التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذه هي النعمة الثانية من الله على بني إسرائيل، المذكورة في هذا الموضع.
قوله: { فَرَقْنَا } أي فَلقناه وفصَلنا بين أبعاضه حتّى حصلت فيه مسالك لكم، إذ الفَرْق هو الفصل بين شيئين إذا كانت بينهما فُرجة، والفِرْق: الطائفة من كلّ شيء ومن الماء إذا تفرّق بعضهُ عن بعض، فكلّ طائفة من ذلك فِرْقٌ. ومنه قوله تعالى:
{ { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء:63] وقُرئ: إذ فَرَّقْنَا - بالتشديد - قال ابن جني: فرَّقنا أشدّ تفريقاً ن فَرَقنا. فمعنان: شقَقنا بكم البحر، لأنّ المسالك كان إثنا عشر على عدد الأسباط.
وقوله: { بِكُمْ } الباء إمّا للسببية الفاعليّة، أي حصلت فيه فِرَقٌ، ومسالك بسلوكهم فيه كما يُفرق بين الشيئين بما توسّط بينهما، أو الغائيّة، أي بسبب إنجائكم ولأجله. أو للملابسة، ويكون في موضع الحال، أي فرقناه متلبّساً بكم، كقول الشاعر:

"تَدوسُ بنا الجَماجمَ والتريبا"

أي: تدوسها ونحن راكِبوها.
والنجاة: ضد الغرق، كما أنّها ضدّ الهلاك. و "أغرق في الأمر" إذا جاوز الحدّ فيه.
والمراد من { آلَ فِرْعَوْنَ } هو وقومه، فاختصر لدلالة الكلام عليه، لأنّ الغرض مبنيٌّ على إهلاك فرعون وقومه، كقولك: "دخل جيشُ الأمير". ويكون الظاهر أنَّه معهم. ويجوز أن يراد بآل فرعون شخصه، كقوله تعالى:
{ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } [البقرة:248]. يعني موسى، وهارون.
وقوله: { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي تشاهدون غرقَهم، وإطباق البحر عليهم. وهذا أبلغ في الشماتة، وإظهار المعجزة، أو انفلاق البحر عن طرُق يابسة مذلّلة. وقيل: جُثثهم التي قذَفها البحر إلى الساحل. وقيل: معناه ينظر بعضُكم بعضاً، بحدوث الكُوى والروازن في فِرَق البحر. وقيل معناه: وانتم بمشهد ومنظر منهم، حتّى لو نظرتم إليهم لأمكنكم ذلك. وهو قول الزجّاج.
ولا يخفى ضعفه، إذ لم يكن لأصحاب موسى (عليه السلام) ما يشغلهم عن الرؤية، فإنّهم قد جاوزوا البحر، وأقوال المفسّرين متظاهرة على أنّهم رأوا انفراق البحر، والتطام أمواجه بآل فرعون حتّى غرقوا. فلا وجْه للعدول عن الظاهر.
قصّة غرق فرعون
والقصّة - كما روي عن ابن عبّاس: إنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر. فسرى بهم ليلاً، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. وكان موسى في ستمأة ألف وعشرين ألفاً. فلمَّا عاينَهم فرعون قال:
{ { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } [الشعراء:54 - 56].
فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجَموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج دوابّ فرعون فقالوا: "يا موسى
{ { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [الأعراف:129] هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه".
فقال موسى (عليه السلام):
{ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:129]. فقال له يوشع بن نون: "بِمَ امرت"؟ قال: "امرتُ ان أضربَ بعصاي البحر" قال: "إضرب".
وكان الله تعالى أوحى إلى البحر "أن أطِع موسى إذا ضرَبك" قال: فباتَ البحرُ أفكَل - أي رَعِدة - لا يدري في أيّ جوانبه يضربه. فضرب بعصاه البحر فانفلَق. وظهر اثنا عشر طريقاً، لكلّ سبط منهم طريق.
فقالوا: "إنّا لا نَسْلك نديّاً" فأرسل الله ريح الصبا حتى جفّفت الطريق، كما قال تعالى:
{ { فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً } [طه:77]. فجَروا فيه.
فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض "مالنا لا نرى أصحابنا" فقالوا لموسى: "أيْن أصحابنا"؟ فقال: "في طريق مثل طريقكم" فقالوا: "لا نَرضى حتّى نراهم" فقال موسى (عليه السلام): "اللهم أعِنّي على أخلاقهم السيّئة". فأوحى الله إليه أن أشِر بعصاك هكذا وهكذا - يميناً وشمالاً - فأشار بعصاه يميناً وشمالاً، فظهر كالكُوى ينظر منها بعضهم إلى بعض.
فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر - وكان على فرس حصان أدهم - فهابَ دخولَ الماء، تمثّل له جبرائيل على فرس انثى وديق، وتقحّم البحر. فلمّا رآها الحصان تقحّم خلفها، ثمّ تقحّم قوم فرعون، فلما خرجَ آخر من كان مع موسى من البحر ودخل آخر مَن كان مع فرعون البحر، أطبَق الله عليهم الماء فغرقوا جميعاً، ونجا موسى ومن معه.
فصل
اعلم أنّ هذه القصّة قد تضمّنت نعماً كثيرة دنيويّة ودينيّة، والدينيّة في حقّ قوم موسى، وقوم محمّد صلى الله عليهما وآلهما.
أمّا الدنيويّة لهم:
فمنها: نجاتهم عن الغرق، وإهلاك عدوّهم وقومه.
ومنها: اختصاصهم بهذه المعجزة الباهرة، والكرامة الظاهرة.
ومنها: استئصال عدوّهم من جهتهم. وأصل الخلاص من مثل هذا البلاء نعمة عظيمة، فكيف إذا قورن بالإكرام العظيم وإهلاك العدوّ.
ومنها: أن أورثَهم أرضَهم، وديارَهم، ونعمَهم، وأموالَهم.
ومنها: أنه كما غرَق العدوّ وهلك، غرق آله جميعاً وهلكوا، وإلاّ لكان الخوف بعد باقياً من حيث إنّهم ربما اجتمعوا، واحتالوا بحيلة وقع منها الضرر بهؤلاء، ولكن لما أهلكم الله جميعاً فقد حسَم مادّة الخوف بالكلّية.
ومنها: أنّه وقع ذلك بمحضر من الأولياء والأعداء جميعاً، حتى لا يخفى على أحد منهم، وهذا يوجب ابتهاجاً عظيماً، وإليه الإشارة بقوله: { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } إلى غير ذلك من النعم الدنيويّة.
وأمّا النعم الدينيّة في حق قوم موسى عليه السلام:
فمنها: أنّهم لما شاهَدوا تلك المعجزة الباهرة حصَل لهم العلم الضروري على وجود الصانع الحكيم، وعلى صدق موسى (عليه السلام)، وزالَت عنهم الشكوك، فكأنّه تعالى رفع عنهم كُلفة النظر الدقيق، والاستدلال الشاقّ.
ومنها: أنّهم لمّا عاينُوا ذلك لزمهم الانقياد والطاعة لموسى (عليه السلام) وقبول قوله، ولهم في ذلك سعادة الدارين.
ومنها: عرفوا أنَّ الأمور كلّها جارية على قضاء الله وقدره، فإنّه لا عزّة في الدنيا أكمل من عزّة فرعون، ولا شدّة أشدّ مما كانت لبني إسرائيل، ثمّ الله تعالى قلَّب الأمْر في ساعة واحدة، فجعل العزيز ذليلا، والذليل عزيزاً، وذلك يوجب انقطاع القلب عما سوى الله، والاقبال بالكليّة إلى خدمته، وطاعته، والتوكّل عليه.
وأمّا النعم الحاصلة لهذه الأمّة المرحومة منها فكثيرة:
أحدها: أنّها جاءت حجَّة لنا على أهل الكتاب، لأنّه كان معلوماً من حال نبيّنا أنه كان اميّاً لم يقرأ ولم يكتب. فإذا أخبرهم بما لا يعلم إلاّ من الكتب علموا أنه أخبرَ عن الوحي، فصار دينه حقّاً.
وثانيها: أنّا إذا تصوّرنا ما جرَى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أنَّ من أطاع الله فقد سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفَه فقد استحقّ غضب الله عليه في الدنيا والآخرة، فصار ذلك مقرّباً لنا من الطاعة ومبعِّداً عن المعصية.
وثالثها: أنّ أمّة موسى (عليه السلام) مع هذه المعجزات الباهرة، والكرامات المحسوسة الظاهرة، خالَفوه في أمور حتّى قالوا له:
{ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف:138] وأمّا هذه الأمّة فمع كون معجزتهم هي القرآن الذي خفي اعجازه، ولا يظهر إلاّ بالنظر الدقيق انقادوا للنبي (صلى الله عليه وآله) في كلّ الأحكام، وما خالَفوه في شيء البتّة، وهذا يدلّ على أنّهم أفضل من أمّة موسى (عليه السلام).
وبهذا يخرج الجواب عن اشكال ربما خطَر بالبال، وهو أن يقال: كيف لم يعط الله تعالى نبيّنا (صلى الله عليه وآله) مثلَ ما أعطى موسى (عليه السلام) من الآيات الباهرات، لتكون الحجَّة أظهَر، والشبهة أسقَط؟
لأنّا نجيب: بأنّ الله أعطى كلَّ نبيٍ معجزة مناسبةً لقومه وعلى حسب صلاح حالهم، فنصب الأعلام الباهرة، والمعجزات القاهرة لاستصلاح أمّة موسى (عليه السلام)، وقد كان في قومه من فَظاظة القلب، وبَلادة النفْس، وكَلالة الحدس، ما لم يمكنهم معه الاستدلال بالآيات الخفيّة، والبراهين العقليّة. ألا ترى أنَّهم لما عبَروا النهر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا - بعد ما شاهَدوا من هذه الآيات -:
{ { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف:138].
وكان في العرب والعجَم من أمّة نبيِّنا (صلى الله عليه وآله) مِن جَودة القريحة، وحدّة الفِطنة، وذَكاء الذهن، ما كان يمكنهم معه الاستدلال بالفكر، واقتناص الحقائق بالنظر الدقيق، والتفطُّن بما يحتاج إلى التأمل والتدبّر، والاستفادة بنور العقل الفعّال في ملاحظة الآيات، فجاءت آياتُهم مشاكلة لقرائحهم المتوقّدة، ومجانسة لأذهانهم من الدقّة والحدّة.
على أنّ في جميعها من الحجّة الظاهرة، والبيّنة الزاهرة ما ينفي خِلاج الشكّ عن قلب الناظر المُستبين، ويُفضي به إلى فضاء العلم اليقين، ويوضح له مناهج الصدق، ويولِجه موالِج الحقِّ، وما يستوي الأعمى والبصير. ولا ينبّئك مثل خبير.
فصل
سؤالٌ آخر: وهو إنّ فرعون - كما هو المشهور - كان من أهل الفكر والبحث، وقد لقّب بـ "أفلاطون القِبط" فلمّا شاهَد فلَقَ البحر - وكان من العقلاء - فلا بدّ وأن يعلم أنّ ذلك من فعْل الله، ومن فعْل عالِمٍ قادرٍ لما يشاء، مخالفٍ لسائر القادرين، فكيف بقيَ على الكفر مع ذلك؟
وأُجيب: بأنّه كان عارفاً بربِّه، إلا أنّه كان كافراً على سبيل الجحود والعِناد.
ورُدَّ بأنّه إذا عرف ذلك بقلبه، فكيف استجاز تورّط نفسه في الهلاك واقتحم البحر؟!
وأجيب: بأنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ، فحبّه للجاه والتلبيس، حملَه على اقتحام تلك المهلكة.
