التفاسير

< >
عرض

وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
٥١
-يس

تفسير صدر المتألهين

هذه هي النفخة الثانية التي يحيي بها أموات القبور للبعث والنشور، وإن للنفخ صورة ونتيجة هي روحه وسرّه:
أما صورته: فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب أو الفحم، وبالجملة، الجسم القابل للصورة الناريّة، فالنفخ سبب الإشتعال، وصورة النفخ مستحيل في حق الله، لأنه قيّوم صمد لا جوف له، والمسبب والنتيجة غير محال في حقه، وقد يستعار بالسبب والمبدء عن المسّبب والفعل المستعار منه، فيعبّر عن نتيجة الغضب بالغضب، وعن نتيجة الإنتقام بالانتقام، كما في قوله تعالى:
{ { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [الفتح:6] وقوله: { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الأعراف:136] فإن حقيقة الغضب مستحيلة في حقه تعالى، لأنه عبارة عن نَوْعِ تغيّر ونقصان في الغضبان، يتأذى به ويتشفى بالانتقام، ونتيجته اهلاك المغضوب عليه أو إيلامه، يعبّر به عن النتيجة، فكذا يعبّر عن نتيجة النفخ بالنفخ - وإن لم يكن على صورة النفخ - فيكون مجازاً مُرْسلاً -.
هكذا قيل، والأرجح عندي أن النفخ ها هنا عبارة عن مجرد إنشاء الأرواح تشبيهاً بإنشاء النار، كتشبيه آلة النفخ بالصُّور على وزان تشبيه الأرواح الكامنة في مكامن استعداداتها من الأبدان وغيرها بالنيران المختفية في مكامن موادها الحَطَبيّة والدخانية، فيكون في الكلام استعارة مصرّحة أو مكنّية أو تمثيلية، كل منها باعتبار.
هذا إذا كانت موضوعات هذه الألفاظ مما اشترط فيها كونها ذوات أشكال وأوضاع وهيئات جسمانيّة، وإلاّ فمن الممكن أن يستعمل - ولو بحسب العرف الخاص ولسان الشريعة - على معان هي غايات المعاني اللغوية وملاكها وأسرارها وبواطنها، فتكون معقولات شرعية مستعملة في معانيها الحقيقية عند أهل الحق.
فالصور - بسكون الواو - هو في اللغة بمعنى "القرن"، فاستعير أو نقل كما علمتَ لما يقع به النفخ مطلقاً، سواء كان من قرن أو جوهر آخر، سواء كان محسوساً أم غير محسوس، بل هو جوهر من جواهر عالم الملكوت الأعلى اسمه "روح القدس"، به يحيي الله أموات الأشباح الإنسانية بالأرواح الفائضة من هذا الروح الأعظم، وهو الذي اشتعل به نور النفس في فتيلة النطفة عند التسوية أولاً، كما أشار إليه تعالى بقوله:
{ { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر:29].
فقد علم أن النافخ ها هنا إنما هو الله بذاته، أو بواسطة ملك مقرّب هو الروح الإسرافيلي المقدس - المتوسط في فيض الحياة العقليّة والنور النطقي بين الله وبين الأرواح الجزئية الإنسانية التي هي أنوار ملكوتية متعلقة بالأبدان - كتوسط الشمس في فيض النور الحسي والحرارة الغريزيّة بين الله وبين الأكوان العنصرية وطبائعها المستنيرة بالأنوار الحسيّة والحياة الدنيويّة.
ومنهم من جعل "الصور" جمع "صورة"، وأكد ذلك بتحرك "الواو" في قراءة بعض القرّاء، والمراد منها الصورة النوعية تتهيأ بها الأجسام الإنسانية لقبول النفس، فيكون المراد منها ما يقبل النفخ الإلهي، لا ما يقع به النفخ من الروح الإسرافيلي المشار إليه في قوله: { ونُفِخْتُ فيه من روحي } [الحجر:29].
فإن قلت: جميع الأشياء إنما حصلت من إيجاد الله لها برحمته وفيضه، فما معنى هذه النسبة؟ فإنها مما يؤذن بمزيد اتصال واقتران، فإن كان نسبه إلى نفسه لأن وجود هذه الروح منه فالجميع كذلك، وقد نسب البشر إلى الطين ومنه قد حصل روح سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كان معناه أنه جزء من الله أفاض على القالب كما يفيض الماء من إناء مملوء إلى إناء، أو كما يعطي المال على السائل، فهذا يوجب تجزية ذات الله الواحد وتكثير أحديته، وهو ممتنع، فقد بطل كون إفاضته بمعنى انفصال شيء عن شيء.
قلنا: الكلام فيه موهم، والعبارة عنه قاصرة عن بيان معنى هذه الإفاضة، ولتكتف الضعفاء البصائر، القاصرون في إدراك العلوم الإلهية بمثال الشمس في هذا القول، فإن الشمس لو نطقت وقالت: "أفضت على الأرض من نوري" لكان حقاً وصدقاً، ويكون معنى هذه النسبة، أن النور الحاصل منها على وجه الأرض من جنس نورها الذي يوجب حياة المكونات، ونشوء الحيوان والنبات، وانبعاث النائمين من النفوس عن مراقد هي كقبور الأموات، ويقهر الظلمات ويعذب الكفرة الخفافيش والفويسقات، ويطرد المؤذيات، ويبعد مَرَدَةَ الجن والشياطين برواجم الساطعات. وهذه الجنسية ثابتة وإن كان الفائض الواقع على وجه الأرض من النور في غاية الضعف بالقياس إلى نور الشمس.
فعلى هذا القياس، قد علم أن "الروح" منزه عن الجهة والإشارة والجسمية ولوازمها المكانية والزمانية، وفي قوته العلم بحقائق الماهيات، والاطلاع على المغيبات، والاقتدار على احضار صور المجردات، واستخدام ملائكة القوى والروحانيات، وأخذ الأرض بقبضته وطيّ السماوات بيمينه، وهذه كلها توجب مضاهاة له مع الله وتشبه بأخلاقه تعالى، كما أشير إليه في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلذلك وقعت له هذه الإضافة المعنوية وخصت بهذه الكرامة الإلهية من بين سائر الموجودات التي ليست لها درجة التجرد عن الماديات والإحاطة بالعقليات.
قوله: "من الأجداث" وهو جمع "جَدَث" أي: من القبور، وهي لغة أهل العالية، ويقول أهل السافلة بالفاء "والنسول": الإسراع في الخروج، أي: يخرجون سراعاً من القبور إلى الموضع الذي يحكم الله فيه، لا حكم لغيره هناك.
مكاشفة قرآنية
ومن الأسرار العظيمة المتعلقة بقوله تعالى: { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } انه لما تحقق وانكشف لذوي البصائر المستنيرة بنور الله والصدور المنشرحة للإسلام، أن الدنيا مثال الآخرة، والقالب ظل القلب، فأحوال كل منهما شاهدة على أحوال الأخرى، والعاقبة نتيجة السابقة، والظاهر عنوان الباطن، فَنَسْلُ الأبدان من القبور إلى مواقف الآخرة، كنسل الأرواح من الأبدان إلى المواقف الإلهية، ليعلم أن الرب تعالى غاية قصد الإنسان وسعيه، كما أنه مبدء كونه وحدوثه، ويتحقق حينئذ معنى قوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }.
وهذا مما لا يتيسّر لأحد الإطلاع عليه إلاّ من جهة معرفة مبادئ تكون الإنسان وغاياته بعدما تصور وتحقق أن الإنسان ذو وجهين، أحد وجهيه جسماني مظلم متغير في ذاته قابل للفناء، والآخر منهما روحاني منير ثابت دائم بدوام علته الفياضة، باق ببقاء ربه الحي القيوم
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن:26 - 27] والوجه الجسماني، انما حياته ودوامه بالوجه النفساني، ومنه يصل الخير والمدد إلى هذا الوجه، ولو انقطع عن هذا فيضه لحظة لخرب سريعاً، وانهدم بناؤه وتعطلت آلاته وتفسخت صورته، فأنت إذا طلبت مبدء الإنسان وفتشت عنه، فعليك أن تطلب وتفتش مبدء جوهريته جميعاً - الجسماني والروحاني -.
فاعلم أولاً، أن غاية كل شيء ترتبط بمبدئه، بل هي عينه، كما وقعت الإشارة إليه مراراً، وأن المبدء والغاية كلما كانا أرفع من الوقوع تحت الأكوان المتغيرة، كانا إلى جهة الوحدة والجمعية أقرب، وكلما كانا أدنى وأنزل، كانا إلى التعدد والإفتراق أَمْيَلَ.
