التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
-الأعراف

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } منّاً منه سبحانه بنعمة الوجود اثباتاً لتوحيده فى العبادة ولذا وبّخهم على الاشراك معلّلاً بانّ ما جعلوه شريكاً لا يخلق شيئاً { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } اذاراءاها من سنخها، وتذكير ضمير يسكن بلحاظ المعنى ويجوز ان يراد بنفسٍ واحدة، حوّاء ويكون معنى جعل منها زوجها جعل من سنخها زوجها وهما آدم (ع) وحوّاء (ع) فى العالم الكبير والجهتان العقلانيّة والنّفسانيّة للانسان اللّتان هما نازلتا العقل فى العالم الصّغير { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } لا يظهر اثر ثقله { فَمَرَّتْ بِهِ } استمرّت مع الحمل { فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ } صارت ذات ثقل { دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } فى النّفس والبدن { لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً } منّة اخرى عليهما { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } بدّلا النّعمة بالكفران والوعد بالخلف. اعلم، انّ للاشراك بالله مراتب عديدة: الاوّل، الاشراك به فى وجوب وجوده كاشراك اكثر الثّنويّة القائلين بانّ للعالم مبدئين قديمين مسمّيين بالنّور والظّلمة او يزدان واهريمن، والثّانى، الاشراك فى الالهة كاشراك بعض الثّنويّة القائل بانّ القديم والواجب الوجود واحد والظّلمة او اهريمن مخلوق منه لكن له الآلهة فى العالم وانّ الشّرور كلّها منه لا من الله، والثّالث، الاشراك فى العبادة كاشراك اكثر الصّابئين واشراك الوثنيّين والعجليّين وغيرهم ممّن يعبد غير الله من مخلوقاته تقرّباً بها الى الله، والرّابع، الاشراك فى الوجود كاشراك معظم النّاس الاّ من شذّ الّذين لا يرون فى الوجود الاّ الموجودات المتكثّرة المتقابلة كلّ من الآخر والكلّ مع الله، والخامس، الاشراك فى الطّاعة كاشراك من اشرك فى طاعة الانبياء (ع) والاولياء (ع) وخلفائهما طاعة غيرهم من ائمّة الجور وعلماء السّوء والسّلاطين والامراء والحكّام، والسّادس، الاشراك فى المحبّة كاشراك من اشراك فى محبّة الله ومحبّة خلفائه محبّة غيره وكاشراك من اشرك فى المحبّة بان كان مصدرها آلهيّاً ونفسانيّاً او غايتها آلهيّاً ونفسانيّةً، والسّابع، الاشراك فى الولاية وهى اشدّها واعظمها بان اشرك مع ولىّ الامر او نبىّ الوقت غيره فى البيعة الخاصّة الولويّة او العامّة النّبويّة او اذعن بنبوّة من ليس بنبىٍّ او بولاية من ليس له الولاية، فقوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله الاّ وهم مشركون }، المقصود منه احد المعانى السّابقة غير الثّلاثة الاول وكلّ هذه المعانى غير الكفر بالله فى كلّ مرتبة فانّه يقتضى قطع النّظر عن الله واستبداد النّظر الى غيره، وما يجرى فى اهل العالم الكبير يجرى فى اهل العالم الصّغير من غير فرقٍ، ومعانى الاشراك غير الثّلاثة الاول وغير المعنى الاخير يجوز اعتبارها ههنا ان كان المراد انّ آدم وحوّاء حقيقةً جعلا له شركاء كما فى الخبر وانّما شركهما شرك طاعة وليس شرك عبادة، وفى حديث: جعلا للحارث نصيباً فى خلق الله ويناسب الشّرك فى المحبّة بأحد معانيه وقوله تعالى: { { وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ } [الإسراء:64] يناسب هذا الشّرك والشّرك فى الطّاعة، وان كان المراد انّ اولاد آدم (ع) جعلوا له شركاء فيما آتاهم والنّسبة الى آدم (ع) وحوّاء كانت مجازاً كما فى الخبر، ويؤيّده قوله تعالى { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } بصيغة الجمع امكن اعتبار جميع اقسام الشّرك ونسبة الشّرك الى اولادهما امّا بطريق المجاز فى الحذف بان يكون فاعل جعلا اولادهما، لكنّه حذف واقيم المضاف اليه مقامه او بطريق المجاز فى الحكم بان يكون المحكوم عليه الاولاد لكنّه نسب اليهما باعتبار انّ الاتباع والاولاد كالاجزاء او النّسبة الى الاولاد باعتبار ان يراد الجنس من لفظ صالحاً وحينئذٍ يشمل الذّكور والاناث، وضمير جعلا يرجعنا الى صالحاً باعتبار الصّنفين كما فى الخبر، ولمّا علم من السّابق انّ الله خالق والخالق لا يساوى المخلوق اتى بالفاء الدّالّ على التّسبيب والتّفريع فقال { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن الّذى يشركون او عن اشراكهم.