التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١٥٢
-الأنعام

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } اى بالنّيّة الّتى هى احسن وهى نيّة حفظ ماله ونفسه وانماء ماله { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } جمع الشّدّ بالفتح كفلس وافلس او الشّدّة كالنّعمة والانعم او مفرد، وعلى جمعيّته فالمقصود الاشارة الى قوّة جميع قواه البدنيّة والنّفسانيّة وهو البلوغ الشّرعىّ الّذى فيه قوةّ قواه البدنيّة والنّفسانيّة بكمال تميزه ودركه الخير والشّرّ البدنيّين والنّفسانيّين { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } المراد بهما المعروفان وقد مضى فى بيان الميزان ما يمكنك التّعميم به وكذا فى سائر فقرات الآية، والتّقييد بالقسط امّا للتأكيد او للمنع من اعطاء الزّيادة على قدر الاستحباب فانّه كالتّبذير الممنوع او مورث لجهالة المكيل والموزون المفسدة للمعاملة ولذا جاء بقوله { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } معترضاً فانّ القسط الحقيقىّ فى الايفاء هو اداء تمام ما حقّه ان يؤدّى بحيث لا يزيد ولا ينقص حبّة وهو امر ليس فى وسع البشر { وَإِذَا قُلْتُمْ } فى حكومة اذا حكّمكم النّاس او فى شهادة او اصلاح او نصح او ترحّم او سخط او معاش او معاد او واجب او مباح بألسنتكم او بسائر اعضائكم او بقواكم العلاّمة او العمّالة { فَٱعْدِلُواْ } توسّطوا بين الافراط والتّفريط فى الاقوال والاحوال والافعال، والتّأدية بصورة الشّرط وبلفظ اذا والمضىّ للاشارة الى انّ القول غير مأمور به لكنّ الانسان لا يخلو عن قولٍ ما خصوصاً على التّعميم المذكور ويكون مأموراً بالتّوسّط فى القول { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } جسمانيّاً او روحانيّاً فى العالم الكبير او الصّغير { وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ } تقديم المعمول للاهتمام به ولشرافته ولابراز العلّة للامر قبل الاتيان به لقصد الحصر او للحصر ايضاً بناءً على انّ الوفاء بسائر العهود من شراط عهد الله، اعلم، انّ العهد والعقد والميثاق والبيعة مع الله فى عرف اهل الله اذا اطلقت يراد بها البيعة العامّة النّبويّة او البيعة الخاصّة الولويّة، وبالاولى يحصل الاسلام وبالثّانية يحصل الايمان وتسمّى تلك البيعة بيعة ومبايعة، لانّ البائع بتلك البيعة يبيع نفسه وماله بثمنٍ هو الجنّة كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة:111] وتسمّى عهداً ومعاهدةً لتعهّد البائع والمشترى القيام بما عليهما وعقداً لانعقاد يد البائع على يد المشترى وميثاقاً لاستحكام ذلك العهد بتقبّل الشّروط من الطّرفين ووثوق كلّ بالاخر بذلك العقد، ولمّا كان المشترى منصوباً من الله ووكيلاً منه فى تلك المبايعة صحّ نسبتها الى الله { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10]، { { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة:111]، { { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } [التوبة:111]، { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [البقرة:83] { { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة:40]، وغير ذلك من الآيات والاخبار الدّالّة على نسبة هذه الى الله { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } التّذكّر هو الالتفات الى المعلوم والاستشعار به بعد الغفلة عنه او مطلقاً وهو من صفات العقل كما أن الغفله من صفات النّفس ولذا اخّره عن قوله تعقلون وكرّر ذلك للاشارة الى مراتب المعاصى وانّ بعضها لا يصدر عن العاقل، وبعضها لا يصدر عن المتذكّر وان كان قد يصدر عن العاقل الغافل، وبعضها لا يصدر عن المتّقى وان كان قد يصدر عن العاقل المتذكّر والمراد بالتّقوى فى قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }، هو التّقوى الحقيقيّة الّتى هى الرّجوع عن طرق النّفس المعوجّة واتّباع ائمّة الجور الى طريق القلب واتّباع الامام الحقّ، والعاقل المتذكّر ما لم يصل الى الامام الحقّ لا يمكنه الرّجوع الى طريق القلب ولذا اقتصر هناك على اتّباع الصّراط المستقيم.