التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
-البقرة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

(103) { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } قال الراوي: قلت لأبي محمد عليه السلام فان قوماً عندنا يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لمّا كثر عصيان بني آدم وانزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا وأنهما افتتنا بالزهرة وارادا الزنا بها وشربا الخمر وقتلا النفس المحرمة وأن الله تعالى يعذبهما ببابل وان السحرة منهما يتعلمون السحر وان الله مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة فقال الإمام معاذ الله عن ذلك ان ملائكة الله معصومون محفوظون عن الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله عز وجل فيهم: { { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6] وقال: { { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } [الأنبياء: 19] يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبّحون الليل والنهار لا يفترون، وقال في الملائكة أيضاً بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إلى قوله مشفقون.
وفي العيون عن الصادق عليه السلام مثل ما في تفسير الامام عليه السلام من قوله واتبعوا ما تتلوا الشياطين إلى هنا بزيادة أشرنا إليها في محلها وعن الرضا عليه السلام أنه سئل عما يرويه الناس من امر الزهرة وأنها كانت امرأة فتن بها هاروت وماروت وما يروونه من أمر سهيل وأنه كان عشّاراً باليمن فقال: كذبوا في قولهم انهما كوكبان وانهما كانتا دابتين من دواب البحر فغلط الناس وظنوا أنهما الكوكبان وما كان الله عز وجل ليمسخ أعداءه أنواراً مضيئة ثم يبقيها ما بقيت السموات والأرض وأن المسوخ لم يبق أكثر من ثلاثة أيام حتى ماتت وما تناسل منها شيء وما على وجه الأرض اليوم مسخ وان التي وقع عليها اسم المسوخة مثل القردة والخنزير والدب وأشباهها إنما هي مثل ما مسخ الله عز وجل على صورها قوماً غضب الله عليهم ولعنهم بانكارهم توحيد الله وتكذيبهم رسله وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا به من سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم وما علّما أحداً من ذلك شيئاً الا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه وجعلوا يفرّقون بما تعلّموه بين المرء وزوجه.
أقول: واما ما كذّبوه عليهم السلام من امر هاروت وماروت ومسخ زهرة وقصّتهم المشتهرة بين الناس فقد ورد عنهم عليهم السلام في صحتها أيضاً روايات والوجه في الجمع والتوفيق أي يحمل روايات الصحة على كونها من مرموزات الأوائل وإشاراتهم وإنهم لما رأوا ان حكاتها كانوا يحملونها على ظاهرها كذّبوها ولا بأس بإيرادها وحلّها فان هاهنا محلها.
القمّي والعياشي عن الباقر عليه السلام أنه سأله عطاء عن هاروت وماروت فقال عليه السلام إن الملائكة كانوا ينزلون من السماء إلى الرض في كل يوم وليلة يحفظون أعمال أوساط أهل الأرض من ولد آدم ومن الجنّ ويسطرونها ويعرجون بها إلى السماء قال فضجّ أهل السماء من أعمال أوساط أهل الأرض في المعاصي والكذب على الله تعالى وجرأتهم عليه ونزّهوا الله مما يقولون ويصفون فقالت طائفة من الملائكة يا ربّنا اما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك وما يصفون فيك الكذب ويقولون الزّور ومما يرتكبونه من المعاصي التي نهيتهم عنها وهم في قبضتك وتحت قدرتك قال: فأحب الله عز وجل أن يرى الملائكة سابق علمه في جميع خلقه ويعرّفهم ما منّ به عليهم مما طبعهم عليه من الطاعة وعدل به عنهم من الشهوات الإِنسانية فأوحى الله عز وجل إليهم أن انتدبوا منكم ملكين حتى اهبطهما إلى الأرض واجعل