التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

العَفو، والصفْح، والمغفرة، والتجاوز نظائر. قال ابن الأنباري: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } [التوبة:43]. معناه: مَحى الله عنك. مأخوذ من قولهم: "عفَت الريح الأثر" إذا درَسته ومحَته. فعفو الله محوه الذنوب عن العبْد.
والظاهر أنَّ المراد من قوله: { عَفَوْنَا عَنكُم } تركنا معاجلتكم بالعقاب في الدنيا { مِّن بَعْدِ } اتّخاذكم العِجل إلهاً { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: تعرفون الله ورسوله. فإنّ تمام الشكر بأفضل أجزائه، وهو المعرفة.
لمَّا وقعت إليه الإشارة سابقاً من أنّ كلّ مقام من مقامات الدين ينتظم بأمور ثلاثة -: العلم، وهو أعلاها، والحال، وهو أوسطها. والعمل، وهو أدناها - فالشكر لله عبارة عن اعتقاد كونه خالقاً، ورازقاً للعباد، ومنعماً عليهم في الدنيا والآخرة بواسطة الملائكة والأنبياء. ويلزم ذلك الاعتقاد الفرح بذكر الله، ومعرفته، وحبّ لقائه، وخلوص القلب عن الالتفات بغير الله، وتصفيته عن كلّ خاطر رديء، ويلزمه أيضاً العمل بالأركان والجوارح بقدر ما يتيسّر ويُطاق.
واسم "الشُّكْرِ" تارةً يقع على الثلاثة، وتارةً يخصّ بالأول - نظراً إلى سرّه، وروحه، وباطنه - وتارة يخصّ بالآخر - نظراً إلى ظاهره المكشوف للحسّ - كما أنّ اسم الإيمان تارةً يقع على الاعتقاد بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، والأئمة (عليهم السلام)، مع الإقرار باللسان، والعمل بالأركان. وتارة يقع على نفس الاعتقاد الصحيح، وهو النور الباقي للمؤمن إلى يوم القيامة، يسعى بين يديه وعن يمينه.
وقالت المعتزلة - ومنهم صاحب الكشاف -: "معنى قوله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي: غفرنا لكم بسبب إتيانكم بالتوبة التي هي قتلكم أنفسكم". وفيه بحث من وجهين:
الأول: إنّ قبول التوبة واجبٌ عقلاً. وأداء الواجب لا يكون إنعاماً. فلو كان المراد ذلك فلا يحسن عدّه في معرض الإنعام والامتنان. والآية مسوقة في تعديد نِعم الله على بني إسرائيل.
والثاني: إنّ العفو اسم لإسقاط العقاب عن المستحق، فأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه فلا يسمّى عفواً. فعُلم أنَّ ذلك المعنى الذي حملوا الآية عليه ضعيف عقلاً ولُغةً.
تنبيه
اعلم أنَّ هذه الآية دالّة على بطلان قول المعتزلة أنْ "لا عفو عن الكبائر" إذ لا كبيرة أكبر من اتّخاذ العِجل إلهاً، وإذا ثبت أنّه سبحانه عفَى عن كفر قوم موسى (عليه السلام) ولم يؤاخذهم على شِرْكهم، فبأن يعفو عن فسْق أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) كان أحقّ وأحرى.
تنبيه آخر
قد دلّت الآية أيضاً على أن الله تعالى لم يرد من العباد إلاّ الخير والطاعة، ولا يريد منهم الشرّ والعصيان. فإنّه تعالى لما بيَّن أنَّه إنّما عفى عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا، فلم يرد منهم في هذا العفو إلاّ الشكر، وهو أعظم الطاعات.
وأمّا ما ذكره صاحب التفسير الكبير من قوله: "لو أراد الله منهم الشكر لأراد ذلك إمّا بشرط أن يصل للشاكر داعية الشكر، أو لا بهذا الشرط. والأوّل باطل، لأنّ تلك الداعية إن كانت من فعْل العبد لافتقر هذه الداعية إلى داعية أُخرى، والكلام فيها عائد. وإن كانت من الله فحيث خلَق الله الداعي حصل الشكر لا محالة. وحيث لم يخلق استحال حصول الشكر منه من غير هذه الداعية. والثاني أيضاً باطل، وإلاّ فقد أراد منه المحال، لأنَّ حصول الفعل بدون الداعي محال، وطلبُ المحالِ محالٌ على أصولهم".
فمندفِعٌ، لأنّا نختار أنّ حصول الشكر من العبد بالاختيار مشروط بحصول الداعية فيه سواء كانت بالاختيار، فيستدعي داعية أخرى، أو بالاضطرار، فيكون من فعْل الحقّ، وعلى أيّ الوجهين ينتهي بالأخرة إلى حصول داعية ليست هي من فعْل العبد، بل من فعل الله الحاصل في العبد اضطراراً.
وقد مرّ مراراً أنّ اختيار العبد ينتهي آخر الأمر إلى ما هو حاصل فيه بالاضطرار فإنَّ عِلْم الإنسان وداعيته مخلوقان لله بالاتّفاق، والنزاع ليس إلاّ في ترتّب هذه الأمور وافتقار بعضها إلى بعض أو في عدم الترتيب. فإنّ الأشاعرة ومَن يَحذو حذوهم أنكَروا حكمة الله في هذا الترتيب، ونَفوا القول بالعلّة والمعلول، ولهذا أسنَدوا القبائح والشرور كلّها إلى الله أوّلاً وبالذات تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
حكمة قرآنية
معنى "لعلَّ" في القرآن
اعلم أنّ في لفظة "لعلّ" - وهي من كلمات الترجّي والإمكان - إشارةٌ بليغة إلى أنّ فعْل الشكر إنّما يحصل من العبد باختياره، فإنّ أفعال العباد من جهة نسبتها إلى مبادئها القريبة واقعة باختياره على سبيل الاحتمال والإمكان. ومن جهة نسبتها إلى السبب الأوّل ومبادئها البعيدة - من قضاء الله وقدَره وعلمه وقدرته - واقعة من العبد على سبيل البتّ والوجوب.
ففعْل العبد من جهة وقوعه باختياره يحكم عليه بـ "القدَر والتفويض" أي: بكونه واقعاً بقدرتنا، مفوَّض إلينا - ومن جهة وقوعه بمشيّة الله وقضائه وقدَره، والوسائط المترتّبة المستندة - على ترتيبها في سلسلة العلل والمعلولات - إلى الله، يحكم عليه بـ "الجبْر" كما سبق.
فلفظة "لعلّ" كلّما جاءت في القرآن فهي بحسب الاعتبار الأوّل، وهو وقوع الأمور من أسبابها القريبة.
فصل
الفرق بين الحمد والشكر
اعلم أنَّ العلماء فرّقوا بين الحمد، والشكر، ومعناهما، وحكمهما، وملخّص الفرق المستفاد من أقوالهم: إنّ الحمد من أشباه الأذكار كالتسبيح والتهليل، فيكون من المساعي الظاهرة، والشكر من أشباه النيّات والأخلاق، كالصبر والتفويض والرضا. فيكون من المساعي الباطنة، لأنّ الشكر يقابل الكفران. والحمد يقابل اللَّوم. ولأنّ الحمد أعمّ وأكثر، والشكر أخصّ وأقل. كما قال تعالى:
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13]. فثبت أنّهما معنيان متميّزان.
ثمّ الحمد - كما هو المشهور من كلام الجمهور - هو الثناء على أحد بالفعل الجميل.
وأمّا الشكر فقد تكلّموا في معناه وأكثَروا القول فيه:
فعن ابن عباس أنّه قال: "هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ العالمين في السرّ والعلانية". وهذا كما اشتهر على ألسِنة الجمهور: "أنّه عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خُلق لأجله" وإلى نحوه ذهَب بعض المشايخ، فقال: "إنّه أداء الطاعات في الظاهر والباطن".
وقال بعضهم: "اجتناب المعاصي ظاهراً وباطناً". وقال غيره: "الاحتراس عن اختيار معاصي الله". أي: تحترس على قلبك ولسانك وأركانك، حتى لا تعصي الله بشيء من هذه الثلاثة.
وقال آخر: "الشكر تعظيم المنعم على مقابلة نعمته، على حدّ يمنعه من جفاء المنعم وكفرانه". ولو قيل: "تعظيم المحسِن على مقابلة إحسانه" ليصحّ أن يكون من الله الشكر للعبد المحسن.
فإن قلت: فما موضع الشكر؟
فاعلم أنَّ موضعه النعم الدينيّة والدنيويّة مطلقاً.
وأمّا الشدائد والمصائب الدنيويّة في النفس، أو الأهل، أو المال، فقال بعضهم: لا يلزم العبد الشكر عليها، وإنّما يجب عليها الصبر.
وأمّا الشكر فهو على النعمة خاصّة.
وقال بعضهم: لا شدّة إلاّ وفي جنبها نعم الله. فيلزم الشكر على تلك النعم المقترنة به، دون نفس الشدّة.
وقال بعضهم - وهو الأولى -: إنّ شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها، لأنّ تلك الشدائد نعم بالحقيقة، لأنّها تعرض للعبد بمنافع عظيمة، ومثوبات جزيلة وأعواض كريمة، في العاقبة، تتلاشى في جنبها مشقّة هذه الشدائد. مثال ذلك من يسقيك دواء كريهاً مرّاً للدَّاء الشديد، فيؤدّي ذلك إلى صحّة النفس وصفوة العيش فيكون إيلامه إيّاك بمرارة الدواء منّة بالغة بالحقيقة، وإن كان في صورة مكروهة.
فالحاصل من هذا الكلام رجع إلى أنّ البليّة والشدّة يجب الشكر عليها من حيث إنّها نعمة، لأنّها توجبها لا من حيث إنّها بليّة وآفة، فلا شكر على الشرور والأعدام من حيث إنّها شرور وأعدام.
هذا هوالتحقيق، وعلى هذا يحمل قوله (صلّى الله عليه وآله):
"الحمدُ لله على كلّ حال" .
ثمّ إنّ النعمة قسمان: دنيويّة، ودينيّة:
فالدنيويّة ضربان: نفعٌ، ودفعٌ. فنعمة النفع - وهي المصالح والمنافع - ضربان: الخِلْقة السويّة في سلامتها وعافيتها، وما سلامة البدن موقوفة عليها من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح وغيرها من فوائدها. وأمّا نعمة الدفع فهي أن صرَف عنك المفاسد والمضار. وهي ضربان أحدهما: في النفس بأن سلمك من زمانتها، وسائر آفاتها، وعللها. والثاني: دفع ما يلحقك من ضرب من أنواع العوائق أو يقصدك بسوء من إنس، أو جنّ، أو سباع، أو هوامّ، أو نحوها.
وأمّا النعم الدينيّة فضربان: نعمة التوفيق ونعمة العصمة، فنعمة التوفيق أن وفقك الله أوّلاً للإسلام، ثمّ الطاعة. ونعمة العصمة أن يعصمك أوّلاً عن الكفر والشرك، ثمّ عن البدعة والضلالة، ثمّ عن سائر المعاصي وتفصيل ذلك لا يحيط به إلاَّ السيّد الحكيم الذي أنعَم عليك كما قال جلّ جلاله
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34].
فصل عرشي
اعلم أنَّ تحقيق الشكر، والعلم بكيفيّة حصوله من الإنسان، يستدعي معرفة أصول عظيمة عقليّة، ومسائل شريفة علميّة، منها معرفة النفس الإنسانيّة، وهي أمّ الفضائل ومفتاح العلوم الحقيقية، ولنذكر هاهنا استقصاءً يسيراً مما وجدناه من كتب العرفاء، لما فيه من عظيم الجدوى.
فنقول: قد علمت سابقاً أنّ الشكر من جملة مقامات السالكين، ومنزلٌ من منازل أهل الدين، وكلّ مقام ومنزل لهم ينتظم من، علم، وحال، وعمل. العلم هو الأصل، فيورث الحال، والحال يورث العمل.
أمّا العلم هاهنا فهو معرفة المنعِم وإنعامه. وأمّا الحال فيه فهو الابتهاج الحاصل فيه بإنعامه. وأمّا العمل فيه فهو القيام بما هو مؤدٍ إلى مقصود للمنعم وغاية إنعامه. ويتعلّق ذلك العمل بالقلب والجوارح واللِّسان. ولا بدّ من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر.
فالأصل الأول العلم:
وهو متعلّق بثلاثة أمور: بعين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقّه، وبذات المنعِم، ووجود صفاته، التي بها يتمّ الإنعام، وبصدور الإنعام منه عليه، فإنّه لا بدّ من منعِم، ومنعَمٍ عليه، يصل إليه النعمة من المنعِم بقصد وإرادة.
