التفاسير

< >
عرض

لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٨٦
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً } بشيءٍ من تكاليف المعاد والمعاش والجملة جواب لسؤالٍ مقدّرٍ كأنّه قيل: هل يخرجون من عهدة التّكليف بعد ما قالوا سمعنا وأطعنا؟ - فقال: لا يكلّف الله نفساً { إِلاَّ وُسْعَهَا } حتّى لا يخرجوا من عهدته ويجوز ان تكون الجملة حالاً مفيدة لهذا المعنى والمراد بالوسع ما يسعه قدرتهم وتفضل هى عنه { لَهَا مَا كَسَبَتْ } حال او جواب لسؤالٍ مقدّرٍ { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } يعنى انّ نفع حسناتها عائدةٌ اليها لا الى غيرها وكذا ضرّ سيّئاتها، وكسب المال بمعنى اصابه من غير اعتبار تعمّل فى تحصيله بخلاف اكتسب فانّ المعتبر فيه التعمّل والاجتهاد واستعمال الكسب فى الطّاعات والمعاصى للاشارة الى انّ الحركات الصّادرة من الانسان بوفاق الامر الالهىّ وبخلافه مورثة لحصول شؤن نورانيّة او ظلمانيّة للنّفس هى كالاموال الحاصلة بالحركات المعاشيّة واستعمال الكسب فى جانب الخير للاشعار بانّ الانسان لمّا كانت فطرته فطرة الخير كان كلّما يحصل له من طريق الخير يبقى للنّفس والنّفس اذا خليّت وطبعها لا تتعمّل فى كسب الخير بخلاف الشّرّ فانّه اذا لم يتعمّل الانسان فى تحصيله لم يبق اثره لنفسه وانّ النّفس اذا خليّت وطبعها لا تحصل الشّرّ الاّ بالتعمّل { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } جزء مقول المؤمنين وقوله تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ }؛ كانت معترضة { إِن نَّسِينَآ } شيئاً من المأمور بها { أَوْ أَخْطَأْنَا } فى شيءٍ من المنهيّات، والخطاء كالنّسيان يكون فى الفعل الّذى لم يكن الفاعل على عزيمة فيه { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } الاصر بالكسر العهد والذنب والثقل وقد يضمّ ويفتح فى الكلّ والمراد به هنا الثّقل او الحمل الثّقيل وحمل الاصر من الله عبارة عن التّكاليف الشاقّة الّتى كانت فى الامم السّالفة كما سيأتى وعن الواردات الّى كان تحمّلها شاقّاً مثل الواردات الّتى كانت فى بنى اسرائيل على ما روى انّ القبط كانوا يقيّدونهم بالاغلال ثمّ يكلّفونهم نقل الطّين واللّبن على السلالم، وعن الواردات النّفسانيّة الّتى كان تحمّلها شاقّاً قبل الاسلام والايمان من مهيّجات الغضب والشّهوة ومن المصائب الواردة { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } من الامم السّالفة والجنود النّفسانيّة { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من التّكاليف والبلايا الّتى هى فوق الطّاقة، ووجه استعمال التّحميل الدّالّ على المبالغة هاهنا والحمل الدّالّ على مطلق الحمل هناك يستفاد من مفعولهما { وَٱعْفُ عَنَّا } عفى عنه ذنبه ترك العقوبة عليه او طهّر القلب من الحقد عليه، وقد يستعمل العفو فى المحو والامحاء { وَٱغْفِرْ لَنَا } واستر ذنوبنا عن خلقك او عن انفسنا لانتفاعنا { وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا } تعليل واستعطاف { فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } من الشّياطين الانسيّة والجنيّة فى خارج وجودنا او داخله فانّه حقيق على المولى ان ينصر مواليه على اعدائه. وفى الاخبار انّ هذه الآية مشافهة الله لنبيّه (ص) حين أسرى به الى السّماء فأوحى الى عبده ما اوحى فكان فيما اوحى اليه هذه الآية { لِلَّهِ ما فِي ٱلسَّمَاواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكانت الآية قد عرضت على الانبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله تبارك اسمه محمّداً (ص) وعرضت على الامم فأبوا ان يقبلوها من ثقلها وقبلها رسول الله (ص) وعرضها على امّته فقبلوها فلمّا رأى الله عزّ وجلّ منهم القبول على انّهم لا يطيقونها فلمّا ان سار الى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه فقال { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ } [البقرة: 285] فأجاب مجيباً عنه وعن امّته فقال: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة: 285]، فقال جلّ ذكره لهم الجنّة والمغفرة على ان فعلوا ذلك، فقال النّبىّ (ص) امّا اذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا واليك المصير يعنى المرجع فى الآخرة، قال فأجابه الله عزّ وجلّ وقد فعلت ذلك بك وبامّتك، ثمّ قال عزّ وجلّ امّا اذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الامم فأبوا ان يقبلوها وقبلتها امّتك فحقّ علىّ ان ارفعها عن امّتك، وقال: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ } من خير { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } من شرّ فقال النّبىّ (ص) لمّا سمع ذلك امّا اذا فعلت ذلك بى وبأمّتى فزدنى، قال: سل، قال: { ربّنا لا تؤاخذنا ان نسينا او أخطأنا }. قال الله تعالى: لست اؤاخذ امّتك بالنّسيان والخطاء لكرامة منك علىّ، وكانت الامم السّالفة اذا نسوا ما ذكّروا به فتحت عليهم ابواب العذاب وقد رفعت ذلك عن امّتك، وكانت الامم السّالفة اذا أخطأوا اخذوا بالخطاء وعوقبوا عليه؛ وقد رفعت ذلك عن امّتك لكرامتك علىّ فقال النّبىّ (ص): اللّهم اذا اعطيتنى ذلك فزدنى فقال الله تعالى له سل، قال: { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } يعنى بالاصر الشّدائد الّتى كانت على من كان قبلنا فأجابه الله تعالى الى ذلك فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن امّتك الآصار الّتى كانت على الامم السّالفة كنت لا اقبل صلاتهم الاّ فى بقاع من الارض معلومة اخترتها لهم وان بعدت وقد جعلت الارض كلّها لامّتك مسجداً وطهوراً؛ فهذه من الآصار الّتى كانت على الامم قبلك فرفعتها عن امّتك، وكانت الامم السّالفة اذا اصابهم اذى من نجاسة قرضوها من اجسادهم وقد جعلت الماء طهوراً لامّتك؛ فهذه من الآصار الّتى كانت عليهم فرفعتها عن امّتك، وكانت الامم السّالفة تحمل قرابينها على أعناقها الى بيت المقدّس فمن قبلت ذلك منه ارسلت اليه ناراً فأكلته فرجع مسروراً، ومن لم اقبل ذلك منه رجع مثبوراً وقد جعلت قربان امّتك فى بطون فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه اضعفت ذلك له اضعافاً مضاعفة، ومن لم اقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدّنيا وقد رفعت ذلك عن امّتك؛ وهى من الآصار الّتى كانت على الامم قبلك، وكانت الامم السّالفة صلاتها مفروضة عليها فى ظلم اللّيل وأنصاف النّهار وهى من الشّدائد الّتى كانت عليهم فرفعتها عن امّتك، وفرضت عليهم صلاتهم فى أطراف اللّيل والنّهار وفى اوقات نشاطهم (الى ان قال) وكانت الامم السّالفة حسنتهم بحسنة وسيّئتهم بسيّئةٍ وهى من الآصار الّتى كانت عليهم فرفعتها عن امّتك وجعلت الحسنة بعشر والسيّئة بواحدة، وكانت الامم السّالفة اذا نوى احدهم حسنة ثمّ لم يعملها لم تكتب له وان عملها كتبت له حسنة وانّ امّتك اذا همّ احدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة وان عملها كتبت له عشر (الى ان قال) وكانت الامم السّالفة اذا همّ احدهم بسيّئةٍ ثمّ لم يعملها لم تكتب عليه وان عملها كتبت عليه سيّئةٌ، وانّ امّتك اذا همّ احدهم بسيّئةٍ ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة (الى ان قال) وكانت الامم السّالفة اذا اذنبوا كتبت ذنوبهم على ابوابهم وجعلت توبتهم من الذّنوب ان حرّمت عليهم بعد التّوبة احبّ الطّعام اليهم وقد رفعت ذلك عن امّتك وجعلت ذنوبهم فيما بينى وبينهم وجعلت عليهم ستوراً كثيفة وقبلت توبتهم بلا عقوبة، ولا اعاقبهم بان احرّم عليهم احبّ الطّعام اليهم، وكانت الامم السّالفة يتوب احدهم من الذّنب الواحد مائة سنة او ثمانين سنة او خمسين سنة ثمّ لا اقبل توبته دون ان اعاقبه فى الدّنيا بعقوبة (الى ان قال) وانّ الرّجل من امّتك ليذنب عشرين سنة او ثلاثين سنة او اربعين او مائة سنة ثمّ يتوب ويندم طرفة عين فأغفر ذلك كلّه، فقال النّبىّ (ص): اللّهمّ اذا اعطيتنى ذلك كلّه فزدنى، قال: سل، قال: { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بك وبامّتك وقد رفعت عنهم عظيم بلايا الامم وذلك حكمى فى جميع الامم ان لا اكلّف خلقاً فوق طاقتهم، قال: { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا }، قال الله عزّ وجلّ: قد فعلت ذلك بتائبى امّتك، قال: { فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } قال الله جلّ اسمه انّ امّتك فى الارض كالشّامة البيضاء فى الثّور الاسود، هم القادرون وهم القاهرون ويستخدمون ولا يستخدمون لكرامتك علىّ وحقّ علىّ ان اظهر دينك على الاديان حتّى لا يبقى فى شرق الارض وغربها دين الاّ دينك او يؤدّون الى اهل دينك الجزية.
والاخبار فى فضل هذه الآية والّتى قبلها وانّهما من كنوز العرش كثيرة، وروى انزل الله آيتين من كنوز الجنّة كتبهما الرّحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بألفى سنة من قرأهما بعد عشاء الآخرة اجزئتاه عن قيام اللّيل، وفى رواية: من قرء الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه.