التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٨٢
-يس

تفسير صدر المتألهين

في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى: في معنى الأمر
قيل: "الأمر" ها هنا بمعنى الشأن { إِنَّمَآ أَمْرُهُ } أي: إنما شأنه، { إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً } ودعاه داعي حكمته ومصلحته إلى تكوينه { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ولا بأس عليك أن تحمل "الأمر" ها هنا على ما يرادف معنى الحكم الإنشائي والأمر التكويني، فإن الأمر من الله كباقي أقسام كلامه على ضربين:
أحدهما: ما هو بمعنى التكوين والإنشاء المطلق.
والثاني: هو بمعنى طلب الفعل من العبد، وهو الأمر التشريعي.
ومن القبيل الأول:
{ { يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء:69] { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65] { كُونُواْ حِجَارَةً } [الإسراء:50].
ومن قبيل الثاني قوله تعالى:
{ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ } [النساء:135].
والمخاطب بالأمر التكويني والخطاب الإيجادي، لا يكون إلاّ ذوات الماهيات المجعولة، المستعدة لسماع قول الحق بآذانهم السمعية، الواعية المطيعة لأذان الحق وإذنه لهم وندائه عليهم بالدخول في دار الوجود، فسمعوا نداء الحق بقوله: "كن" وأطاعوا أمره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، ودخلوا في دار رحمته وبلدة جوده ونعمته، كما قال مخاطباً للسموات والأرض:
{ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصّلت:11].
وأما المخاطب بالأمر التشريعي والخطاب التكليفي، فلا يكون إلاّ ضرباً من النفوس الإنسانية حين وجودها العنصري، وكونها الدنيوي وبلوغها النفساني وكمالها البدني.
وفي الأمر الأول، لا مجال للعصيان، لأنه الدين الفطري الإلهي الذي يستحيل التمرد عنه والمعصية فيه، وبهذا جرت سنة الله التي لا تبديل لها، وأما الأمر الذي أمر به عباده على ألسنة رسله وألواح كتبه، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى، وبارتفاع الوسائط لا سبيل لأحد إلاّ القبول والطاعة.
ومثال هذه القاعدة، النفس الإنسانية التي خلقها الله مثالاً له ذاتاً وصفة، وجعلها سلّماً إلى حضرته، وصراطاً مستقيماً إلى جنابه، وحاملاً لسرّ ربوبيته وأمره ونهيه وكتبه ورسله وملائكته وعباده الصالحين والطالحين من الجن والإنس أجمعين.
فمن أراد أن يعرف ما ذكرناه، فلينظر إلى نفسه في أمره ونهيه وتكوينه بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره، فهو على بيّنة من ربه في كماله، وقد خلقت أعضاؤه مسخرة لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين للإنفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل للحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء، فهي له من جهة أمثالها بمنزلة أجرام السموات والأرض لله تعالى في حركاتها وسكناتها.
وله جنود روحانية هي أقرب منزلة منه، وأسرع قبولاً لطاعته، وأشد سماعاً لأمره ونهيه، وهي قواه الإدراكية أولاً، وقواه التحريكية ثانياً، كل منهما على طبقات متفاوتة في الشرف، ودرجات مترتبة في القرب منه والطاعة لحكمه والسماع لأمره، هي كلها بمنزلة ملائكة الله العلوية والسفلية، العلمية والعملية على شعوبها وقبائلها، المترتبة في مقاماتها النازلة في مراتبها، كلٌ له مقام معلوم، حيث أنهم كلهم جُبلوا على الطاعة لا يستطيعون له خلافاً، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وأما أمره ونهيه بالواسطة من لسان أو غيره، فقد يكون واقعاً وقد يكون غير واقع، فما شرع في التكوين بواسطة جارحة من جوارحه، فلم يقع في شيء دون شيء بواسطة كلال الآلات الجارحية، وفتور الأعصاب والأدوات العرضية، مع عموم ذلك إذا رفعت الوسائط وتركت من البين فلا يقدح في كماله.
المسألة الثانية
في معنى الإرادة من الله سبحانه
إن الإرادة فينا شوق متأكد عقيب داع، هو تصور الشيء الملائم الحسي أو الظني أو الحقيقي تصوراً تخيلياً أو ظنياً أو عقلياً موجباً لتحريك القوة المحركة للأعضاء الآلية، كالأرواح ثم الأعصاب ثم الأعضاء، لأجل تحصيل ذلك الشيء من حدود العلم إلى حدود العيان والشهود.