ثم اعلم أنه لا بد للخلق من المرور على المنازل والمراتب عند النزول عن عالم الوحدة والجمعية، ثم الصعود إليها - ان ساعده التوفيق -، بل لكل من الأكوان الطبيعية مبادئ مترتبة في النزول، وغايات مترتبة في الصعود إلى جهة الحق، ومبدء كل شيء وغايته.
فمعرفة المبدء والغاية للإنسان، بل لكل شيء، أفضل أجزاء العلوم الحقيقية والمعارف النبوية، والعلم بمعاد الإنسان وما يؤول إليه حاله، من أهم المطالب، وهو الدواء النافع والدرياق الأعظم والأكسير الأحمر، والجهل بالآخرة هو السم الناقع والمرض المهلك، وبه تكون مرارة النزع عند الموت، والفزع عند البعث للنفوس المريضة بداء الجهالة، فمن عرف أن مجيئه من أين، عرف أن ذهابه إلى أين، ومن تأمل في كل واحد واحد من الأفاعيل التي لها غايات اختيارية أو طبيعية أو ذاتيه، وتدبر فيما هو المبدء بالذات لصدورها، وما هو الغاية لوردوها، لعلم يقيناً أن الغاية في كل شيء، هي بعينها ما هو المبدء على وجه أشرف وأرفع.
ونحن سنبيّن العلم بحقائق المبادئ المتقدمة لوجود الإنسان بكلا جزئيه على وجه الإجمال، ونشير إلى أن العلم بالغايات يناط بالعلم بالبادئ ليستنتج وينكشف عن ذلك، الحكم بأن الأرواح الإنسانية لا بد لها من رجوعها إلى ربها، إما راضية مَرْضِيّة، مشرقة زاهرة ناضرة ناظرة، وإما منحوسة منكوسة الرؤوس، مسجونة مقيدة بالسلاسل، محبوسة بالأغلال، مطرودة من باب الله، معذبة بنار الله:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [السجدة:12] ليتحقق أن الكل - مع اختلاف دواعيهم ومساعيهم وتكثّر نشآتهم وحالاتهم - راجعون إليه تعالى، وينكشف معنى قوله تعالى: { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }.
أما تحصيل مبادي تكوّن الإنسان وأسباب تحققه بكلا جزئيه الجسماني والروحاني، فمبادي جوهره الجسماني بعد الأسباب القصوى المشتركة بين الكل من الملأ الأعلى والجواهر الملكوتيّة أمور:
أولها: القوة اليهولانية التي هي قوة صِرْفَة واستعداد محض.
ثم: مرتبة الجسم المطلق الذي لا نعت له سوى الامتداد والانبساط في الأبعاد، وهو مناط النقص والآفة، ومنبع الجهل والنسيان والكفر، إذ لا حضور لصورة جزء منه عند جزء آخر، والعلم ليس إلاّ ادراك صورة الشيء، وها هنا غاب الكل عن الكل، والنفس إذا تعلقت به غابت عن نفسها ونسيت عالمها وربها
{ { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [الحشر:19].
ثم: الجسم الطبيعي المركب، الذي وجدت له صورة طبيعية غير الصورة الامتدادية، هي مبدء الكيفيات الفعلية والانفعالية.
ثم: الجسم النباتي الذي له صورة تفعل النماء وتطلب الغذاء، كالنطفة التي حصلت فيها قوة الجذب والنشوّ، وهي العَلَقة، ليصير بعد ذلك كالمُضْغَة.
ثم: الجسد الحيواني الذي يقبل الحس والحركة الإختيارية كالجنين والطفل.
ثم: البدن الإنساني الذي فيه قوة التمييز بين الضارّ والنافع، والخير والشر.
فهذه خمسة مباديء وأجزاء متداخلة، وخمسة حُجُب مترتبّة جسمانيّة للإنسان عن باريه سبحانه بحسب هويته الجسمانية.
وأما المراتب التي له بإزائها بحسب هويته الروحانية عند ذوي الأبصار، فأولها كحال النفس وقت تعلقها بالجسم المفرد الذي لا نعت له سوى الجسمية، ويكون اسمها في هذه المرتبة: "القوة الطبيعية"، ثم كحالها عند كونها في الجسم المركّب، واسمها عند ذلك: "القوة المزاجية".
ثم كوقوعها في درجة الأجسام النباتية، واسمها حينئذ: "النفس النباتية".
ثمّ كصيرورتها نفساً حيوانية كما في مرتبة الجنينية أو الصبوية فإن أحدهما "حيوان نائم" والآخر "حيوان مستيقظ".
