التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } تذكيرٌ لهم بنصرته له (ص) حين لم يكن له معاون حتّى يتحقّق عندهم نصرته بدونهم استمالةً لقلوبهم { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } حين شاوروا فى امره بالاجلاء والحبس والقتل فى دار النّدوة كما سبق { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } يعنى لم يكن معه الا رجلٌ واحدٌ وهو ابو بكرٍ { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } غار ثورٍ وهو جبل فى يمنى مكّة على مسيرة ساعةٍ { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ } والاتيان بالمضارع للاشارة الى انّه كرّر هذا القول لعدم سكونه عن اضطرابه { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } ومن كان معه لا يغلب فلا تحزن من اطّلاع الاعداء وغلبتهم، روى عن الباقر (ع) انّ رسول الله (ص) اقبل يقول لابى بكر فى الغار: اسكن فانّ الله معنا وقد أخذته الرّعدة ولا يسكن فلمّا رأى رسول الله (ص) حاله قال له: اتريد ان اريك اصحابى من الانصار فى مجالسهم يتحدّثون؟ واريك جعفراً واصحابه فى البحر يغوصون؟ - قال: نعم فمسح رسول الله (ص) بيده على وجهه فنظر الى الانصار يتحدّثون، والى جعفرٍ واصحابه فى البحر يغوصون، فأضمر تلك السّاعة انّه ساحر { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } السّكينة كما فى الخبر ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الانسان، وهى كما مضى قبيل هذا وفى سورة البقرة على ما حقّقها الصّوفيّة صورة ملكوتيّة ملكيّة آلهيّة تظهر بصورة احبّ الاشياء على صدر السّالك الى الله وأحبّ الاشياء الى السّالك هو شيخه المرشد ووليّه القائد، وتسمّى عندهم بالسّكينة والفكر والحضور وهى السّلطان النّصير والطمأنينة واليها أشير بقوله تعالى { { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28] { { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت:45] وهى النّور فى قوله { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النور:35]، وبها يحصل معرفة علىٍّ (ع) بالنّوارنيّة، وهى ظهور القائم عجّل الله فرجه فى العالم الصّغير وبها استنارة سماوات روحه واراضى نفسه وطبعه كما قال تعالى: { { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [الزمر:69]، وهى الاسم الاعظم والكلمة الّتى هى اتمّ، وهى حقيقة الرّحمة والهدى والفتح والنّصرة والصّراط المستقيم والطّريق القويم والسّبيل الى الله والفوز والنّجاح، وغير ذلك من الاسماء الحسنى الّتى لا حدّ لها واشير اليها فى الآيات والاخبار، ولذلك كان تمام اهتمام المشايخ فى تلقين الّذكر الخفىّ القلبىّ او الجلىّ اللّسانىّ بتحصيل هذا المقام للسّلاّك وكانوا يأمرونهم بالفكر الّذى هو هذا تعمّلاً حتّى تظهر وتنزل تلك السّكينة من غير تعمّلٍ ورويّةٍ، ولا مقام لبشريّة الانسان نبيّاً كان او وليّاً او تابعاً لهما اشرف من هذا المقام كما قال فى مقام الامتنان فى هذه السّورة: ثمّ انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فى غزوة حنين الّتى كانت فى الثّامن من الهجرة وحين كمال النّبوّة وتبليغ الرّسالة، اذا عرفت هذا فاعلم، انّ العامّة جعلوا هذه الآية دالّةً على فضيلة أبى بكرٍ حيث كان اولّ من هاجر وذكر بمصاحبته للرّسول (ص) ولا دلالة فى الآية على فضيلةٍ له ان لم يكن دلالة على ذمّه، فانّ الصّحابة البشريّة قد كانت للمشركين والكفّار والمنافقين المرتدّين بل الفضيلة فى الصّحابة الملكوتيّة الّتى هى ظهور ملكوت الصّاحب