فيهما الطبائع البشرية من الشهوة والحرص والأمل كما هو في ولد آدم ثم اختبرهما في الطاعة لي ومخالفة الهوى قال: فندبوا لذلك هاروت وماروت وكانا من أشد الملائكة قولاً في العيب لولد آدم واستيثار غضب الله تعالى عليهم فأوحى الله سبحانه وتعالى إليهما اهبطا إلى الأرض فقد جعلت فيكما طبائع الشهوات والحرص والأمل وأمثالها كما جعلت في بني آدم واني آمركما ألا تشركا بي شيئاً ولا تقتلا النفس التي حرمتها ولا تزنيا ولا تشربا الخمر ثم اهبطا إلى الأرض في صورة البشر ولباسهم فَهَبطا في ناحية بابل فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه فإذا ببابه امرأة جميلة حسناء متزينة متعطرة مسفرة مستبشرة نحوهما فلمّا تأملا حسنها وجمالها وناطقاها وقعت في قلوبهما أشد موقع واشتد بهما الشهوة التي جعلت فيهما فمالا إليها ميل فتنة وخذلان وحادثاها وراوداها عن نفسها فقالت لهما إن لي ديناً ادين به وليس في ديني أن أجيبكما إلى ما تريدان الا ان تدخلا في ديني فقالا وما دينك فقالت لهما: إن لي إلهاً من عبد وسجد له فهو ممن في ديني وأنا مجيبه لما يسأل مني فقالا وما إلهك فقالت إلهي هذا الصنم فنظر كل إلى صاحبه فقال له: هاتان خصلتان مما نهينا عنه الزنا والشرك لأنّا إن سجدنا لهذا الصنم وعبدنا أشركنا بالله وهو ذا نحن نطلب الزنا ولا نقدر على مغالبة الشهوة فيه ولن يحصل بدون هذا قالا لها: إنّا نجيبك إلى ما سألت قالت: فدونكما هذه الخمرة فاشربا فإنها قربان لكما منه وبها تبلغان مرادكما فائتمرا بينهما وقالا: هذه ثلاث خصال مما نهينا عنها الشرك والزنا وشرب الخمر وإنّا لا نقدر على الزنا إلا بهاتين حتى نصل إلى قضاء وطرنا فقالا ما أعظم البليّة بك فقد أجبناك قالت: فدونكما اشربا هذه الخمر واسجدا للصنم فشربا الخمر وسجدا ثم راوداها فلما تهيأت لذلك دخل عليهما سائل فرآهما على تلك الحالة فذعرا منه، فقال: ويلكما قد خلوتما بهذه المرأة المعطّرة الحسناء وقعدتما منها على مثل هذه الفاحشة إنّكما لرجلا سوء لأفعلنّ بكما وخرج على ذلك فنهضت، فقال: لا وإلهي لا تصلان الآن إلي وقد اطلّع هذا الرجل علينا وعرف مكانكما وهو لا محالة يخبر بخبركما فبادرا واقتلاه قبل أن يفضحنا جميعاً ثم دونكما فاقضيا وطركما مطمئنين آمنين فأسرعا إلى الرجل فأدركاه وقتلاه ثم رجعا إليها فلم يرياها وبدت لهما سوءاتهما ونزع عنهما رياشهما واسقطا في ايديهما، وسمعا هاتفاً: إنكما هبطتما إلى الأرض بين البشر من خلق الله تعالى ساعة من النهار فَعَصَيتما بأربع من كبائر المعاصي وقد نهاكما عنها وقدم إليكما فيها ولم تراقباه ولا استحييتما منه وقد كنتما أشد من نقم على أهل الأرض المعاصي واسجر غضبه عليهم ولما جعل فيكما من طبع خلقه البشري وكان عصمكم من المعاصي كيف رأيتم موضع خذلانه فيكم قال وكان قلبهما في حب تلك المرأة ان وضعا طرائق من السحر ما تداوله أهل تلك الناحية.
قال الإمام عليه السلام: فخيرهما الله عز وجل بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فقال أحدهما لصاحبه نتمتع من شهوات الدنيا إذ صرنا إليها إلى أن نصير إلى عذاب الآخرة فقال الآخران: عذاب الدنيا له انقطاع وعذاب الآخرة لا انقطاع له وليس حقيق بنا أن نختار عذاب الآخرة الشديد الدائم على عذاب الدنيا المنقطع الفاني: قال فاختارا عذاب الدنيا وكانا يعلمان الناس السحر بأرض بابل ثم لما علّما الناس السحر رفعا من الأرض إلى السماء معذبان منكّسان معلّقان في الهواء إلى يوم القيامة.
والعياشي عن ابي الطفيل قال كنت في مسجد الكوفة فسمعت علياً وهو على المنبر فناداه ابن الكّوا وهو في مؤخر المسجد فقال: يا أمير المؤمنين عليه السلام ما الهدى؟ قال: لعنك الله أولم تسمعه ما الهدى تريد ولكن العمى تريد.