والإرادة في الواجب، هي المحبة الإلهية التابعة لابتهاجه بذاته التي ينبوع كل فضيلة وكمال وخير، وهي عين الداعي، وهو نفس علمه بنظام الخير الذي هو عين ذاته، المقتضية للنظام الكلي، المؤدية للخيرات أتم اقتضاء وتأدية.
لأنه لمّا علم ذاته الذي هو أجلّ الأشياء بأجلّ علم، يكون مبتهجاً بذاته أشد الإبتهاج، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه من حيث كونها صادرة عنه، فالواجب تعالى يريد الأشياء لا لأجل ذواتها الإمكانية، بل لأجل أنها آثار صادرة عنه تعالى، فالداعي في إيجاده للممكنات والغاية لها هو ذاته تعالى، فيكون ذاته فاعلاً وغاية، فهو الأول والآخر.
قال بعض الحكماء: لو أن إنساناً عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود، وكان ينظّم الأمور التي بعده على مثاله، حتى كانت الأمور على غاية النظام، لكان غرضه بالحقيقة واجب الوجود الذي هو الكمال، فإن كان واجب الوجود هو الفاعل فهو الغاية والغرض.
ومن ها هنا تظهر حقيقة ما قاله بعض العرفاء، لولا العشق ما يوجد أرض ولا سماء ولا برّ ولا بحر ولا هواء ولا ماء.
ومما يجب عليك أن تعتقد، أن الباري تعالى، كما أنه غاية الأشياء بالمعنى المذكور - أي الداعي والسبب الغائي -، فهو غاية أخيرة، بمعنى أن جميع الأشياء طالبة لكمالاتها، ومتشوقة للخير الأتم، ومتشبّهة به في تحصيل ما يتصور في حقها من الخير كلّ بحسبه، فلكل منها عشق وشوق إليه إرادياً كان أو طبيعياً، ولأجل هذا المعنى حكم الحكماء الإلهيون بسريان العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها، وأثبتوا لكل مها شعوراً وعلماً، وإليه الإشارة في قوله تعالى:
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [البقرة:148] وقوله: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [الإسراء:44].
ويقتبس كل منها بنار الشوق نور الوصول لديه والقرب منه، كما قال واحد من الحكماء المعلّمين: صلّت السماء بدورانها، والأرض برجحانها، والمطر بهطلانه، كل يدور على المبدء.
وقيل أيضاً مشيراً إلى حركة السماء وسكون الأرض: انّهما لَسَيّان في هذا الشأن:

فذلك من عميم اللطف شكر وهذا من رحيق الشوق سكر

المسألة الثالثة
إن حقيقة الأمر التكويني والإرادة الإلهيّة بالمعنى الذي مرّ، كلتاهما واحدة، فأمره لكل شيء عين ارادته له، ولا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه، فكل ما أمر به أمراً تكوينياً فلا بدّ من وقوعه، وكذا كل ما أراد وقوعه إرادة ذاتية أزلية فيجب تحققه.
المسألة الرابعة
في أن أمره للخلائق وإرادته للموجودات ليس أمر قسر وإجبار وإرادة قهر واضطرار، بل ما أمرهم إلاّ ما أحبّوه، ولا أراد منهم إلاّ ما عشقوه، بحسب ذواتهم الأصلية وماهياتهم الذاتية، قبل أن ينحرفوا ويتغيّروا عما فطرهم الله عليه، بل الله سبحانه عامل كل أحد من خَلْقه معاملة لو لم يكن خلق سواه كان عامله بها، واختار لكل موجود ما أن وكل أمره إلى نفسه اختار ذلك.
ألم تسمع في الأخبار الواردة أن الله عزّ وجلّ خلق الصنائع وعرضها على بني آدم قبل أن يخلقهم هذا الوجود الدنيوي في بعض مواطن الغيوب ومكامن النشآت، فاختار كلّ لنفسه صناعة، فلما أوجدهم اختار لهم ما اختاروا لأنفسهم.
وهكذا الأمر في كل ما يجري على الإنسان، لا يختص ذلك بالصنائع، بل ذلك مثال واحد من هذا الشأن، وقس عليه غيره، وليحسن كلكم ظنه بربّه وليحبّه بكل قلبه، فإن ربه من الرحمة إليه والحنان له على ما وصنفاه، لا على ما يظنه بعض المتفلسفة القائلة بأن "نظر الحمق بالرحمة والإيجاد إلى مجموع النظام دون خصوصيات الآحاد".
