التفاسير

< >
عرض

ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٢١
-يس

تفسير صدر المتألهين

وهذه الآية، كلام تام في الترغيب إلى الإيمان بما يقول الرسول، ونصيحة جامعة في إعلام المحجوبين عن الوصول إلى معرفة حال الأنبياء، وحثهم على الاهتداء بهداهم والإقتداء بقولهم، أي: لا يأخذون من دنياكم شيئاً، حتى تقع لكم الخسارة باتِّباعِهم، ويوصِلون إليكم الخير الكثير، والهداية إلى طريق النجاة عن العذاب الأليم يوم القيامة، فلكم في اتّباعِهم، انتظام خير الدنيا والآخرة، وهذا أقرب معالجة في دَفْع مرض الشك في صدق الأنبياء، عن الناقصين في المعرفة واليقين.
ويقرب منه، ما قاله أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، لبعض من قَصُرَ عقله عن فهم حقيقة الدين. وكان شاكّاً في صدق خبر المرسَلين: "إنْ صحَّ ما قلتَ فقد تخلّصنا جميعاً، وإلاّ فقد تخلَّصْنا وهلكتَ" أي العاقل هو الذي يختار طريق الأمن في جميع الأحوال، فطريق ترغيب المنكرين للشريعة والدين، كما يستفاد من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، حَسْبَ ما شَرَحَه بعض أعلام علماء المسلمين، أن يقال لهم: أن ما قال الأنبياء والرسل، المؤيدون بالمعجزات، هل هو ممكن الصدق، أو ممتنع الصدق.
فإن قال قائل منهم: "إني أعلمُ أن ما يقولون أمر مستحيل كاجتماع النقيضين، وحلولِ عَرَضٍ واحد في محلَّين، وكون شخص واحد في آن واحد في مكانَين"، فهو فاسد العقل مخروق، لا يوجد مثله في العقلاء، بل خارج عن حد التكليف كالصبيان والمجانين.
وإن قال: "إني شاكٌّ فيما يقولونه"، فيقال: "لو أخْبَرَك شخص مجهول عند تركك طعاماً في بيتك لتأكله ساعة أخرى، "أنه قد وَلَغَتْ فيه حيّة، وألقَت سمّها فيه"، وجوَّزتَ صدقَه، فهل تأكل منه أم تتركه، وإن كان ألذَّ الأطعمة عندك؟" فتقول: أترُكُه لا محالة، لأنني إن قبلتُ قوله - وكان كاذباً - فلا يفوتني إلاّ هذا الطعام، والصبر عنه وإن كان شديداً فهو أقرب، وإن لم أقبل وكان صادقاً، فتفوتني الحياة، وألمُ الموت بالإضافة إلى ألَمِ الصبر عن الطعام عظيم.
فيقال له: سبحان الله، كيف تؤخّر صدقَ الرسل والأنبياء، والأولياء والعلماء كلهم - مع ما ظهر معهم ولهم من المعجزات - عن صدق رجل واحد مجهول الحال، لعل له غرضاً فيما يقوله؟ فكيف تُرجّح قوله في التصديق، على قول أولئك الأخيار؟ بل جميع العقلاء وذوي الألباب قائلون باليوم الآخر. وإن اختلفوا في كيفية كونه، روحانياً أو جسمانياً أو مجموعاً، فإنْ صَدَق الرسل والعلماء، وأنت مُعْرِضٌ عن قبول ما يقولونه، فقد أشرفتَ على عذاب يبقى أبد الآباد، وإن كذَبوا، فلا يفوتك لوفاتك، إلاّ بعض شهوات هذه الدنيا الفانية الكدرة.
فلا يبقى له توقف إنْ كان عاقلاً مع هذا الفكر اليسير، أن يقبل دعوتهم، إذ لا نسبةَ لمدة العمر إلى أبد الآباد، فإنّا لو قدَّرنا الدنيا مملوءة بالذُرَة، وقدَّرنا طائراً يختطف كلَ سنة واحدةً منها، لَفَنِيتَ، ولم ينقص من أبد الآباد شيء، فكيف يَغترّ رأيُ العاقل في الصبر عن شهوة الدنيا، لأجل سعادة تبقى أبَدَ الآباد؟