التفاسير

< >
عرض

فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ
٣١
-المائدة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ } نقل انّه جاء غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الاخر فوارى جثّة المقتول فى الارض { لِيُرِيَهُ } اى الله او الغراب { كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } السّوأة الفرج وما يستقبح وانّما قال سوأة اخيه لانّ جثّة المقتول يستقبح ويستقذر { قَالَ يَاوَيْلَتَا } الالف بدل من ياء التّكلّم والويل حلول الشّرّ او نفس الشّرّ وبهاء الفضيحة وهو كلمة تفجّع وندبة { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } ندم النّفس الّذى هو عقوبة وحسرة لا ندم العقل الّذى هو منجاة وتوبة لقطعه مادّة التّوبة.
اعلم انّ امثال حكاية خلق آدم (ع) وحوّاء (ع) واسكانهما جنّة الدّنيا ونهيهما من شجرة الحنطة او العنب او العنّابه او الحسد او العلم او غير ذلك، ووسوسة الشّيطان لهما واكلهما من الشّجرة المنهيّة ونزع لباسهما عنهما وظهور سوأتهما وهبوطهما الى الارض، وافتراقهما سنين وحزنهما وبكاءهما على الفراق، ثمّ مواصلتهما وحمل حوّاء (ع) فى كلّ بطنٍ غلاماً وجارية، وتولّد قابيل وتوأمته اقليماً فى اوّل بطنٍ، وتولّد هابيل وتوأمته ليوذا فى بطنٍ آخر، وامر الله لآدم (ع) ان ينكح من قابيل اخت هابيل ومن هابيل اخت قابيل، وحسد قابيل على هابيل لكون اخته اجمل من اخت هابيل، وعدم رضاه وامر آدم (ع) لهما ان يقرّبا قرباناً وقبول قربان هابيل وعدم قبول قربان قابيل، واشتداد حسده على هابيل وقتله ايّاه؛ من مرموزات السّابقين كما مرّ. وهكذا الحال فى حكاية سليمان (ع) وخاتمه وجلوس شيطان على كرسيّه بعد سرقة خاتمة، وحكاية داود (ع) وتصوّر الشّيطان له بصورة طيرٍ احسن ما يكون من الطّيور، وكون داود (ع) فى الصّلوة وقطعه الصّلوة فى طلب الطّير وصعود السّطح واشرافه على دار اوريا وتعشّقه بزوجته وكتابته لامير الجند أن يقدّمه امام التّابوت حتّى يقتل، وحكاية هاروت وماروت ونزولهما الى الارض وتعشّقهما بامرأة وابتلائهما بشرب الخمر وسجدة الوثن وقتل النّفس، وغير ذلك مما فيها ما لا يوافق شأن الانبياء والملائكة فانّهم ارادوا بها التّنبيه على المعانى الغيبيّة المشهودة لهم الغائبة على الانظار، وكانت العوامّ تداولوها بنحو الاسمار ولم يدركوا منها سوى معانيها الظّاهرة المدركة بالمدارك الحيوانيّة ونسبوا بذلك الى الانبياء والملائكة ما يقتضى عصمتهم تطهير ساحتهم عن امثالها؛ ولبطلانها بظواهرها وصحّتها بمعانيها المقصودة للانبياء (ع) والحكماء (ره) فى اخبارنا انكارها وتعيير القائلين بها وتقريرها والتّصديق بها من هاتين الجهتين.
ثمّ اعلم، انّه كلّ ما كان فى العالم الكبير كان انموذجه فى العالم الصّغير بل التّحقيق انّه انموذج لما فى العالم الصّغير خصوصاً ان كان من قبيل الافعال الاختياريّة او الحوادث اليوميّة، وما ورد فى الاخبار من بركة الاموال والاولاد والاعمار بصلة الارحام وحسن الجوار، وحبس الامطار بمنع الزّكوة، وانتشار الوباء بكثرة الزّنا يدلّ على ذلك، وكما انّ آدم ابا البشر وحوّاء امّ البشر خلقا فى العالم الكبير وهبطا الى الارض، آدم على الصّفا جبل قرب المسجد الحرام ويشاهد منه البيت من باب المسجد المحاذى للصّفا، وحوّاء على المروة الّتى هى ابعد من المسجد الحرام والبيت ولا يشاهد البيت منها، واوّل بطن من حوّاء كان قابيل مع توأمته وثانيه كان هابيل مع توأمته، واشير فى بعض الاخبار الى انّه لم يكن لآدم اولاد غير اثنين ونزلت لاحدهما حوريّة من الجنّة واتى لآخر بجنّية وكثر نسل آدم منهما. كذلك كان هبوط آدم (ع) وحوّاء (ع) فى العالم الصّغير هبط احدهما على صفا النّفس واعلاها واصفى اطرافها واقربها من بيت الله الحقيقىّ، والاخرى على مروة النّفس وادناها واكدر اطرافها وابعدها من القلب، ولذلك سمّى آدم (ع) بآدم (ع) لاُ دمته باختلاط على النّفس وصافيها وحوّاء بحوّاء لحوّته باختلاط ادانى النّفس، لانّ الحوّة خضرة الى السّواد او حمرة الى السّواد. واوّل بطنٍ من حوّاء بعد ازدواجهما كان قابيل النّوعىّ الّذى كان الغالب عليه صفات النّفس من الانانيّة والبخل والحسد والحقد والعداوة وحبّ الجاه والكبرياء بغلبة النّفس وقوّة صفاتها حينئذٍ، وثانى بطن منها كان هابيل الّذى كما الغالب عليه صفات العقل لاستكمال النّفس بمجاورة آدم (ع) وحوّاء وضعف صفاتها وغلبة صفات العقل، وكان كلّ منهما توأماً لاختٍ له واراد آدم النّوعىّ جذب قابيل واخته الى قرب العقل وتبديل صفاتهما النّفسانيّة بالصّفات العقلانيّة، فاراد تزويج اخته لهابيل وتزويج اخت هابيل له حتّى يتبدّل صفاتهما بذلك، وابى قابيل عن التّبديل وعن الصّعود الى مقام العقل وحسد اخاه واستبدّ برأيه فقتله فأصبح من الخاسرين لابطاله وافنائه بضاعته الّتى هى استعداده للصّعود الى مقام العقل، وبقتل هابيل ينقطع الانسانيّة من العالم الصًّغير ويفنى النّاس فى هذا العالم كلّهم لانّ النّاس كلّهم فى هذا العالم كانوا من نسل هابيل وكان اناسىّ هذا العالم ابناء العقل الّذى هو اسرائيل النّوعىّ اى عبد الله وصفوة الله، كما كان قابيل وذرّيّته هم الجنّة والشّياطين فى هذا العالم، وما لم يقتل هابيل العالم الصّغير كان الحكم جارياً عليهم والتّكليف باقياً لهم والخطاب من الله متوجّهاً اليهم، واذا قتل هابيل وانقطع الاناسىّ لم يكن من الله حكم وخطاب وتكليف وكان الزّنا والصّلوة متساويين لهم؛ فمن قتل فى ملكه قابيل وجوده هابيل وجوده قتل النّاس كلّهم فى وجوده ولم يتوجّه اليهم بعد خطاب وتكليف. فقوله تعالى { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ }.