا خفاء في أنّ درجات الإيمان مختلفة في القوّة والنوريّة، كالتفاوت بين الأنوار المحسوسة في الإضاءة والإشراق، فصحّ أن يقال إيمان واحد من الناس - كالنبي والوليّ - لو وُزن مع إيمان سائر الخلائق لرجَح. كما يصحّ أن يقال: "لو وزن نور الشمس بنور السرج كلّها لرجح" فإيمان آحاد العوام نوره كنور السراج، وإيمان الأولياء والصديقين كنور القمر ونور النجوم، وإيمان الأنبياء كنور الشمس. وإليه الإشارة في قوله (صلى الله عليه وآله)
"ليس شيءٌ خيراً من ألف مثله إلاّ الإنسان" إشارة إلى تفضيل قلب المؤمن العارف على غيره من العوام.
فصل
أدلّة المعتزلة على قولهم بالخلود وجواباتها
وأمّا المعتزلة فاستدلّوا بالعمومات الواردة في وعيد الفسّاق، وبالآيات الدالّة على الخلود المتناولة للكافر وغيره، كقوله تعالى:
{ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا } [النساء:14]. وليس المراد تعدّي جميع الحدود بارتكاب المعاصي كلّها وإثباتاً، فإنّه محال، لما بين البعض من التضادّ، كاليهوديّة، والنصرانيّة، والمجوسيّة. فيحمل على مورد الآية من حدود المواريث.
وقوله:
{ { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [النساء:93]. وقوله: { { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [السجدة:20] ومثل هذا مسوق للتأبيد ونفي الخروج.
ومثل قوله:
{ إِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [الانفطار:14 - 16]. وعدمُ الغيبة عن النار خلودٌ فيها.
وقوله:
{ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:81]. وقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [النساء:10].
وبالعمومات الدالّة على نفي الشفاعة، كقوله تعالى:
{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر:18]. والظالم هو الآتي بالظلم، وذلك يعمّ الكافر وغيره.
وقوله تعالى:
{ { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة:254] وقوله: { { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [البقرة:270]. ولو كان الرسول (صلى الله عليه وآله) شفيعاً من أمّته، لكان ناصراً لهم.
وقوله تعالى:
{ { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء:28] والفاسق ليس بمرتضى عند الله، وإذا لم يشفع الملائكة فكذا الأنبياء إذ لا قائل بالفرق.
وقوله:
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر:48]. وبقوله تعالى: { { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر:7]. ولو كانت الشفاعة حاصلةً للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنى.
وبالأخبار الدالّة على الوعيد، كقوله (صلى الله عليه وآله):
"مَن شربَ الخمرَ في الدنيا ثم لم يتب حُرِمَهَا في الآخرة" وقوله (صلى الله عليه وآله): "من قتَل نفساً معاهِداً لم يَرِحْ رائِحة الجنّة" .
وقوله (صلى الله عليه وآله): "الذي يشربُ في آنية الذهبِ والفضَّة إنّما يُجَرجِر في بطنِه نارَ جهنَّم" . وقوله (صلى الله عليه وآله): "لا يُبغِضنا أهلَ البيت رجُل إلاّ دخلَ النار" .
وقوله (صلى الله عليه وآله): "يا كعْب بن عجرة - اعيذك بالله من امارة السفهاء. إنّه سيكون أمراءٌ من دخَل عليهم فأعانَهم على ظُلمهم، وصدّقهم بكذبهم، فليسوا مني ولستُ منهم، ولن يردوا عليّ الحوض - الحديث - يا كعب، لا يدخل الجنَّة لحمٌ نبَت مِن حرامٍ" .
وعن أبي هريرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لألفين أحدَكم يومَ القيامة على رقبته شاةٌ لها ثُغاءٌ، يقول: يا رسول الله أغِثني فأقول: لا أملِك لك من الله شيئاً. قد بلّغتك" .
