التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
-آل عمران

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } فى جميع احوالهم فانّ صاحب اللّبّ الّذى قبل الولاية وصار ذا لبّ بتلقيح الولاية لا يخلو فى احواله من ذكر الله وان أنساه الشّيطان ذكر ربّه حيناً ما تذكّر فاستغفر على اىّ حال كان { قِيَاماً وَقُعُوداً } يجوز فى كلّ منها ان يكون مصدراً وان يكون جمعاً { وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } قد مرّ بيان للذّكر واقسامه وشطر من الاخبار فى اوّل البقرة عند قوله تعالى: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]، وفى هذه الآية دلالة على حسن ذكر الله على كلّ حال ولا بأس بذكر الله فى كلّ حال وفى خبرٍ: لا باس بذكر الله وانت تبول، وفى خبر عن النّبىٍّ (ص): "من احبّ ان يرتع فى رياض الجنّة فليكثر ذكر الله" ، وفى خبرٍ: "ذاكر الله فى الغافلين كالمقاتل فى الغازين" ، وفى خبرٍ "عن النّبىّ (ص) يقول الله تعالى: انا مع عبدى ما ذكرنى وتحرّكت به شفتاه" ، وفى خبرٍ: "ما عمل ابن آدم من عمل انجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله، قالوا: يا رسول الله (ص) ولا الجهاد فى سبيل الله؟ - قال (ص) ولا الجهاد فى سبيل الله ولا ان تضرب بسيفك حتّى تقطّع، ثمّ تضرب به حتّى تقطّع ثلاثاً" ، وفى حديثٍ قدسىّ: " يا موسى (ع) لو انّ السّماوات السّبع وعامريهن عندى والارضين السّبع فى كفّة ولا اله الاّ الله فى كفّة مالت بهنّ" ، وفى قدسىّ آخر: "اذا كان الغالب على عبدى الاشتغال بى جعلت همّه ولذّته فى ذكرى، واذا جعلت همّه ولذّته فى ذكرى عشقنى وعشقته، واذا عشقته رفعت الحجاب بينى وبينه، لا يسهو اذا سهى النّاس، اولئك كلامهم كلام الانبياء، اولئك الابدال حقّاً، اولئك الّذين اذا اردت باهل الارض عقوبةً او عذاباً ذكرتهم فيهم فصرفته بهم عنهم" ، وفى قدسىّ آخر: "ايّما عبد اطّلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التّمسّك بذكرى تولّيت سياسته وكنت جليسه ومحادثه، ونسب الى امير المؤمنين (ع) انّه قال: انّ الله يتجلّى على عباده الذّاكرين عند الذّكر وعند تلاوة القرآن من غير ان يروه ويريهم نفسه من غير ان يتجلّى لهم لانّه اعزّ من ان يرى واظهر من ان يخفى فتفرّدوا بالله سبحانه واستأنسوا بذكره" ، ونسب اليه (ع) فى هذه الآية انّه قال: الصّحيح يصلّى قائماً والمريض يصلّى جالساً، وعلى جنوبهم الّذى يكون أضعف من المريض الّذى يصلّى جالساً.
بيان الفكر ومراتبه
{ وَيَتَفَكَّرُونَ } الفكر والتّفكّر والنّظر هو الانتقال من المعلوم الحاضر الى المجهول كما انّ الفقه هو العلم الدّينىّ الّذى ينتقل منه الى علم آخر والعلم عندهم ليس الاّ بهذا المعنى كما انّ الفكر عندهم هو السّير من المبادئ المعلومة الى المقاصد المطلوبة للانسان اى المقاصد النّافعة فى الآخرة، والفكر بهذا المعنى من اجلّ العبادات واعظم القربات وفى مدحه بهذا المعنى ورد اخبار كثيرة؛ منها:
"تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة" ، ولهذا الفكر مراتب ودرجات بحسب اختلاف احوال الاشخاص فمنها التّفكّر فى حال الخربة المنظورة والانتقال منها الى فناء بانيها وساكنيها، ومنه الى فناء نفس المتفكّر الّتى هى مماثلة البانين والسّاكنين، ومنه الى اعداد النّفس للبقاء بعد الفناء، ومنه الى لزوم التّوسّل بمن يستعلم منه كيفيّة ذلك الاعداد، ومنها التّفكّر فى خلق بدنه الّذى هو مركب روحه وكيفيّة ارتباط اجزائه واتّصال اركانه بحيث ينتفع منه الانسان بابلغ وجه، ومنها التّفكّر فى نفسه وتعلّقها ببدنه بحيث تؤثّر فى بدنه وتتأثّر منه مع الانتقال منه الى المصالح والحكم المودعة فى انتضاد نفسه وبدنه وقواهما واجزائهما ورجوعها الى غاية هى استكمال نفسه وبدنه وهما السّماء والارض فى عالمه الصّغير، ومنها ان يتفكّروا { فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فى العالم الكبير وكيفيّة ارتباطهما وتأثير السّماوات فى الارض وتأثّر الارض منها، وفى وضعهما ووضع كواكب السّماء واختلافها فى الصّغر والكبر والضوء، وفى الحركة بالبطوء والسّرعة والمناطق والشّرقيّة والغربيّة والاستقامة والرّجوع والوقوف، وفى وضع الارض بالنّسبة الى مناطق الكواكب بحيث يلزمه طلوعها وغروبها وتعاقب اللّيالى والايّام وتخالفهما بالكيفيّة والزّيادة والنّقيصة وتعاقب الفصول الاربعة وفى انتفاع الانسان بتلك الاوضاع، وفى انّ كلاًّ من هذه الحكم ودقائق الصّنع فى السّماوات والارض راجع الى الانسان ونافع له، وفى انّ الانسان الّذى هو غاية الكلّ لابقاء له ببدنه وحياته الحيوانيّة وانّ الغاية ليست انتفاع الانسان من حيث حياته الحيوانيّة الفانية فلا بدّ ان يكون المقصود غير هذه الحياة وان يكون بعد هذه الحياة حياة اشرف واتمّ وأكمل من هذه الحياة او عذاب اتمّ وابقى واشدّ من هذا العذاب فيتضرّع عليه تعالى ويلتجئ اليه ويسأله ان يحفظه من عذاب ما بعد هذه الحياة وان يوصله الى حياة اتمّ ويقول { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا } المخلوق من السّماوات والارض وما فيهما { بَاطِلاً } غير منتهٍ الى غايةٍ وغير مندرج فيه حكم ومصالح كما يقوله الدّهرىّ والطّبيعىّ، ومنها التّفكّر فى اعماله واقواله وانّها من اىّ مصدر صدرت والى اىّ غاية ترجع فيحترز ممّا يصدر من مصدرٍ غير الهىٍّ او يرجع الى غايةٍ غير انسانيّةٍ، ومنها التّفكّر فى خطراته وخيالاته وانّها من اىّ مصدر والى اىّ غاية، ومنها التّفكّر فى صفاته واخلاقه وانّها من اىّ دار، ومنها التّفكّر فى آيات الله ونعمه فى السّماوات والاراضى فى العالم الصّغير والكبير، ومنها التّفكّر فى صفاته الاضافيّة وخصوصاً جبّاريّته تعالى وانّه ما اخذ من موجودات هذا العالم شيئاً الاّ واعطى خيراً منها اومثلها، وانّه ما ينسخ من آية او ينسها يأت بخير منها او مثلها كما يشاهد من حال الانسان من اوّل تكوّنه من مادّة الغذاء ووصوله الى الانسانيّة وانسلاخه كلّ آن من لباس وصورة وتصوّره بصورةٍ اكمل واشرف الى اوان بلوغه ورشده، ومنها التّفكّر فى الذّكر المأخوذ من صاحب الاجازة وفيما يستعقبه من الواردات والاستبصارات والوجدانيّات الذّوقيّات والمشاهدات واليه اشار المولوىّ قدّس سرّه بقوله:

