التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٧
-يس

تفسير صدر المتألهين

إذا قيل للمشتغلين بالجَمْع والإدِّخار، الناسين للآخرة والرجوع إلى الواحد القهار - لانهِماكِهِم في طلب اللذّات واقتناء الشهوات، واستغراقهم في أبحر الشواغل الماديّات، ورقودهم في مراقد الجهالات-: أنفِقوا شيئاً مما رزقكم الله في طاعته، وأخرِجوا ما أَوْجَبَ عليكم إخراجه من أموالكم، احتجّ الذين كفروا، وستروا أنوار الحق بظلمات صفاتهم الرديَّة، وأفعالِهم القبيحة للَّذِين آمنوا وشهدوا آياتِ معرفة الله بنور بصيرتهم، في منع حقوق الله، وإنكار فرائضه، وإِبْطال أحكامه، بأن قالوا: "كيف نُطْعِمُ مَنْ يَقدِر الله على اطعامه، ولو شاء إطعامَه أطعَمَه؟ فإذا لم يُطْعِمْ دلَّ على أنه لم يَشَأ".
وهذه شبهة واهية ومغلطة داحضة، احتج بها طائفة من أهل الإباحة والضلال، وانحبل بمثل هذه الحبال كثير من العوام والجهّال، وهي أوهَنُ من بيت العنكبوت. ونظيرُ هذا القول، قول من قال: "إن الله غنيٌّ عن عبادتنا، وغني عن أن يستقرض منّا، فأي معنى لقوله تعالى:
{ { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة:245] وغني عن المعاملة معنا، فما وجه قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة:111]؟ ولو شاء إطعام المساكين لأطعم، ولا حاجة لنا إلى صرف أموالنا إليهم".
فانظر كيف كانوا صادقين في دعواهم، وكيف هلكوا بصدقهم، كأكثر المتكلمين في مجالس العوام والحكام، الممارين مع أهل الحق في مسائل الحلال والحرام، بتمهيد بعض المقدمات المقبولة من النقليات، طلباً للشُبُهات، وإحلالاً للمحرمات، فسبحان من إذا شاء أهلَكَ بالصدق، وإذا شاء أسْعدَ بالجهل،
{ { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [البقرة:26].
وأما إفساد حجتهم، وحَسْم مادة شبهتهم فبأنه يجب أن يعلم كل أحد، أن الصفات والأخلاق، مواريث الأفعال والمعاملات، وأن الأعمال علاج لمرض القلوب، ودواء لما في الصدور، والأمراض الباطنية حاجبة عن وصول العبد إلى سعادة الأبد، وهي مما لا شعور بها لأكثر الخلق، إلاّ مَنْ ألْهَمَهُ الله من الأنبياء والأولياء، ولكل مرض من أمراض القلوب دواء مخصوص، وله قدر معلوم عند الله، والطبيب إذا أثنى على الدواء، لم يدل ذلك على أن الدواء مراد لعينه، وعلى أن له فضيلة في نفسه، بل المطلوب الأصلي، هو الشفاء اللازم من تناول الدواء.
فهؤلاء الجهلة الناقصون، لمّا ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين، أو لأجل الله، ثم قالوا: "لا حظَّ لنا في المساكين، ولا حظَّ لله فينا وفي أموالنا وسعينا وجهادنا مع الأعداء، أنفقنا أو أمسكْنا، بارَزْنا أم قعدنا" فقد هلكوا بهذه البضاعة من العقل والتمييز، وتمرّدوا عن طاعة الشريعة بهذه المرتبة الضعيفة من الفطانة، فضلّوا عن السبيل، وانخرطوا في سلك الحمقى الأضاليل، ولم يعلموا أن المسكين الآخذ لِمَا لَكَ من المال، - وهو المهلك لك في المآل -، يزيل منك بواسطته مرض البخل المهلك، ويستخرج من قلبك حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، وحب الدينار الذي هو أس كل فاحشة، كالحجّام، يستخرج الدم منك، ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك، فالحجّام خادم لك، جالبُ نفع إليك، لأنك تخدمه وتجلب نفعاً إليه، ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً، بأن يكون له غرض في أن يصبغ شيئاً بالدم.
فهكذا الصدقات، وانفاق المساكين بالمال والطعام، مطهرة للبواطن ومزكية للقلوب عن خبائث المَلكَات، وأمراض الصفات المهلكات، ولهذه الدقيقة امتنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخذها، وانتهى عن تناولها، كما نهى عن كسب الحجّام، وسمّى الصدقة "وسخ أبدان (أموال) الناس"، وشرّف أهل بيته (عليهم السلام) بالصيانة عنها.
فإذا ثبت عندك أن الأعمال مؤثرات في القلب، والقلب بحسب تأثيرها، يستعد لقبول الهداية ويستنير بنور المعرفة، فإذا انكشف لديك هذا القول الكلي، والقانون الأصلي، الساري حكمه في جميع الأوامر والنواهي الشرعية، وسائر التكاليف الدينية، فاعلم أن الجواب عن قول الكفار: "لو شاء الله اطعامَ المساكين لأطعَمهُم"، أن التكليف من الله شيء غير المَشِيَّة، وتكليف الله عبادَه بشيء من الطاعات، يضاهي إعلام الطبيب للمريض دواءً خاصاً يوجب استفراغاً لمواده الفاسدة، كالحجامة وغيرها، مع استغنائه عن ذلك، فكذلك الباري يكلف عباده مع كونه غنيّاً عن العالمين.
ثم أن نفس التكليف بتناول الدواء من الطبيب، لا ينافي علمه بعدم تناول المريض له، فكذا تكليفه تعالى، لا ينافي تحقق علمه الأزلي، وقضائه السابق، بعدم قبول بعض العباد تكليفه، لما في ذلك من المصلحة الكلِّية والفائدة.
فإن رجعوا وقالوا: "فما الفائدة في التكليف في حق من لا يقبل ذلك من الكفّار والفساق، حيث لم تتعلق المشيّة الأزلية بقبولهم، بل تعلقت بعدم قبولهم"؟.
قلنا: فائدته ترجع إلى من سواهم من المؤمنين المطيعين، الذين تؤثر فيهم الدعوة والتكليف، والإنذار والتخويف
{ { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [النازعات:45]. كما أن فائدة نور الشمس، تعود إلى أصحاب العيون الصحيحة.
وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى من ختم الله على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكْمَه والأعمش
{ { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة:125] غاية ذلك، إلزام الحجة وإقامة البيّنة عليهم ظاهراً { { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء:165] { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [طه:134] وهو بالحقيقة، النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء.
وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغاية نقصانهم، كما أن الأكْمَه ربما لا يُصدِّق أولي الأبصار، ولا يعرف أن التقصير منه، وأن سائر الشرائط، من محاذاة المرئي، وظهور المبصر موجود، وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار، فكذلك يعرف قصورَ الناقصين عن البلوغ إلى قبول أحكام الدين، وإدراك معالم الحق واليقين، ذوو البصائر السليمة عن غشاوة الإمتراء، وآفة القصور والعمى.
تَتِمَّةٌ
اختلف أهل التفسير في هؤلاء الذين قالوا ذلك، فَعَن الحسن: أن هؤلاء هم اليهود حين أُمروا باطعام الفقراء.
وعن مقاتل: إنهم مشركو قريش، قال لهم فقراء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أَطْعمونا من أموالكم ما زعمتم أنه لله" يعنون به قوله تعالى:
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } [الأنعام:136] فحرموهم، وقالوا: (لو شاء الله لأطعمكم).
وقيل، هم الزنادقة كانوا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يسمعون المؤمنين يعلّقون أفعال الله بمشيّته وإرادته فيقولون: "لو شاء الله لأغنى فلاناً"، و "لو شاء الله لأَعزَّ فلاناً"، و "لو شاء لكان كذا"، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله، معناه: أنطعم المقول فيه هذا القول منكم؟ وذلك لأنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله، لأنهم كانوا معطلة غير قائلين بالصانع.
وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أُمِروا بالصَّدقة على المساكين قالوا: "لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن"؟.
وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادراً على اطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك.
وقيل: كانوا يقولون: "إن كان هو الرزاق فلا فائدة في التماس الرزق مِنّا وقد رَزَقَنا وَحَرَمَكُم فَلِم تأمرون بإعطاء من حَرَمَهُ الله"؟.
وقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }، يحتمل أن يكون قول الله للكفار، ويحتمل أن يكون حكاية قول المؤمنين لهم، ويحتمل أن يكون من تتمة جوابهم للمؤمنين.