التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

تحقيق خلق جميع الاشياء حتى السّموم وذوات السّموم لنفع الانسان
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ } الجملة حال عن سابقتها او مستأنفة ولم يأت باداة الوصل للاشعار بكثرة النّعم وانّها ينبغى ان تعدّ كالمعدودات الكثيرة فى معرض التّعداد { لَكُمْ } اى لايجادكم وخلقكم فانّ كلّما فى الارض تقدمة لخلق الانسان بل كلّ ما سوى الله مقدّمة لخلق الانسان فانّه كما حقّق فى محلّه آخر الانواع وآخر الفعل أشرف لانّه غايته فهو غاية الغايات ونهاية النّهايات بل نقول: لمّا كان الغرض الزائد على ذات الحقّ تعالى منفيّاً عن فعله للزوم استكماله وهو محال كما قرّر فى موضعه فجعل الانسان غاية وغرضاً دليل على انّه ينتهى الى ذات الحقّ وما انتهى الى ذاته فهو أشرف من كلّ شريف بعده تعالى، او المعنى لانتفاعكم فى بقائكم فانّ الانسان فى بقائه محتاج الى اصل العناصر ومواليدها، او المعنى لخلقكم وانتفاعكم فى بقائكم جميعاً وما يتراءى من عدم توقّف خلقة الانسان او بقائه على اكثر المعادن والنّباتات والحيوانات بل التّضرّر ببعضها كالسّموم وذوات السّموم خطاء من عدم الاطّلاع على كّفيّة الارتباط بين المعلولات فانّ بعضها أصل ومقصود بالذّات، وبعضها علّة لخلقة ما هو المقصود او لكماله، وبعضها شرطٌ وبعضها لازم كما هو مشهود فى موجودات ارض العالم الصّغير فانّه لا اختصاص لقوله تعالى شأنه { مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } بارض العالم الكبير بل نقول كلّما ذكر ارض وسماء فالنّظر اوّلاً الى العالم الصّغير وما لم يعرف فى العالم الصّغير لا يعرف فى العالم الكبير لانّه نسخة موجزة عن الكبير بمطالعته يمكن مطالعة ما فى الكبير وما فى ارض العالم الصّغير امّا علّة او شرط لحدوث الانسان الحقيقىّ الّذى هو آدم أبو البشر او لبقائه، او علّة او شرط لكماله وتجمّله، او لازم لحدوثه وبقائه او علّةٌ بوجهٍ ولازمٌ بوجهٍ فانّ الاعضاء الرّئيسة يتوقّف عليها حدوث الانسان وبعض الاعضاء الآخر شرط لحدوث الاعضاء الرّئيسة او لحفظها، وبعضها شرط لبقاء الانسان، وبعضها لتجمّله، وبعضها لازم لخلقته، وبعضها شرط بوجهٍ، ولازم بوجهٍ، فانّ الطّحال والمرارة كذوات السّموم والمرارة كالسّموم وفيها منافع ذكرت فى مقامها، والشّعر والظُفر مع أنّهما اخسّ الاجزاء ولا حياة لهما لازمان لخلقته وبقائه، ويتوقّف عليهما تجمّله، واذا اريد بالارض والسّماء الارض والسّماء اللّتان فى العالم الصّغير لم يبق اشكالٌ فى عطف قوله تعالى { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } بثمّ فانّ خلقة سماوات العالم الصّغير من حيث اضافتها الى ارضه بعد تمام ارضه وتمام ما فيها وامّا فى العالم الكبير فان اريد بالسّماء الاجرام العلويّة فخلقتها مع خلقة ارضه، وان اريد بالسّماء الارواح لعلويّة فخلقتها قبل ارضه، وكلّما ذكر فى الاخبار ممّا يدل على تأخّر خلق السّماء عن الارض فهو منزّل على العالم الصّغير وعلى تنزيل الآية على العالم الكبير فالعطف بثمّ لتفاوت الاخبارين والخلقتين والاستواء هاهنا القصد اى قصد خلق السّماء { فَسَوَّاهُنَّ } اى خلقهنّ تامّة مصونة عن العوج والفطور وجمع الضمير لكون السّماء جنساً فى معنى الجمع او لرعاية الخبر { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } تحقيق عدد السّماوات والارضين ومراتب العالم سيجيئ من بعد ان شاء الله { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } عطف على قوله هو الّذى خلق، او حال عن فاعل خلق، او عطف على كنتم امواتاً، او حالٌ عن فاعل احدى الجمل السّابقة على قوله هو الّذى خلق، وعلى اىّ تقدير فالمقصود التّهديد عن الكفر وتعليل انكاره بأنّه عالم بكفركم فيؤاخذكم عليه، وعلمه بالاشياء عين وجود الاشياء فهو علم حضورىّ كعلمنا بالصّور الحاضرة فى نفوسنا فانّ وجودها علم لنا ومعلوم، وهذا علمه الّذى هو مع الاشياء وامّا علمه بالاشياء الّذى هو قبلها فله مراتب، مرتبة منها عين ذاته، ومرتبة عين فعله، ومرتبة عين القلم، ومرتبة عين اللّوح المحفوظ، ومرتبة عين لوح المحو والاثبات، وتحقيق علمه فى الحكمة النّظريّة وليس هاهنا محلّ تحقيقه وتفصيله.