التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
١٢٣
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
-الأنعام

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (123) وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } أي كما جعلنا في مكة والمعنى خلّيناهم وشأنهم ليمكروا ولم نكفّهم عن المكر وانّما خصّ الأكابر لأنّهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم { وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ } لأنّ وباله يحيق بهِم { وَمَا يَشْعُرُونَ } ذلك.
{ (124) وَإذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ } القميّ قال الأكابر { لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ } روى أنّ أبا جهل قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منَّا نبيّ يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ونحوه قوله عزّ وجلّ
{ { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [المدثر: 52] { اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } استيناف للردّ عليهم بأنّ النبوّة ليست بالنّسب والمال وانّما هي بفضائل نفسانيّة يخصّ الله بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالته من علم أنّه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي فيه يضعها وقرئ رسالاته { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أجْرَمُواْ صَغَارٌ } ذل وحقارة بعد كبرهم { عِنْدَ اللهِ } يوم القيامة وقيل من عند الله { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } القميّ أي يعصون الله في السِّرَ.
{ (125) فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ } يعرفه الحق ويوفقه للإِيمان { يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } فيتّسع له ويفسح فيه مجاله وهو كناية عن جعل القلب قابلاً للحق مهيّئاً لحلوله فيه مصفّى عمّا يمنعه وينافيه.
في المجمع قد وردت الرواية الصحيحة أنّه
"لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلىّ الله عليه وآله وسلم عن شرح الصّدر وما هو قال نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن فينشرح صدره وينفسح قالوا فهل لذلك من امارة يعرف بها فقال نعم الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والإِستعداد للموت قبل نزول الموت" { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } بحيث ينبو عن قبول الحقّ فلا يدخله الإِيمان وقرئ ضَيْقاً بالتخفيف وحَرِجاً بالكسر أي شديد الضّيق.
في المعاني عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قال قد يكون ضيّقاً وله منفذ يسمع منه ويبصر والحَرِج هو الملتأم الذي لا منفذ له يسمع به ولا يبصر منه.
والعياشي عنه عليه السلام أنّه قال لموسى بن أسمر أتدري مَا الحرج قال قلت لا فقال بيده وضمّ أصابعه كالشّيء المصمت الذي لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء { كََأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ } يتصعّد وقرىء بالتخفيف ويصاعد بمعنى يتصاعد مبالغة في ضيق صدره بتشبيهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فانّ صعود السّماءِ مثل فيما يبعد عن الإِستطاعة ويضيق عند القدرة { كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
العياشي عن الصادق عليه السلام هو الشك.
وفي الكافي عنه عليه السلام أنّ القلب ليتخلخل في الجوف يطلب الحق فاذا أصابَه اطمأن به وقرّ ثمّ تلا فمن يرد الله أن يهديه الآية.
والعياشي مثله وفي رواية قال انّ القلب ينقلب عن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فاذا أصاب الحق قرّ ثم تلا هذه الآية.
وفي المجمع عنه عليه السلام مثله.
أقول: يتخلخل بالخاءين المعجمتين أو الجيمين أي يتحرّك.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام أنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور فأضاء لها سمعه وقلبه حتّى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم وإذا أراد بعبد سوءً نكت في قلبه نكتة سوداء فأظلم لها سمعه وقلبه ثم تلا فمن يرد الله أن يهديه الآية.
وفيه وفي التوحيد والعياشي عنه عليه السلام أنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكّل به ملكاً يسدّده وإذا أراد بعبد سوءً نكت في قلبه نكتة سوداء سدّ مسامع قلبه ووكّل به شيطاناً يضلّه ثمّ تلا هذه الآية.
وفي الكافي عنه عليه السلام في حديث واعلموا أنّ الله إذا أراد بعبد خيراً شرح الله صدره للإسلام فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحقّ وعقد قلبه عليه فعمل به فإذا جمع الله له على ذلك تمّ له اسلامه وكان عند الله ان مات على ذلك الحال من المسلمين حقّاً واذا لم يرد الله بعبد خيراً وكّله إلى نفسه فكان صدره ضيّقاً حرجاً فان جرى على لسانه حقّ لم يعقد قلبه عليه وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به فاذا اجتمع ذلك عليه حتّى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحقّ الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه ولم يعطه العمل به حجة عليه فاتّقوا الله وسلوه أن يشرح صدروكم للإِسلام وان يجعل ألسنتكم تنطق بالحكمة حتّى يتوفّاكم وأنتم على ذلك.
وفي التوحيد والمعاني والعيون عن الرّضا عليه السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنّته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتّسليم لله والثّقة به والسّكون إلى ما وعده من ثوابه حتّى يطمئن به إليه ومن يرد أن يضلّه عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدّنيا يجعل صدره ضّيقاً حرجاً حتّى يشكّ في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتّى يصير { كأنمّا يَصَّعَّدُ في السّماءِ كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون }.