التفاسير

< >
عرض

يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

إن للمنافقين قبائح كثيرة من رذائل القلب وخبائث النفس، ذكَر الله أربعة منها في هذه الآيات: أحدها: ما ذكَره في هذه الآية وهي المخادعة مع الله والمؤمنين.
والخَدْعُ: أن توهِمَ غيرَك خلافَ ما تُخفيه في نفسك من المكروه، لتصرِفه عمّا هو بصدده من قولهم: خدع الضبُّ: إذا توارى في جُحره وضبٌّ خادعٌ وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر.
وأصله الإخفاء. ومنه المخدَع: للخزانة. والأخدعان: لعرقين خفيّين في العنق. فهو ضرب من النفاق والغرور والرياء في الأفعال الحسنة. وكلّ ذلك بخلاف ما يقتضيه دين الله وطريقه، لأنّ الدين يوجب الاستقامةَ والعدولَ عن الغُرور والتدليس والمكر والإساءة، كما يوجب الاخلاص:
{ { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر:3].
وأما أنّهم كيف خادَعوا الله ولا تخفى عنه خافيةٌ، وكيف خادعَهم الله، والمؤمنون - كما تقتضيه صيغة المفاعلة - والخدعة صفةٌ مذمومةٌ؟ فالمراد من الأول أحد أمور خمسة:
أولها: أن يكون ذلك على معتقَدهم وظنِّهم أنّ الله ممَّن يرضى عنهم بصورة الأعمال الصادرة عنهم سُمعة ورياءً، مع أن القصد منهم بما لم يكن إلا أغراض النفس والهوى، ومحبة الجاه والثروة ومتاع الدنيا؛ وذلك لاغترارهم وجهلهم بأن الناقد بصير، والطريق اليه خطيرٌ، والبضاعة معيبة مموّهة، ولا يُقْبَل عند الله إلاّ العمل الخالص، وكيف، ومن كان ادعاؤه الإيمان بالله واليوم الآخر نفاقاً، لم يكن قد عرف الحقّ وصفاته، وأن له تعلّقاً بكل معلومٍ، وله غِنىً عن كلّ ما سواه. فلم يبعد عن مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً من وجه خفي، وربما يوجد في الناس - بل في أكثر الأكياس منهم - مَن كان هذا شأنهم مع الله، وقد شاهَدناهم وصحبناهم كثيراً.
وثانيها أن يقال: صورة صنيعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان ويستبطنون الكفر - صورة صنيع الخادعين.
وثالثها: أنّ المراد مِن "يخادعون الله"، المخادعة مع رسول الله، إمّا على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنّه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، وهو مع ذلك خارجٌ عن مقام بشريّته، ذاهبٌ الى الله وملكوته، واصلٌ بكلّيته في بحبوحة قُربه ومطالعة جماله وجلاله، مستغرقٌ في شهود إلٰهيته، كما قال تعالى
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء:80]. وقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح:10]. وقال (صلّى الله عليه وآله): "مَن رآني فقد رأى الحقّ" . وفي الحديث القدسي: "من بارزَ وليّاً فقد بارزني. ومن عاداه فقد عادني" .
ورابعها: ما ذكرَه صاحب الكشاف، وهو أن يكون من قبيل قولهم: "أعجبني زيدٌ وكرمه" فيكون المعنى: يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة، قوّة الاختصاص. وله نظائر ذكرَها.
وخامسها: ما في الكشّاف أيضاً، وهو أن يقال، عنى به "يخدعون" إلاّ انه أخرج في زنة المفاعلة للمبالغة، لأنّ الزنة في أصلها للمبالغة، والفعل متى غولِب فيه فاعله كان أبلغ وأحكم منه إذا زاوَله من غير مقابلة معارض، ويعضده قراءة من قرأ "يخدعون"، ولأنه بيان: ليقول، ويحتمل الاستيناف، لذكر ما هو الغرَض من دعواهم الإيمان كذباً.
والمراد من الثاني هو أنّ صورة صُنع الله معهم صورة صُنع الخادع، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفّار، وأهل الدرَك الأسفل من النار، استدراجاً لهم، وتلطّفاً في إغفالهم عمّا أعدّ لأوليائه، وردْعهم وطرْدهم من جناب قُدسه ومحلّ كرامته من حيث لا يشعرون، مجازاةً لهم بمثل صنيعهم.
وكذا صورة صُنع الرسول والمؤمنين معهم من حيث امتثالهم أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء الإسلام عليهم، وربما كانوا ولاة في البلاد، وقُضاة في دار الإسلام يحكمون على أموال المسلمين وفروجهم ودمائهم، ويجب على الناس الاقتداء بهم في الصلاة، والامتثال لأمرهم ونهيهم تقيّة ومداراة معهم، كما أخبر عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: سيكون بعدي اثرة، وقال للاصحاب: إنّكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟ قلت: أَمَا والذي بعثَك بالحقّ، أضعُ سيفي على عاتقي، ثمّ أضرب به حتّى القاك، قال: أَوَلاَ أدلّك على خيرٍ من ذلك؟ تصبرُ حتى تَلقاني" .
فصل
الداعي لهم على الخديعة مع المؤمنين يحتمل مقاصد وأغراضاً شتّى:
منها: أنّهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفّار؛ من قتل نفوسِهم، ونهْب أموالهم، وسبي ذَراريهم، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"أُمرتُ أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إلٰه إلاّ الله" .
ومنها: قبولهم عند أهل الاسلام وإجراؤهم مجرى المؤمنين في التعظيم والإكرام.
ومنها: أنّهم ربما التمسوا من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمؤمنين إفشاء أسراره واسرارهم لينقلوها الى أعدائهم من الكفّار.
ومنها: أنّهم طمعوا الاقتسام من أموال الغنائم - الى غير ذلك من المقاصد والأغراض. وليس لك أن تقول: لمّا كان الله قادراً على أن يوحي الى نبيّه محمد (صلّى الله عليه وآله) جميع ما قصدوه وأضمروه في نفوسهم ليدفع شرَّهم وخداعهم وإفسادهم، فلِمَ لم يفعل ذلك ولَمْ يهتك أسرارهم؟
قلنا: وإنّه أيضاً قادرٌ على استيصال إبليس وذريّته أجمعين، ولكنّه أبقاهم وقوّاهم وأجراهم مجرى الدم في عروق الآدميّين، لأنّ في ذلك الحكمة والمصلحة ما لا يعلم غورُه إلاّ الله ومَن اهتدى بنوره، واطّلع على وَحيه من أهل الرسالة والوِلاية.
فصل فيه حكمة مشرقية
[كيف يخدع الانسان نفسه]
قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }، أي خداع المنافقين لا ينجع إلاّ في أنفسهم بإهلاكها وتخسيرها، وايراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق، واجتماع أسباب البُعد من الله والشقاء عليها، كما في قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر:43].
وكذا خداع الله المتسبّب عن خداعهم، يؤثّر في أنفسهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق لقوله تعالى:
{ { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54]. وهم من غاية تعمّقهم في جهلهم، ما يُحسّون بذلك الأمر المكشوف الظاهر، إذ الشعور: علم الشيء إذا حصل بالحسّ، من الشعار، - ومشاعر الإنسان حواسّه - عنى به أنّ لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة، كالذي به خدرٌ لا يحسّ، والمراد من النفْس: ذاتُ الشيء وحقيقته، ولا يختصّ بالأجسام لقوله تعالى: { { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة:116]. وقد يطلق على جوهرٍ مفارقٍ عن الأجسام ذاتاً وحقيقةً، مقارنٍ لها فِعلاً وتأثيراً، ثمّ قيل للقلب: نفسٌ، لأنّه خليفة النفس في البدن، كما انّ الصدر خليفةُ الطبيعة.
ويقال للدم: نفسٌ، لأنّ قوامَ حياتها البدنيّة بالدم، وللماء: نفس لفَرط حاجتها إليه، قال تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء:30]. وللرأي في قولهم: فلانٌ يوامر نفسَه: إذا تردّد في الأمر واتّجه له رأيان وداعيان، كأنّهم أرادوا داعيي النفس وناجِيَيْٰها، فسمّوهما نَفْسَين، لصدورهما عن النفس، أو تشبيهاً لهما بمُبَشرين يأمر أحدهما وينهى الآخر، وستطّلع على هذا السرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: وما يخادعون. والباقون: يخدعون، وحجّة الأولين التطابق في اللفظ بين الكلامين.
وحجة الباقين: أن المخادعة إنّما تكون بين اثنين، فلا يكون الإنسان الواحدُ مخادعاً لنفسه.
أقول: وكذلك الخداع لا يكون إلاّ بين اثنين. والفرق بينهما: بأن الفعل في الأول من الجانبين، وكذا الانفعال، وفي الثاني: الفعل من جانب، والانفعال من جانب آخر، فالإنسان الواحد، كما لا يخادع مع نفسه، كذلك لا يخدع نفسَه أيضاً، فما هو الجواب لذاك، فهو الجواب لهذا.
فالأوْلىٰ أن يراد حقيقة المخادعة، أي وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنّونها الأماني الباطلة، ويحدّثونها بالأكاذيب، من الإيعاد بالخير، والوعد بالشر، وغير ذلك، وكذلك أنفسهم تعدهم وتمنّيهم وتحدثهم بالأماني.
وتحقيق ذلك يبتني على معرفة النفس الإنسانية وهي: أنّ للنفس الإنسانيّة نشآت ومقامات متعدّدة، كالحسيّة والخياليّة والعقليّة، ولها مراحل ومنازل متفاوتة، كالدنيا والبرزخ والآخرة، وأكثر الناس ما داموا في الدنيا، فمقام نفوسهم بالفعل عالَم الحسّ، ولها بالقوّة نشأة الروح والعقل، وذلك إذا لم يبطل استعدادها لحصول النشأة الباقية، وأما إذا بطل ذلك، بمسخ باطنهم وطمسه بالكليّة، فليست نفوسُهم هي أرواحاً ولا عقولاً لا بالفعل ولا بالقوّة، ولا لها نشأة إلا نشأة الحسّ فقط كنفوس سائر الحيوانات.
وبعض الناس، ممّن خرجت نفسُه من القوّة الى الفعل في نشآته الثلاث - كالكمّل من العلماء الإلٰهيّين والأولياء - فلهم من الأحديّة الحقّة ما حازوا به الأكوان الثلاثة، ولا يشغلهم شأنٌ عن شأن ولا يمنعهم موطنٌ عن موطن.
فإذا تقرر هذا فنقول: النفس بحسب كلّ مقام ونشأة، هي غيرها بحسب مقام آخر ونشأة أُخرىٰ، وبواسطة مزاولة أفعال تُناسب النشأة الدنيويّة وتكريرها تَقَوّي الجنبة السافلة منها وتضعف الجنبة العالية، وبالعكس عند مزاولة أفعال تناسب النشأة الآخرة وتكريرها.
وعند الرسوخ في الأفعال الشهويّة والغضبيّة، والأعمال البهيميّة والسبُعيّة، تبطل النشأة العقليّة والحياة الملكيّة بالكليّة، بحيث لا يُرجىٰ إمكان عودها، وذلك هو الخسران المبين، لأنّ النفس خسرت ذاتها الباقية ونشأتها العقليّة، وعوضت عنها بهذه النشأة الفانية والحياة الحسّية كما قال:
{ { خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام:12]. بتضييع رأس مالهم، وهو الفطرة السليمة والعقل السليم.
ومن هذا القبيل، وقوع المخادعة بين النفس وذاتها، لكونها ذات وجهين: وجهٌ الى الحسّ والشهوة والدنيا والشيطان، ووجهٌ الى العقل والعدالة والعقبى والملك، ولكلّ من الوجهين أسباب ومهيّجات، ودواعي وأغراض، وأشخاص من جنود الشيطان وجنود الملك، والمنازعة [بين القبيلين] والمطاردة قائمة في عرصة باطن الإنسان وميدان صدره، ومعركة قلبه عند بلوغ الإنسان الى مرتبة التمييز وصيرورته مكلّفاً، والمملكة الإنسانية - وهي البُنية بما فيها من القُوى والمشاعر والأجزاء - مشتركة بين الخصمين الى أن ينفتح لأحدهما ويتخلّص عن الآخر.
وأكثر الناس ممَّن انفتحت عرصة باطنه ومملكة ظاهره للهوى والشيطان، وبقي لمقابلهما من العقل والملك اجتيازٌ واختلاسٌ وعبور فيها على الندرة، إلاّ من عصمه الله وقوّى الملكيّة على نفسه الشيطانيّة.
فإذا ثبتَ حكم المحاربة بين النفس وذاتها باعتبار كونها ذات الوجهين، فكذلك حكم المخادعة بينها وبين ذاتها. كيف والحرب خدعة، فالمحاربة لا تخلو عن المخادعة، ومن هذا الباب حكم الآيات الدالّة على مغايرة النفس لذاتها كقوله:
{ { أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال:24] وقوله: { { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النازعات:40]. وقوله: { { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم:6]. وقوله: { { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105]. وقول موسى: { { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة:54] الآية، وقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة:111].
فاعلم ما ذكرنا، فإنه مفتاح من مفاتيح معرفة النفس، التي بها تفتح أبواب خزائن علم القرآن إنشاء الله.
وقرئ: "وما يخدّعون" بالتشديد من خدّع، ويَخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون، ويُخدَعون ويُخادَعون على صيغة المجهول.