فهذه الأمور لا بدّ من معرفتها في حقّ غير الله، فأمّا في حق الله فلا يتمّ إلاّ بأن يعرف أنّ النعم كلّها منه، وهو المنعِم بالحقيقة، والوسائط مسخّرون من جهته، فهذه المعرفة هي معرفة أن "لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله" وهو توحيد الأفعال. وهذه المعرفة وراء التقديس، والتوحيد في الذات الواجبيّة، إذا دخل هذا التوحيد والتقديس فيها، بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس.
ثمّ إذا عرف ذاتاً مقدّسة عن النقائص الإمكانيّة - فضلاً عن المثالب الماديّة والمكانيّة - فيعرف أنّه لا مقدّس إلاّ واحد، وما عداه غير مقدّس وهو التوحيد.
ثمّ يعلم أنَّ كل ما في العالَم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، والكلّ نِعمة منه، فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة - أي بعد المعرفتين الأوليين - فينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل.
وعن هذا عبّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث قال:
"مَن قال سبحان الله فله عشر حسنات. ومَن قال: لا إله إلاّ الله فله عشرون. ومَن قال: الحمدُ لله فله ثلاثون حسَنة" .
وقال (صلّى الله عليه وآله): "أفضل الذكر لا إله إلاّ الله وأفضل الدعاء الحمدُ لله" .
وقال (صلّى الله عليه وآله): "ليس شيء من الأذكار يضاعَف ما يضاعَف الحمد
"
. ولا تظننّ أنّ هذه الحسنات بإزاء تحريك اللِّسان بهذه الكلمات، من غير حصول معانيها في القلب. فـ "سبحانَ الله" كلمةٌ تدلّ على التقديس، و "لا إله إلاّ الله" كلمة تدلّ على التوحيد. و "الحمدُ لله" على معرفة النعمة من الواحد الحقّ. فالحسنات بإزاء هذه المعارف، التي هي من أنوار الإيمان واليقين.
واعلم أنَّ تمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال، فمَن أنعَم عليه ملِكٌ من الملوك بشيء فإن رأى المنعَمُ عليه لوزيره، أو وكيله دخْلاً في تيسير ذلك، وإيصاله إليه فهو إشراك به في النّعمة، فلا يرى النِّعمة من الملِك من كلّ وجهٍ، بل منه بوجه، ومن غيره بوجه. فيتوزّع فرحه عليهما. فلا يكون موحّداً في حق الملِك.
نعَم لا ينقص عن توحيده في حقّ الملِك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبَه بقلمه، وبالكاغد الذي كتب عليه، فإنّه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما، لأنّه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخّران تحت قدرة الملِك. وقد يعلم أنّ الوكيل الموصل والخازن أيضاً مضطرّان من جهة الملِك في الإيصال، وأنّه لو رُدّ الأمرُ إليهما، ولم يكن من جهة الملِك أمْر حتم وقضاء جزم لما سلَّما.
فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن والوكيل كنظره إلى القلم والكاغد، فلا يورث شركاً في توحيده من إضافة النعمة إلى الملِك.
فكذلك من عرف الله، وعرف أفعالَه، علم أنّ الشمسَ، والقمرَ، والنجوم مسخراتٌ بأمره - كالقلم مثلاً في يد الكاتب - وأنّ الحيوانات التي لها اختيار مسخّرات في نفس اختيارها، فإنّ الله تعالى هو المسلِّط للدواعي عليه، شاءت أو أبت أي من حصول الداعي كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلاً إلى مخالفة الملِك، ولو خلّي ونفسه لَما أعطاك ذرّةً ممّا في يده.
فكلّ من وصل إليك نعمة الله تعالى على يده فهو مضطرّ، إذ سلّط الله عليه الإرادة، وهيَّج عليه الدواعي، وألقى في قلبه أنّ خيره في الدنيا والآخرة هو أن يعطيك ما أعطاك. وبعد خلقِ الله له هذا الاعتقاد فلا يجد سبيلاً إلى تركه، فهو إذن إنّما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك. فالمنعِم عليك بالحقيقة هو الذي سخَّره لك، وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطرّاً إلى الإيصال إليك.
فإن عرفتَ الأُمور كذلك فقد عرفتَ الله، وعرفت فعله، وكنت موحّداً، وقدرت على شكره، بل كنت بهذه المعرفة بمجرّدها شاكراً، ولذلك قال موسى (عليه السلام) في مناجاته: "إلهي خلقتَ آدمَ بيدك، وإذا سوّيتَه فنفختَ فيه من روحك وفعلت، وفعلت، فكيف شكرك؟" فقال: "علم أنّ ذلك منّي، فكانت معرفته شُكراً".
