التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ
٣٤
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَإِذْ قُلْنَا } عطفٌ على قوله { اذ قال ربّك } اى اذكر او ذكر حتّى تعلموا انّ جميع ما فى الارض خلق لكم { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ } اى لملائكة الارض على ما ورد فى أخبارنا فانّ مرتبة آدميّة آدم (ع) مسجودة لملائكة الارض او للملائكة جميعاً على ما سبق انّ آدم (ع) بعلويّته مسجودٌ لجميع الملائكة وقد ورد فى أخبارنا انّ الله أمر الملائكة بسجدة آدم (ع) لكون نور محمّدٍ (ص) وعلىٍّ (ع) وعترتهما (ع) فى صلبه { ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } السّجدة غاية الخضوع والتّذلّل والانقياد للمسجود، ولمّا كان غاية التّذلّل السّقوط على التّراب عند المسجود صارت السّجدة اسما لسجدة الصّلاة فى الشّريعة والمراد بالسّجدة هاهنا التّذلّل تحت أمر آدم (ع) والتّسخّر له بحيث يكون بالنّسبة الى كلّ منهم اذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون، وتسخّر الملائكة وسجدتهم لآدم (ع) دون ابليس نظير تسخّر القوى لآدم فى العالم الصّغير دون الوهم الّذى هو الشّيطان فى هذا العالم { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } افعيل من أبلس اذا ئيس من رحمة الله او من أبلس اذا تحيّر واضطرب، او من أبلس اذا ندم لانّ فعله فعل ينبغى ان يندم عليه، او من أبلس اذا سكت وانقطع حجّته، وكأنّه لم يستعمل مجرّدة وقيل: انّه اسم أعجمىّ ولذا لم ينصرف { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ } من قبيل عطف السّبب على المسبّب { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } يعنى انّ فطرته كانت فطرة الكفر والاباء وترك الطّاعة لا انّ الكفر طرأ عليه بعد ان كان مؤمناً؛ اذ قوّة الاباء عن الانقياد كانت ذاتيّة له بحيث لو طرأ الانقياد كما روى "شيطانى أسلم على يدى" كان الانقياد كأنّه عرضىّ عرض له.
تحقيق مراتب العالم وكيفيّة خلق الاجنّة والشّياطين
اعلم انّ الوجود كما مرّ له مراتب؛ مرتبةٌ منه غيبٌ مطلق لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم وهو الوجود الذّاتىّ الّذى يخبر عنه بعنوان مقام ظهوره الوجود الذّاتىّ، ومرتبةٌ منه فعل الواجب وظهوره ومعروفيّته وفى تلك المرتبة يظهر تمام صفاته واسمائه؛ وتلك المرتبة باعتبار كونها عنواناً له تعالى بأسمائه تسمّى بالواحديّة، وباعتبار كونها اقتضاءً لايجاد العالم تسمّى بالمشيّة، وباعتبار كونها نفس ايجاد العالم تسمّى بفعله تعالى، وباعتبار كونها جامعة لتمام الاسماء والصّفات بوجودٍ واحدٍ جمعىٍّ تسمّى بالله، وباعتبار كونها مجمعاً لتمام الموجودات بنحو الاحاطة تسمّى بعلىّ (ع)، وبهذين الاعتبارين تسمّى بالعرش والكرسيّ ولها أسماءٌ اُخر غير هذه، ومرتبةٌ منه عالم المجرّدات ذاتاً وفعلا وينقسم الى العقول والارواح المعبّر عنهما فى لسان الشّريعة بالملائكة المهيمنين وبالصّافّات صفّاً، ويسمّيهما الفلاسفة بالعقول الطّوليّة والعقول العرضيّة، وارباب الانواع وارباب الطّلسمات فى اصطلاح حكماء الفرس الّتى قرّرها الشرع عبارة عن العقول العرضيّة، ومرتبةٌ منه عالم المجرّدات فى الذّات لا فى الفعل وتسمّى بالمدبّرات امراً، وينقسم الى النّفوس الكلّيّة والنّفوس الجزئيّة يعنى اللّوح المحفوظ ولوح المحو والاثبات، ومرتبةٌ منه عالم المثال النّازل المعبّر عنه بجابلقا الواقع فى جانب المغرب وفيه صورة كلّ ما فى عالم الطّبع بنحو أعلى واشرف، وظهور المحو والاثبات اللّذين فى النّفوس الجزئيّة فى هذا العالم، والبداء الّذى ذكر فى الاخبار هو فى هذا العالم، وقوله تعالى:
"ما تردّدت فى شيءٍ كتردّدى فى قبض روح عبدى المؤمن" ؛ انّما يظهر فى هذا العالم، والرّؤيا الصّادقة تكون بالاتّصال بهذا العالم وشهود ما سيقع بصورته فيه محتاجة الى التّعبير او غير محتاجة، ومرتبةٌ منه عالم المادّيات من سماواته وسماويّاته وعنصره وعنصريّاته، وهذا العالم مجمع الاضداد ومورد المتخالفات ومصدر المتباغضات ومصرع الهلكى ومصعد السّعداء، وفيه وقع تعليم آدم الاسماء وخلافته على ما فى الارض والسّماء، ومرتبةٌ منه عالم الجنّة والشّياطين وهو أسفل العوالم وأبعدها عن الله وهو محلّ الاشقياء من الانسان وفيه الجحيم وعذاب الاشرار وهو فى مقابل المثال العالى، ووجود الجنّة والشّياطين كوجود الملائكة الّذين هم ذووا الاجنحة مجرّد عن المادّة؛ ولذا يقدرون على التّشكّل بالاشكال المختلفة والتّصرّف فى عالم الطّبع مثل الملائكة، ويتراءى انّهم اقوى وجوداً من عالم الطّبع لتجرّدهم عن التّقيّد بالمادّة والمكان والزّمان واطّلاعهم على ما لا يطّلع عليه الانسان من الماضى والآتى وممّا لم يكن حاضراً فى مكانهم، لكنّ العناصر والعنصريّات للاستعداد للخروج عن التّقيّد بالزّمان والمكان والمادّة والتحاقهم بالملأ الاعلى والمقرّبين من الله اقوى وجوداً واقرب من الله، وينقسم اهل الملكوت السّفلىّ الى من هو فى غاية البعد عن الله وعن استعداد قبول رحمة الله بحيث كأنّ الحرمان عن الرّحمة ذاتىّ له وهم الشّياطين وذرّيّتهم والى من هو ليس فى غاية البعد عن المادّة واستعدادها للرّحمة وهم الجنّة، وهذا العالم تحت عالم الطّبع كما انّ عالم الملائكة فوقه، وفى الاخبار اشاراتٌ الى ما ذكرنا من عالم الجنّة وصفاتها وأقسامها وهذا آخر العوالم فى نزول الوجود من الله، وامّا فى صعود الوجود الى ما منه بدئ فالمبدأ المادّة والعناصر وان كان الجنّة والشّياطين قد يتقرّبون ويتصاعدون عن مهابطهم البعيدة لكن صعودهم الى حدّ محدود لا يتجاوزونه بخلاف صعود المادّيّات فانّه لا حدّ لها ولا وقوف، واولى درجات صعود العناصر امتزاجها وكسر سورة كلّ بحيث ارتفع التّمييز بينها، وثانيتها حصول المزاج والصّورة النّوعيّة فيها والوحدة الحقيقيّة لها ويسمّى الحاصل جماداً؛ وهو امّا واقفُ او واقع فى طريق النّبات، وثالثتها حصول النّفس النّباتيّة فيها وظهور آثارٍ مختلفة وافعالٍ متخالفةٍ عنها ويسمّى الحاصل نباتاً وهو امّا بشرط لا او لا بشرط شيئٍ فى طريق الحيوان، ورابعتها حصول النّفس الحيوانيّة فيها وظهور الحسّ والحركة الاراديّة عنها؛ والحاصل امّا موقوفٌ على حدٍّ او غير موقوفٍ بل واقع فى طريق الانسان، وخامستها حصول النّفس الانسانيّة وظهور الادراكات الكلّيّة عنها، ولا وقوف للحاصل بحسب التّكوين ان كان بحسب الاختيار لأفراده وقوفات عدد وقوفات أنواع الجماد والنّبات والحيوان، وعدد وقوفات افراد كلّ نوع منها، ومقامات صعود نفس الانسان ودرجات عروجها بعد ذلك غير متناهيةٍ، واوّل مقامات صعودها بعد ذلك عروجها الى الملكوت العليا بدرجاتها، او نزولها الى الملكوت السّفلى بدركاتها، والملكوت الحاصلة بعد صعود العناصر عن المقام البشرىّ يسمّى بجابلسا وهو مقابلٌ لجابلقا، وجميع ما فى هذا العالم يحصل فى جابلسا ثانياً كما كان حاصلاً فى جابلقا قبل هذا العالم، وما يحصل فى جابلسا يكون مُدبراً عن هذا العالم كما انّ ما حصل فى جابلقا كان مقبلاً على هذا العالم، ولهذا لم يكن لما فى جابلسا ظهور فى هذا العالم كما كان ما حصل فى جابلقا لا بدّ من ظهوره فى هذا العالم، وامّا البرزخ الّذى هو طريق مشترك بين الملكوت العليا ودار السّعداء والملكوت السّفلى ودار الاشقياء فهو معدود من صُقع الملكوت وليس مقام مقرّ حتّى يعدّ مقاماً وعالماً بنفسه لانّ السّعيد والشّقىّ لا بدّ من سلوكهما عليه الى الاعراف، والاعراف آخر البرازخ ومنه طريق الى الملكوت العليا وطريق آخر الى الملكوت السّفلى وسمّى الاقدمون البرزخ بهورقوليا وهذه المدينة هى الّتى لها الف الف باب ويدخلها كلّ يوم ما لا يحصى من خلق الله، ويخرج مثل ذلك، وهورقوليا وجابلقا وجابلسا غير مجرّدة عن التّقدّر وفوقها عوامل مجرّدة عن التّقدّر ايضاً.
واعلم ايضاً انّ النّور العرضىّ الّذى به يستضيئ السّطوح معرّف بأنّه ظاهرٌ بذاته مظهر لغيره وهذا التّعريف فى الحقيقة للوجود وهو اولى به من النّور العرضىّ؛ فانّ النّور ظاهر للابصار مظهر لغيره على الابصار لا على سائر المدارك، وظهوره ليس بذاته وبمهيّته النّوريّة بل بوجوده فالنّور بما هو مهيّة من الماهيّات ليس ظاهراً بنفسه بل هو بما هو وجود ظاهر بنفسه اى بجزئه الّذى هو الوجود لا بالجزء الآخر ولا بالمجموع بخلاف الوجود فانّه بسيط ظاهر بذاته لا بشيئ آخر مظهر لغيره الّذى هو المهيّة ايّة مهيّة كانت ومظهر لنقيضه الّذى هو العدم، وظهوره ليس على مدرك واحد بل هو ظاهر ومظهر لكلّ الاشياء على جميع المدارك فهو اقوى فى النّوريّة من النّور العرضىّ، وكما انّ النّور العرضىّ اذا قابله جسم صلب كثيف غير شفاف ينفذ النّور فيه على استقامته سواء كان صيقليّاً كالبلّور او غير صيقلىّ كغيره من الاحجار الصّلبة واجتمع النّور فيه وتراكم ظهر منه آثار غير النّوريّة مثل النّار الحاصلة خلف البلوّرة اذا قابلت نور الشّمس والنّار المكمونة فى الاحجار الكبريّتيّة وغيرها كذلك النّور الحقيقىّ اذا قابله ما لم ينفذ فيه على الاستقامة كالمادّة القابلة الّتى لا جهة فعليّة فيها سوى القوّة، وعالم الاجسام الّذى ليس فيه الاّ جهة القبول لا الفاعليّة واجتمع الوجودات الضعيفة والكثرات البعيدة من الوحدة حصل من اجتماع الانوار نار مكمونة فيه او خلفه وتعلو بتلك النّار نفس مناسبة لها شريرة امّا بعيدة عن الخير ظاهرة النّاريّة نظيرها النّار الظّاهرة خلف البلوّرة البعيدة من الجسم المستنير، او قريبة من الخير نظيرها النّار المكمونة فى الاحجار، والقسم الاوّل الشّياطين والقسم الثّانى الجنّة ففى النّور نار مكمونة والنّار نور مكمون او ظاهر، فعلى هذا لا حاجة الى تأويل الآيات والاخبار الدّالّة على خلق الشّياطين والجنّة من النّار كما فعلته الفلاسفة، ولا الى تصحيحها بتجويز خلقها فى كرة الدّخان المنافى لكثير من قواعدهم ولكثير من آثار الشّياطين الّتى ذكروها فى الشّريعة، ولا الى انكار وجودهم الاّ بالتّأويل، ولا الى جعلهم نوعاً من الملائكة؛ فانّ الملائكة خلقوا من النّور وهم خلقوا من النّار وان كان لهم نوريّة كنوريّة النّار المختلطة، وكون آدم مخلوقاً من الطّين باعتبار انّ التّراب والماء غالبان فى مادّته والاّ فمادّته مركّبة من العناصر الاربعة.