التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
-النساء

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } مستأنف جواب لسؤالٍ مقدّرٍ كأنّ السّامع لما سمع المغفرة والرّحمة للقاعد توهّم انّ القاعد بجميع اقسامه مرحوم وسأل ذلك كأنّه منكر لعذاب القاعد فقال تعالى مؤكّداً بانّ واسميّة الجملة دفعاً لهذا الوهم: انّ الّذين توفّاهم الملائكة { ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ } بعدم الخروج من دار الشّرك الّتى هى نفوسهم الحيوانيّة مقصّرين كانوا كالّذين توعّدهم بكونهم اصحاب الجحيم، او قاصرين كالّذين اسثناهم الله.
اعلم انّه تعالى اراد ان يبيّن اقسام العباد فى العبوديّة وعدمها بعد ما ذكر القاعدين والمجاهدين فانّهم امّا واقفون فى دار الشّرك الّتى هى نفوسهم الامّارة سواء كانوا فى دار الّشرك الصّوريّة ام فى دار الاسلام الصّوريّة وقد اشار اليهم بقوله: انّ الّذين توفّاهم الملائكة (الآية) او خارجون من بيوتهم الّتى هى بيوت طبائعهم ونفوسهم الامّارة فى طلب من اسلموا على يده ومن قبلوا الاحكام القالبيّة منه واشار اليهم بقوله: ومن يخرج من بيته مهاجراً، الآية، ولمّا كان المقصود ممّن يخرج من بيته الطّالب للاسلام لم يأت بقوله: فى سبيل الله، لانّه لم يكن بعد علىّ سبيل الله واتى بقوله الى الله ورسوله لعدم وصوله الى الرّسول (ص) بعد او مهاجرون على سبيل الله الى مراتب الايمان بالتّوسّل بالولاية بعد ما كانوا قد خرجوا عن نفوسهم الامّارة بقبول الدّعوة الظّاهرة وقبول الاسلام بالبيعة العامّة النّبويّة، وهؤلاء امّا مجاهدون او قاعدون عن الجهاد وقد اشار اليهما بقوله سابقاً: لا يستوى القاعدون، واشار اليهم بقوله: ومن يهاجر فى سبيل الله، ولم يقل: من يخرج لانّ المفروض انّهم قد خرجوا بقبول الاسلام، ولم يقل الى الله ورسوله لانّ المفروض انّهم قد خرجوا الى الله ورسوله وقبلوا الدّعوة الظّاهرة وقال فى سبيل الله لانّهم بقبولهم الاسلام كانوا فى سبيل الله لانّ الاسلام طريق الى الايمان.
تحقيق توفّى الله وتوفىّ الملائكة والرّسل
ووجه الجمع بين الآيات المختلفة فى توفّى الانفس بتوفّى الله وملك الموت والملائكة والرّسل لا يخفى على البصير فانّ العقل فى العالم الصّغير كالحقّ فى العالم الكبير، واذا لوحظ انّ للعقل جنوداً واعواناً ومدارك وقوىً لا يعصون ما امرهم العقل وهم بأمره يعملون وانّ امره للقوى والمشاعر امتثالها من غير تراخٍ وتأبّى، وفعلها كما انّه منسوب اليها حقيقةً منسوب الى العقل ايضاً حقيقةً من غير مجازٍ لاحدى النّسبتين او اثنينيّة وتعدّد للنّسبة بل فعل القوى فعل العقل من حيث كونه فعل القوى من غير تعدّد فى الحيثيّة ايضاً فالرّؤية مثلاً فعل الباصرة وهى من حيث انّها فعل الباصرة فعل العقل لكن فى مرتبة الباصرة لافى مرتبته العالية، بل فعله الخاصّ به فى مرتبته العالية هو التّعقّل اعنى درك الاشياء مجرّدة عن غواشى المادّة والتّقدّر والتّحدّد والتّشكّل، علم انّ الفاعل فى كلّ فعل دانياً كان او عالياً هو الله سبحانه، لكن لكلّ مباشرٍ خاصٍّ ينسب الفعل اليه