فإذن لا شكرَ إلاّ بأن تعرف أنّ الكلّ منه، فإن خالجَك ريبٌ في هذا لم تكن عارفاً إلاّ بالنعمة - لا بالمنعِم - فلا تفرح بالمنعَم وحده، بل بغيره. فبقدر نقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح، وبنقصان فرحك وابتهاجك بالمنعم ينقص عملك. فهذا بيان هذا الأصل.
الأصل الثاني:
الحال المستثمر من أصل المعرفة، وهو الفرح بالمنعِم مع هيئة الخشوع والتواضع، وهذا أيضاً شكر في نفسه، كما أنّ المعرفة شكر، ولكن إنّما يكون شكراً إذا كان جامعاً لشروطٍ:
أحدها: أن يكون فرحُك بالمنعِم - لا بالنعمة، ولا بالإنعام - ومثاله: أنّ الملِك إذا أنعم بفرس على إنسان، تصور فرحه بالفرس من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يفرح به من حيث إنّه فرس، وانّه مال يُنتفَع به، ومركوبٌ يوافق غرضَه، وانّه جوادٌ نفيس ولو وجده في صحراء وأخذه لكان فرحُه مثلَ هذا الفرح.
والثاني: أن يفرح به من حيث إنّه يستدلّ به على عناية الملِك وشفقته عليه، حتّى أنّه لو وجده في صحراء لم يفرح به أصلاً، لاستغنائه عنه أو لاستحقاره بالإضافة إلى ما هو مطلوبه من نيل المحلّ في قلب الملِك.
الثالث: أن يفرح به ليركبه ويخرج به في خدمة الملِك؛ لينال بخدمته رتبة القُرب عنه، ويرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنَّه لم يقنع بأن يكون محلّه في قلب الملِك أن يعطيه فرَساً، ولا يكتفي بهذا القدر من العناية، بل هو طالب لأنْ لا ينعم الملِكُ على أحد إلاّ بواسطته، ثمّ إنّه لا يريد من الوزارةِ الوزارةَ أيضاً، بل مشاهدة الملِك والقرب منه، حتّى أنّه لو خيِّر بين الوزارة دون القُرب، وبين القُرب دون الوزارة لاختار القُرب.
فهذه ثلاث درجات: فالأوّل لا يدخل فيه معنى الشكر أصلاً، لأنّ نظرَ صاحبه مقصورٌ على الفرَس لا بمعطي الفرس فهذا حال كلّ من فرح بنعمة من حيث إنَّها لذيذة وموافقة لغرضه، فهو بعيدٌ من معنى الشكر.
والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنّه فرح بالمنعم، ولكن لا من حيث ذاته، بل من حيث معرفة عنايته التي يستحثّه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين، الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
وإنّما الشكر التامّ في الفرَح الثالث، وهو أن يكون فرح العبد بنعم الله من حيث إنَّه يقتدر بها على التوسّل إلى القُرب منه، والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام فهذه الرتبة العليا، وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلاّ بما هو مزرعة الآخرة ومُعينة عليها. ويحزن بكلّ نعمة تُلهيه عن ذكر الله تعالى، وتصدّه عن سبيله لأنّه ليس يريد النعمة لأنّها لذيذة.
ولذلك قال الشبلي: "الشكر رؤية المنعِم لا رؤية النعمةَ" وقال الخواصّ "شكر العامّة على المَطعم والمَلبس، وشكر الخاصّة على واردات القلوب".
وهذه رتبةٌ لا يدركها كلّ من انحصرت عنده اللذّات في البطن، والفَرْج، ومدركات الحواسّ، وخَلا عن لذّة القلب، فإنّ القلب - أعني الروح - لا يلتذّ في حال الصحّة والسلامة إلاّ بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه، وإنّما يلتذّ من غيره إذا مرض بسوء العادات، كما يستلذّ بعض الناس بأكل الطين، وكما يستبشِع بعض المرضى الأشياءَ الحلوة، ويستحلي الأشياء المرّة، فإذن هذه شرائط الفرح بنعمة الله.
الأصل الثالث:
وهو العمل. وصرْف الجوارح وسائر النعم في المصارف التي خلَقها الله وأنعمَها لأجلها، وذلك لأمرين:
أحدهما: لدوام النعمة.
زالثاني: لحصول الزيادة.