على ملكوت الصّاحب، وفى الآية دلالة على عدمها حيث خاطبه (ص)، بلا تحزن، فانّ الصّحابة الملكوتيّة مانعة من الحزن باعثة على السّكون والوقار، وايضاً هى دالّة على عدم حصولها له بعد هذا الخطاب حيث افرد الضّمير المجرور فهو امّا راجع الى النّبىّ (ص) او الى ابى بكرٍ، ورجوعه الى ابى بكرٍ وان كان يتراءى انّه مناسب لاضطرابه ورعدته لكنّه يسلتزم تفكيك الضّمير فى قوله وايده بجنودٍ ويستلزم امّا عدم نزول السّكينة على النّبىّ (ص) وهو مستلزم لافضليّة ابى بكر او عدم الاعتناء بذكر النّبى (ص) وهو ايضاً كذلك او عدم الحاجة الى ذكره وليس به، لانّ الحاجة فى مقام اظهار النّعمة على الاحباب ماسّة الى ذكر مثل هذه النّعمة العظيمة الّتى لا نعمة اعظم منها فى مقام البشريّة كما سبق من ذكره (ص) بهذه النّعمة بعد الثّامن من الهجرة وكمال النّبوّة، ولو سلّم صحّة رجوعه الى ابى بكر كانت الآية من المتشابهات الّتى لا يستدلّ بها على منقبه تثبت بها الامامة؛ هذا اذا كان عطفاً على اخرجه، وامّا اذا كان عطفاً على قد نصره الله من قبيل عطف التّفصيل على الاجمال فلا يحتمل عود الضّمير الى ابى بكر { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } اى لم تقووا على رؤيتها ان كان المراد بالجنود السّكينة ومحافظة الملائكة فى الغار واغماء الكفّار عنه بنسج العنكبوت وبيض الحمامة وانبات الشّجر على فم الغار او لم تقع رؤية منكم لها ان كان المراد مطلق جنود الملائكة فى غزواته { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } الكلمة كما مرّ مراراً تشمل الكلمات اللّفظيّة والكلمات التّكوينيّة من العقول والارواح وعالم المثال والقوى البشريّة والحيوانيّة والنّباتيّة والاخلاق والاحوال والافعال فى العالم الصّغير، وهى ان كانت منتسبة الى الولاية الّتى هى كلمة الله الحقيقيّة بلا واسطةٍ او الى من انتسب الى الولاية فهى كلمات الله، لانّ كلمة الله الحقيقيّة هى المشيّة الّتى يعبّر عنها بالحقّ المخلوق به، والاضافة الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة وعلويّة علىٍّ (ع) وهى الولاية المطلقة، وكلّما كان منتسباً اليها كان كلمة الله، وكلّما كان كلمة الله كانت عليا بعلوّ الله وكان العلوّ ذاتياً لها لا عرضيّاً محتاجاً الى الجعل والتّسبيب، ولذا أتى بالجملة الثّانية مرفوعة المبتدأ مستأنفة او معطوفة على الجملة الفعليّة او حالاً عن فاعل جعل او مفعوله، او المستتر فى السّفلى مؤكّدة باسميّة الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند الدّالّ على الحصر الّذى هو تأكيدٌ لا منصوبة عطفاً على مدخول جعل، وان لم تكن منتسبة الى الولاية فان كانت منتسبةً الى الشّيطان بان كان صاحبها متمكّناً فى تبعيّة الشّيطان بحيث لا يكون مدخل ومخرج فى وجوه الاّ للشّيطان، فهى كلمات الشّيطان والسّفليّة ذاتيّة لها، وان لم تكن كذلك بان لم يكن صاحبها متمكّناً فى تبعيّة الشّيطان ولا منتسباً الى الله والولاية، فهى ليست كلمات الله ولا كلمات الشّيطان بل هى منتسبة الى ما هو الغالب الظّاهر من احوال صاحبه كالاسلام والايمان والمحبّة والرّضا والسّخط والشّرك والكفر، وهى بذاتها لا سفلى ولا عليا بل محتاجة الى جعل فى ذلك، ولذلك اتى بالجعل فى الجملة الاولى من غير التّأكيد بضمير الفصل { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } لن يغلب حتّى يتصوّر السّفليّة لكلمته { حَكِيمٌ } لا يتطرّق الخلل الى ما كان منتسباً اليه حتّى يتصوّر طرّ والسّفليّة لكلمته فالعطف من قبيل عطف السّبب.