فكأنه لم يعلم معنى كونه أرحم الراحمين، وكأنه لم يفهم كون الله أحب الأشياء للعباد، لأن المحبة والحنان يتبعان الملائمة، ولا يكون أشد ملائمة وخيراً للعبد من الخالق الذي منه وجوده وإليه معاده، وهو أوله وآخره وظاهره وباطنه وأمره كله، فالحق أنّ أمره لهم مسبوق بدعائهم له وطلب الدخول إليه، فلولا سبق السؤال الاستحقاقي لما ورد الأمر من الله بالدخول في دار الوجود بالفيض المقدس، كما أنه لولا الفيض الأقدس المستدعي لماهياتهم وأعيانهم الثابتة التي هي كظلال أشعة الأسماء الإلهية، لما سبق منهم الإستئذان والسؤال الوجودي الفطري الذي تسأله الذات المطيعة السامعة لقول الله "كن" الداخلة امتثالاً له في الوجود.
وقول "كن" ليس أمر قهر وقسر، لأن الله غني عن العالمين، ولا حاجة له إلى وجودهم ليجبرهم عليه، كما لا حاجة له إلى عبادتهم وطاعتهم في الأمر التشريعي، وإنما أمرهم بالأحكام الدينية لما رأى فيه صلاح حالهم في النشأة الأخرى، كذلك أمرهم بالأمر التكويني أمر إذن، لأنه مسبوق بسؤال الوجود منهم له، فكأنه قال العبد لربه: إئذن لي أن أدخل في عالمك وهو الوجود، فقال الله "كن" أي "أدخل حضرتي فقد أذنت لك" كما حكى الله عن عيسى (عليه السلام):
{ { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [آل عمران:49] فلولا سبق السؤال الوجودي عن الطائر أن يكون لم يُسَمّ ذلك إذناً.
حجاب وكشف
فإن قيل: أين للمعدوم لسان يسأل بها؟
قلنا: إن ذلك بعد ثبوت أعيانهم، وثبوت ما هو بمنزلة لسانهم، كما أشرنا إليه، وهو المشار إليه في قوله (صلَّى الله عليه وآله):
"ان الله خلق الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره" - الحديث -، فالأول إشارة إلى الفيض الأقدس، والثاني إلى الفيض المقدس، وتحقيقها يحتاج إلى مجال آخر، لأنه من مزالّ الأقدام ومضالّ الأقوام، ومن هاهنا ضلّت المعتزلة من أهل الكلام، وذهبوا إلى انفكاك الماهيات عن وجودها فبعدوا عن الحق بمراحل.
المسألة الخامسة
في لِميّة صدور العصيان وحصول الشقاوة لأفراد الانسان
لقائل أن يقول: لما تحقق أمره وإرادته تعالى للأشياء على الوجه الذي قررت من كونها عين المحبة الإلهية، الجاعلة كل أحد على أفضل ما يختار له ويحب لنفسه، فما معنى صدور المعاصي عنهم والآثام المعقبّة لهم يوم القيامة صنوفاً من الآلام؟
فنقول: كل ذلك حق، وسنطلعك على حقيقة الأمر فيه، فاعلم أن الطاعة، كل هيئة تقتضيها ذات الإنسان على ما جبلت عليها لو خَلَت عن العوارض الغريبة، وهي الفطرة الأولى التي فطر الله عليها العباد كلهم، والمعصية كل ما يقتضيه ذاته بشرط أمر غريب يجري مجرى المرض، والخروج عن الحالة الأولى، فيكون ميل الإنسان كشهوة أكل الطين التي هي غريبة بالنسبة إلى المزاج الطبيعي لم يحدث إلاّ لعروض مرض وانحراف عن مذهب الطبيعة الأصلية.
وقد ورد في الحديث القدسي:
"إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فأحتالتهم عن دينهم" ، فالطاعة هي الحنيفية التي تقتضيها ذواتها لو لم تمسسهم أيدي الشياطين، فإذا مستهم أيديها فسد عليهم مزاج فطرتهم، فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم، وكادوا أن يسقطوا عن درجتهم التي جبلوا عليها، فأتاهم رسول من الله يذكرهم العهد القديم، ويتلوا عليهم آيات ربهم، ويعود عليهم بتلك الهيئات التي كانت تقتضيها ذواتهم، فصرفوا عنها باللاحق الغريب، وتكرر عليهم بما يذكر ذلك من الصلاة والصيام والزكاة والإطعام وصلة الأرحام، إلى غير ذلك من الطاعات المعروفة، فإن كل ذلك دين الله الذي ديّنه ودعا إليه عباده أجمعين، وأمرهم به قبل خلق السموات والأرضين، فأطاعوه وتقلّدوه طوعاً ورغبة وحنيناً ومحبة.