ثم كصيرورتها نفساً آدمية كما في مرتبة البلوغ، وها هنا غاية امتزاج النفس بالبدن، وتواصلهما بقواهما وآلاتهما، ونهاية تعانقهما بجنودهما، والحق أن يقال عند ذلك: يبرز الإسلام كله والكفر كله.
ثم بعده يفترقان في التوجه إلى الغاية، ويستدعيان البلوغ إلى الوطن الأصلي، فيتغالبان، فيقع التطارد بين جند الملائكة والشياطين في معركة القلب، والقلب متردد بينهما، وهو في التغيّر والإنقلاب دائماً من جهة هذه الأسباب.
فالشهوات وأغراض الدنيا الدنيّة، منبعثة من القوى البدنية بوسوسة الشيطان، وهو موجود خلقه الله لعمارة هذه النشأة الأولى وبنائها بجنوده الشريرة من الشهوة، والعضب، والكبر، والحسد، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، واليأس من رحمة الله، والأمن من مَكْر الله، وغيرها مما يجري مجرى هذه الصفات.
والعلوم والمعارف، والتقدس والتقوى، منبعثة من القوى الروحانية بإلهام المَلَك، وهو موجود أبدعه الله لعمارة الدار الآخرة بجنوده الخيّرة الفاضلة من الصبر، والشكر، والخضوع، والتواضع، والزهد، والقناعة، والخوف، والرجاء، والتملّق، والدعاء، والهيبة، والخشية وغيرها مما يجري مجرى هذه، فالقلب واقع - ما دام التطارد باق بين الجندين - في ما بين الملك وإلهامه والشيطان وإلهامه، لقوله تعالى:
{ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس:8] ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمان" إلى أن يفتح القلب لأحدهما فيوطنّه الروح، فيكون اجتياز الثاني مجرد اختلاس، وبه يتحقق حكم السعادة والشقاوة في الآخرة.
فمراتب الروح بعد ذلك الفتح بسبب الغاية أيضاً خمس: فإنها إذا تهيأت لرحمة الله، واكتساب الأسباب واستعداد النظر في عالم الملكوت، كان اسمها "العقل العملي" و "النفس المطمئنة". وإذا نظرت في حقائق الأشياء وتأملت في المعالم الإلهية والمقاصد الإيمانية، تسمى بـ "العقل النظري" و "النفس الفاكرة" وإذا حصلت لها قوة الحفظ والاسترجاع تسمى بـ "النفس الحافظة"، فإذا حصلت لها قوة المكالمة الحقيقية مع الحق، ومشاهدة الحقائق بنور مستفاد من الله يقذف في قلبه، تسمى بـ "النفس الناطقة".
وإذا اتصلت إلى لقاء الله وانخرطت في المقرّبيين تسمى بـ "روح القدس"، وحينئذ بلغت إلى غايتها الأصلية، من غير علوق شيء من الأضداد والخصوم، ومزاحمة شيء من العوائق والمؤذيات والهموم.
وأما إذا كانت الغلبة للجزء الظُلماني بجنوده الظُلمانية وقواه الشيطانية، وكان الروح أسيراً بيد الشيطان وجنوده، فلا يبالي في أي واد تهلكه من أودية الظلمات، وفي أي دركة تستهويه من دركات الجهالات.
وهذه الدركات الجحيميّة معادن الشياطين، ومهالك الروح الإنسانية عند متابعة النفس والشيطان، ومع ذلك يكون مرجع الكل إلى ربهم
{ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف:47] إلاّ أن حشر الخلائق إليه تعالى على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم ودرجاتهم، فبعضهم مستوياً وبعضهم منكوساً، ولقوم على سبيل الوفد: { { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم:85] ولقوم على وجه التعذيب: { { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } [فصّلت:19] { { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ } [مريم:68] - وبالجملة - حَشْرُ كل أحد إلى عمله، أو إلى ما يعمل لأجله ويحبه: { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات:22] حتى أنه: "لو أحب حجراً لحُشِرَ معه".
تنبيه
هذه الاختلافات الكثيرة متحققة فيما يحشر إليه الناس، ومع ذلك فالجميع محشورون إلى الله، ألاَ إلى الله تصير الأمور، وإليه مصير كل صائر، كما إليه بدو كل باد، وإليه معاد كل موجود، كما منه نشوء كل ناش، الله يبدء الخلق ثم يعيده ثم إليه تُحشرون، وذلك لسعة مملكته وتعدد جهاته وكثرة أسمائه وشدة قوّته، وإحاطة علمه وسمعه وبصره، وتجرد ذاته عن الأغشية والحُجُب، فالزمان علّة التغير والتجدد مطلقاً، والمكان علّة التكثّر والتعدد مطلقاً، وهما مناط الغَيْبة والخفاء، فإذا ارتفعا في القيامة، ارتفعت الحُجُب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلهم الأولون والآخرون في عرصة القيامة لأهل القيامة، فهي يوم الجمع
{ { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } [التغابن:9].
مكاشفة أخرى
في تصوير معنى هذه الآية وخروج الخلق سراعاً
من القبور إلى الله واسراعهم من الأجداث إلى ربهم
مما يجب أن يعلم كل من له نصيب من علم الكتاب، وله قدم في العمل بما فيه من الخطاب، أن الإنسان من لَدُن حدوثه وتولده عند كونه نطفة ذات صورة طبيعية، إلى نهاية أمره، يكون أبداً في التحّول والانتقال نفساً وبدناً، وفي السفر والارتحال سراً وعلناً، وفي التبدل والتطور من منزل إلى منزل، ومن حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، ومن صفة إلى صفة إلى هذا الوقت الذي بلغ أشدَّه.
وهذا أمر يظهر لمن نظر في أحوال الإنسان، ولاحظ ترقيّاته وتوجهاته من كونه أولاً نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنيناً، ثم خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم يتدرج في التوغل في نشأة أخرى من كونه صبيّاً مميزاً، ثم رجلاً عاقلاً، ثم صبوراً شكوراً، ثم حكيماً وقوراً، وهكذا لا يزال في الإمعان إلى تقوية الباطن وتوهين الظاهر، والتقرب إلى عالم الغيب والخروج عن عالم الشهادة يسيراً يسيراً، فيصير كهلاً، ثم شيخاً، ثم هرماً مضمحلاً، ثم فانياً، كل ذلك بحسب طبعه وجوهره - لا بأمر اتفاقيٍّ أو عرضي أو قسري -.
ثم إذا بطلت منه هذه الحياة الدنيوية، بطلت صورة التأليف، وحصل الافتراق والانفصال.
ثم لا يبقى في هذا الانفصال أيضاً، بل يمعن البدن في الانحلال والتوجه إلى مركز الاتصال حتى ينتهي إلى الأرضية، ثم إلى الهيوليّة والجوهرية الصرفة، ويمعن النفس إذا كانت على الاستقامة في أطوارها وأحوالها، حتى تبلغ الغاية القصوى التي موطنها الأصلي، وذلك لأن كل متوجه ومتحول من مرتبة إلى مرتبة ومن منزل إلى منزل بحسب الطبع، فله لا محالة حيث يرتحل ويبعد من مرتبة ويتوجه ويسلك إلى مرتبة أخرى تكون غاية طبيعية ذاتية هي آخر ما يطمئن إليه ويسكن لديه ويتوطّن فيه، ولا بد أيضاً أن تكون هي أصلح الحالات وأوفقها له في ذاته، وأنسب المراتب والدرجات وأليقها لديه بجوهره، وما ذلك إلاّ ما يكون مبدء ذاته ومقّوم وجوده.
فغاية ما يسافر إليه الشيء، يجب أن يكون أول ما سافر منه، وهو الموطن الطبيعي والمعدن الأصلي - دون غيره من المراتب والغايات الإضافية والحدود التي في الأوساط، لأن كلاً منها لو كان غاية حقيقية، لما وقع التوجه منه إلى غيره توجهاً طبيعياً ذاتيّاً - ودأب الرحمة الإلهيّة أن يمسك الشيء على أشرف الحالات التي تليق به، وأعلى المراتب التي تتصور في حقه، من غير انتقال منه وارتحال عنه.
وتمامية الشيء وكماله إنما يحصل له عند وصوله إلى الحالة الأصلية التي كانت له بحسب الذات، إذ هي مما يوافق ذاته ويلائم طباعه، وكل ما يكون غير تلك الحالة من سائر الحالات، فهي لا محالة غريبة عن ذاتها مؤلمة لها، والحالات الغريبة عن الشيء تزول عنه، فيرجع الشيء آخر الأمر إلى الصفة الأصليّة التي له أولاً كما مرّ.