وعنه، قال (صلى الله عليه وآله): "ثلاثٌ أنا خصمهم يومَ القيامة، ومن كنتُ خصيمَه خصمتُه: رجلٌ أعطى بي ثمّ غَدر. ورجلٌ باعَ حُرّاً فأكلَ ثمنَه. ورجلٌ استأجرَ أجيراً فاستوفى منه ولم يوفِ أُجرته" .
فهذه وجوه متمسِّكهم في القطع بالوعيد ونفي الشفاعة، والجواب عنها بالمنْع من أنّ هذه الصيغ للعموم، بدليل صحّة ادخال "الكلّ" أو "البعض" عليها. نحو: "كلّ من دخل داري فله كذا" أو "بعض من دخل داري فله كذا" ولا يلزم منه تكريرٌ ولا تناقض. ولأنّ الأكثر قد يورد بلفظ "الكلّ".
وبعد تسليم كون الصيغ للعموم فاحتمال المخصّصات قائمٌ، فإنّ العموم غير مراد في الآية الأولى، للقطع بخروج التائب وأصحاب الصغائر، وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة - إذا أتى بطاعات يزيد ثوابها على عقوباته - فليكُن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضاً خارجاً بما سيجيء من الآيات والأدلة.
وبالجملة فالعامّ المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقاً، ولو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبّد لا على الوقوع - كما هو المتنازَع فيه - لجواز الخروج بالعفْو.
ويجاب عن الآية الثانية بأنّ معنى { مُتَعَمِّداً } مستحلاً قتله - على ما ذكره ابن عباس - والتعمّد على الحقيقة إنّما يكون من المستحلّ. أو بأنّ التعلِيق بالوصف مشعر بالحيثيّة التعليليّة، فيختص بمن قتل المؤمن لإيمانه. أو بأنّ "الخلود"، وإن كان ظاهراً في الدوام، فالمراد هنا المكث الطويل جمعاً بين الأدلّة.
لا يقال: "الخُلود" حقيقة في التأبيد، لتبادر الفهم إليه. ولقوله تعالى:
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [الأنبياء:34]. ولأنّه يؤكّد بلفظ التأبيد مثل { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [الجن:33]. وتأكيد الشيء تقوية لمدلوله. ولأنّ العمومات المقرونة بالخلود متناولة للكفار، والمراد في حقّهم التأبيد بالاتّفاق. وكذا في حقّ الفسّاق، لئلاّ يلزم إرادة المعنى المشترك، أو المعنى الحقيقي والمجازي معاً.
لأنّا نقول: لا كلام في أنّ المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، والشائع في الاستعمال هو الدوام، لكن قد يستعمل في المكث الطويل كـ "سِجن مُخلّد" و "حبس مخلّد" فيكون محتملاً. على أنّ في جعله لمطلق المكث الطويل نفياً للمجاز والاشتراك، فيكون أولى.
ثمّ إنّ المكث الطويل - سواء جُعل معنى حقيقيّاً أو مجازياً - أعمّ من أن يكون مع دوام - كما في حقّ الكفار - أو انقطاع - كما في حقّ الفسّاق - فلا محذورَ في إرادتهما جميعاً. وحينئذ فلا نسلم أنّ التأبيد تأكيد - بل تقييد - ولو سلّم، فالمراد تأكيد لطول المكث. إذ قد يقال: "حبسٌ مؤبّد" و "وقفٌ مؤبّد".
ويجاب عن الثالثة: بأنّها في حقّ الكافرين المنكرين للحشر، بقرينة قوله
{ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة:20]. مع ما في دلالتها على الخلود من المناقشة، لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول أو نحو ذلك.
وعن الرابعة بعد تسليم افادتها النفي عن كلّ فرد، ودلالتها على دوام عدم الغيبة إنّها مختصة بالكفّار. جمعاً بين الأدلّة.
وكذا الخامسة والسادسة حملاً للمحدود على حدود الإسلام، ولإحاطة الخطيئة غلبتها بحيث لا يبقى معها الإيمان. هذا مع ما في الخلود من الاحتمال وعلى هذا القياس الجواب عن سائر أدلّتهم النقليّة على وجه التفصيل.
وللمعتزلة أيضاً أدلّة عقلية على ثبوت مذهبهم:
منها: إنّ الفاسق لو دخل الجنّة لكان باستحقاق - لامتناع دخول غير المستحق كالكافر - واللازم منتفٍ لبطلان الاستحقاق بالإحباط، أو الموازنة.
والجواب: بمنع المقدّمتين، وبطلان الإحباط والموازنة.
ومنها: إنّه لو انقطع عذابُ الفاسق، لانقطع عذابُ الكافر قياساً عليه بجامع تناهي المعصية.
والجواب - على تقدير عليّة التناهي - بمنع تناهي الكفر قدراً، ومنع اعتبار القياس في مقابلة النصّ في الاعتقادات.
ومنها: إنّ الوعيد بالعقاب الدائم لطفٌ بالعباد لكونه أزجر عن المعاصي فإنّ منهم من لا يكترث بالعذاب المنقطع عند الميل إلى المستلذّات ثمّ لا بد من تحقيق الوعيد تصديقاً للخبر وصَوناً للقول عن التبديل.
والجواب: منع انحصار اللطف في وعيد الدوام، فإنّ من يكترث باللبث في الجحيم أحقاباً، فلا يستكثر الخلودَ فيها عقاباً، وإذ قد كان كلّ وعيد لطفاً، ولا شيء من الوعيد لطفاً للكلّ، فليكُن لطفُ الخلود في النار مختصّاً بالكفار، وكفى بوعيد النيران - بل وعْد الجنان - لطفاً ومزجراً لأهل الإيمان.
فصل
احتجاجات القاطعين بعدم خلود أهل الكبائر
وأمّا القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكبائر فاحتجّوا بقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [النحل:27]. { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر:53]. { { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد:6]. { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [الليل:15 - 16].
وبالعمومات الواردة في الوعد، مثل:
{ { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } [البقرة:4] الآية. حكمَ بالفلاح على كلّ من آمَن.
فصل
احتجاجات القائلين بعفو بعض العصاة
وأمّا القاطعون بثبوت العفو في حقّ البعض، والتوقّف في حق البعض، وهم أصحابنا رضوان الله عليهم، وأهل السُنّة فقد تمسَّكوا بنحو قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:48] وبقوله عزّ مِن قائل حكاية عن عيسى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة:118].
وظاهرٌ أن هذه الشفاعة وردَت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة، إذ لو كان كافراً لا يليق الشفاعة في حقّه لنبي، ولو كان صاحب صغيرة، أو تائباً عن الكبيرة، لم يجز منه تعالى عذابه عقلاً. وإذا صحّت الشفاعة لعيسى (عليه السلام) صحّ القول بها في حقّ محمّد (صلى الله عليه وآله) بالضرورة.
وبقوله تعالى حكاية عن الخليل (عليه السلام):
{ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم:36]. بمثل البيان المذكور.
ومما يؤكّد دلالة هاتين الآيتين على هذا المطلب ما رُوي أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) تلا قولَ إبراهيم: { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقول عيسى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } ثمّ رفَع يدَيه وقال: "اللهم - امّتي، امّتي" وبكى. فقال الله:
"يا جبرائيل - اذهبْ إلى محمّد - وربُّك أعلم - فسلْه: ما يُبكيكَ؟ فأتاه جبرائيل (عليه السلام) فسأله. فأخبرَه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) - قال: يا جبرائيل - اذهبْ إلى محمّد، فقل: إنّا سنرضيك في أمَّتك: ولا نسُؤك" - رواه مسلم في صحيحه.