ولو لم تكن هذه الهيئات مما تقتضيها ذواتهم، كانت دعوتهم إليها دعوة إلى شقاوتهم، لأن سعادة الشيء ليست إلاّ ما تقتضيه ذاته ويلائم نشأته ويوافق طبعه (طلبه)، ولا شقاوته إلاّ خلاف ما يقتضيه ذاته، وإنما كبرت الصلاة وثقلت الطاعات على الناس لمّا انشب فيهم أظفار من العارض الغريب
{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون:71] { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } [السجدة:13] الآية.
فأما الخاشعون - وهم الذين باشرت أنوار الحق نفوسهم حتى خشعوا لها، فإن الله إذا تجلّى لشيء خشع له - فليست الصلاة كبيرة عليهم، ثم إن هذا المرض الذي عرض لذواتهم، والحالة المنافية التي حلّت بهم، لولا أن وجدوا قبولاً من ذواتهم لعروضها لهم، واذناً في لحوقها بهم، لم يكونا يعرضان لهم أبداً ولا يلحقان بهم، فإذن كان مما يقتضيه ذواتهم أن تلحق بهم أمور منافية لجواهرهم، فإذا لحقتهم تلك الأمور، اجتمعت فيها جهتان: جهة نورية فطرية، وجهة ظلمانية وهمية، فكانت ملائمة منافية.
أما الملائمة فلأن ذواتهم اقتضتها، وأما كونه منافياً فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم، فلو لم تكن منافية لهم لم يكن ما فرضناه مقتضى لها، مقتضى لها، بل أمر آخر - وهذا خلف -.
فالشيء عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم، سعيد شقي، ملتذ ولكن لذته ألمه، سعيد ولكن سعادته شقاوته، وهذا عجيب جداً، ولكن أوضحناه لك إيضاحاً لم يبق معه عجب وريب إنشاء الله.
ولهذه الواقعة أمثلة كثيرة في العلوم الطبيعيات، مثل الحركة القسرية، فإنها صادرة عن الطبيعة بواسطة عروض مَيل غريب، ومثل الحرارة الغريبة عند الحمّى، فإنها محلّلة للبدن، مضعفة له، مؤذية للنفس، مع أن النفس تحدثها في البدن، لأجل انحراف الطبيعة عن اعتدالها اللائق بها في كل وقت.
ومثل الشكل الغريب الذي عرض للأرض أولاً بواسطة أمر غريب حادث، فغيّرها عما كانت، وأخرجها عن الكرويّة التي مقتضى طبيعتها الأصلية، فصار لها طبيعياً قبلته الأرض وحفظته يبوستها التي هي كيفية طبيعية لها، فالذي كان لها أولاً بمنزلة الآفة والمرض، صار لها أخيراً بمنزلة المطبوع الموافق كالصحة، فلو لم يكن في طبعها من القوة الهيولانيّة ما يقبل الأشكال العارضة لأجل مصادفة الأمور الغريبة، لما قبلتها بوجه من الوجوه أصلاً، كالأفلاك وما فيها، فالذي قبلته الأرض من هذه التضاريس في سطحها، فإنما قبلته لأنها مطبوعة من وجه، مقسورة من وجه.
وتحت هذه الأمثلة أسرار عظيمة لا يتفطنّ بها إلاّ الأقلّون من العلماء
{ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت:43].
تفريع
فإذا علمت هذه القاعدة فمهما سمعت قول الله عزّ وجلّ يذكر هؤلاء الأشقياء بالبعد والشقاوة، فهم أشقياء مبعدون لا شك في ذلك، فإن العذاب مطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ومهما سمعت عزّ وجلّ ينبئ عن خلقه كله بالحسن والبهاء، ويذكر نفسه بالرحمة التي وسعت كل شيء، فاعلم أنه بالنظر إلى تلك الجهة الدقيقة التي نبّهناك عليها، أن ذواتهم لو لم تستدع عروض العذاب الدائم لم يكن يفعل بهم ذلك، فإن الله عزّ وجلّ لا يولّي أحداً إلاّ ما تولاّه عدلاً منه ورحمة.