ثم قال عليه السلام: ادن فدنا منه فسأله عن أشياء فأخبره فقال: أخبرني عن هذه الكوكبة الحمراء يعني الزهرة قال: إن الله اطلع ملائكته على خلقه وهم على معصية من معاصيه فقال الملكان هاروت وماروت هؤلاء الذين خلقت آباهم بيدك واسجدت له ملائكتك يعصونك قال فلعلكم لو ابتليتم بمثل الذي ابتليتم به عصيتموني كما عصوني قالا: لا وعزّتك قال: فابتلاهم بمثل الذي ابتلي به بني آدم من الشهوة ثم أمرهم أن لا يشركوا به شيئاً ولا يقتلوا النفس التي حرم الله ولا يزنوا ولا يشربوا الخمر ثم اهبطهما إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس هذا في ناحية وهذا في ناحية فكانا بذلك حتى أتت أحدهما هذه الكوكبة تخاصم إليه وكانت من أجمل الناس فأعجبته فقال لها: الحق لك ولا أقضي لك حتى تمكنيني من نفسك فواعدت يوماً ثم أتت الآخر فلما خاصمت إليه وقعت في نفسه واعجبته كما أعجبت الآخر فقال لها مثل مقالة صاحبه فواعدته الساعة التي واعدت صاحبه فاتفقا جميعاً عندها في تلك الساعة فاستحي كل واحد من صاحبه حيث رآه وطأطأ رؤوسهما ونكّسا ثم نزع الحياء منهما فقال أحدهما لصاحبه يا هذا جاء بي الذي جاء بك قال ثم اعلماها وراودا عن نفسها فأبت عليهما حتى يسجدا لوثنها ويشربا من شرابها فأبيا عليها وسألاها فأبت الا أن يشربا من شرابها فلما شربا صلّيا لوثنها ودخل مسكين فرآهما فقالت لهما يخرج هذا فيخبر عنكما فقاما إليه فقتلاه ثم راوداها عن نفسها فأبت حتى يخبرانها بما يصعدان به إلى السماء وكان يقضيان بالنهار فإذا كان الليل صعدا إلى السماء فأبيا عليها وابت أن تفعل فأخبراها فقالت: ذلك لتجرب مقالتهما وصعدت ورفعا أبصارهما إليها فرأيا أهل السماء مشرفين عليها ينظرون إليها وتناهت إلى السماء فمسخت وهي الكوكبة التي ترى.
وفي الخصال عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن جده قال: ان المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر إلى أن قالوا وما الزهرة فكانت امرأة فتنت هاروت وماروت فمسخها الله كوكباً.
وعنه عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن المسوخ قال
"هي ثلاثة عشر إلى أن قال: وأمّا الزهرة فكانت امرأة نصرانية وكانت لبعض ملوك بني إسرائيل وهي التي فتن بها هاروت وماروت وكان اسمها ناهيل والناس يقولون ناهيد" .
وفي العلل عن أبي الحسن عليه السلام في حديث قال: ومسخت الزهرة لأنها كانت امرأة فتن بها هاروت وماروت.
وعنه عن أبيه في حديث قال: واما الزهرة فانها كانت امرأة تسمى ناهيل وهي التي تقول الناس انه افتتن بها هاروت وماروت.
أقول: في نسبة افتتانهما إلى قول الناس دليل على ما قلناه من أنها من المرموزات، وأما حلّها فلعل المراد بالملكين الروح والقلب فانهما من العالم الروحاني اهبطا إلى العالم الجسماني لاقامة الحق فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا ووقعا في شبكة الشهوة فشربا خمر الغفلة وعبدا صنم الهواء وقتلا عقلهما الناصح لهما بمنع تغذيته بالعلم والتقوى ومحو اثر نصحه عن أنفسهما تهيّئا للزنا ببغي الدنيا الدنية التي تلي تربية النشاط والطرب فيها الكوكب المسمى بزهرة فهربت الدنيا منهما وفاتتهما لما كان من عاداتها أن تهرب من طالبيها لأنها متاع الغرور وبقي اشراق حسنها في موضع مرتفع بحيث لا تنالها أيدي طلابها ما دامت الزهرة باقية في السماء وحملهما حبها في قلبهما إلى أن وضعا طرائق من السحر وهو ما لطف مأخذه وذق فخيرا للتخلص منها فاختارا بعد التنبه وعود العقل إليهما أهون العذابين ثم رفعا إلى البرزخ معذّبين ورأسهما بعد إلى أسفل إلى يوم القيامة هذا ما خطر بالبال في حل هذا الرمز وما حل بقية أجزائه التي في رواية أبي الطفيل فموكول إلى بصيرة ذوي البصائر وقيل بل هو إشارة إلى أن الشخص العالم الكامل المقرّب من حظائر القدس قد يوكل إلى نفسه الغرّارة ولا يلحقه العناية والتوفيق فينبد علمه وراء ظهره ويقبل على مشتهياته الحسيّة الخسيسة ويطوي كشحه عن اللّذات الحقيقية والمراتب العليّة فينحطّ إلى أسفل السّافلين والشخص الناقص الجاهل المنغمس في الأوزار قد يختلط بذلك الشخص العالم قاصداً بذلك الفساد والفحشاء فيدركه توفيق إلهي فيستفيد من ذلك العالم ما يضرب بسببه صفحاً عن ادناس دار الغرور وارجاس عالم الزور ويرتفع ببركة ما تعلّمه عن حضيض الجهل والخسران إلى أوج العز والعرفان فيصير المتعلّم في أرفع درج العلاء والمعلّم في أسفل درك الشقاء.
أقول: هذا الحل غير منطبق على الرمز بتمام أجزائه.