ومما يدلّ على ذلك قوله تعالى:
{ { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم:85 - 87]. أي المجرمون لا يستحقّون أن يشفع لهم إلاّ إذا كانوا قد اتّخذوا عند الرحمن عهداً، فكلّ من اتّخذ عهداً عنده وجَب دخولُه في الآية، وصاحب الكبيرة اتّخذ عند الرحمن عهد التوحيد والإسلام، فوجَب أن يكون داخلاً. وأمّا اليهود فنترك العمل بها في حقهم لضرورة الإجماع.
ومن ذلك قوله تعالى في صفة الملائكة:
{ { لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء:28]. بيانه إنّ صاحب الكبيرة مرتضى عند الله من حيث إيمانه وتوحيده، وكلّ مَن هو مرتضى عنده بحسب هذا الوصف صدق عليه أنّه مرتضى عنده، لأنّ مفهوم المطلق جزء مفهوم المقيّد، فمتى صدق المقيّد صدق المطلق، فثبت أنّ المؤمن الفاسق مرتضى عند الله، فهو داخل في شفاعة الملائكة، ومَن دخل في شفاعتهم دخل في شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ لا قائل بالفرق.
لا يقال: إنّ الفاسق ليس بمرتضى من حيث فِسْقه، وإذا لم يكن مرتضى من وجه لم يكن مرتضى، فوجَب أن لا يكون أهلاً للشفاعة بالبيان المذكور.
لأنّا نقول: قد تقرَّر في العلوم العقليّة أنّ المهملتين لا تتناقضان، فقولنا: "الفاسقُ مرتضى" لا يُناقض قولنا: "إنّه ليس بمرتضى" لجواز أن يكون مرتضى من وجه، غير مرتضى من وجه آخر. فمتى ثبَت أنَّه مرتضى بحسب إسلامه ثبت كونه مرتضى، وإذا كان المستثنى مجرد كون أحد مرتضى، فوجب دخوله تحت المستثنى وخروجه عن المستثنى منه، فثبت أنَّه من أهل الشفاعة وهو المطلوب.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد:6]. ورُوي أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) "لم يزل يسأل في أمّته حتّى قيل له أما تَرضى وقد أُنزلت عليك هذه الآية: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد:6]. وفي تفسير قوله: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى:5]. قال: لا يرضى محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) وأحد من امّته في النار" .
وكان أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: أنتم أهل العراق تقولون: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله: { { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر:53] الآية ونحن أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى:5].
وأمّا الأخبار: فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال:
"أُمّتي أُمّةٌ مرحومةٌ لا عذاب عليها في الآخرة، عجّل عقابها في الدنيا الزلازل والفتن. وإذا كان يوم القيامة رفع إلى كلّ رجُل من امّتي رجُل من أهل الكتاب، فقيل: هذا فداؤك من النار" .
وفي الخبر: "لو لم يذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون ليغفرَ لهم" وفي لفظ آخر: "لَذهبَ بهم وجاء بخَلْق آخر يذنبون فيغفر لهم، إنّه هو الغفور الرحيم" .
وفي الخبر: "لو لم تذنبوا لخشيتُ عليكم ما هو شرٌّ من الذنوب" قيل: "ما هو؟ قال: "العُجْب".
وقال (صلى الله عليه وآله):
"والذي نفسي بيده لله أرحمُ بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقةِ بولدِها" .
وفي الخبر: "ليغفرنَّ اللهُ يومَ القيامة مغفرةً ما خطَرتْ قطّ على قلب أحد، حتّى أنّ إبليس ليتطاولُ رجاءَ أن يصيبه" .
وفي الحديث الطويل: "إنّ الأعرابي قال: يا رسول الله مَن يلي حسناتِ الخلْق؟ فقال: الله تبارك وتعالى. قال: هو بنفسه؟ قال: نعم. فتبسَّم الأعرابي، فقال (صلى الله عليه وآله): ممَّ ضحكتَ يا أعرابي؟ فقال: إنّ الكريم إذا قدر عفى، وإذا حاسَب سامَح. فقال (صلى الله عليه وآله): صدق. ألا ولا كريم أكرم من الله، هو أكرم الأكرمين ثمّ قال: فقه الأعرابي" .
وفي الخبر المشهور: "إن الله كتَب على نفسِه قبل أن يخلق الخلق: إنّ رحمتي تغلب غضبي" .
وفي الحديث: "مَن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله لم تمسّه النار" . و "من لقي الله لا يُشرك به شيئاً حرمت عليه النار" .
وفي خبر آخر: "لو علِم الكافرُ سعة رحمة الله ما أيس من جنّته أحد" .
ولما تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله): "{ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج:1] فقال: أتدرون أيّ يوم هذا؟ يوم يقال لآدم: قم فابعثْ نصيب النار من ذرّيتك. فقيل: مِن كمْ؟ قال: من كلّ ألف تسعمأة وتسعة وتسعين إلى النار، ،وواحداً إلى الجنّة.
قال: فأيس القوم وجعلوا يبكون يومهم وتعطّلوا عن الأشغال والعمل، فخرج عليهم رسول الله وقال: ما لكم لا تعملون؟ قالوا: ومن يشتغل بالعمل بعد ما حدّثتنا بهذا؟ قال: كم أنتم في الأمَم؟ أين يأجوج ومأجوج امم لا يحصيها إلاّ الله تعالى؟ إنّما أنتم في سائر الامم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وكالرقمة في ذراع الدابّة"
.
وفي رواية أبي سعيد، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): "....ثمّ تضرب الجسر على جهنّم وتحلّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سلّم سلّم... فيمرّ المؤمن كطرفة العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب. فناج مسلم، ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنّم. حتّى إذا خلص المؤمنون من النار.
فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشدّ مناشدة في استقصاء الحقّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربّنا كانوا يصومون معنا، ويصلّون، ويحجّون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار. فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثمّ يقولون: ربّنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً. ثمّ يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً. ثمّ يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثمّ يقولون. ربّنا لم نذر فيها خيراً... فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيّون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قطّ، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنّة - يقال له: نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبّة في حميل السيل... فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتم. فيقول أهل الجنة: هؤلاء عُتقاء الرحمن، أدخلهم الله الجنّة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه"
.
ومما رواه الثقات بروايات مختلفة أخصرها لفظاً، أنّه قال (صلى الله عليه وآله): "إذا كان يوم القيامة ماجَ الناس بعضهم في بعض. فيأتون آدم، فيقولون: اشفع إلى ربك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم (عليه السلام) فإنّه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم (عليه السلام)، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى (عليه السلام)، فإنّه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى (عليه السلام) فإنّه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى (عليه السلام) فيقول: لست لها. ولكن عليكم بمحمّد (صلى الله عليه وآله).
فيأتونني، فأقول: أنا لها. فأستأذن على ربّي، فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن. فأحمده بتلك المحامد، وأخرّ له ساجداً. فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل تسمع، وسلْ تعطه، واشفع تشفّع.
فأقول: يا ربّ امّتي، امّتي.
فيقال: انطلق، فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان.
فأنطلقُ، فأفعلُ. ثمَّ أعود فأحمده بتلك المحامد، ثمّ أخرّ له ساجداً. فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك، وقلْ تسمعْ، وسلْ تعطه، واشفع تشفَّع.
فأقول: يا ربّ أمّتي، أمّتي. فيقال: انطلق وأخرج من كان في قلبه مثقال ذرّة أو خردلة من إيمان.
فأنطلقُ، فأفعلُ. ثمّ أعودُ فأحمده بتلك المحامد، ثم أخرّ ساجداً. فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسَك، وقلْ تسمع، وسلْ تعطه، واشفع تشفَّع. فأقول: يا رب أمّتي، أمّتي. فيقال: انطلق وأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبّة خردل من إيمان فأخرجه من النار.
فأنطلقُ فأفعلُ، ثمّ أعود إليه الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثمّ أخرّ له ساجداً، فيقال: يا محمّد ارفع رأسَك، وقلْ تسمع، وسلْ تعط، واشفع تشفّع.
فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال: ليس ذلك لك. ولكن وعزّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لاخرجنّ منها من قال: لا إله إلا الله"
.
إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على ثبوت الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله)، وثبوت العفو منه تعالى أكثر منها، وهي أكثر من أن تحصى.
فصل
إنّ المعتزلة - القاطعين بنفي العفو والشفاعة - ذكروا في آيات الرجاء، وأحاديث الشفاعة تمحّلات شديدة وتعسّفات عنيفة، وقيّدوا الحكم في كثير من الآيات باشتراط التوبة، وقالوا: في هذا الحديث ونظائره من أحاديث يوم القيامة وجوهاً من الايراد:
منها: إنّ هذه الأخبار أخبار طويلة جداً، فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول (صلى الله عليه وآله). فالظاهر أنَّ الراوي إنّما رواها بلفظ نفسه، وعلى هذا التقدير لا يكون شيء منها حجّة
ومنها: إنّها مشتملة على التشبيه وذلك باطلٌ، فيتطرق بسببه التهمة إليها.
ومنها: إنّها وردت على خلاف ظاهر القرآن، وذلك أيضاً مما يطرق التهمة إليها.
ومنها: إنّها خبر عن واقعة عظيمة تتوفّر الدواعي على نقلها، فلو كان صحيحاً لوجب بلوغه حدّ التواتر، وحيث لم يكن كذلك تطرّقت التهمة إليها.
ومنها: إنّ الاعتماد على خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظنّ في المسائل العلميّة غير جائز، وهذه المسألة علميّة لا يعوّل فيها على الظنّ.
والجواب عن هذه المطاعن بأنّ كل واحد من هذه الأخبار، وإن كان مروياً بالآحاد، ولكن القدْر المشترك بين مجموعها - لأنّها كثيرة - فهو متواتر المعنى، فيكون حجّة علميّة.
وذكروا أيضاً في استدلال القاطعين بثبوت الشفاعة بقوله (صلى الله عليه وآله):
"ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي" وجوهاً من الإشكال:
أحدها: إنّه خبر واحد على مضادّة القرآن، فإنّا بينَّا انّ كثيراً من الآيات تدلّ على نفي هذه الشفاعة، وخبر الواحد إذا ورَد على خلاف القرآن وجب ردُّه.
وثانيها: إنّه يدلّ على أنّ شفاعته ليست إلاّ لأهل الكبائر، وهذا غير جائز، لأنّه يقتضي حرمان أهل الثواب عن هذا النصيب.
وثالثها: إنّ المراد الاستفهام الانكاري، كقوله تعالى حكاية عن الخليل:
{ { هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام:77]. أي: "أهذا ربّي؟" فالمراد: ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي؟
ورابعها: إنّ لفظ الكبيرة غير مختصّ بالمعصية، بل يتناول الشفاعة كما قال تعالى:
{ { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [البقرة:45] فلعلّ المراد منه أهل الطاعات الكبيرة.
وخامسها: إنّه يصدق عليهم بعد التوبة أنّهم من أصحاب الكبائر لأنّ صدق المشتقّ لا يقتضي دوام الاتّصاف بمبدإ الاشتقاق، فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة، ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضّل الله عليهم بما انحبط من ثواب طاعاتهم المتقدّمة على فسوقهم. هذه وجوه أجوبتهم وكلها تعسّفات.
وجوه أُخرى في تأييد مسألة الشفاعة
واعلم أنَّ هاهنا وجوهاً أُخرى نقليّة وعقليّة يمكن التمسّك بها لهذا المطلب:
الأوّل: إنّ الآيات والأخبار الدالّة على أنّ المؤمنين يدخلون الجنّة البتّة كثيرة، وليس ذلك قبل دخول النار إن كان، فتعيّن أن يكون إمّا بعده، وهو مسألة انقطاع العذاب أو بدونِه، وهو مسألة العفو التامّ كقوله:
{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [الزلزلة:7]. و { { مَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } [غافر:40].
وكقوله (عليه السلام):
"من قال لا إله إلا الله دخَل الجنّة" وما يجري مجراه.
وبالجملة: إذا دلّت الآيات والأخبار على الوعد والوعيد، فلا بدّ من التوفيق بينهما، فإمّا أن يصل العبد إلى دار الثواب، ثمّ إلى دار العقاب - وهو باطلٌ بالاجماع - أو يصل إليه العقاب، ثمّ ينقل إلى دار الثواب ويبقى مخلّداً وهو المطلوب هاهنا.
الثاني: النصوص المشعرة بالخروج من النار، كقوله:
{ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأنعام:128]. { { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران:185].
وكقول النبي (صلى الله عليه وآله):
"يخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا فحْماً وحميماً، فينبتون كما ينبت الحبّة في حميل السيل" .
الثالث: إنّ مَن واظَب على الإيمان والعمل الصالح مأة سنة، وصدَر عنه في أثناء ذلك، أو بعده جريمةٌ واحدة، كشُرب جرعة من الخمر، فلا يحسن من الحكيم أن يعذّبه أبد الآباد، ولو لم يكن هذا ظُلماً فلا ظُلم، أو لم يستحقّ بهذا ذمّاً، فلا ذمّ.
الرابع: إن المعصية متناهية زماناً - وهو ظاهر - وقدْراً - لما يوجد من معصية أشدّ منها - فجزاؤها يجب أن يكون متناهياً، بخلاف الكفر فإنّه لا يتناهى قدْراً، وإن تناهى زمانه.
الخامس: إنّ صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضَل الخيرات - وهو الإيمان - ولم يأت بما هو أقبح القبائح - وهو الكفر - فلا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي.
ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: "إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سَنة، فتوحيد سبعين سَنة كيف لا يهدم معصية سَنة؟ إلهي لمّا كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات، كان مقتضى العدل أنّ الإيمان لا يضرّ معه شيء من المعاصي".
وأمّا التمسّك بأنّ "الخلود في النار أشدّ العذاب، وقد جعل جزاء لأشدّ الجنايات - هو الكفر - فلا يصح جعله جزاء لما هو دونه كالمعاصي" فهو ضعيف إذ ربما يدفع بتفاوت مراتب العذاب في الشدّة، وإن لم يتفاوت في عدم الانقطاع.
فصل
سرّ الخلود في النار
واعلم أنّ تكرُّر المعاصي إذا تأدّى إلى رسوخ ملكات سبُعية، أو بهيميّة، أظلمت مرآةُ القلب بها، ومنعت عن قبول نور الرحمة الإلهيّة، أو نور الشفاعة النبويّة، أمكن القول بأنّ صاحب هذه الكبيرة مخلّد في النار.
وهذا هو المشار إليه في قوله تعالى:
{ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } [البقرة:81]. أي: صارت ملكة راسخة تصوّرت نفسه في القيامة بصورة حيوان غلبت عليه تلك الصفة، فحشرت نفسه بصورة القِرَدة والخنازير.
وكذا صدور بعض المعاصي - ولو مرّة - كقتل المؤمن متعمّداً كاشف عن كون مرتكبه غير معتنٍ بشأن الدين، ولا معتقد بأمر الآخرة.