وقد ورد: أن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم قال لهم ليختر كل منكم صورة أخلقه عليها، وهو قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف:11] فمنهم من قال: "رب أخلقني خلقاً حسناً أعدل ما يكون، حتى لا يكون مثلي أحد في الحسن والجمال" ومنهم من قال: "أخلقني خلقاً قبيحاً أبعد ما يكون من التناسب وأوغله في التنافر، حتى لا يكون مثلي في القبح والبعد عن الإعتدال أحد"، وكل منهما أحب لنفسه التفرد، فإن حب الفرد نية فطرة الله السارية في كل الأمم التي يقوم بها وجود كل شيء، فخلق الله كلاً من الخلق على ما اختار لنفسه، وأراد لكل منهم ما أراده لنفسه.
تفريع آخر
فاعلم يا حبيبي أن قبل كل نكرة معرفة، وقبل كل لعنة رحمة، وهي الرحمة التي وسعت كل شيء، فإن الله تولى كل أحد ما تولاّه لنفسه، وهو قوله:
{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء:115].
وقد ورد في الخبر موقوفاً على ابن مسعود في صفة يوم القيامة أن الله عزّ وجلّ ينزل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، فينادي مناد: أيها الناس، ألم ترضَوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، أن يولّي كل أحد منكم ما كانوا يتولّون ويعبدون في الدنيا، أليس ذلك عدلاً من ربكم؟.
قالوا: بلى.
قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا، ويمثّل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، الحديث بطوله.
وكما يولون في الآخرة ما تولّوا في الدنيا، فإنما يولون في الدنيا ما تولّوه في السوابق حين خلقوا في الظلمة، فإن شككت في ذلك فاتلُ قوله تعالى:
{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب:72] - الآية. لتعلم أن الله لا يحمل أحداً شيئاً قهراً وجبراً، بل يعرض عليه أولاً، فإن تولاه ولاّه، وأن لم يتولَّه لم يولّه، وهذا من رحمة الله وارادته الخيالية عن الكراهة أصلاً، ويرحم الله أمرءاً آمن بالكتاب كله ولم يبادر بالصرف والتأويل إلى ما يبلغه بعقله وبعقول غيره من الأباطيل، ولم يسلك سبيل المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين.
وهم وتنبيه
لا يقال: ليس تولية الشيء ما تولاّه عدلاً من كل وجه، بل حيث يكون ذلك التولي عن رشده وبصيرة، فإن السفيه قد يختار لنفسه ما هو شر بالنسبة إليه وضرّ لجهله وسفاهته، ثم لا يكون توليته إيّاه عدلاً وحكمة - بل ظلماً وجوراً -، وإنما العدل والحكمة والشفقة في ذلك منعه إياه وصرفه عنه.
لأنا نقول: هذا التولي الذي كلامنا فيه، ليس تولياً يحكم عليه بالرشد والسفه، والمنفعة والمضرة، وإنما هو تولٍّ سابق على النفع والضر، حاكم على الخير والشر، لأن به يصير الشيء متعيناً في الخارج بالأسباب المقدرة له، وما يختاره السفيه لذاته إنما يسمى شراً، لأنه مناف لذاته، فلذاته اقتضاء أول متعلق بنقيض هذا الاختيار، فذلك هو الذي أوجب لنا أن نسمي هذا شراً بالنسبة إليه، وأما اقتضاؤه الأول فلا يمكن وصفه بالشر، لأنه لم يكن قبله اقتضاء يكون هذا بخلافه فيوصف بأنه شر، بل هو الإقتضاء الذي لا يكون إلاّ خيراً، لأن الخير ليس إلاّ ما يقتضيه ذات الشيء، ولو أطلق لفظ "الشر" على ماهية امكانية تكون مرتبتها في درجة الوجود والفضيلة الحقيقية دون مرتبة موجود آخر مع استحالته أن تكون هي إلاّ هي، لكان ذلك الإطلاق على غير المعنى الذي كلامنا فيه الآن، فإن الشر معناه العرفي هو عدم وجود ما، أو عدم كمال وجود ما - لما من حقه بما هو هو - أن يناله بحسب استعداده الفطري أو الكسبي.
وأما كون الحمار ليس له وجود الإنسان وكماله، فلا يعد شراً بهذا المعنى، والتولّي الذي كلامنا فيه، إن الحق سبحانه ما ولىّ كل شيء إلاّ ما تولاه بنفسه، هو الاستدعاء الذاتي الأوّلي، والسؤال الوجودي الفطري، الذي تسأله الذات القابلة المطيعة السامعة لقول "كن" منه تعالى، فيدخل في عالمه بعد الاستئذان منه، والأمر من الحق تعالى.
فهذا تحقيق الأمر الإبداعي والإرادة الأزلية المتعلقة بذوات الأشياء وأما الأمر التشريعي والتكويني الحادثان، والإرادة المترتبة على استحقاق العبد من جهة أعماله، فهي أيضاً على ما يناسب الفطرة الثانية له في الدنيا والآخرة، فمن تولّى الله وأحب لقائه، وجرى على ما جرى عليه الأوامر الشرعية والتكاليف الدينية، تولاهم الحق وهو يتولّى الصالحين، ومن تعدّى ذلك فقد طغى وتولى الطواغيت واتبع الهوى، ولكل نوع من الهوى طاغوت ولاَّه الله ما تولاه، فشخص لكل معبود ووجه إليه، وهو قرينه في الدنيا والآخرة:
{ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } [النور:54]
أعاذنا الله من متابعة الهوى والشياطين، وجعلنا من عباده الصالحين الذين يتولاهم برحمته يوم الدين.
المسألة السادسة
في معنى القول
اعلم أن القول والكلام عبارة - عند المحققين من المتكلمين - عن إنشاء ما يدل على المعنى، وليس من شرط الدلالة المغايرة الذاتية بين الدالّ والمدلول عليه، بأن تكون ذات المعنى المدلول عليه شيئاً آخر غير ذات ما يدل عليه، وإلاّ لم يفهم عند سماع الألفاظ والعبارات أنها ألفاظ وعبارات، وكذا ليس يشترط كون الدالّ على المعنى من جنس الأصوات والحروف، بل قد صرّح المحققون من العرفاء وأهل الكشف والشهود، أن روح المعنى المقصود من الكلام هو الإعلام.
وربما يستدلون عليه بتسبيح الحصاة وغيرها، وغير ذلك من الشواهد الدالة على أن الأشياء متكلمة بألسنة ذاتها، ناطقة بحمد الله وتسبيحه من جهة وجوه دلالاتها على وحدانية الله تعالى، وقد عبر سبحانه عن هذه الدلالة في قوله سبحانه:
{ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [فصّلت:21].
وما روي عن أمير المؤمنين ويعسوب الدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إنه قال ذات ليلة وقد سمع صوت ناقوس النصارى: "هذا الناقوس يقول التسبيح الفلاني كذا وكذا" - الحديث -، وكذا ما روي عنه صلوات الله عليه أنه قال:
"أنا كلام الله الناطق" ، وكذا ما روي عنه أيضاً أنه قال مخاطباً للإنسان:

وأنت الكتاب المبين الذي بآياته يظهر المضمَر

فيه دلالة واضحة على أنه ليس من شرط الكلام والكتاب أن يكون من جنس الأصوات والحروف، وأمثال ذلك منقولة من كثير من الأكابر والعرفاء وأعاظم العلماء.
والأحاديث الصحيحة الدالة على نطق الأحجار والأشجار لرسول الله (صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام) كثيرة من غير تعرض في جميع ذلك بأنه كان بطريق الصوت، أم لا - وإن كان ذلك جائزاً -، بل هو مما...................................................................................... قد وقع في بعض الأحايين حيث اتفق لهم محاكاة هذه الدلالة الذاتية بالنطق الظاهري أيضاً، فيسمعونه كفاحاً بسبب إشراق نور النبوة على مشكاة حواسهم الظاهرة المنورة بأنوار صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانعكس ظل السماع القلبي على قوة السمع الظاهري، فانطبع على لوح بنطاسيا صورة ذلك السماع العقلي، على سبيل الإنحدار من العالي إلى المتوسط، ثم إلى السافل، على عكس عادة الناس في إدراكهم صور حقائق الأشياء، حيث يقع لهم الإحساس بها أولاً - ثم التخيل ثانياً، ثم التعقل آخراً.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن كلام الله ليس معاني قائمة بذات الله تعالى تكون هي من مدلولات الألفاظ التي وقعت في كتب الله النازلة على الأنبياء - كما ذهب إليه الأشاعرة، وسموه بـ "الكلام النفسي" وقالوا إنه مدلول الكلام اللفظي - فإن ذلك يؤدي إلى مفاسد شنيعة ومثالب عظيمة يجب تنزيه الله عنها، مما هو مذكور في كتب أهل البحث والكلام.