والى الله باعتبار تشأّنه وظهوره بفاعله الخاصّ وله باعتبار مرتبته المخصوصة فعل خاصّ به لا ينسب الى غيره، فالعقل مظهر لله سبحانه فى مرتبته الخاصّة والنّفس مظهر لملك الموت، والقوى والمشاعر مظاهر للملائكة والرّسل، فالباصرة كالملك تباشر نزع الصّور عن الموادّ، والنّفس كملك الموت تنزع عن الصّور المجرّدة عن الموادّ الصّور المجرّدة عن التّحدّدات والتّشكّلات المخصوصة مع تقدّرها، والعقل كالله ينزع الكليّات عن الصّور مع انّ نزع الاوّل ايضاً فعل العقل بواسطة الباصرة والنّزع الاخير فعله بلا واسطة فاختلاف الآيات والاخبار باعتبار اختلاف المباشر واختلاف المراتب مع صحّة الانحصار فى قوله تعالى الله يتوفّى الانفس، واختلاف المباشر باعتبار اختلاف النّفوس مثل مباشر نزع النّفوس النباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة، وفى النّفوس الانسانيّة ايضاً مراتب فنفسٌ يقبضها الله بلا واسطة، ونفسٌ يقبضها ملك الموت، ونفسٌ يقبضها الملائكة والرّسل، ومقبوض الملائكة مقبوض لملك الموت ولله، ومقبوض ملك الموت مقبوض الله، والمراد بظلم النّفس ههنا غير ما ذكر فى قوله تعالى:
{ { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [فاطر:32] لانّ الظّالمين لانفسهم هنا محكومٌ عليهم بالجحيم وهناك بالجنّة، فالمراد بظالمى انفسهم ههنا من لزم دار شركه ولم يخرج من بيت شركه الى الله ورسوله، وهناك من خرج من بيت شركه الى الله ورسوله ولكن وقف ولم يهاجر فى سبيل الله، فانّه محكوم عليه بالقعود عن الجهاد وعن الهجرة. وبعبارة أخرى الظّالم ههنا فى العالم الصّغير من لزم بيت نفسه الامّارة ولم يخرج منه الى مدينة صدره ليصل الى الرّسول وقبول الاسلام فهو مخلّد فى جحيم طبعه وبعد الموت فى جحيم الآخرة، وهناك من خرج من بيت نفسه الامّارة الى مدينة صدره ووصل الى الرّسول وقبل الاسلام بدليل ايراثه الكتاب اى كتاب النّبوّة بقبول احكام الرّسالة ولم يهاجر من مدينة صدره الى الجهاد الاكبر فى تحصيل الولاية فهو محكوم عليه بدخول الجنّة لكن ليس له درجة المجاهدين فى تحصيل الولاية. وما روى عن الصّادق (ع) فى تفسير الظّالم لنفسه هناك من انّه: يحوم حول نفسه؛ يشعر بما ذكر { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } بهذه الادناس والارجاس اى فى اىّ حال كنتم حتّى خرجتم بهذه الارجاس ولم ما طهّرتم نفوسكم فى حيوتكم؟ - { قَالُواْ } اعتذاراً { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ } غلب علينا اهل الشّرك بحيث لا يمكننا تغيير حالنا { قَالْوۤاْ } ردّاً لاعتذارهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } اى فان تهاجروا او فلم تهاجروا يعنى ان لم يمكنكم التّغيير فى ارضكم لامكنكم المهاجرة عنها، والارض اعمّ من ارض العالم الكبير وارض العالم الصّغير وارض كتب الانبياء وسير احوالهم وارض احكام الملل المختلفة وتمييز المستقيم منها عن السّقيم { فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } لا منافاة بين خصوصيّة النّزول والتّعميم الّذى ذكرنا على وفق ما اشير اليه فى الاخبار.