التفاسير

< >
عرض

إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
٨
-يس

تفسير صدر المتألهين

ثم مثّل تَصْمِيمَهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى تعليمهم وإرشادهم بقوله:
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ }.
الضمير للأغلال، لأن طوقَ الغِلّ في عنق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن، حلقةٌ فيها رأس عمود خارجاً منها إلى الذقن، فلا يتمكن معه من خفض رأسه أو قذاله.
{ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [8]:
رافعون رؤوسهم، وغاضّون أبصارَهم، من "قَمَحَ البعيرُ" إذا رَوِيَ ورفع رأسه، وقيل للكانونَيْنِ: "شهرا قِماح" لأن الإبلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ فيهما رَفَعَتْ رأسها لشدة بَرْدِهِ.
ومنهم من جعل الضمير للأيدي على سبيل الكناية، وإن لم تكن مذكورة، لدلالة الأغلال والأعناق عليها، وذلك، لأن الغِلّ يَجْمَعُ اليد إلى الذقن والعنق، ولا يجمع العنق إلى الذقن، وأكَدَ ذلك بما روي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرءا: (إنّا جعلنَا في أَيْمانِهم أغلالاً) وبقراءة بعضهم: (في أيديهم). ورجح الأول بقوله: (فهم مقمحون)، حيث جعل الإقماح نتيجة ما ذكر، وإلاّ لَمْ يكن للسببية وجه ظاهر، وبأن الإضْمارَ ضَرْبٌ من التعسف، وعدولٌ عن الظاهر، وعلى الوجهين لا يتفاوت المعنى، لأن الغل لا يكون في العنق دون اليد، ولا في اليد دون العنق.
والمقصود، تمثيل حال الجهلة الناقصين الكافرين، أو المعاندين والمنافقين، المعرضين عن العلم واليقين، والحكمة والدين، في إعراضهم عن استماع كلام أهل الحق، بِرَجُلٍ غُلَّتْ يداه إلى عنقه، لا يمكنه أن يبسطهما إلى خير، وهو إشارة إلى قصور القوى العملية، التي هي بمنزلة اليد اليسرى لها، عن فعل الخيرات، وترك اللذات، وَبِرَجُلٍ طامحٍ برأسه لا يبصر مواطيء قدمه، وهو إشارة إلى استنكاف النفس العسوفة الجحودة العنودة، المحجوبة بفطانتها البَتْراء، المغترة ببصيرتها العمشاء عن قبول التعلم، والاستكبار عن الحق، والاغترار بالعقل الجزئي، وذلك لأن المستكبر عند استكباره، يكون رافعاً رأسه، لاوياً عنقَه، شامخاً بأنفه، لا ينظر إلى الأرض.
وإنما أضاف الجعل إلى نفسه، إمّا لأن عند تلاوة النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن عليهم، ودعوته إيّاهم، صاروا بهذه الصفة، فهو مثل قوله:
{ { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } [المؤمنون:110]. وإما لأن الموجِدَ لهذه النفس الشقية الجاهلة، التي كفرت بأنعم الله، إنما خلقها لأجل تعمير هذه الدنيا الفانية، واستخدامها لأمور حيوانية، وهو مما يستتبع لأوصاف وأخلاقٍ ذميمة، وهيئات رديئة، ينشأ منها هذه الحالات عند سماع الآيات، لأنها ما خُلِقَتْ لأجل السعادة الأخروية، بل خُلِقَتْ لأشياء أُخَر، لو لم تكن هي لوقع الضرر في أشياء شريفة، رُوعي جانبُها ولفتها (لمها) فافهم.