ولا ينحصر أيضاً في خلق الألفاظ والعبارات المسموعة - كما زعمه المعتزلة -.
بل مطلق إنشاء ما يدل على المعاني مع الشعور والإرادة للإعلام، ولهذا قال تعالى: - مشيراً إلى جوهر عيسى (عليه السلام):
{ { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء:171] وقال مشيراً إلى النفوس الناطقة الإنسانية: { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } [الكهف:109] "والبحر" إشارة إلى الهيولى القابلة للتشكلات، والصور الحادثة التي هي قوالب معاني النفوس، كالمداد القابل لتشكّلات الحروف الدالة على المعاني.
ذكر تنبيهي
اتفق أئمة أهل الكشف على أن النفس الإنساني تحاكي النفس الرحماني وهو كصداه ينادي بندائه ويحاكي بأدائه، فمظاهرهما متطابقة، ومراتبهما متحاكية متشابهة، ومنازلهما منحصرة في ثمانية وعشرين على ما ناح به لسان العارفين.
اشراق افاضي
ذكر بعض أكابر العلماء أنه فرق ما بين "الكلام الإلهي" و "الكتاب السماوي"، فالكلام بسيط والكتاب مركّب من حامل ومحمول، والكلام أَمريّ
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82] والكتاب خَلْقِيّ: { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [المطففين:18 - 21] وعالم الأمر خال عن التضاد، بل أنه مقدس عن التغير والتكثر: { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } [القمر:50] وأما عالم الخلق فمشتمل على التضاد والتغير { { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام:59].
وكما أن الكلام يشتمل على الآيات:
{ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ } [البقرة:252] فكذا الكتاب يشتمل عليها { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف:1].
والكلام إذا تشخّص وتنزّل من سماء التجرد صار كتاباً، كما أن الأمر إذا تنزل والحكم إذا مضى صار فعلاً { كُن فَيَكُونُ }.
فعلم مما تمهد وتقرر أن وجود عالم الأمر "هو قول الله"، وصحيفة عالم الخلق هي "كتاب الله"، وآياتها أعيان الممكنات وماهيات الكائنات
{ إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس:6].
وهذه الآيات البيّنات إنما أُبدعت وأُنْشِأَت أولاً في جواهر عالم الأمر والتدبير، ثم بنيت وتصورت في مواد عالم الخلق والتقدير، ليستعد أصحاب التفكر والتذكر بسبب مطالعة أبواب هذه الكتب، ومشاهدة آياتها الفعلية المثبتة في الآفاق، واستماع آياتها القولية المثبتة في الأنفس، للإرتقاء إلى عالم الأمر والإنتقال من المحسوس إلى المعقول، والارتحال من الجزئي إلى الكلي، والسفر من الخلق إلى الحق، ومن الشهادة إلى الغيب، ومن الدنيا إلى الآخرة، ليفوزوا بالسعادة العظمى، ويصلوا إلى مشاهدة عالم الربوبية والوحدانية الحقة وملكوت ربهم الأعلى
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصّلت:53].
حكمة برهانية
إن الإنسان ما دام كونه الدنيوي محبوساً في مضيق الحواس ومقيداً بسجن عالم الزمان والمكان، فلا يمكنه سماع قول الحق كفاحاً، ولا مشاهدة الآيات الأفاقية والأنفسية إلاّ واحدة بعد واحدة، وزماناً بعد زمان ويوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، فيتلو آية وتغيب عنه أخرى، فتتوارد عليه الأوضاع وتتعاقب عليه الآنات،
{ { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ } [إبراهيم:5].
وهو على مثال من يقرأ طوماراً وينظر إلى سطر منه بعد سطر، ويطالع حرفاً بعد حرف، وهذا القصور دركه عن مشاهدة الجميع دفعة واحدة، فإذا قويت بصيرته وتكحلت بنور الهدياة والتوفيق - كما هي عند القيامة - فيتجاوز نظره عن مضيق عالم الخلق والظلمات إلى سعة عالم الأمر والأنوار، فيطّلع على جميع ما في هذا الكتاب المبين، الجامع للأكوان الخلقية دفعة، كمن يطوى عليه السجل الجامع للسطور والكلمات
{ { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء:104] { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67].
