التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ
٨٠
-يس

تفسير صدر المتألهين

فإن المنكر للمعاد لمّا مثّل لإثبات مدعاه من استحالة أن يبعث الإنسان بمثال يتعجب به، وذلك هو تكوّن الإنسان من العظم البالي، فضرب الله مثالاً آخر في مقابلة مثاله، بكون تكوّن ما يتكوّن منه أعجب وأبعد في نظر العقل مما يتعجب هو منه، ومع ذلك فهو أمر معلوم مشاهد لا يمكن لأحد إنكاره، فذكر من بدائع خلقه وعجائب فطرته، مثال انقداح النار من الشجر الأخضر، وهو أمر عجيب الشأن كثيراً، فإن النار مضادة للماء بكلتا كيفيتيه، لحرارتها وبرودته، ويبوستها ورطوبته، فينطفي عند وصوله إليها، فكيف تتولد هي منه.
فلو قيل لأحد: إن الشجر الرطب المطفي للنار يتولد منه نار محرقة له، وأن النار تنقدح من الشجر الأخضر، وأنها من الزناد التي توري بها الأعراب وأهل البوادي، كما أذعن به ابتداء، فالمرخ والعفار من الأشجار لها هذه الخاصية، يقطع منهما غصنتان مثل السِواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيتخذ الرجل وقوده منهما ويسحق "المرخ" وهو الذكر على "العفار" وهي أنثى فتنقدح له النار بإذن الله.
وقيل: في كل شجر نار، إذا احتاج الإنسان حك بعضه ببعض فيخرج منه النار، وفي أمثال العرب: "في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار".
وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلاّ وفيها نار إلاّ العنّاب. قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصّارين.
و"الأخضر" بالتذكير، لأنه محمول على اللفظ - وقرئ "الخضراء" حملا على المعنى، ونحوه قوله تعالى:
{ { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } [الواقعة:52 - 54] فالذي خلق بقدرته النار المحرقة من الشجرة الرطبة، فبأن يكون قادراً على خلق الإنسان مما بقي منه أحرى، ولإذعان العقول به أوْلىٰ.
توضيح تنبيهي وتمثيل تفصيلي
إن أكثر أعداء الأنبياء وخصماء الأولياء هم جهلة الطبيعيين وأوساخ الدهريين، ومن يحذو حذوهم - كالأطباء والمتشبهين بالحكماء، المتشبّثين بذيل الفلاسفة - عادتهم أن يأخذوا في طلب العلة واللِّمِيَّة لكل شيء، وجعلوا مدار امتيازهم عن العوام وآحاد أهل الإسلام أن يعترضوا منكرين لكل شيء، لم يعلموا أن خصوصيات المواد الجزئية ليس في وسع العقول البشرية - ما دامت في كورة الطبيعة - أن تقيم الحجة على كل منها، بل لها بعد الإطلاع على كليات المعارف الإعتقادية، قبول الخصوصيات التي لم يقمّ بين يديها دليل على استحالتها عند سماعها عمن لا يشغل سره غير الحق، ولا يتمجمج لسانه بالباطل، أو التوقف فيها إذا لم يترجح فيها جانب على جانب لديه.
فالجاهل من الطبيعي ومن يحذو حذوه، يأخذون في طلب علة كل شيء خاصية كالطبيعة التي لسقمونيا لاسهال الصفراء، وطبيعة افتيمون لإسهال السوداء، بما ليس في عناصره ومواده ذاك، وكذا الطبيعة المقناطيسية لجذب الحديد، وكما أنهم يطلبون العلة في آحاد البسائط، ويريدون أن تكون العلة مستفادة من عنصر الشيء، ولا يحيلونها إلى الأمور الإلهية التي تنبعث منها أسباب كل شيء ومبادئه، بل يطلبون أن يخيل لهم كل قوة وكل طبيعة حتى تصير مرتسمة في أذهانهم من غير ارتياض لهم في العقليات، ولا مكاشفات ذوقية لهم في السمعيات، ولم يعلموا أن غاية ما يمكن أن يعطى من السبب في وجود الطبائع وترتب آثارها العجيبة، من جذب المقناطيس، وتورّي المرخ والعفار، وسُمِّية البيش وترياقية الجدوار أمور ثلاثة:
أحدها: الفاعل - وهو تدبير الصانع وجوده وعدله وإعطائه كل شيء بموجب الحكمة والجود ما يليق اعطائه إياه، والصانع أعطى الهيولى التي أبدعها من الصور ما كان يجب في حكمته وجوده على التقسيم والتقسيط، الذي كان يقتضيه تقديره وعدله.
