التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٨
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٠
-البقرة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (28) { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ الخطاب لكفّار قريش واليهود { وَكُنتُمْ أَمْواتاً } في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم { فأَحْيَاكُمْ } أجرى فيكم الروح وأخرجكم أحياء { ثُمَّ يُمِيِتُكُمْ } في هذه الدنيا ويقبركم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القبور وينعّم فيها المؤمنين ويعذّب الكافرين { ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد الاحياء ثمّ تحيوا للبعث يوم القيامة ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب على الطاعات إن كنتم فاعليها ومن العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها.
{ (29) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }: قال أمير المؤمنين عليه السلام خلق لكم لتعتبروا به وتتوصّلوا به إلى رضوانه وتتقّوا من عذابه نيرانه { ثُمَّ اسْتَوَى إلىَ السّمَاءِ } أخذ في خلقها واتقانها { فَسَوَّاهُنَّ } وقيل عدّلهن مصونة عن العوج والفتور والضمير مبهم يفسره ما بعده { سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٌ } ولهذا خلق ما خلق كما خلق لصالحكم على حسَب ما اقتضته الحكمة.
{ (30) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } الذين كانوا في الأرض مع إبليس وقد طردوا عنها الجنّ بنيّ الجان وخفّفت العبادة.
والقمّي عن الصادق عليه السلام إن إبليس كان بين الملائكة يعبد الله في السماء وكانت الملائكة تظنّه منهم ولم يكن منهم وذلك ان الله خلق خلقاً قبل آدم وكان إبليس حاكماً فيهم فأفسدوا في الأرض وَعَتَوْا وسفكوا بغير حقّ فبعث الله عليهم الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه معهم إلى السماء فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله آدم فلمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وظهر ما كان من حَسَد إبليس له واستكباره علمت الملائكة أنّه لم يكن منهم، وقال إنّما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء ولم يكن من جنسهم.
والعيّاشي عنه عليه السلام أنه سئل عن إبليس أكان من الملائكة أو هل يلي شيئاً من أمر السماء؟ قال: لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء وكان من الجنّ وكان مع الملائكة وكانت الملائكة ترى أنّه منها وكان الله يعلم أنّه ليس منها فلمّا أمر بالسّجود كان منه الذي كان.
وفي الكافي: عنه عليه السلام مثله إلى قوله ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء وزاد بعده ولا كرامة { إنّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } بَدَلاً منكم ورافعكم منها فاشتد ذلك عليهم لأن العبادة عند رجوعهم إلى السماء تكون أثقل عليهم.
وفي رواية خليفة تكون حجّة لي في أرضي على خلقي كما يأتي { قَالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ } كما فعلته الجنّ بني الجانّ الذين قد طردناهم عن هذه الأرض { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ننزّهك عمّا لا يليق بك من الصفات { وَنُقَدِّسُ لَكَ } نطهّر أرضك ممّن يعصيك. { قَالَ إنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الصلاح الكامن فيه ومن الكفر الباطن في من هو فيكم وهو إبليس لعنه الله.
القمّي عن الباقر عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، ورواه في العلل أيضاً عنه عليه السلام على اختلاف في ألفاظه قال: إنّ الله لما أراد أن يخلق خلقاً بيده وذلك بعدما مضى عن الجنّ والنّسناس في الأرض سبعة آلاف سنة فرفع سبحانه حجاب السموات وأمر الملائكة أن انظروا إلى أهل الأرض من الجنّ والنّسناس فلمّا رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحقّ عظم ذلك عليهم وغضبوا الله تعالى وتأسفوا على الأرض ولم يملكوا غضبهم وقالوا ربّنا انت العزيز القادر العظيم الشأن وهذا خلقك الذّليل الحقير المتقلّب في نعمتك المتمتّع بعافيتك المرتهن في قبضتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب ويفسدون في الأرض ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك وأنت تسمع وترى وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه لك، فقال جل جلاله: إنّي جاعل في الأرض خليفة تكون حجّة لي في أرضي على خلقي. قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد هؤلاء ويسفك الدماء كما فعل هؤلاء ويتحاسدون ويتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فانّا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدّس لك، قال تبارك وتعالى: إنِّي أعلم ما لا تعلمون إنِّي أُريد أن أخلق خلقاً بيدي واجعل من ذرّيته الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصَّالحين وأئمّة مهديّين واجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي يهدونهم إلى طاعتي وينهونهم عن معصيتي واجعلهم حجّة لي عليهم عذراً ونذراً وأبين النّسناس عن أرضي واطهّرها منهم وأنقل الجنّ المردة العصاة عن بريّتي وخيرتي من خلقي وأسكنهم في الهواء وفي اقفار الأرض فلا يجاورون خلقي واجعل بين الجنّ وبين نسل خلقي حجاباً ومن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم أسكنتهم مسكن العصاة وأوردتهم مواردهم فقالت الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا قال: فباعدهم الله عز وجل من العرش مسيرة خمسماءة عام فلاذوا بالعرش وأشاروا بالأصابع فنظر الربّ جلّ جلاله إليهم ونزلت الرّحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال: طوفوا به ودعوا العرش فانّه لي رضاً. فطافوا به وهو البيت الذي يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً ووضع الله البيت المعمور توبة لأهل السماء والكعبة توبة لأهل الأرض فقال الله تبارك وتعالى:
{ { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 28] قال وكان ذلك من الله تعالى تقدمه في آدم قبل أن يخلقه واحتجاباً منه عليهم قال فاغترف جلّ جلاله من الماء العذب الفرات غرفة بيمينه وكلتا يديه يمين فَصَلْصَلَهَا فجمدت، وقال الله جلّ جلاله: "منك أخلق النّبيين والمرسلين وعبادي الصَّالحين والأئمّة المهديّين الدّعاة إلى الجنّة واتباعهم إلى يوم القيامة ولا أُسئلُ عمّا أفعل وهم يسألون" . ثم اغترف من الماء المالح الأجاج غرفة فَصَلْصَلَهَا فجمدت فقال تعالى: "ومنك أخلق الفراعنة والجبابرة واخوان الشياطين والعتاة والدعاة إلى النار وأشياعهم إلى يوم القيامة ولا أُسْئَلُ عَمّا أفعل وهم يسألون" قال وشرط في ذلك البدَاء فيهم ولم يشرط في أصحاب اليمين ثم خلط الماءين جميعاً في كفّه فَصَلْصَلَهَما، ثمّ كفاهما قدّام عرشه وهما سلالة من طين ثم أمر ملائكة الجهات الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور أن يجُولوا على هذه السلالة من الطّين فابرؤها وأنشأوها ثم جزؤوها وفصّلوها وأجروا فيها الطّبَائع الأربع المرّتين والدمّ والبلغم فجالت الملائكة عليها وأجروا فيها الطبائع الأربع فالدّم من ناحية الصّبَا والبلغم من ناحية الشمال والمرّة الصّفراء من ناحية الجنوب والمرّة السّوداء من ناحية الدّبور فاستقلّت النّسمة وكمل البدن فلزمه من جهة الرِّيح حبّ النِّساء وطول الأمل والحرص ومن جهة البلغم حبّ الطّعام والشّراب والبرّ والحلم والرّفق ومن جهة المرّة الغضَبَ والسّفه والشّيطنة والتجبّر والتمرّد والعجلة ومن جهة الدمّ حبّ الفساد واللّذات وركوب المحارم والشّهوات.
قال أبو جعفر عليه السلام: وجدنا هذا في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام وزاد القمي في روايته فخلق الله آدم عليه السلام وبقي أربعين سنة مصوّراً وكان يمرّ به إبليس اللّعين فيقول: لأمرٍ ما خلقت قال العالم عليه السلام: فقال إبليس لئن أمرني الله بالسّجود لهذا عصيته قال ثم فيه الرّوح وبلغت دماغه عطسَ عطسةً وجلس منها مستوياً فقال الحمد لله فأجابه الله عزّ وجلّ يرحمك الله ربّك يا آدم فقال الإمام عليه السالم فَسَبَقت له من الله الرّحمة.
أقول: أكثر ما تضمنه هذا الحديث قد روي في أخبار كثيرة عنهم عليهم السلام.
وفي رواية العياشي أن الملائكة منّوا على الله بعبادتهم إيّاه فأعرض عنهم وأنّهم قالوا في سجودهم في أنفسهم ما كنّا نظنّ أن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا نحن خزّانُ الله وجيرانه وأقرب الخلق إليه فلمّا رفعوا رؤوسهم قال الله واعلم ما تبدون من ردّكم عليّ وما كنتُمْ تكتمون من ظنّكم أنِّي لا أخلق خلقاً أكرم عليّ منكم فلمّا عرفت الملائكة أنّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش وانّها كانت عصابة من الملائكة ولم يكن جميعهم. الحديث.
وعن الباقر عليه السلام كان ذلك تعصّباً منهم فاحتجب عنهم سبع سنين فلاذوا بالعرش يقولون لبّيك ذا المعارج لبّيك حتّى تاب عليهم فلمّا أصابَ آدم الذّنب طاف بالبيت حتّى قبل الله منه.
وفي الكافي والعيّاشي عنه عليه السلام فغضب الله عليهم ثمّ سألوه التّوبة فأمرهم أن يطوفوا بالضّراح وهو البيت المعمور فمكثوا يطوفون به سبع سنين يستغفرون الله ممّا قالوا ثم تاب الله عليهم من بعد ذلك ورضي عنهم فكان هذا أصل الطّواف ثم جعل الله البيت الحرام حذاء الضّراح توبةً لمن أذنب من بني آدم وطهوراً لهم.
وفي العِلل عن الصادق عليه السلام فحَجَبَهم عن نوره سبعة آلاف عام فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة فرحمهم وتاب عليهم وجعل لهم البيت المعمور الذي في السماء الرابعة فجعله مثابة لهم وأمناً ووضع البيت الحرام تحت البيت المعمور فجعله مثابةً للنّاسِ وأمناً فصار الطّواف سبعة أشواط أوجب على العباد لكلّ ألف سنة شوطاً.
أقول: لا منافاة بين السبع سنين وسبعة آلاف عام لأنّ مدّة السّنين والأيام تختلف باختلاف النّشئات والعوالم، قال الله تعالى:
{ { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] وقال { { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج: 47] فيجوز أن يكون تارة عدّه بسنّي نشأة وأخرى بسنّي أخرى.