ويمين الله عالم الأمر، ولم يقل بشماله، لأن أهل الشمال وسكان عالم الضلال ليس لهم نصيب من طي السموات، وكذلك كل من كان محبوساً في سجن الأجسام، مقيداً بقيود الحواس، فلا اقتدار له على مطالعة آيات الله سبحانه والإطلاع على معانيها، وفهم حقائق المعارف التي فيها، ومن لم يتمكن من فهم آيات الله فهو لا محالة مُعْرض عنها، كأنه لم يسمعها، ويكون حاله ما أفصح الله عنه بقوله:
{ يَسْمَعُ آيَاتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا، فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الجاثية:8].
واعلم أن في الكلام والكتاب أسراراً عظيمة لا يحتمل المقام إيرادها وذكرها، ولا يمكن لهذه الأسماع الدنيوية أن تسمعها، فوقع الاكتفاء بهذه اللمعة اليسيرة من آيات كواكبها المنيرة.
المسألة السابعة
في حاصل معنى الآية وغرضها المسوق إليه على حسب طاقتنا
لمّا كانت عمدة ما يصد الناس عن الإعتقاد بأمر المعاد هي أن النفس بعد خروجها عن غبار هذه الدار، وتفردها عن بدنها العنصري المستعار، وأركانها المتداعية إلى الإضمحلال والبوار، يستحيل رجوعها تارة أخرى إلى تدبير هذا البلقع الخراب، الخالي عن الإعتدال والإستعداد، الواقع في مهوى الزوال والفساد، إلاّ بعد حركات فلكية، واستحالات مادية، وانفعالات هيولوية، وهو ينافي حدوث الأبدان عند القيامة دفعة واحدة، ويلزم أيضاً من عودها إلى البدن ما يلزم القول بالتناسخ، فأشار سبحانه إلى حل هذه العقدة ودفع هذه الشبهة، بأن إنشاء البدن الأخروي ليس من قبيل الأسباب الأرضية والجهات الإنفعالية المادية، ومن طريق الاستكمالات العنصرية والإنقلابات الهيولوية، بل جميع الأبدان والصور والأشكال الأخروية والأكوان الثانوية إنما نشأت من العالم الأعلى دفعة واحدة بحسب إرادة الله التي ينبعث منها عالم الأمر، فيحدث منها الأكوان والأبدان المكتسبة، لكل نفس بحسب ما يناسبها من أخلاقها وصفاتها.
وتعلّقُ النفس بالبدن الأخروي ليس كتعلّقها بالبدن الدنيوي، ومن عادة الله سبحانه أن يعبر عن اختراعه لشيء بلا توسط مادة جسمانية بـ "الأمر" و "القول"، ففي هذه الآية إشعار بأن نشوء الآخرة وعالم المعاد ليس من لواحق المواد وعوارض استعداد الأجساد، بل تكوّنها من عالم الأمر بحسب إرادة الله المبدع الجواد، بلا توسط الأمزجة الحاصلة بالإمتزاج والإعتدال، المتوسط بين أطراف التضاد، الموجب للمشابهة بالسبع الشداد، الخالية بالكلية عن الكيفيات المحسوسة القابلة للإشتداد الموجبة للتفاسد والافساد.
والنفس في هذا العالم تنشأ من البدن كنشوء الشعلة من الفتيلة بتوسط روح هي كالدخان، وفي الآخرة ينشأ البدن من النفس بحسب النيات والإعتقادات، فبين الوجودين تعاكس في النشأتين.
وفي قوله: "كن فيكون" إعلام بأن الفاعل الحقيقي لا يجوز عليه مما يجوز على الفاعل الطبيعي إذا فعل شيئاً مما يقدر عليه من المباشرة لمواد الفعل ومحال القدرة، من استعمال الآلات وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب والعطب، بل إنما أمره وفعله الخاص به كحدوث القول من القائل، لا كحدوث الكتابة من الكاتب، بل كحدوث الشعاع من الشمس لا كحدوث المطر من السحاب.
وفيه أيضاً إعلام بأن تخلّف المعلول عن الفاعل الحقيقي في الأمور الإختراعية مستحيل.
وأما المسمّى بـ "الفاعل" في عالم الطبيعة، فهو في التحقيق ليس علة الوجود، بل هو سبب الحركة والإنتقال من حال إلى حال، فيحصل منه المعلول على التدرج والمهلة في الحصول، ومثل هذا الفاعل هو أشبه بالمعدّ منه بالمفيد الجاعل.
فهذا ما تيسر لنا في فهم هذه الآية ومنه الهداية في البداية والنهاية.