التفاسير

< >
عرض

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٠٦
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٠٧
-التوبة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (106) وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ } مؤخّرون أي موقوف أمرهم من ارجأته إذا أخّرته وقرئ مرجون بالواو وهو بمعناه { لأَمْرِ اللهِ } في شأنهم { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يُتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ } بأحوالهم { حَكِيمٌ } فيما يفعل بهم.
في الكافي والعياشي عن الباقر عليه السلام والقميّ عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ثم أنّهم دخلوا في الإِسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرّك ولم يعرفوا الإِيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم الله وإمّا يتوب عليهم.
{ (107) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً } وقرىء الذين بدون الواو لأنّه قصّة برأسها.
في الجوامع روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قباء وصلّى فيه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجداً نصلِّي فيه ولا نحضر جماعة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وهويتجهّز إلى تبوك إنّا نحبّ أن تأتينا فتصليّ لنا فيه فقال إنّي على جناح سفر ولمّا انصرف من تبوك نزلت فأرسل من هدم المسجد وأحرقه وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيه الجيف والقمامة { ضِرَاراً } مضارة للمؤمنين أصحاب مسجد قباء { وَكُفْراً } أو تقوية للكفر الذي كانوا يضمرونه { وَتَفْرِيقاً بِيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } الذين كانوا يجتمعون للصّلاة في مسجد قبا أرادوا أن يتفرّقوا عنه تختلف كلمتهم { وَإِرْصَاداً } واعداداً أو ترقَباً { لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } يعني أبا عامر الراهب قيل بنوه على قصد أن يؤمّهم فيه أبو عامر إذا قدم من الشام.
في الجوامع أنّه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فلمّا قدم النبيّ المدينة حَسَده وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة وخرج إلى الرّوم وتنصر وكان هؤلاء يتوقعون رجوعه إليهم وأعدّوا هذا المسجد له ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وانّه كان يقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزواته إلى أن هرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله ومات بقنسرين وحيداً { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إلاَّ الْحُسْنَى } ما أردنا ببنائه إلاَّ الخصلة الحُسنى وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين { وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في حلفهم.
القميّ
"كان سبب نزولها انه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم للعليل والليلة والمطيرة والشيخ الفاني فأذن لهم رسول الله صلِّى الله عليه وآله وسلم وهو على الخروج إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله لو أتيتنا فَصَلَّيت فيه قال: أنا على جناح السّفر فإذا وافيت إن شاء الله آتيه وأصلّي فيه.
فلمّا أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من تبوك نزلت عليه هذِهِ الآية"
في شأن المسجد وأبي عامر الرّاهب وقد كانوا حلفوا لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أنّهم يبنون ذلك للصّلاح والحسنى فأنزل الله على رسوله { والذين اتخّذوا مسجداً } الآية قال: وإرصاداً لمن حارب الله يعني أبا عامر الرّاهب كان يأتيهم فيذكر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وفي تفسير الإِمام عليه السلام عند قوله
{ { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } [الآية: 104] من سورة البقرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الأخبار من صاحب دومة الجندل وكان ملك النواحي له مملكة عظيمة ممّا يلي الشام وكان يهدّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقصده وقتل أصحابه وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خائفين وجلين من قبله.
قال ثمّ إنّ المنافقين اتّفقوا وبايعُوا لأبي عامر الرّاهب الذي سمّاه رسول الله صلَّى الله علي وآله وسلم الفاسق وجعلوه أميراً عليهم ونجعوا له بالطّاعة فقال لهم الرّأي أن أغيب عن المدينة لئلاّ أتّهم إلى أن يتم تدبيركم وكاتبُوا اكَيْدِر صاحب دومة الجندل ليقصد الى المدينة فأوحى الله إلى محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم وعرّفه ما أجمعوا عليه من أمره وأمره بالمسير إلى تبُوك وكان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كلّما أراد غزواً ورّى بغيره إلاّ غزاة تبوك فانّه أظهر ما كان يريده وأمرهم أن يتزوّدُوا لها وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون وذمّهم الله في تثبّطهم عنها وأظهر رسول الله صلَّى الله علي وآله وسلم ما أوحى الله تعالى إليه أنّ الله سيظهره باُكَيْدر حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية ذهب في رجب ومأتي حلّة وألف أوقيّة في صفر وينصرف سالماً إلى ثمانين يوماً.
فقال لهم رسول الله إنّ موسى وعد قومه أربعين ليلة وإنّي أعدكم ثمانين ليلة ارجع سالماً غانماً ظافراً بلا حرب يكون ولا يشتاك أحد من المؤمنين.
فقال المنافقون لا والله ولكنها آخر كرامة كذا الّتي لا ينجبر بعدها إن أًصحابه ليموت بعضهم في هذا الحرّ ورياح البوادي ومياه المواضع المؤذية الفاسدة ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر وقتيل وجريح واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها بعضهم يعتلّ بالحرّ وبعضهم بمرض بجسده وبعضهم بمرض في عياله وكان يأذن لهم.
فلمّا أصبح وصحّ عزم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم على الرّحلة إلى تبوك عمد هؤلاءِ المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجداً وهو مسجد الضرار يريدون الإِجتماع فيه ويوهمون أنّه للصّلاة وإنّما كان ليجتمعوا فيه لعلّة الصّلاة فيتمّ تدبيرهم ويقع هناك ما يسهل به لهم ما يريدون ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قالوا يا رسول الله إنّ بيوتنا قاصية عن مسجدك فإنّا نكره الصّلاة في غير جماعة ويصعب علينَا الحضور وقد بنينا مسجداً فإن رأيت أن تقصده وتصلّي فيه لنتيمّن ونتبرّك بالصّلاة في موضع مصلاك.
فلم يعرّفهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما عرّفه الله عن أمرهم ونفاقهم وقال ائتوني بحماري فأُتي باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم فكلّما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش فاذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سيره وأطيبه قالوا لعلّ هذا الحمار قد رأى من الطريق شيئاً كرهه ولذلك لا ينبعث نحوه.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ائتوني بفرس فركبه فلمّا بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث وكلّما حرّكوه نحوه لم يتحرّك حتّى اذا فتلوا رأسه إلى غيره سار أحسَنَ سير فقالوا ولعلّ هذا الفَرس قد كره شيئاً في هذا الطريق فقال تعالوا نمش إليه فلمّا تعاطى هو ومن معه المشي نحو المسجد جفّوا في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة واذا همّوا بغيره من المواضع خفّت حركاتهم ونقيت أبدانهم وبسطت قلوبهم.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم هذا أمر قد كرهه الله وليس يريده الآن وأنا على جناح سفر فامهلوني حتّى أرجع إن شاء الله ثم انظر في هذا نظراً يرضاه الله وجدّ في العزم على الخروج إلى تبوك وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا فأوحى الله تعالى إليه يا محمّد إنّ العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويقول إمّا أن تخرج أنت ويقيم عليّ وإمّا أن يخرج عليّ وتقيم أنت فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذاك لعليّ فقال عليّ السمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله وان كنت أحبّ أن لا أتخلّف عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في حال من الأحوال.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هرون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي قال رضيت يا رسول الله فقال له رسول الله يا أبا الحسن إنّ أجر خروجك مَعِيَ في مقامك بالمدينة وانّ الله قد جعلك أمّة وحدك كما جعل إبراهيم أمّة تمنع جماعة المنافقين والكفّار هيبتك عن الحركة على المسلمينَ.
فلما خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وشيعه عليّ خاض المنافقون وقالوا إنّما خلّفه محمّد بالمدينة لبغضه له وملاله منه وما أراد بذلك إلاّ أن يبيته المنافقون فيقتلوه فاتّصل ذلك برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال عليّ أتسمع ما يقولون يا رسول الله.
فقال رسول الله ما يكفيك أنّك جلدة ما بين عينيّ ونور بصري وكالرّوح في بدني ثم سار رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بأصحابه وقام عليّ بالمدينة فكان كلّما دبّر المنافقون أن يواقعوا بالمسلمين فزعوا من عليّ وخافوا أن يقوم معه عليهم يدفعهم عن ذلك وجعلوا يقولون فيما بينهم هي كرّة محمّد التي لا يؤب منها ثمّ ذكر قصّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مع اُكيْدِر وأخذه له وصلحه معه على ما مرّ ذكره.
ثم قال وعاد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم غانماً ظافراً وابطل الله كيد المنافقين وأمر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم باحراق مسجد الضرّار فأنزل الله تعالى والذي اتخذوا مسجداً ضراراً الآيات ثم ذكر أنّ أبا عامر الرّاهب كان عجل هذه الأمّة كعجل قوم موسى وانّه دمّر الله عليه وأصابه بقولنج وبرص وفالج ولقوة وبقي أربعينَ صباحاً في أشدّ عذاب ثمّ صار إلى عذاب الله.