التفاسير

< >
عرض

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
-المائدة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } فى كلّ مرتبة { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فى الاعتداء عن حدّ الرّخصة الى مرتبة الحظر على ان يكون الفقرتان مطابقتين للفقرتين السّابقتين او فى الاعتداء وفى تحريم رخصه على ان يكون متعلّق التّقوى اعمّ من التّحريم والاعتداء { ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } توصيفه تعالى بهذا الوصف للتّهييج.
حكاية علىّ (ع) وبلال وعثمان بن مظعون عند قوله كلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طّيباً
روى عن الصّادق (ع) أنّ هذه الآية نزلت فى مولانا امير المؤمنين (ع) وبلال وعثمان بن مظعون، فامّا امير المؤمنين (ع) فحلف ان لا ينام باللّيل، وامّا بلال فانّه حلف ان لا يفطر بالنّهار ابداً، ونقل انّه حلف ان لا يناجى ربّه، وامّا عثمان بن مظعون فانّه حلف ان لا ينكح ابداً، ومضى عليه مدّة على ما نقل فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأةً جميلة فقالت عائشة: ما لى اراك متعطّلةً؟ فقالت: ولم اتزيّن؟! فوالله ما قربنى زوجى منذ كذا وكذا، فانّه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد فى الدّنيا، فلمّا دخل رسول الله (ص) اخبرته عائشة بذلك، فخرج فنادى الصّلوة جماعة فاجتمع النّاس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال:
"ما بال اقوام يحرّمون على انفسهم الطّيّبات انّى انام باللّيل وانكح وافطر بالنّهار فمن رغب عن سنّتى فليس منّى" ، فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول الله (ص) فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله آيات الحلف الآتية، والاشكال اوّلاً بانّ امثال هذه المعاتبات ونسبة التّحريم والاعتداء والتّقوى ولغو الايمان غير مناسبة لمقام علىٍّ (ع) وثانياً بانّه (ع) امّا كان عالماً بأنّ تحريم الحلال ان كان بالاستبداد والرّأى كان من البدع والضّلال، وان كان بالنّذر وشبهه كما دلّ عليه الخبر كان مرجوحاً غير مرضىّ لله تعالى ومع ذلك حرّمه على نفسه، او كان جاهلاً بذلك، وكلا الوجهين غير لائق بمقامه (ع) منقوض بقوله تعالى فى حقّ رسوله (ص) { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } [التحريم:1] والجواب الحلّىّ لطالبى الآخرة والسّالكين الى الله الّذين بايعوا عليّاً (ع) بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشمّوا نفحات نشأته حال سلوكه ان يقال: انّ السّالك الى الله يتمّ سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسّلوك بمعنى توسّطه بين تفريط السّلوك الصّرف وافراط الجذب الصّرف، فانّه ان كان فى نشأة السّلوك فقط جمد طبعه ببرودة السّلوك حتّى يقف عن السّير، وان كان فى نشأة الجذب فقط فنى بحرارة الجذب عن افعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه اثر ولا خبر، وهو وان كان فى روح وراحة لكنّه ناقص كمال النّقص من حيث انّ المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربّه مع جنوده وخدمه واتباعه وحشمه وهو طرح الكلّ وتسارع بوحدته، فالسّالك الى الله تكميله مربوط بان يكون فى الجذب والسّلوك منكسراً برودة سلوكه بحرارة جذبه فالجذب والسّلوك كاللّيل والنّهار او كالصّيف والشّتاء من حيث انّهما يربّيان المواليد بتضادّهما فهما مع كونهما متنازعين متألّفان متوافقان، اذا علمت ذلك فاعلم، انّ السّالك اذا وقع فى نشأة الجذب وشرب من شراب الشّوق الزّنجبيلىّ سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى فى نظره سوى الخدمة للمحبوب وكلّما رآه منافياً للخدمة رآه ثقلاً ووبالاً على نفسه ومكروهاً لمولاه فيصمّم فى طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به وهو من كمال الطّاعة لا انّه ترك الطّاعة كما يظنّ، فلا ضير ان يكون امير المؤمنين (ع) حال سلوكه وقع فى تلك النّشأة وحرّم على نفسه كلّما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطّاعة، ولمّا لم يكن تحصيل الكمال التامّ الا بالجمع بين النّشأتين اسقاه محمّد (ص) من شراب السّلوك الكافورىّ وردّه الى نشأة السّلوك لانّه كان مكمّلاً مربّياً له ولغيره ولذا قالوا: لا بدّ ان يكون للسّالك شيخ والا فيوشك ان يقع فى الورطات المهلكة، ولا منقصة فى امثال هذه المعاتبات على الاحباب بل فيها من اللّطف والتّرغيب فى الخدمة ما لا يخفى، وعلىّ (ع) كان عالماً بانّ الكمال لا يحصل الاّ بالنّشأتين لكنّه يرى حين الجذب انّ كلّما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح، او يقال: انّ عليّاً (ع) (ع) لمّا كان شريكاً للرّسول (ص) فى تكميل السّلاّك لقوله: انت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع)، وكان له شأن الدّلالة ولمحمّدٍ (ص) شأن الارشاد، والمرشد بنشأته النّبويّة شأنه تكميل السّالك بحسب نشأة السّلوك وان كان بنشأته الولويّة وشأن الارشاد شأنه التّكميل بحسب الجذب، والدّليل بنشأته الولويّة شأنه التّكميل بحسب نشأة الجذب وان كان بنشأته النبويّة، وشأن الدّلالة شأن التّكميل بحسب السّلوك فالدّليل بولايته يقرّب السّالك الى الحضور ويعلّمه آداب الحضور وطريق العبوديّة من عدم الالتفات الى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه، والمرشد بنبوّته يبعّده عن الحضور ويقرّبه الى السّلوك ويرغّبه فيه فهما فى فعلهما كالنّشأتين متضادّان متوافقان، فأمير المؤمنين (ع) لمّا رأى بلال وعثمان مستعدّين لنشأة الجذب رغّبهما الى تلك النّشأة بطرح المستلذّات وترك المألوفات وشاركهما فى ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتمّ جذبهما، ولمّا مضى مدّة ورأى الرّسول (ص) انّ عودهما الى السّلوك اوفق وانفع لهما ردّهما الى نشأة السّلوك وعاتبهما بألطف عتابٍ، ولا يرد نقص على امير المؤمنين (ع)، ولمّا قالوا بعد عتابه (ص) قد حلفنا نزل.