وهذا الجواب ليس بشيء. والأولى أن يقال: إنّ اقتحام البحر لم يكن باختياره، بل وقع ذلك باقتحام حِصانه الذي ركبه، كما مرّ في القصّة. أو يقال: إنّه لم يجزم بهلاك نفسه عند دخوله في البحر حتى إذا أدركه الغرق، ولهذا قال عند الغرق:
{ { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } [يونس:90].
إيمان فرعون مقبولٌ، أم لا؟
واعلم أنَّه للعلماء خلاف في أنّ إيمان فرعون حين موته مقبولٌ أم لا؟ فذهب بعض المحقّقين على الأوّل، والأكثر على الثاني كما هو المشهور.
وقال الشيخ ابن عربي في الباب السابع والستّين ومأة من الفتوحات:
"لمّا حالَ الغرقُ بينَه وبين أطماعه، لَجأ إلى ما كان مستسراً في باطنه من الذلّة والافتقار... فقال: آمَنْتُ بالَّذِي آمنَتْ به بَنُو إسرَائيل وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ كما قالت السحرة
{ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [الشعراء:47 - 48]. وقوله: { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } خطابٌ منه للحقّ، لعلمه أنّه تعالى يَسمعه ويَراه، فخاطَبه الحقُّ بلسان العتب، وأسمَعه { آلآنَ } أظهرتَ ما كنتَ تعلَمه { { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [يونس:91] في اتّباعك. وما قال له: { وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } فهي كلمةُ بُشرى له عرّفنا بها؛ لنرجو رحمتَه مع اسرافنا واجرامنا، ثمّ قال { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [يونس:92] فبشّره قبل قبض روحه { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } [يونس:92] يعني: لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثلما كانت لك.
وليس في الآية أنَّ بأس الآخرة لا يُرتفع، ولا أنّ إيمانَه لم يقبل وإنّما في الآية أنّ بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزَل به إذا آمن في حال رؤيته إلاّ قوم يونُس. فقوله:
{ { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [يونس:92] إذ العذاب لا يتعلّق إلا بظاهرك، وقد أريت الخلْق نجاته من العذاب، فكان ابتداء الغرق عذاباً، فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخلّلها معصية، فقبضت على أفضل عملٍ، وهو التلفُّظ بالإيمان - كل ذلك - حتّى لا يقنط أحدٌ من رحمة الله. والأعمال بالخواتيم. فلم يزل الإيمان بالله يَجولُ في باطِنه، وقد حالَ الطابعُ الإلهي الذاتيّ في الخلْق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية، فلم يدخلها قطّ كبرياء.
وأمّا قوله تعالى:
{ { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر:85] فكلامٌ محقّق في غاية الوضوح، فإنّ النافعَ هو الله، فما نفعَهم إلا الله.
وقوله:
{ { سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [غافر:85]. يعني الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد. وقد قال تعالى: { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [الرعد:15] فغاية هذا الإيمان أن يكون كَرهاً، وقد أضافَه الحقّ إليه. والكراهة محلُّها القلب، والإيمان محلّه القلب. والله لا يأخذ العباد بالأعمال الشاقّة عليه من حيث ما يجده من المشقّة فيها، بل يضاعف له فيها الأجر. وأمّا في هذا الموطن، فالمشقّة فيه بعيدةٌ، بل جاء طَوعاً في إيمانه، وما عاشَ بعد ذلك كما قال في راكب البحر عند ارتجاجه { { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء:67]. فنجّاهم، فلو قبضَهم عند نجاتهم لمَاتُوا موحّدين وقد حصلت لهم النجاة، فقبَض فرعون ولم يؤخّر في أجَله في حال إيمانه لئلاّ يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى.
وأمّا قوله تعالى:
{ { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } [هود:98]. فما فيه نصٌّ أنّه يدخلها معهم، بل قال: { { أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [غافر:46] ولم يقل: "أدخلوا فرعونَ وآلهِ"، ورحمةُ الله أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطرّ إذا دعاه. وأيّ اضطرار أعظم من اضطرار فرعون حالَ الغرق، والله يقول: { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } [النمل:62]. وهذا آمَن بالله خالصاً، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفاً من العوارض، أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص، فرجّح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفّظ بالإيمان، وجعَل ذلك الغرقَ نَكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابُه أكثر من غمّ الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة.
هذا ما يعطي ظاهرُ اللفظ. وهذا معنى قوله:
{ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } [النازعات: 26]. يعني في أخْذه نَكال الآخرة والأولى. وقدّم ذكْر الآخرة ليعلم أنَّ ذلك العذاب - أي الغرق - نُكال الآخرة، وهذا هو الفضل العظيم" انتهى كلامه.
ويفوحُ من هذا الكلام رائحةُ الصدق، وقد صدَر من مشكاة التحقيق، وموضع القُرب والولاية.
تنبيه
قد ذُكر هاهنا إشكال: وهو أنّ فلَقَ البحر بضرب عصا من موسى (عليه السلام) والدلالة على وجود الصانع وقدرته كالأمر الضروريّ، فكيف يجوز فعلُه في زمان التكليف؟
والجواب: أمّا على طريقة الأشاعرة فظاهر. وأمّا على طريقة المعتزلة: فقد أجابَ الكعبي بأنّ عامّة بني إسرائيل كانتْ بعيدة العهد عن الفطنة والذَّكاء، ممنوّةً بالبَلادة، والفَظاظة، وقُصور الفهْم. فلا جرم احتاجوا في التنبُّه على حقيَّة الإيمان بالله، ورسله، إلى معاينة الآيات العظام، كفلَق البحْر، ورفْع الطور فوقهم، وإحياء الموتى.
ألا ترى أنهم مع ذلك لم يقنعوا بهذه الدلائل الباهرة، فتارةً قالوا:
{ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف:138]. وتارة قالوا: { يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة:55]. وأخرى: { ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ } [النساء:153]. إلهاً لهم. وأُخرى: { { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [البقرة:61]. كلّ ذلك لغلبة الكثافة على طبائعهم، والغشاوة على بصائرهم، والطبع والرَّين على قلوبهم.
وأمّا هذه الأمّة فلذَكاء عقولِهم، وصَفاء قلوبِهم، كانوا على خلاف ذلك، فلا جرم وقعَ الاقتصار معهم على الآيات الدقيقة، والمعجزات العقليّة.
وأمّا على طريقتنا فنقول: ليس في فلَق البحر، وقلب العصاء حيَّة، وما يجري مجراهما، زيادة على الدلالة على صدق موسى (عليه السلام) في جميع ما يدّعيه، من إثبات الإله الحقّ، وادّعاء النبوة، وغير ذلك بالدليل العقلي، وأمّا كون ذلك من الضروريّات التي لا حاجة معها إلى البرهان النيّر العقلي فغير مسلّم، كيف وقد ثبَت في علم الميزان: "إنّ المحسوس - بما هو محسوس - لا يكون كاسِباً لشيء ولا مؤدّياً إلى مطلوب" فليس من المحسوس حدٌّ لشيء، ولا برهان على شيء، كما ليس له حدّ ولا عليه برهان.
وهذا أمرٌ محقَّق عند أئمَّة الحكمة والتحقيق، ولذا قال بعض: "الدين الحاصل بالمعجزة دين اللئام"، وحاشا المؤمن المتيقّن أن يكون بناء إيمانه ويقينه على رؤية المعجزة الفعليّة من الرسول. بل بناء ذلك على البرهان العقلي، أو الشهود الباطني الذي لا يعتريه وصْمةُ شكّ، وشوبُ ريبٍ. وأمّا انفلاق البحر وغيره فممّا للشبهة فيه مجالٌ - كما لا يخفى على أهل البحث -.
ثمّ إنّ العلم الضروري، والكشف الحاصل للإنسان يوم القيامة، نحو آخر من العلم لم يحصل مثله من انفلاق البحر وغيره، لأنّ ذلك مما يحصل برؤية الأسباب والعلل. ومشاهدتها وظهور الأسباب بأعيانها ليس مثل العلْم بها من جهة آثارها.