التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٨
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذا هو الإنعام الثامن، فإنّ الآية معطوفة على الآيات المتقدمة المذكورة فيها النّعم المتقدّمة التي آخرها تظليل الغمام عليهم، وإنزال المنّ والسَّلوى. فأردف بنعمة أُخرويّة.
والدخول، والوُلوج، والاقتحام نظائر. إلاّ أنّ الاقتحام دخولٌ على صعوبة.
والقَريَة والبَلدَة، والمَدينة نظائر.
والسُّجود: الانحناء الشديد.
و "حِطَّة" مصدر، كـ "ردة" و "جدة". وهي خبر مبتدإ محذوف. أي سؤالنا حطّة الذنوب. وأصله النصب بمعنى حطّ عنّا ذنوبنا حطّة، وإنّما رفعت لتعطي معنى الثبات، كقوله تعالى:
{ { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [يوسف:18]. وقيل معناه: أمرنا حطّة. أي: أن نحطّ هذه القرية ونستقرّ فيها.
قال صاحب الكشاف: والأجود أن تكون منصوبة بإضمار فعلها، وينتصب محلّ ذلك المضمر بـ { قُولُوا }.
والغُفران والصَّفْح والعَفو نظائر. والغَفْر في اللغة: الستر. يقال: "غَفَر الله له غفراناً" أي: ستر الله على ذنوبه. والخطيئة والزلّة والمعصية نظائر.
والمحسِن: الفاعل للإحسان، أو للحُسن. يقال: "أحسَن إلى غيره" و "أحسَن في فِعْله". والفرق بينهما أنّ الأول لا يقال إلاّ في النفع بخلاف الثاني، وحدّ الحسن من طريق الحكمة هو الفعل الذي يدعو إليه العقل. وضدّه القبيح، وهو الفعل الذي يزجر عنه العقل.
فصل
القرية التي أُمروا بدخولها
اختلف المفسّرون في أنّ المراد من هذه القرية أيُّ قرية؟ فالأكثر على أنّها بيت المقدس. ويؤيّده قوله تعالى في موضع آخر:
{ { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة:21]. ولا شكّ أنّ المراد منهما واحد.
وعن ابن عباس وابن زيد أنّها "أريحا" وهي قرية قُرب بيت المقدس، وكان فيها بقايا من قوم عاد، وهم العَمالقة، رأسهم عوج بن عنق.
وقيل: إنّها نفس مصْر.
واعترض على الأوّل بأنّ الفاء في قوله تعالى:
{ { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة:59] يقتضي التعقيب، فوجب أن يكون هذا التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمْر في حياة موسى (عليه السلام).
والجواب بأنّه ليس في الآية ما يدلّ على أنّ هذا القول من الله وقع على لسان موسى (عليه السلام)، أو على لسان يوشع، وإذا حملنا على لسان يوشع زال الإشكال.
وقوله: { كُلُوا } أمْر إباحة. أي: كلوا منها أنّى شئتم { رَغَداً } أي: موسَّعاً عليكم، مستمتعين بما شئتم من طعام القرية بعد المنّ والسَّلوى.
وأمّا قوله: { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ } فهو أمر تكليف حتم. ومن هاهنا يعلم أنّ قوله: { ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ } أيضاً أمر تكليف لأنّ دخول الباب مشروط به، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. وأيضاً قوله تعالى في المائدة:
{ { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة:21]. يدلّ على الوجوب. ولا شكّ أنّ المراد من الدخول في الآيتين واحد.
قوله تعالى: { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً } اختلفوا في الباب على وجوه: فعن ابن العباس، والضّحاك، ومجاهد، وقتادة: أنّه باب يدعى "بابُ حطَّة" من بيت المقدّس. وحَكى الأصمعي عن بعضهم أنّه عنى بالباب جهة من جهات القرية، ومدخلاً إليها.
واختلفوا في المراد بالسجود. فقال الحسن: أراد به نفس السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض. وهو بعيد، لمعنى الحاليّة فيه، فيمتنع الدخول حين السجود.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنّ المراد هو الركوع. لأنّ الباب كان صغيراً يحتاج فيه إلى الانحناء للولوج. وهذا أيضاف بعيدٌ لعدم الحاجة فيه إلى الأمر.
والأقرب أنّ المراد الخضوع، لأنّه لمّا امتنع حمله على حقيقة السجود فيجب حمله على التواضع، لأنّهم إذا أخذوا في الخضوع تائبين، والتائب من الذنب لا يخلو عن خشوع واستكانة.
وأمّا قوله تعالى: { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } فالوجه فيه أنَّ التوبة صفة قلبيّة، فلا يطَّلع عليها الغير. وهي وإن كانت تتمّ من غير حاجة فيها إلى قول - كما في الأخرَس - لكن لأجل أن يعرف الغير عدوله من الفسْق إلى التوبة، ولإزالة التهمة عن نفسه يحتاج فيها إلى القول، ألا ترى أنّ من كان معروفاً بمذهب باطل، ثمّ استبصر وعدَل إلى الحقّ، فإنّه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ، لزوال التهمة ولعودهم إلى موالاته بعد مُعاداته، ولنُصرة الحقّ وتقويته في إظهار شعائر الدين، فلأجل ذلك أُمروا بأنْ يدخلوا الباب خاضِعين بقلوبهم، ذاكِرين بلسانهم، حتّى يكونوا جامعين بين عمل الجنان بالندم، وعمل الأركان بالخضوع أو الانحناء، وعمل اللسان بالاستغفار وهذا أجود الوجوه.
وعن الأصمّ: انّ هذه اللَّفظة من ألفاظ أهل الكتاب، لا يُعرف معناها في العربية.
وعن أبي مسلم الإصفهاني معناه: أمرُنا حِطَّةٌ. أي نحطّ في هذه القرية ونستقرّ فيها. وزيّفه القاضي بأنّ قوله: { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } يدلّ على أنَّ الغفران متعلّق به، ولو كان الوجه ما ذكره لم يكن للمغفرة تعلّق بقولهم حِطّة. وفيه ما لا يخفى.
فصل
هل كان التكليف بالتوبة متعلّقاً بذكر هذه اللفظة؟
أم مطلق قول دالّ على الندم والخضوع؟
فالمرويّ عن ابن عباس أنّهم كانوا مأمورين بهذه اللفظة بعينها، وهو محتَمَلٌ، لكنّه بعيد من وجوه:
أمّا أوّلاً: فلأنّ هذه اللفظة عربيّة.
وأمّا ثانياً: فلأنّهم كانوا مأمورين بالتوبة والخضوع، والمقصود حاصل بغير هذه اللفظة.
وأمّا ثالثاً: فلأنّ التوبة تحطّ الذنوب - سواء قيل هذا اللفظ، أم لا - فذكره بعينه لا فائدة فيه.
وروي عن ابن عباس أيضاً: أُمروا أن يقولوا: "هذا الأمر حقٌّ".
وقال عكرمة: أُمروا أن يقولوا: "لا إله إلاّ الله" لأنّها تحطّ الذنوب. وبالجملة كلّ ما يحط الذنوب فصحّ أن يترجم عنه بـ "حطّة".
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "نحن باب حطّتكم".
قوله تعالى: { وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي: مَن كان مُحسِناً منكم كانت كلمة الاستغفار له زيادة في ثوابه، ومَن كان مسيئاً كانت له مغفرة لذنوبه.
وقيل: سنزيدهم على ما يستحقّونه من الثواب تفضّلاً، كقوله تعالى:
{ { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [فاطر:30]. وكقوله: { { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس:26].
وقيل: المراد به أن يزيدهم الإحسان على ما سلف من الإحسان، بإنزال المنّ والسَّلوى، وتظليل الغمام وغير ذلك، فإنّ الزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا، كما يمكن أن تكون من منافع الآخرة.
فصل
القراءة في { نَغْفِرْ لَكُمْ } مختلفة. فقرأ ابن المبارك بالنون وكسر الفاء. ونافع بالياء وفتحها. والباقون من أهل المدينة بالتاء، وضمّها، وفتح الفاء. والحسَن وقتادة وأبو حياة بالياء وضمّها، وفتح الفاء.
قال القفّال: والمعنى في القراءات كلّها واحد، لأنّ الخطيئة إذا غفَرها الله فقد غُفِرت، وإذا غُفرتْ فقد غَفرها الله. والفِعل إذا تقدّم الاسمَ المؤنث وحالَ بينه وبين الفاعل حائلٌ جاز التذكير والتأنيث. كقوله تعالى:
{ { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ } [هود:67]. و: أخذَت الذين.
فصل
لأهل الإشارة أن يأوّلوا الآية: ادخلوا أيّها السالكون إلى المنازل، والمقامات، حسَب تطوّرات النفوس، وتقلّبات القلوب هذه الأرض المقدّسة، التي هي عالَم القدس والملَكوت، بقدم الصدق واليقين في العلْم والعمَل، وكُلوا من طيّبات الأغذية العلميّة والأرزاق المعنويّة. وادخلوها من بابها الذي هو الحقيقة الإنسانيّة، والإنسان المعنوي. فإنّه لا يمكن الدخول إلى ذلك العالَم القدسي الإلهي إلاّ بالولوج في هذا الباب الذي باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب. مخبتين ساجدين لله، محبّين لجماله، فانين في جلاله عن هذه الأنانيّة، قائلين: "حطَّ يا إلهي عنّا أوزارَنا، ونحِّ عنّا وساوس نفوسِنا الحيوانيّة، واغفر لنا ذنوبَ وجوداتنا، وجرائم قوانا المجرمة الظلمانيّة بنور تقديسك وتطهيرك".
ويؤيّد هذا التأويل ما ورَد من طريق أهل بيت النبي عليه وعليهم السلام أنّهم قالوا: "نَحن بابُ حِطَّتكُم" وقوله (صلى الله عليه وآله):
"أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها" وروي أيضاً عن الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام) أنّه قال: "مثَّل الله على الباب مثال محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وأمرهم أن يسجدوا تعظيماً لذلك المثال، ويجدّدوا على أنفسهم العهد القديم من موالاتهما".