التفاسير

< >
عرض

فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
٧٧
-التوبة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ فَأَعْقَبَهُمْ } البخل والتّولىّ { نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } لا فى السنتهم وصدورهم فقط، او المراد بالقلوب نفوسهم { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } اعلم، انّ الصّدق والكذب كالحقّ والباطل كما يجريان فى الاقوال اللّسانيّة والعلوم النّفسانيّة يجريان فى الافعال والاخلاق والاحوال، فكما انّ القول اخبار عن الواقع وصدقه باعتبار مطابقة نسبته للواقع وكذبه بعدم مطابقتها له كذلك فعل الانسان الجارى على جوارحه باعتبار نسبته الى صورته ينبئ عن انّه صادر عن انسانيّته وغايته استكمال انسانيّته، فكلّما كان هذا الاخبار مطابقاً للواقع بمعنى كون الفعل صادراً عن الانسانيّة وراجعاً الى استكمال الانسانيّة فالفعل صدق والفاعل صادق، وكلّما لم يكن هذا الاخبار مطابقاً للواقع بمعنى انّ الفعل الجارى على صورة الانسان لم يكن صادراً عن الانسانيّة، بل عن البهيميّة او السبعيّة او الشّيطانيّة كان الفعل كذباً وفاعله كاذباً وهكذا الحال فى الاخلاق والاحوال، ويجرى ايضاً هذا الاعتبار فى الاقوال والعلوم فانّها ان كانت صادرة عن الانسانيّة وراجعة الى استكمالها فهى صادقة بهذا الاعتبار، وان لم يكن كذلك فهى كاذبة وان كانت صادقة باعتبارها فى انفسها، والمعتبر عند اهل الله فى الصّدق والكذب فى الاقوال والعلوم هو اعتبار المبدء والمرجع دون الواقع فقط، ولذا ورد عنهم (ع): من فسّر القرآن برأيه يعنى بحيثيّة شيطانيّته لا بحيثيّة انسانيّة واصاب الحقّ فقد أخطأ، وورد نفى العلم عمّن لم يكن عمله متوجّهاً الى حيثيّة انسانيّته وآخرته من غير اعتبار مطابقته وعدم مطابقته كما قال تعالى: { { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [البقرة:102]، فقد نفى العلم عنهم مع اثباته لهم مطابقاً لما فى نفس الامر حيث كان الواقع كما علموا، لكن لمّا لم يكن علمهم متوجّهاً الى جهة استكمال الانسانيّة نفاه عنهم واثبت الجهل لهم بنفى العلم عنهم، اذا تقرّر هذا فاعلم، انّ الانسان له مراتب ولكلّ مرتبة منها درجات فهو ما دام فى مرتبة نفسه فاذا كان فى درجة النّفس الامّارة فكلّ ما يصدر عنه فهو كذب، واذا ترقّى من هذه الدّرجة ووقع فى درجة النّفس اللّوامة فقد يكون ما يصدر عنه صادقاً وقد يكون كاذباً، واذا ترقّى الى درجة النّفس المطمئنّة ولا يكون هذا التّرقّى الاّ اذا تمكّن فى مرتبة القلب فكلّ ما يصدر عنه يكون صادقاً، فالمنافق الواقع فى درجة النّفس الامّارة لا يكون منه الاّ الكذب ويصير الكذب سجيّة له ولذلك اتى بالماضى فى قوله بما اخلفوا الله وبالمضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدى فى الكذب مع تخلّل كان الدّالّ على انّ مدخوله صار سجيّة.