فصل
في سرّ معنى الشفاعة
إنّ نسبة افاضة نور الوجود والرحمة إلى نور الأنوار - جلّت عظمته - كنسبة افاضة النور المحسوس على وجه الأرض إلى الشمس. والقوالب كالقوابل، فهو سبحانه تامّ الفيض، عامّ الجود، فحيث لا يحصل، فإنّما لا يحصل لعدم القابليّة.
فكما أنَّ النور الحسيّ الوارد من الشمس على سطوح الأجسام قد يكون استقاميّاً، وقد يكون انعكاسيّاً الأوّل: كوجه ظاهر الأرض في النهار. والثاني: كداخل البيوت إذا انعكس شعاع الشمس إليه من سطح الماء، أو الحائط الصقيل، أو كوجه الأرض في الليل إذا كان البدر موجوداً، فإنّ نور القمر من نور الشمس، وقع فيه، وانعكس منه على وجه الأرض فكذلك فيض الرحمة الإلهيّة يقع على قوابل الماهيّات استقاميّاً، وانعكاسيّاً.
فإنّ من الجائز أن لا يكون الشيء مستعدّاً لقبول فيض الوجود عن واجب الوجود لبُعد مناسبته في ذاته، إلاّ أنْ يكون مستعدّاً لقبول ذلك الفيض من شيء كان قبله عن الواجب جلّ ذكره، فيكون ذلك الشيء كالمتوسّط بين الواجب تعالى وبين ذلك الشيء الأول. فأرواح الأنبياء (عليهم السلام) كالوسائط بين نور الأنوار وبين أرواح العوام من الخَلْق في وصول نور الرحمة إلى الأرواح العاميّة، وهذا معنى الشفاعة.
فالإيمان بشفاعة الأنبياء لأُممهم واجبٌ - لأنّها - كما علِمت - نورٌ يشرق من الحضْرة الإلهية على جواهر النبوّة، وينتشر منها إلى كل جوهر استحكمت علاقة مناسبتها مع جوهر النبوّة لشدة المحبّة والمتابعة، وكثرة المواظبة على السُّنن، وكثرة الذكر له بالصلاة عليه. وجوهر النبوّة هو بعينه جوهر الروح القدسيّ الإلهي المسمّى عند الفلاسفة بالعقل الفعّال.
فكما أنَّ المناسبات الوضعيَّة بين المُنير بالذات، والواسطة، والمُستنير بها تقتضي الاختصاص بانعكاس النور الحسيّ - كما إذا وقع نور الشمس على الطست من الماء، وينعكس منه إلى موضع مخصوص من حائط البيت - لا على غيره - لمناسبة بينه وبين الماء في الوضع، وتلك المناسبة مسلوبةٌ عن سائر أجزاء الحائط، وذلك الموضع هو الذي إذا خرج منه خطٌّ إلى ظاهر سطح الماء وحصلَت بينه وبين ذلك السطح زاوية، هي بعينها مساوية لزاوية حصلت من الخطّ الخارج من موقع ذلك الخطّ إلى قرص الشمس وذلك السطح فكذلك المناسبة المعنويّة إذا حصلَت بين روح من الأرواح البشريّة وبين جوهر النبوّة تقتضي حصول فيض الرحمة بواسطة ذلك الجوهر.
فمَن استولى عليه التوحيد والعرفان، فقد تأكّدت مناسبته مع الحضرة الإلهيّة، وأشرقَ عليه النور من غير واسطة، ومَن استولى عليه السنن، والاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيت النبوّة والولاية (عليهم السلام)، ومحبّتهم، ولم يترسّخ قدمُه في ملاحظة الوحدانيّة لم يستحكم مناسبته إلاّ مع الواسطة، فافتقر إلى واسطة في اقتباس النور. كما يفتقر الحائط الذي ليس بمكشوف للشمس إلى واسطة الماء المكشوف للشمس إلى مثل هذا.
فهذا هو سرّ الشفاعة والكلام وإن كان في صورة التمثيل، لكنّه مما أقيم عليه البرهان، ولا شبهة فيه لأهل اليقين والعرفان.
.