التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
١٦٨
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ } من انواع المأكول والمشروب ولا بأس بتعميم الاكل والآكل والمأكول فانّ القوى كلّها لها أكل ومأكول خاصّان بها، والمراد نفى البأس او ايجاب الاكل او استحبابه بحسب الاشخاص بالنّسبة الى الاكل بالفم وسماع الاصوات الحسنة والنّظر الى الامور المعجبة وشمّ الرّوائح الطيّبة ولمس الملموسات الشّهيّة وهو تعريض بمن يتحرّج عن اكل الطيّبات ولبس الملابس البهيّة وعن النّكاح وغيرها من حظوظ النّفس نعم صرف الهمّ اليها وجعلها غاية للخلقة او ترك اتّباع الخلفاء او اتّباع من لا يستأهل للاتّباع والعداوة مع من يستأهل للاتّباع كلّها حرام وكلّما فعل هذا التّارك للاتّباع كان حراماً، سواء اكل الجريش او الشّهىّ، وسواء لبس الخرق او الجميل، وسمع الصّوت المنكر او الحسن وهكذا لكن ليس الحرمة بحسب ظاهر الشّريعة، والتّابع للامام (ع) اذا وجد انّ ارتكاب شيءٍ من ملاذّ النّفس يقوّى دواعيه النّفسانيّة ويضعّف داعى العقل كان عليه الاجتناب منه وسنبيّن وجه اختلاف هذه الآية مع قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172] { حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } فى ترك الأكل والتحرّج بالطيّبات الّتى لم يحظرها الشّريعة او فى الاكل كما نبيّنه.
بيان خطوات الشّيطان
والخطوة اثر القدم او الفرجة بين القدمين والمراد بخطوات الشّيطان الخيالات والخطرات الفاسدة والاهوية الكاسدة الناشئة منها واتّباع خطواته فى المأكول تحصيله من غير وجهه وفى الاكل ان يؤكل المأكول حين كون الاكل تابعاً لائمّة الضّلالة او معانداً لائمّة الهدى او غافلاً عن الاتّباع لائمّة الهدى وائمّة الضّلالة او تابعاً لائمّة الهدى غافلاً عن التّبعيّة وعن ذكر الله آكلا لمحض تشهّى النّفس من غير ملاحظة أمرٍ من الله وقوّةٍ للبدن وابقاءٍ لمركب الرّوح للعبادة وبالجملة الآكل اذا كان مسلماً حقيقة او مؤمناً بالايمان الخاصّ وكان متذكّراً لله وآكلا لامره تعالى واباحته تعالى لتقوية ظهره وبقاء بدنه للعبادة وتفريح نفسه بسبب الوصول الى حظوظها وكان المأكول ممّا أباح الشّريعة كان أكله من غير اتّباع لخطوات الشّيطان، وان كان غير ذلك كان أكله باتّباع خطوات الشّيطان وكان غذاؤه مقوّياً للشّيطان المغوى ومضعّفاً للملك الزّاجر وقد ذكروا أنّ الاكل مع تشتّت البال يورث التفرقة فى الخاطر ومع جمعيّته يورث الاطمئنان وجمعيّة الخاطر، فاحذروا اخوانى من اتّباع خطوات الشّيطان فانّ اتّباعه يجعله متمكّناً منكم بحيث لا يمكنكم الفرار منه، وقد يؤوّل خطوات الشّيطان بأئمّة الضّلالة فانّهم المتحقّقون بخطوات الشّيطان كأنّه ليس فى وجودهم الاّ اثره { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر عداوته او مظهرٌ لعداوته على من كان له جهة الهيّة لا على غيره.
اعلم انّ الشّيطان من عالم الظّلمة وأنّ الظّلمة ضدٌّ للنّور ومفنيةٌ له كما انّ النّور ضدٌّ لها ومفنيها وانّ الانسان ببدنه ونفسه واقعٌ بين عالمى النّور والظّلمة وقابل لتصرّفها وانّ كلّ شيءٍ يقتضى بالفطرة ان يصير مجاورة سنخه وانّ كلّ ذا شعورٍ يقتضى بفطرته السّعة والاحاطة بما يمكن له الاحاطة به ولهذا كان كلّ عاقلٍ يطلب الاحاطة العلميّة بما لم يعلمه وانّ اللّطيفة السيّارة الانسانيّة طليعة من عالم النّور تنزّلت منه وأشرقت على النّفس الحيوانيّة والانسانيّة وهذه الطّليعة ما دامت باقيةً لا يتيسّر للشّيطان التصرّف التامّ فى الانسان، واذا انطفت صار ملك الانسان ملكاً للشّيطان من غير معارضٍ، فاذا تحقّق ذلك علم انّ الشّيطان عداوته للانسان ذاتيّة ظاهرة على من كانت هذه اللّطيفة فيه باقية.