فأمّا دوام النعمة فلأنّ الشكر قيد المنعَم، به تدوم وتبقى، وبتركه تزول وتحول، ولما علمت أن كلّ نعمة - بل كل عين، أو صفة، أو قوّة - فهي مخلوقةٌ لأجل غاية وفائدة هي مصرفها، فإذا صرفت في مصارفها دامت، وإلاّ زالت. كما قال الله تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].
وقال:
{ { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } [النحل:112]. وقوله: { { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [النساء:147]. وفي الحديث أنّه قال: "إنّ النعم أوابد كأوابد الوحوش، فقيِّدوها بالشكر" .
وأمّا الزيادة فلأن الشكر لمّا كان قيد النعمة فهو يثمر الزيادة، وصرْف الشيء في مصرفه الطبيعي يوجب اشتدادَه وازديادَه كما قال تعالى: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم:7]. وقوله: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد:17]. ألا ترى أنّ السيد الحكيم إذا رأى العبدَ قد قام بحقّ نعمة يَمنّ عليه بأخرى ويراه أهلاً لها، وإلاّ فيقطع عنه ذلك؟
تذييل
فإن قلت: هل لنا أن نشكر الخلْقَ على إحسانهم إلينا للنعم الواصلة إلينا من الله بأيديهم - وقد ذكر أنّ الوسائط مسخّرون ولا تأثير لهم في الإفادة أصلاً -؟
قلنا: نعم تأدّباً بأدَب الله وأدب رسوله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ شكر المحسن على الإحسان والدعاء له من شِعار الصالحين، وأخلاق العارفين، وذلك منهم مع كمال توكّلهم على ربّهم وصفاء توحيدهم في الأفعال، وقطعهم النظر عن الأغيار في التأثير والآثار ورؤيتهم النعم كلّها من المنعِم الجبّار، فإنّهم يفعلون ذلك اقتداءً برسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ورد في كثير من الأحاديث والأخبار.
وبيان ذلك أنّ الناس على ثلاثة أقسام:
فالعامّة حجبوا عن الله بالخلْق في المنع والعطاء. والصوفيّون السالكون في الابتداء حجبوا بالله عن الخلْق ورأوا الأشياء من الله، حيث طالَعوا ناصية التوحيد، وخرَقوا الحِجاب الذي منع الخلْق عن صرف التوحيد، فلم يثبتوا للخلق منعاً ولا عطاء.
وأمّا الكمّل من العلماء الإلهيّين فحيث ارتقوا إلى ذروة التوحيد شكروا الخلْق بعد شُكر الحقّ، وأثبتوا لهم وجوداً وتأثيراً في المنح والعطاء، بعد أن رأوا وشاهَدوا السبب الأوّل أوّلاً.
وذلك لسعة علْمهم وقوّة معرفتهم بحيث يسع علمهم للجانبين، ولا يحجب نظرهم بأحد من الخلْق والحقّ عن الآخر، فلا يحجبهم الخلْق عن الحقّ كعامّة المسلمين الساكنين في مقام التسليم، ولا يحجبهم الحقّ عن الخلْق كأرباب الإرادة والمبتدئين من السالكين، بل شاهَدوا الحكمة والترتيب ونفوذ نور الحقيقة في مطاوي الممكنات، ومكامِن الماهيات، فيشكرون الخلْق لأنّهم الوسائط والأسباب.
روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:
"أوّل ما يدعى إلى الجنّة الحمّادون، الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء" وقال (صلّى الله عليه وآله): "من عطَس أو تجشّى فقال: الحمد لله على كلّ حال رفع الله بها عنه سبعين داء أهونها الجذام" . وقال (صلّى الله عليه وآله): "ما من عبْد ينعم عليه نِعمة فحمَد الله إلاّ كان الحمدُ أفضل منها" .
فقوله (صلّى الله عليه وآله): "كان الحمدُ أفضل منها" يحتمل أنّه رضي الحقّ بها شكراً، ويحتمل أنّ الحمد أفضل منها نعمة، فيكون نعمة الحمدِ أفضل من النعمة التي حَمَد عليها، فإذا شكروا المنعِم الأوّل يشكرون الواسطة المنعِم من الناس، ويدعون.
وعنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه إذا أفطر عند قوم قال:
"أفطَر عندكم الصائِمون، وأكَل طعامَكم الأبرارُ، ونزلت عليكم السكينةُ والوقار" وعنه (صلّى الله عليه وآله): "من قال لأخيه: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء" .