والحالة الأصلية للشيء، إنما تحصل له في مأواها الطبيعي، والمأوى الطبيعي للنفوس والأرواح الإنسانية، عالم الآخرة التي هي باطن هذا العالم الظاهر، وغيب هذه الشهادة، وهو عالم الأرواح وموطنها الحقيقي ومعادها بحسب طبقاتها ودرجاتها ومعادنها "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة".
ومبادئ النفوس ومواطنها مختلفة، وكلها من عالم الملائكة النورانيّة - على كثرة طبقاتهم -، وكل منها يرجع إلى أصله إن لم يزاحمها شيء من العوائق والسيئآت
{ { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء:84] { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [الأنعام:132].
فالنفوس الصالحة المَرْضِية، تُحشر في زمرة الملائكة وتأوي إلى رحمة الله، والنفوس الشقيّة تُحشر مع الشياطين، ممنوعة عن عالمها، مطرودة عن باب الله، محرومة عن مواطنها، وما لم تصل النفس إلى عالمها ومعدنها، لم تسكن ولم تطمئن من انزعاجها واستفزازها، لأنها كانت في مأواها الأصلي حيّة مختارة لطيفة، عالمة، قادرة بقوة مبدعها وسائحة في عالمها، فرحانة مطمئنة عند بارئها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فإذا هبطت من عالمها ومأواها وجنّة أبيها، وانحطت إلى السفل، وجولت إلى الدنيا وأجسامها المكدرة الظلمانية، انقلبت حياتها موتاً، وتبدل اختيارها اضطراراً، ولطافتها كثافة، وقدرتها عجزاً، وعلمها جهلاً، فزالت كرامتها وشرفها وكمالها إلى المذلة والهوان والخسّة والنقص والوبال، وصدرت منه معاصي كثيرة وآثار (آثام - ن) غريبة، كمن عرض له مرض شديد وحمّى، فظهرت منه آثار كثيرة غريبة، كالحرارة الشديدة - وهي علامة النار -، والثقل العظيم - وهو أثر الأرض -، وتورمت أطرافه - وهو أثر الهواء - وسال العرق من مساماته وعن عروقه كقطرات الأمطار، وهكذا الحال على الاتصال إلى أن يعود إلى الحالة السابقة الأصلية، فتنعدم هذه التولدات، وتنعقد منه شيئاً فشيئاً إلى أن يزول بالكلية - ان ساعده التوفيق -.
وهكذا حال النفس في سقوطها عن مرتبتها وهبوطها عن نشأتها، حيث تكوّنت منها أمور مختلفة عند نقصانها وضعفها الذي يلحقها بسبب بعدها عن مقرها وعالمها، إذ البعد عن الموطن الأصلي منشأ (مثار - ن) الضعف والآفة، ومناط الكثرة والإنقسام، وتوزع البال واختلاف الأحوال، فإذا عادت إلى معادها، زالت الكثرة والتفرقة عنها بالكلية، كأنها لم تكن إن لم تزاحمها قيود السلاسل والأغلال المستصحبة إيّاها من جهة اقترانها بالأرذال، وعلوق غبار الهيئات الرديّة وظلمات الأعمال البدنية المقترنة بها، بسبب مجاورة أقران السوء، وشؤم صحبتهم ورجس خلطتهم.
أَوَ لاَ ترى إلى الماء النازل من السماء، كيف كان مجموعاً في مأواه الأصلي، ذا وقار وثقل واطمئنان وصفاء تتراءى فيه الصور والنقوش، فإذا انتقل إلى حيّز النار، تبدلت الجمعية بالتفرقة، والثقل بالخفة، والاطمئنان بالإضطراب، والصفاء والاستقامة بالكدورة والإعوجاج، فوقع إلى أودية الفراق وشُعَب الإفتراق، ثم إذا رجع إلى مأواه الذي كان فيه، زالت الأحوال الغريبة والآفات، وعادت الحالة الأصلية، وكن قد خرج عن فطرتها، ثم عاد إليها بعد تطورات وتشكُّلات بأشكال غريبة، وتسميات بأسماء كثيرة، فكان بحراً، فإذا تبخّر سُمِّي "بخاراً"، وإذا تراكم بخاراً سمي "سحاباً"، وإذا تقاطر سحابه سمي "مطراً"، وإذا سال يسمى "نهراً"، وإذا اتصل النهر بالبحر يسمى "بحراً" كما كان.
وكذا القياس في غيره من الأركان، وفي كل جماد ونبات وحيوان، فانظر إلى حال السمك في مكان السمندل، والسمندل في مكان السمك
{ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [الأنعام:98].