والثاني: القابل - وهو أن يقال إن القابل كان مستعداً لهذا الضرب من التخليق والتصوير، وكان استعداد ما يحصل له في حال البساطة قبل التركيب استعداداً آخر، وما يحصل له بعد التركيب وتلاحق الأمور به بحسب أنحاء التركيب وأنواع التمزيج استعداً آخر.
والثالث: الغاية - وهو الغرض الحكمي في صنع الصانع ما صنع لأجله، وله الخلق والأمر، تعالى عما يصفه الجاهلون - وعن خلو فعله عن داع وغاية كما زعمه الأكثرون - علواً كبيراً.
فهذه الأمور غاية ما تصل إليه أفهام العقول، وأما ما وراء ذلك فمما يقصر الإدراك البشري عن إدراكه، ولا يمكن الوصول إليه بطور العقل النظري إلاّ بمتابعة الأنبياء والإقتداء بآثارهم، والاقتباس من مشكاة أنوارهم، والعجب من هؤلاء إذ هم لا يتعجبون من النار كيف تفرّق المجتمع، وكيف تحيل أجساماً كثيرة إلى مثل طبيعتها في ساعة، ولا يشتغلون بالبحث عن علته وغايته، ما يجيبون عنه إذا سئلوا ذلك أن يقولوا: لأن النار حارة.
ثم السؤال عائد في النار لِمَ تفعل هذا؟ فيكون منتهى الجواب للطبيعي أن يقول: إن الحرارة قوة من شأنها أن تفعل ذلك الفعل.
ثم إن سئلوا بعد هذا أنه لِمَ كان هذا الجسم حاراً دون البارد؟ لم يكن جوابهم إلاّ الجواب الإلهي، إن إرادة الصانع هكذا، ثم يتعجبون من حكايات الأنبياء ومعجزاتهم وأخبارهم عن خواص بعض الأشياء، وإنذارهم بالأمور الأخروية وما يترتب على كل فعل إنساني، من الثواب للمحسن، والعقاب للمسيء ويشتغلون في كل حكم بالبحث عن علته وطلب اللميّة له، ولا يقتنعون بجواب المجيب الإلهي، من أن خاصية هذا الشيء ترتب الأثر الفلاني عليه، وأن سبب وجوده على هذا الوجه إرادة الصانع بجهات فاعلية عند حصول الأسباب المستندة إليه تعالى. كما أن سبب كون السماء سماء والأرض أرضاً ارادته وعلمه الأزلي بكيفية نظام العالم، ويسخرون ممن يجيب بهذا الجواب.
وليس هذا الجواب قاصراً عن الجواب الأول الذي سبق ذكره، وليس ما يتعجب المنكر للمعاد من احياء العظام الميتة البالية، بأعجب من إذابة النار الحديد والحجر في ساعة قصيرة، لكن الناس تعجبوا عما استندروه، وحملهم التعجب على طلب العلة فيما تعجبوا عنه، ولم يعرض لهم طلب اللمّ فيما كثرت مشاهدتهم له، وإن كان المشاهد أعجب.
وفي المركبات العنصرية ما حكمه أعجب من الأمور النادرة، فإن حركة البدن الثقيل إلى فوق وإلى جوانب مختلفة بمجرد إرادة النفس، أعجب من كل عجيب يندر وجوده، ومع ذلك فكم من إنسان لا يتعجب عنها أصلاً لعدم تنبّه قلبه، وأخذ يتعجب من مثل المغناطيس في جذبها الحديد، بل من حركات المشعبذين.
وهؤلاء المتفلسفة لما لم يعرفوا الأصول، وأخذوا يتعجبون من النادر ينكرون أمور الوحي وما ينتمي إليه، حيث لم تضطرهم المشاهدة إلى الإقرار إلاّ في دار القرار، وهناك لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيراً.
فهؤلاء أعند المعاندين للحق، وأعدى الأعداء لله ولرسوله، حيث أنكروا الوحي ومعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، بل الرؤيا والكهانة والوهم والفراسة وكثيراً مما يقرب منها، وذلك لأنهم ليسوا من أهل الحِرَف والصنائع المدنية لتكون درجتهم درجة العوام، أو يكون في وجودهم منفعة يعود إلى أهل المدينة الفاضلة، ولا أنهم من أهل السلامة والتسليم والتقليد ليكونوا محشورين في زمرة من تشبهوا بهم من أهل السعادة الأخروية، ولا لهم قوة الإرتقاء إلى الأمور العالية وتحقيق الحقائق الإلهية ليتحققوا بالمعارف الدينية والأحكام الأخروية.
وأما المحققون من الحكماء، ففرقة موجبة لوجود ما ورد في الوحي أو التنزيل وما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير تأويل، لما أمعنوا في البحث والتحقيق إمعاناً قوياً وبحثاً مستقصى، وفرقة مجوزون لجميع ذلك لما كادت درجتهم أن تبلغ درجة أولئك الفاضلين ولم تبلغها بعد، والمشهورون من أهل الدرج الأولى قليل عددهم - ويوشك أن يكون من أعرفه منهم في هذه الألف سنة بعد انقراض زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين سلام الله عليهم ولهم الأدعية الإلهية - لا يزيد عددهم عن أوائل مراتب العدد دون الثواني.
ولهذا نحن نكره أن يشتغل الناس بهذه العلوم الربانية إلاّ على نهج التقليد والتسليم إيماناً بالغيب، فإن المستعدين لها قليل، والمستفرغين مجهودهم في سبيلها أقل، والصابرون الواصلون بعد الفراغ أندر كثيراً مثل الكبريت الأحمر، ولهذا السبب وقع المنع في شريعتنا المطهّرة عن البحث عن سر القدر، وعن ماهية الروح التي من عالم الأمر وما يجري مجرى هذين.
والله نسأل أن يعصمنا من الضلال، وأن يحرسنا عن التردّي إلى مهوى النكال، وأن يسلك بنا سواء السبيل، ويحفظنا عن التشبيه والتعطيل، والله ولي الفضل والنعمة ومعطي الفيض والرحمة.
فالغرض أن الله سبحانه مثّل على المنكرين للمعاد وارتجاع النفوس الآدمية إلى الأبدان وعودها إلى كِلاية الأجساد بأمثلة ثلاثة، كل واحد منها أعجب وأشكل عند العقول البحثية من أمر المعاد:
أحدها: مثال تعلق النفس بالبدن، فإنه أمر مشكل عجيب، فإنها كيف تعلقت به، وهي ليست حالّة فيه حلول الأعراض في محالّها، ولا حلول الصور في المواد، فإنها جوهر قائم بنفسه، تتوارد عليه الكيفيات النفسانية من العلوم والأخلاق، وهو يعرف ذاته، ويعرف خالقه ويعرف كثيراً من المعقولات الكليّة من غير حاجة له فيها إلى البدن، ولا إلى شيء من الحواس، لأن شيئاً من هذه المعارف ليس محسوساً، ومن استغنى عن شيء في وجود فعله أو انفعاله فيكون مستغنياً عن ذلك الشيء في وجود ذاته على طريق الأوْلىٰ، فلا يكون وجود النفس في البدن وجود عرض في موضوعه ولا صورة في مادتها.
والإنسان في حال حياة البدن يمكن أن يتصور نفسه غافلاً عن المحسوسات كلها، وعن الأبدان والأبعاد والأجرام كلها، وهو في تلك الحالة عارف بنفسه وذاته، ومن كان ذا قدم راسخ في معرفة الباري وعبوديته، فربما يغفل عما سوى الله، ويجد ذاته كرشحة من بحر غير متناهي الفسحة، أو لمعة من نور غير متناهي الشدة، والتجرد لذكر الله على الدوام في بداية السلوك، يفضي بالسالك إلى هذه الحالة، حتى أن لا يحضر في شعوره من المحسوسات والمعقولات سوى الحق الأول تعالى مجده، ولا يشعر بنفسه، ولا بعدم شعوره بنفسه، ولا يشعر بشعوره بالحق، بل يكون شاعراً بالحق فقط، فإن الشعور بالشعور، بالحق حجاب وغفلة عن الحق، وملاحظة الوصال فراق، فالمعنى المتجرد لمعرفة الحق كيف يكون محتاجاً إلى البدن.
فعلم أن تعلقها بالبدن ليس تعلق الحالِّ بالمحلّ، وليس أيضاً تعلقها به تعلق المحل بالحالّ وهو ظاهر، ولا أيضاً تعلّقها به تعلّق العلة بالمعلول، ولا المعلول بالعلة - وإلاّ لما وجد أحدهما بدون الآخر - ولا تعلق أحد المضافين الحقيقيّين بالآخر، لأن لكل منهما ذاتاً على حِدة، والمتضايفان ليسا كذلك - لما حقق في مقامه -، ولا أيضاً تحريكها للبدن كتحريك الدافع للشيء بالدفع، ولا تحريك الجاذب للشيء بالجذب، ولا تحريك الحامل كالسفينة للساكن فيها، ولا المركوب للراكب، ولا الحامل للشيء على عاتقه، لأن النفس مجردة، والمجرد يستحيل عليه هذه الحالات الوضعية.
فهذا التعلق الذي للنفس بالبدن أمر مشكل لا يعلمه أحد إلاّ بهداية الله وتوفيقه، فأشار سبحانه إليه بقوله:
{ { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [يس:78] - إلى قوله - { { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس:79].
والمثال الثاني: مثال توقّد النار من الشجر الأخضر، وهو أيضا أمر عجيب أعجب من تعلّق النفس بالبدن مرة ثانية عند جمهور الأنام بل الخواص، للتضاد الواقع بين الماء والنار، فكيف يكون أحدهما سبباً للآخر - وطبيعة السبب لا بد وأن تكون قريبة من طبيعة المسبَّب - وإليه الإشارة بقوله: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ }.
فإن قيل: أن توقّد النار من هذا الشجر، ليس إلاّ بعد السحق والحركة الشديدة، والحركة تحيل جوهر الماء الذي فيه إلى الهواء، ثم إلى النار، وليس أن الشجر الرطب - بما هو رطب - يتولد منه النار.
قلنا: لا نسلم ذلك، فإن تولد النار منه أمر محسوس، وانقلابه إلى الهواء ثم إلى النار غير معلوم، لا بد له من برهان، ولا سبيل لنا إليه، ثم هبّ إنه كذلك، فليس التعجّب من توليد الحركة - وهي أمر ضعيفة الوجود بالقوة، شبيهة بالعدم - الصورة الهوائية والنارية من الشجر الأخضر الذي يتقطّر منه الماء بأقل من توليد نفس الشجر لها.
والمثال الثالث: خلق مجموع السمٰوات والأرض، فإن وجود الشيء المكاني عن غير المكاني، وتحقق الزماني عن غير الزماني، أعجب العجائب، والله سبحانه مما قد برهن على وجوده وعلى كونه خالق السموات والأرض، ومكوّن الكائنات من غير مكان، وموجد الزمانيات في غير زمان، فأبدع الكل بقدرته إبداعاً واخترعها على مشيّته اختراعاً، فهو الأول بلا أوليّة والمبدء بلا ابتداء، كما أنه الآخر بلا آخرية والمنتهى بلا نهاية، وهو أيضاً مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فأمثال هذه المتناقضات لفظاً متفقات في حقه تعالى معنى، فجلال الله فوق الأوهام والعقول فضلاً عن الأزمنة والأمكنة.
فإيجاده للسماء والأرض وما فيهما من عجائب المكّونات من البسائط والمركبات بمجرد ارادته وأمره بوجود كل منها من غير مادة سابقة، أو حركة لاحقة، أعجب من كل عجيب، فالله سبحانه حيث هو قادر على هذا الخلق العظيم الشأن، القويم البنيان، مع ما فيه من الأنوار الشديدة الضياء، والهياكل العظيمة البهاء، والأشخاص الرفعية المكان، السريعة الدوران، الحثيثة الطوفان، عشقاً وشوقاً إلى مبدعها ومشوّقها ومحركها العزيز المنان، وموجدها من كتم العدم إلى منصّة الوجود والوجدان، والشهود والعرفان، بمجرد قوله الذي إذا قال لشيء "كن" فيكون، فهو بأن يكون قادراً على إنشاء النشأة الثانية للإنسان أخلق وأحرى عند الأذهان السليمة عن آفة الجهل والطغيان، ومرض الجحود والكفران، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:
{ أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } [يس:81].