فكر آن باشد كه بكَشايد رهى راه آن باشد كه بيش آيد شهى

ومنها التّفكّر فى الفكر المصطلح للصّوفيّة وهو تمثّل شيخ السّالك عنده من قوّة اشتغاله بذكره بحيث لا يرى فيما يرى غيره وبحيث يطّلع تدريجاً على تصرّفاته فى ملكه وفى ملك العالم الكبير، وهذا الفكر هو غاية الغايات ونهاية الطّلبات وهو السّكينة القرينة بالنّصر والتّأييد وهو الرّيح الفائحة من الجنّة لها وجه كوجه الانسان وهو الامام الظّاهر فى العالم الصّغير واشرقت الارض بنور ربّها اشارة اليه { ويوم تبدّل الارض غير الارض } بظهوره، واليه اشار الشّيخ الكامل قدّس سرّه بقوله:

كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور قد زميان بر فراشت رايت الله نور

والمنظور من قوله تعالى: { كونوا مع الصّادقين } هذه المعيّة، { وابتغوا اليه الوسيلة } حقيقتها هذه الوسيلة، وكيف مدّ الظّلّ بيانه هذا الظّلّ.

كيف مدّ الظّل نقش اولياست كو دليل نور خورشيد خداست
دامن او كير زو تر بيكَمان تا رهى از آفت آخر زمان
اندر اين وادى مرو بى اين دليل لا احبّ الافلين كَو جون خليل

واذا وصل السّالكون الى شيخهم يقولون حالاً وقالاً { سُبْحَانَكَ } اللّهمّ من معرفة امثالنا ووصول اشباهنا الى ساحة جلالك وعمّا يتصوّره المتصوّرون ويظهر عليهم عالم الظّلمة والنّور ويذوقون ويشاهدون آلام الفتنة والغرور، ولذّات نعيم الجنان وراحات دار السّرور، ويعرفون انّ الانسان برزخ بين الجحيم والجنان { فَـ } يستعيذون بربّهم من النّيران ويقولون { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } منادين لربّهم متضرّعين عليه بقولهم { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }.